مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٥

فقال جعلت فداك كم عرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال مرتين فأوقفه جبرئيل موقفا فقال له مكانك يا محمد فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قط ولا نبي إن ربك يصلي فقال يا جبرئيل وكيف يصلي قال يقول سبوح قدوس أنا رب الملائكة والروح سبقت رحمتي غضبي فقال اللهم عفوك عفوك قال وكان كما قال الله « قابَ

______________________________________________________

« فقال مرتين » أقول : لا ينافي هذا ما رواه الصفار والصدوق رضي الله عنهما في البصائر والخصال بإسنادهما عن الصباح المزني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : عرج بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى السماء مائة وعشرين مرة ، ما من مرة إلا وقد أوحى الله عز وجل فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالولاية لعلي والأئمة عليهم‌السلام أكثر مما أوحاه بالفرائض ، إذ يمكن أن تكون المرتان بمكة والبواقي بالمدينة ، أو المرتان إلى العرش والباقية إلى السماء ، أو المرتان بالجسم والباقية بالروح ، ولعله أظهر أو المرتان ما أخبر بما جرى فيهما والباقية ما لم يخبر بما جرى فيها « فأوقفه » يمكن أن يكون هذا قبل عروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى موقف تخلف عنه جبرئيل عليه‌السلام ، أو كان جبرئيل يكلمه في مكانه وإن تخلف عنه لئلا ينافي الخبر السابق ، أو يكون هذا في أحد المعراجين وذاك في معراج آخر « مكانك » بالنصب أي ألزم مكانك ولا تبرح ، وقيل : أوقفه أي أرشده إلى الوقوف ومكانك منصوب بالإغراء ، أي أدرك مكانك ، انتهى.

« ما وقفه ملك » أي قبل ذلك وكان وقوفه ببركة رفاقته عليهما‌السلام ، أو أنه حينئذ أيضا لم يكن واقفا في ذلك المكان كما مر « إن ربك يصلي » أي يترحم ويظهر رحمته على عباده ، أو يصلي عليك بأن يكون المراد بالرحمة الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام كما مر في الأخبار ، أو المعنى رحمتي عليك كما ورد في خبر آخر رواه السيد في كتاب اليقين « سبقت رحمتي غضبي » لك ولذريتك ، وفي النهاية في حديث الدعاء. سبوح قدوس يرويان بالضم والفتح والفتح أقيس والضم أكثر استعمالا ، وهو من أبنية المبالغة ، والمراد بها التنزيه من النقائص ، وقال أيضا : في أسماء الله تعالى : القدوس هو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص ، وفعول بالضم من أبنية المبالغة وقد تفتح القاف وليس

٢٠١

قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى » فقال له أبو بصير جعلت فداك ما « قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى » قال ما بين

______________________________________________________

بالكثير ولم يجيء منه القدوس وسبوح وذروح ، انتهى.

وهما هنا خبران لمبتدء محذوف ، أي أنا سبوح ، أو قوله أنا مبتدأ ورب منصوب باختصاص وقد مضى تفسير الروح مرارا « عفوك » منصوب بفعل محذوف أي أسأل أو أطلب أو مرفوع وخبره محذوف ، أي مطلوبي ونحوه والتكرير للتأكيد « كما قال الله » أي في سورة النجم حيث قال : « عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى » قال البيضاوي : أي ملك شديد قواه وهو جبرئيل عليه‌السلام « ذُو مِرَّةٍ » أي حصافة في عقله ورأيه « فَاسْتَوى » فاستقام علي صورته الحقيقة التي خلقه الله عليها ، وقيل : استولى بقوته على ما جعل له من الأمر « وَهُوَ » أي جبرئيل « بِالْأُفُقِ الْأَعْلى » أفق السماء « ثُمَّ دَنا » من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « فَتَدَلَّى » فتعلق به ، وهو تمثيل لعروجه بالرسول ، وقيل : ثم تدلى من الأفق الأعلى فدنا من الرسول ، فيكون إشعارا بأنه عرج به غير منفصل عن محله وتقريرا لشدة قوته ، فإن التدلي استرسال مع تعلق « فَكانَ » جبرئيل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « قابَ قَوْسَيْنِ » مقدارهما « أَوْ أَدْنى » على تقدير كم بل كقوله : أو يزيدون ، والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما أوحى إليه بنفي البعد الملبس « فَأَوْحى » جبرئيل « إِلى عَبْدِهِ » أي عبد الله وإضماره قبل الذكر لكونه معلوما « ما أَوْحى » جبرئيل ، وفيه تفخيم للموحى به أو الله إليه ، وقيل : الضمائر كلها لله تعالى وهو المعنى بشديد القوي كما في قوله تعالى « هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ » (١) ودنوة منه برفع مكانته ، وتدليه جذبه بشراشره إلى جناب القدس ، انتهى.

وقال الجوهري : تقول : بينهما قاب قوس ، وقيب قوس ، وقاد قوس ، وقيد قوس أي قدر قوس ، والقاب ما بين المقبض والسية ولكل قوس قابان ، وقال بعضهم في قوله تعالى : « فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ » أراد قابي قوس فقلبه ، وقال : سية القوس ما عطف من طرفيها والجمع سيات والهاء عوض من الواو ، انتهى.

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥٨.

٢٠٢

سيتها إلى رأسها فقال كان بينهما حجاب يتلألأ يخفق ولا أعلمه إلا وقد قال زبرجد

______________________________________________________

وظاهر الخبر إرجاع الضمائر إلى الله تعالى ، وفي تفسير : قاب قوسين بما بين سيتها إلى رأسها خفاء إذ لا يوافق ما مر من التفاسير ، ولعله كان إلى وسطها أو إلى مقبضها وحمله على أن المراد ابتداء السية إلى رأسها ، أو حمل السية على محل العطف فقط فيكون تفسيرا للأدنى بعيد ، ويمكن أن يقرأ رئاسها بكسر الراء ثم الهمزة ثم الألف فيكون بمعنى المقبض قال في القاموس : رئاس السيف بالكسر مقبضه أو قبيعته ، انتهى.

فيكون استعماله في القوس على التوسع إذ ظاهر الفيروزآبادي اختصاصه بالسيف وضمير بينهما له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللموضع الذي كان يسمع منه النداء أو له ولله سبحانه باعتبار أن سماع الصوت الذي يخلقه من هذا المكان أو المراد بالحجاب الحجاب المعنوي الذي بين الممكن والواجب ، يمنع الوصول إلى كنهه تعالى فما يعرفه من ذلك بوجه يناسب قابليته واستعداده كأنه حجاب بينه وبين الرب تعالى يقربه منه ، لكن يمنع الوصول إلى كنه حقيقته فكأنه شعاع يحير أبصار القلوب كالبرق الخاطف يتلألأ.

« يخفق » أي يتحرك ويضطرب قال في القاموس : خفقت الراية تخفق وتخفق اضطربت وتحركت وكذا السراب ، وخفق النجم يخفق غاب ، وفلان حرك رأسه إذا نعس ، انتهى.

« ولا أعلمه إلا وقد قال » الضمير لأبي عبد الله عليه‌السلام والاستثناء مفرغ ، والواو حالية والحاصل أني أظنه ذكر الزبرجد إما بدلا من الحجاب أو بعده بأن قال : بينهما حجاب زبرجد ، لأن معرفة الممكن لما كان علما مخلوطا بنوع من الجهل فكأنه نور مخلوط بظلمة ، ومنهما يحصل اللون الزبرجدي ، وبعبارة أخرى لما كان الوجوه المتصورة منه تعالى لغيره واجبا محفوفا باللوازم الإمكانية فهو كالزجاجة التي خلفها نور فيرى زبرجديا لكن يتلألأ أنوار المعرفة مع تزلزل واضطراب واختلاف أحوال فقد يزيد وقد ينقص وقد يغيب وقد يطلع إشارة إلى اختلاف أحوال المقربين في معرفته

٢٠٣

فنظر في مثل سم الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة فقال الله تبارك وتعالى يا محمد قال لبيك ربي قال من لأمتك من بعدك قال الله أعلم قال علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين قال ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام ـ لأبي بصير يا أبا محمد والله ما جاءت ولاية علي عليه‌السلام من الأرض ولكن جاءت من السماء مشافهة.

______________________________________________________

سبحانه وقربهم وبعدهم وهجرهم ووصلهم.

و « سم الإبرة » ثقبها ، وهذا أيضا كأنه كناية عن قلة ما ظهر له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من معرفة ذاته وصفاته بالنسبة إليه سبحانه ، وإن كان غاية طوق البشر كما أشار إليه بقوله : إلى ما شاء الله ، وإن احتمل أن يكون المراد ظاهره بأن يكون الرب تعالى كشف من ذلك الحجاب له شيئا يسيرا حتى نظر إلى ما ورائه من أنوار العرش والحجب وغرائب إسرارها ، والله يعلم وحججه عليهم‌السلام غرائب حكمهم وغوامض علومهم وأسرارهم.

والقائد : الهادي في الدنيا إلى الحق وفي الآخرة إلى الجنة ، وقال في النهاية : المحجل : هو الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد ويجاوز الأرساغ ولا يجاوز الركبتين لأنها مواضع الأحجال وهي الخلاخيل والقيود ، ولا يكون التحجيل باليد واليدين ما لم يكن معها رجل أو رجلان ، ومنه الحديث : أمتي الغر المحجلون أي بيض مواضع الوضوء من الأيدي والأقدام ، استعار أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين للإنسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس ويديه ورجليه ، انتهى.

« مشافهة » أي بدون توسط ملك.

فائدة مهمة

اعلم أن هذين الخبرين من الأخبار الدلالة على معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والآيات المتكثرة والأخبار المتواترة من طرق الخاصة والعامة دالة عليه ، وقد روي عن الصادق عليه‌السلام : ليس من شيعتنا من أنكر أربعة أشياء : المعراج ، والمساءلة في القبر ، وخلق الجنة والنار ، والشفاعة ، وعن الرضا عليه‌السلام : من كذب بالمعراج فقد كذب

٢٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والآيات مع الأخبار تدل على عروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بيت المقدس ثم منه إلى السماء في ليلة واحدة بجسده الشريف ، وإنكار ذلك أو تأويله بالمعراج الروحاني أو بكونه في المنام ينشأ إما من قلة التتبع في آثار الأئمة الطاهرين أو من فقد التدين وضعف اليقين ، أو الانخداع بتسويلات المتفلسفين ، والأخبار الواردة في هذا المطلب لا أظن مثلها ورد في شيء من أصول المذهب ، فما أدري ما الباعث على قبول تلك الأصول وادعاء العلم فيها والتوقف في هذا المقصد الأسنى ، فبالحري أن يقال لهم : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟! أما اعتذارهم بعدم قبول الفلك للخرق والالتئام فلا يخفى على أولي الأفهام أن ما تمسكوا به في ذلك ليس إلا من شبهات الأوهام ، مع أن شبهتهم على تقدير كونها برهانا إنما يدل على عدم جوازهما في الفلك المحيط بجميع الأجسام والقول بالمعراج لا يستلزمه ، ولو كانت أمثال تلك الشكوك والشبهات مانعة عن قبول ما ثبت بالمتواترات لجاز التوقف في جميع ما صار في الدين من الضروريات وإني لأعجب من بعض متأخري أصحابنا كيف أصابهم الوهن في أمثال ذلك مع أن مخالفيهم مع قلة أخبارهم وندرة آثارهم بالنظر إليهم وعدم تدينهم لم يجوزوا ردها ولم يرخصوا في تأويلها ، وهم مع كونهم من أتباع الأئمة الأطهار وعندهم أضعاف ما عند مخالفيهم من صحيح الآثار يقتفون آثار شر ذمة من سفهاء المخالفين ويذكرون أقوالهم بين أقوال الشيعة المتدينين ، أعاذنا الله وسائر المؤمنين من تسويلات المضلين.

قال شارح المقاصد : قد ثبت معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكتاب والسنة وإجماع الأمة إلا أن الخلاف في أنه في المنام أو في اليقظة ، وبالروح فقط أو الجسد ، وإلى المسجد الأقصى فقط أو إلى السماء ، والحق أنه في اليقظة بالجسد إلى المسجد الأقصى بشهادة الكتاب وإجماع القرن الثاني ، ومن بعده إلى السماء بالأحاديث المشهورة والمنكر مبتدع ، ثم إلى الجنة والعرش أو إلى طرف العالم على اختلاف الآراء بخبر الواحد

٢٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد اشتهر أنه نعت لقريش المسجد الأقصى على ما هو عليه ، وأخبرهم بحال عيرهم فكان على ما أخبر ، وبما رأي في السماء من العجائب وبما شاهد من أحوال الأنبياء على ما هو مذكور في كتب الحديث.

لنا أنه أمر ممكن أخبر به الصادق ، ودليل الإمكان تماثل الأجسام فيجوز الخرق على السماء كالأرض وعروج الإنسان ، وأما عدم دليل الامتناع فإنه لا يلزم من فرض وقوعه محال ، وأيضا لو كان دعوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المعراج في المنام أو بالروح لما أنكره الكفرة غاية الإنكار ، ولم يرتد بعض من أسلم ترددا منه في صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وتمسك المخالف بما روي عن عائشة أنها قالت : والله ما فقد جسد محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن معاوية أنها كانت رؤيا صالحة ، وأنت خبير بأنه على تقدير صحته لا يصلح حجة في مقابلة ما ورد من الأحاديث وأقوال كبار الصحابة وإجماع القرون اللاحقة انتهى.

وبالغ إمامهم الرازي في تفسيره في إثبات إمكانه بدلائل ، منها : أن الفلك الأعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور ، وقد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع ، فيلزم أن يكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور كذلك ، وبتقدير أن يقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم فهو لم يتحرك إلا مقدار نصف القطر ، فلما حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور كان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان ، فهذا برهان قاطع على أن الارتفاع من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث الليل أمر ممكن في نفسه ، وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالإمكان ، وأيضا قد ثبت في الهندسة أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين مرة وكذا مرة ، ثم أنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع ، وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه ،

٢٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وأيضا كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم ، فإن كان القول بمراجعة في الليلة الواحدة ممتنعا في العقول كان القول بنزول جبرئيل فإن كان القول بمعراجه في الليلة الواحدة ممتنعا في العقول كان القول بنزول جبرئيل من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعا ، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان طعنا في نبوة جميع الأنبياء عليهم‌السلام والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة ، فلما كانت هذه الحركة ممكنة الوجود في نفسها وجب أن لا يكون حصولها في جسد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممتنعا ، لأنا قد بينا أن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها ، فلما صح حصول مثل الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام.

فيلزم من مجموع هذه المقدمات أن هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه ، أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجب ، إلا أن هذا التعجب غير مخصوص بهذا المقام بل هو حاصل في جميع المعجزات ، كانقلاب العصا ثعبانا يبتلع سبعين ألف حبل من الحبال والعصي ، ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب ، وكذا سائر المعجزات.

وأما وقوعه فقد قال أهل التحقيق : الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر ، أما القرآن فهو قوله تعالى : « سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى » (١) والعبد اسم للجسد والروح ، فيجب أن يكون الإسراء حاصلا بجميع الجسد والروح وأما الخبر فهو الحديث المروي في الصحاح وهو مشهور ، وهو يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ، ثم منه إلى السماوات ، انتهى ملخص كلامه.

وقال شيخ الطائفة قدس الله روحه في التبيان : وعند أصحابنا وعند أكثر أهل التأويل وذكر الجبائي أيضا أنه عرج به في تلك الليلة إلى السماوات حتى بلغ سدرة المنتهى في السماء السابعة ، وأراه الله من آيات السماوات والأرض ما ازداد به معرفة

__________________

(١) سورة الإسراء : ١.

٢٠٧

١٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن سيف ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام صف لي نبي الله عليه‌السلام قال كان نبي الله عليه‌السلام أبيض مشرب حمرة أدعج العينين مقرون الحاجبين شثن الأطراف كأن الذهب أفرغ على براثنه عظيم مشاشة المنكبين إذا التفت يلتفت جميعا من شدة استرساله

______________________________________________________

ويقينا ، وكان ذلك في يقظته دون منامه ، والذي يشهد به القرآن أن الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، والثاني يعلم بالخبر انتهى.

وقوله : عند أصحابنا ظاهره اتفاقهم على ذلك ، فلا يعبأ بمخالفة من خالف من المتأخرين ، وقد بسطنا القول في ذلك في كتابنا الكبير.

الحديث الرابع عشر : ضعيف.

وقال الجوهري : الإشراب خلط لون بلون كان أحدهما سقى من الآخر ، وإذا شدد يكون للتكثير والمبالغة ، ويقال : اشرب الأبيض حمرة أي علاه ذلك ، وفي القاموس : الدعج التحريك والدعجة شدة سواد العين مع سعتها ، والأدعج الأسود ، وفي النهاية في صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في عينيه دعج ، يريد أن سواد عينيه كان شديد السواد ، وقيل : الدعج شدة سواد العين في شدة بياضها ، انتهى.

والقرن بالتحريك التقاء الحاجبين ، وهذا مخالف لما في رواية هند بن أبي هالة المعروفة ، فإن فيها : أزج الحواجب سوابغ في غير قرن ، إلا أن يقال كان شعر ما بينهما قليلا ، وفي النهاية في صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : شثن الكفين والقدمين ، أي أنهما يميلان إلى الغلظ والقصر ، وقيل : هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر ويحمد ذلك في الرجال ، لأنه أشد لقبضهم ، ويذم في النساء ، وفي القاموس : الأطراف من البدن اليدان والرجلان والرأس ، انتهى.

والمراد هنا الأولان ، وفي رواية هند شثن الكفين والقدمين ، سائل الأطراف أي ممتدها.

« كان الذهب أفرغ على براثنه » في القاموس : البرثن كقنفذ الكف مع الأصابع ،

٢٠٨

سربته سائلة من لبته إلى سرته كأنها وسط الفضة المصفاة وكأن عنقه إلى كاهله إبريق

______________________________________________________

ومخلب الأسد ، أو هو للسبع كالإصبع للإنسان ، انتهى.

وعلى المعنى الأخير كأنه إشارة إلى شجاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان إفراغ الذهب على براثنه كناية عن قوة أصابعه وشدتها ، والتخصيص بالذهب إما لأن مطلق الصلابة ليست بكمال بل مع لين وسلاسة في الحركات ، والذهب كذلك أو لشرافة الذهب رعاية للأدب ، أو كناية عن سطوع النور منها أو حمرتها ، وفي إكمال الدين وإعلام الورى في حديث آخر : كان عنقه إبريق فضة ، كان الذهب يجري في تراقيه ، فالمعنيان الأخيران أنسب ، وما هنا أنسب بما قبله ، وقال في النهاية : في صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جليل المشاش أي عظيم رؤوس العظام كالمرفقين والكعبين والركبتين ، وقال الجوهري : المشاشة واحده المشاش وهي رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها ، وفي النهاية في صفته عليه‌السلام : فإذا التفت التفت جميعا ، أراد أنه لا يسارق النظر ، وقيل : أراد لا يلوي عنقه يمنة ويسرة إذا نظر إلى الشيء وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف ، ولكن كان يقبل جميعا ويدبر جميعا ، انتهى.

وقال بعض مشايخنا رحمه‌الله : أي كان لشدة رصافة بدنه واندماج أعضائه إذا أراد أن يلتفت تحرك جميع بدنه ، وقوله : من شدة استرساله في هذا الخبر يأبى عن الجميع ، إذ الاسترسال الاستئناس والطمأنينة إلى الإنسان والثقة به فيما يحدثه ، ذكره الجزري ، فالمعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشدة استيناسه ورفقه ومداراته مع الناس كان لا يلتفت عليهم التفات المتكبرين بالعين والحاجب ، بل إذا أراد النظر إلى جليسه والتكلم معه انحرف نحوه وأقبل إليه بجميع بدنه ، شفقة عليه ورفقا به.

« سربته سائلة » في القاموس : السربة بالضم الشعر وسط الصدر إلى البطن كالمسربة ، وقال : اللبب المنحر كاللبة وموضع القلادة من الصدر ، قوله : كأنها وسط الفضة ، فيه تشبيه بليغ حيث شبه هذا الخيط الدقيق من الشعر في وسط الصدر والبطن الأبيضين المشرقين بما يتخيل للإنسان من خط أسود في وسط السبيكة المصقولة من

٢٠٩

فضة يكاد أنفه إذا شرب أن يرد الماء وإذا مشى تكفأ كأنه ينزل في صبب لم ير مثل نبي الله قبله ولا بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

______________________________________________________

الفضة إذا كانت فيها حدبة ، وفيه إشعار بخلو سائر البطن من الشعر.

« إبريق فضة » كأنه شبه عنقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصفاء والبياض والجلاء والاستقامة وحسن الصنعة بعنق الإبريق.

في القاموس : الكاهل كصاحب : الحارك أو مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق ، وهو الثلث الأعلى وفيه ست فقرا وما بين الكتفين أو موصل العنق والصلب ، وقال :الإبريق معرب آب ري والجمع أباريق ، والسيف البراق والمرأة الحسناء البراقة ، انتهى. وكان المراد بالبريق هنا الصراحي.

« يكاد أنفه » وصف له بطول حسن غير مفرط ، وأقول : في رواية هند هكذا : إذا زال زال قلعا يخطو تكفأ ويمشي هونا ، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط في صبب ، وقال في النهاية : في صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا مشى تقلع ، أراد قوة مشيه كأنه يرفع رجليه من الأرض دفعا قويا لا كمن يمشي اختيالا وتقارب خطاه ، فإن ذلك من مشي النساء ويوصفن به ، وفي حديث أبي هالة إذا زال زال قلعا ، يروى بالفتح والضم فبالفتح هو مصدر بمعنى الفاعل أي يزول قالعا لرجله من الأرض ، وهو بالضم إما مصدر أو اسم وهو بمعنى الفتح ، وقال الهروي : قرأت هذا الحرف في كتاب غريب الحديث لابن الأنباري قلعا بفتح القاف وكسر اللام ، وكذلك قرأته بخط الأزهري وهو كما جاء في حديث آخر كأنما ينحط من صبب ، والانحدار من الصبب والتقلع من الأرض قريب بعضه من بعض ، أراد أنه يستعمل التثبت ولا يبين منه في هذه الحال استعجال ومبادرة شديدة ، وقال في صفة مشيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كان إذا مشى تكفأ تكفيا أي تمايل إلى قدام ، هكذا روي غير مهموز والأصل الهمزة ، وبعضهم يرويه مهموزا لأن مصدر تفعل من الصحيح تفعل كتقدم تقدما وتكفأ تكفأ والهمزة حرف صحيح ، فأما إذا اعتل انكسرت عين المستقبل منه نحو تخفى تخفيا ، فإذا خففت

٢١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الهمزة التحقت بالمعتل فصار تكفيا بالكسر ، انتهى.

وقال الكازروني : أي يتثبت في مشيته حتى كأنه تميد كما يميد الغصن إذا هبت الريح أو السفينة ، وقال الجزري : الهون الرفق واللين والتثبت ، وقال : ذريع المشي أي واسع الخطو ، وقال الكازروني : الذريع السريع ، وربما يظن هذا اللفظ ضد الأول ولا تضاد فيه لأن معناه أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع تثبته في المشي يتابع بين الخطوات ويسبق غيره كما ورد في حديث آخر أنه كان يمشي على هنيئة وأصحابه يسرعون في المشي فلا يدركونه ، أو ما هذا معناه ويجوز أن يريد به نفي التبختر في مشيه.

وقال القاضي عياض في الشفاء : التقلع رفع الرجل بقوة ، والتكفؤ الميل إلى سنن المشي وقصده ، والهون الرفق والوقار ، والذريع الواسع الخطو ، أي أن مشيه كان برفع رجله (١). بسرعة ويمد خطوه خلاف مشية المختال ويقصد سمته وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة ، كما قال : كأنما ينحط من صبب.

وقال في النهاية : في صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا مشى كأنما ينحط في صبب ، أي موضع منحدر ، وفي رواية كأنما يهود من صبوب ، يروي بالفتح والضمة [ فالفتح ] اسم لما يصب على الإنسان من ماء وغيره كالطهور ، انتهى.

وقال صاحب مجمع البحار : تكفأ أي يرفع القدم من الأرض ثم يضعها ولا يمسح قدمه على الأرض كمشي المتبختر ، كأنه ينحط من صبب ، أي رفع رجله عن قوة وجلادة ، والأشبه أن تكفىء بمعنى صب الشيء دفعة ، وقال الطيبي : تكفأ أي مال يمينا وشمالا كالسفينة ، وخطىء بأنه صفة المختال ، بل معناه أنه يميل إلى سنة وقصد مشيه ، وأجيب بأن هذا إنما يكون مذموما إذا قصده لا ما كان خلفة ، انتهى.

__________________

(١) وفي نسخة « كان يرفع فيه رجله ».

٢١١

١٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن أبي جميلة ، عن محمد الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال إن الله مثل لي أمتي في الطين وعلمني أسماءهم كما « عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها » فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت

______________________________________________________

وأقول : فقوله عليه‌السلام كأنه ينزل ، يحتمل وجوها : الأول : أن يكون كناية عن سرعة مشيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خلاف مشي المتكبرين ، الثاني : أن يكون مؤكدا لميل رأسه إلى قدام فإن من ينزل من منحدر يفعل ذلك اضطرارا ، الثالث : أن يكون المراد رفع قدمه بقوة كما يفعله النازل من منحدر ، الرابع : أن يكون كناية عن حسن مشيه وتوسطه فيه مع نوع إسراع لا ينافي الوقار كالماء المنحدر.

الحديث الخامس عشر : ضعيف.

« في الطين » أي قبل التعلق بالأجساد « وعلمني أسماءهم » أي صفاتهم وحالاتهم وإيمانهم ونفاقهم وأسماءهم مع تلك « فمر بي أصحاب الرايات » أي الخلفاء والملوك من أهل الحق والباطل ، وكأنه إشارة إلى ما رواه الصدوق (ره) في كتاب الخصال بإسناده عن مالك بن ضمرة قال : لما سير أبو ذر رحمة الله عليه اجتمع هو وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام والمقداد وعمار وحذيفة وابن مسعود وساق الحديث إلى أن قال : قال أبو ذر : ألستم تشهدون أن رسول الله قال : ترد على أمتي على خمس رايات أولها راية العجل ، فأقوم آخذ بيده فإذا أخذت بيده أسود وجهه ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه ومن فعل فعله يتبعه ، فأقول : بما ذا خلفتموني في الثقلين من بعدي؟ فيقولون كذبنا الأكبر ومزقناه واضطهدنا الأصغر وأخذنا حقه فأقول : اسلكوا ذات الشمال فينصرفون ظماء مظمئين قد أسودت وجوههم لا يطعمون منه قطرة ، ثم ترد علي راية فرعون أمتي (١) وهم أكثر الناس ، ومنهم المبهرجون ، قيل : يا رسول الله ومن المبهرجون؟ بهرجوا الطريق؟ قال : لا ولكن بهرجوا دينهم وهم الذين يغضبون للدنيا ولها يرضون ، فأقوم فآخذ بيد صاحبهم فإذا أخذت بيده أسود وجهه ورجفت

__________________

(١) كناية عن معاوية بن أبي سفيان.

٢١٢

لعلي وشيعته إن ربي وعدني في شيعة علي خصلة قيل يا رسول الله وما هي قال

______________________________________________________

قدماه وخفقت أحشاؤه ومن فعل فعله يتبعه ، فأقول : بما خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون : كذبنا الأكبر ومزقناه وقاتلنا الأصغر فقتلناه ، فأقول : اسلكوا سبيل أصحابكم فينصرفون ظماء مظمئين مسودة وجوههم لا يطعمون منه قطرة ، ثم ترد علي راية هامان أمتي فأقوم فآخذ بيده فإذا أخذت بيده أسود وجهه ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه ومن فعل فعله يتبعه ، فأقول : بما خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون : كذبنا الأكبر وعصيناه وخذلنا الأصغر وخذلنا عنه ، فأقول : اسلكوا سبيل أصحابكم فينصرفون ظماء مظمئين مسودة وجوههم ، ثم ترد علي راية عبد الله بن قيس (١) وهو إمام خمسين ألفا من أمتي فأقوم فآخذ بيده فإذا أخذت بيده أسود وجهه ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه ومن فعل فعله يتبعه ، فأقول : بما خلفتموني في الثقلين بعدي ، فيقولون : كذبنا الأكبر وعصيناه وخذلنا الأصغر وخذلنا عنه (٢) فأقول : اسلكوا سبيل أصحابكم فينصرفون ظماء مظمئين مسودة وجوههم لا يطعمون منه قطرة ، ثم يرد على المخدج (٣) برايته فآخذ بيده فإذا أخذت بيده أسود وجهه ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه ومن فعل فعله يتبعه فأقول : بما خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون : كذبنا الأكبر وعصيناه ، وقاتلنا الأصغر وقتلناه ، فأقول : اسلكوا سبيل أصحابكم ، فينصرفون ظماء مظمئين مسودة وجوههم لا يطعمون منه قطرة.

ثم ترد على رأيه أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين فأقوم فآخذ بيده فإذا أخذت بيده أبيض وجهه ووجوه أصحابه فأقول : بما خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون : اتبعنا الأكبر وصدقناه ووازرنا الأصغر ونصرناه وقاتلنا معه ،

__________________

(١) اسم أبي موسى الأشعريّ.

(٢) وفي المصدر « وعد لنا عنه ».

(٣) المخدج هو ذو الثدية رئيس الخوارج سمّي بذلك لأنّه كان مخدج اليد أي ناقص اليد.

٢١٣

المغفرة لمن آمن منهم وأن لا يغادر منهم « صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً » ولهم تبدل السيئات حسنات.

١٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن سيف ، عن أبيه عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس ثم رفع يده اليمنى قابضا على كفه ثم قال أتدرون أيها الناس ما في كفي قالوا الله ورسوله أعلم فقال فيها

______________________________________________________

فأقول : ردوا رواء مرويين فيشربون شربة لا يظمأون بعدها أبدا ، وجه إمامهم كالشمس الطالعة ، ووجوه أصحابه كالقمر ليلة البدر وكأضواء نجم في السماء.

ثم قال ـ يعني أبو ذر رحمة الله عليه ـ ألستم تشهدون على ذلك؟ قالوا : نعم قال : وأنا على ذلك من الشاهدين.

أقول : وقد أوردت مثله بأسانيد في الكتاب الكبير.

« لمن آمن منهم » لإخراج سائر فرق الشيعة غير الإمامية فإن الشيعة كل من قال بإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد النبي بلا فصل ، أو المراد بالشيعة الإمامية والمراد بالإيمان صحة سائر العقائد ، أو المراد بالإيمان عدم الإصرار على الكبائر أو يكون تأكيدا « وأن لا يغادر » أي لا يدع ولا يترك منهم صغيرة ولا كبيرة من المعاصي إلا غفرها لهم ، ويحتمل أن يكون المراد قبول الصغيرة والكبيرة من الطاعات ، فإدخاله في الخصلة لتلازمهما مع أنه يحتمل عطفه على الخصلة لكنه بعيد.

« ولهم تبدل السيئات » تقديم الظرف للحصر ، أي هذه الخصلة مختصة بهم وهو أيضا إما معطوف على « إن ربي » فليس داخلا في الخصلة ، أو هو من تتمتها ولعله إشارة إلى قوله تعالى : « إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ » (١) فالمعنى أن تبدل السيئات بالحسنات الوارد في تلك الآية مختصة بهم ، لأن الولاية داخلة في الإيمان ، أو هي المراد بالعمل الصالح كما ورد في الخبر.

الحديث السادس عشر : مرسل.

« قابضا على كفه » أي واضعا أصابعها على راحتها « أتدرون » قيل سؤاله

__________________

(١) سورة الفرقان : ٧٠.

٢١٤

أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة ثم رفع يده الشمال فقال أيها الناس أتدرون ما في كفي قالوا الله ورسوله أعلم فقال أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة ثم قال حكم الله وعدل حكم الله وعدل

______________________________________________________

إياهم من هذا الأمر الذي لا يعلمه إلا الله ورسوله يكون للحث على استماع ما يلقى إليهم والكشف عن مقدار فهمهم ، ومبلغ علمهم ، فلما راعوا الأدب بقولهم : الله ورسوله أعلم ، علم أنهم يريدون استخراج ما عنده فأجاب بما ذكر ، وقيل : فائدته التعريف بمنزلته من الله تعالى في إعلام هذه الأمور المغيبة ، وقيل : فائدته استنطاقهم وحملهم على الإقرار بأن الله ورسوله أعلم.

« فيها أسماء أهل الجنة » أي فيها كتاب فيه أسماؤهم ، أو من قبيل الاستعارة التمثيلية والمقصود بيان علمه بالمقربين وأصحاب اليمين بحيث صاروا كأنهم مكتوبون في كفه أو في كتاب في كفه ، ولعل المراد بأسماء آبائهم نسبتهم إلى الآباء كفلان بن فلان وقيل : فيه دلالة على أن ولد الزنا لا يدخل الجنة كما أن في مقابله دلالة على أنه لا يدخل النار فكأنهم في الأعراف أو يخص أسماء آبائهم بمن له أب أو يعم الأب بحيث يشمل لغة وعرفا.

« حكم الله » أي يكون ما في اليد اليمنى من أهل الجنة ، وعدل في ذلك ، لأنه لم يكن ذلك مجازفة ، بل لعلمه بأنهم يختارون الإيمان باختيارهم « حكم الله » بكون ما في اليد اليسرى من أهل النار ، وعدل في ذلك لأن العلم لا يكون علته ، وفي أكثر النسخ ثلاث مرات ، فالثالث إشارة إلى حكم أهل الأعراف ، أو الأول إلى الحكم الأزلي والثاني إلى الحكم بعد إيجادهم ، والثالث إلى الحكم الأخروي أو لمحض التأكيد فيهما.

أقول : ومثل هذه الرواية موجودة في طرق المخالفين ، ففي الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي يده كتابان ، فقال للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم

٢١٥

« فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ».

١٧ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن إسحاق بن غالب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في خطبة له خاصة يذكر فيها حال النبي والأئمة عليهم‌السلام وصفاتهم فلم يمنع ربنا لحلمه وأناته وعطفه ما كان من عظيم جرمهم وقبيح أفعالهم أن انتجب لهم أحب أنبيائه إليه وأكرمهم عليه محمد بن عبد الله عليه‌السلام

______________________________________________________

ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ، وقال للذي في يده اليسرى : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وأسماء قبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم فلا يزيد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ، ثم رمى بهما وقال فرغ ذلك من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير.

وفي النهاية : أجمل على آخرهم أجملت الحساب إذا جمعت آحاده وأكملت أفراده ، أي أحصوا وجمعوا فلا يزاد فيهم ولا ينقص ، انتهى.

واستدل بهذا الخبر علي الجبر ولا يخفى وهنه كما أومأنا إليه.

الحديث السابع عشر : صحيح.

قوله : خاصة ، كأنه حال عن حال النبي ، أي كانت الخطبة مخصوصة بهذا المطلب لا كسائرها حيث يذكر فيها أولا نعتهم ، ثم يفاض في غيره من المطالب ، وقيل : حال عن المستتر في قوله : يذكر ، أي غير صادرة عن غيره قبله ، أو بالجر نعت خطبة أي شريفة عالية ( انتهى ) وما ذكرنا أظهر.

« وربنا » بالنصب مفعول يمنع « ولحلمه » متعلق بلم يمنع ، والأناة تأكيد للحلم والعطف الرأفة و « ما كان » فاعل يمنع ، وما موصولة وكان تامة ، ومن للبيان وضمير جرمهم راجع إلى الناس أو إلى أهل مكة من قريش وأمثالهم « أن انتجب » مفعول ثان ليمنع أو هو على الحذف والإيصال بتقدير عن ، أي عن أن اختار ، وفي القاموس حومة البحر والرمل والقتال وغيره معظمه أو أشد موضع منه ، وفي النهاية : الدومة واحدة الدوم وهي ضخام الشجر ، وقيل : هو شجر المقل ، وفي المغرب دومة

٢١٦

في حومة العز مولده وفي دومة الكرم محتده غير مشوب حسبه ولا ممزوج نسبه ولا مجهول عند أهل العلم صفته ـ بشرت به الأنبياء في كتبها ونطقت به العلماء بنعتها وتأملته الحكماء بوصفها مهذب لا يدانى هاشمي لا يوازى أبطحي لا

______________________________________________________

الجندل بالضم والمحدثون على الفتح وهو خطأ ، وكان المراد بالحومة مكة أو ذرية إبراهيم عليه‌السلام وبالدومة بنو هاشم أو المدينة ، أو هو على الاستعارة كأنه شبه الكرم بشجرة عظيمة وهو في ظلها ، وفي الأول أيضا يحتمل ذلك ، والمحتد الإقامة أو موضعها ، قال الجوهري : حتد بالمكان يحتد أقام به وثبت ، والمحتد الأصل يقال : فلان من محتد صدق ، أو محتد صدق غير مشوب أي مخلوط حسبه ، حسب الرجل دينه وقدره وأفعاله الحسنة وصفاته الجميلة وأعماله المرضية ، وحسبه أيضا مآثر آبائه لأنه يحسب بها في الفضائل والمناقب.

وكأن المراد أن مآثره ومفاخر آبائه الكرام غير مشوبة بالأخلاق الذميمة والأفعال القبيحة ، ولا ممزوج نسبه بسفاح ولا شبهة ، ولا مجهول عند أهل العلم من الأوصياء وعلماء أهل الكتاب صفته ، بل كانوا عارفين بصفاته وعلاماته بما وجدوه في كتبهم « بشرت » استئناف كأنه قيل : كيف لم يكن مجهولا صفته؟ فقال : لأن الأنبياء بشروا ببعثته وصفته في كتبهم ، والتأنيث بتأويل الجماعة وكذا ضميري « نعتها » و « بوصفها » راجعان إلى العلماء والحكماء بالتأويل المذكور ، والإضافة فيهما إلى الفاعل ، وما قيل : من إرجاع الضميرين إلى الصفة في غاية البعد ، وضميرا « به » و « تأملته » راجعان إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتأمل التلبث في الأمر والنظر ، أي كان يتعرف وينظر إليه الحكماء بما علموا من صفاته في الكتب ، ويتفرسون أنه هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

« مهذب لا يدانى » أي مطهر الأخلاق ومهذب من النفاق لا يقاربه أحد « لا يوازي » أي لا يساويه أحد من الهاشميين وغيرهم « أبطحي » أي مكي فإن الأبطح في مكة وإنما عد من المناقب لأنها أشرف البلدان « لا يسامي » أي لا يغالب في السمو والرفعة ، قال في النهاية : فلان يسمو إلى المعالي إذا تطاول إليها ومنه حديث

٢١٧

يسامى شيمته الحياء وطبيعته السخاء مجبول على أوقار النبوة وأخلاقها مطبوع على أوصاف الرسالة وأحلامها إلى أن انتهت به أسباب مقادير الله إلى أوقاتها وجرى بأمر الله القضاء فيه إلى نهاياتها أداه محتوم قضاء الله إلى غاياتها تبشر به كل أمة من بعدها ويدفعه كل أب إلى

______________________________________________________

عائشة : كانت أي زينب تساميني منهن أي تعاليني وتفاخرني ، وهو مفاعلة من السمو أي تطاولني في الخطوة عنده ، ومنه حديث أهل أحد يتسامون كأنهم الفحول ، أي يتبادرون ويتفاخرون ، وفي القاموس : الشيمة بالكسر الطبيعة.

« مجبول » أي مخلوق ومفطور « على أوقار النبوة » أي شرائطها العظيمة الثقيلة من الفضائل العلمية وأخلاقها اللازمة لها ، قال الفيروزآبادي : جبله على الشيء : طبعه وجبره كأجبله ، وقال : الوقر بالكسر الحمل الثقيل أو أعم والجمع أو قار ، والأحلام جمع حلم بالكسر وهو العقل والأناة ، قال في النهاية في حديث الصلاة الجماعة : ليليني منكم أولو الأحلام والنهي ، أي ذوو الألباب والعقول ، واحدها حلم بالكسر وكأنه من الحلم الإناءة والتثبت في الأمور ، وذلك من شعار العقلاء.

« إلى أن انتهت » الظرف متعلق بانتجب وقيل : بمجبول ومطبوع ، والأول أظهر ، وأن مصدرية والباء في به للتعدية والضمير لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقادير جمع مقدور وهو ما دبر الله وقوعه في وقته من المستقبل وضمير أوقاتها للمقادير أي أوصلته أسباب مقادير الله إلى أوقات حصول ما قدر فيه من وجوده وبعثته أو وفاته وهجرته وانقضاء مدته ، والأول أظهر وكذا ضميرا « نهاياتها » و « غاياتها » راجعان إلى المقادير.

ويحتمل إرجاعهما إلى القضاء بتكلف ، ومتعلق الجمل كلها إما أمر واحد أو الأولى للموجود والثانية للنبوة والبعثة والغزوات وغيرها ، والثالثة للموت أو الأولى للحياة والنبوة وسائر ما يتبعها ، والثانية للموت ، والثالثة استيناف لبيان الثانية ، فيحتمل أن يكون المراد بغايات المقادير فوائدها وهي لقاء الله والجنة والرضوان والرفيق الأعلى وما يتبعها.

« تبشر » استئناف بياني أو عطف بيان للجمل السابقة ، والتبشير الإخبار بما

٢١٨

أب من ظهر إلى ظهر لم يخلطه في عنصره سفاح ولم ينجسه في ولادته نكاح من لدن آدم إلى أبيه عبد الله في خير فرقة وأكرم سبط وأمنع رهط وأكلإ حمل وأودع حجر اصطفاه الله وارتضاه واجتباه وآتاه من العلم مفاتيحه ومن الحكم ينابيعه

______________________________________________________

يسر « من ظهر إلى ظهر » بالظاء المعجمة فيهما كما في أكثر النسخ ، أي كان ينتقل هذا النور وتلك الطينة الطيبة من ظهر إلى ظهر كما مر ، وفي بعض النسخ بالطاء المهملة أي من مسلم إلى مسلم ، وفي القاموس : العنصر ويفتح الصاد الأصل والحسب ، والسفاح بالكسر الفجور ، والمراد بالنكاح الفاسد من أنكحة الجاهلية بقرينة لم ينجسه ، والنكاح يطلق على الوطء والعقد ، فيمكن أن يكون المراد الوطء الحرام غير الزنا كالوطي في الحيض ، بل ما يشتمل المكروه من الجماع.

والفرقة بالكسر : الطائفة من الناس : والسبط بالكسر ولد الوالد ، والفريق ، من اليهود يقال للعرب قبائل ولليهود أسباط ، والرهط قوم الرجل وقبيلته ، والمعاني متقاربة ، ويمكن أن يكون المراد بالأول ذرية إبراهيم ، وبالثاني القريش وبالثالث بني هاشم ، وقيل : خير فرقة قريش وأكرم سبط بنو هاشم وأمنع رهط أولاد فاطمة المخزومية من عبد المطلب كما قال حسان في ذم ابن عباس :

وإن سنام المجد من آل هاشم

بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

ويقال : منع كحسن أي صار رفيعا شريفا.

« وأكلا حمل » عبارة عن آمنة بنت وهب ، من كلأه بالهمز أي حفظه ، وكان المراد بالحمل هنا الحامل ، ولو كان المراد به ما يحمل في البطن من الولد فيمكن أن يكون أكلا كأشهر على خلاف القياس « وأودع حجر » عبارة عن حجر عبد المطلب وأبي طالب وفاطمة بنت أسد رضي الله عنهم ، والحجر بالكسر وقد يفتح الخصر وهو ما دون الإبط إلى الكشح كذا في المصباح ، وفي القاموس : نشأ في حجره أي في حفظه وستره ، وقال : ودع ككرم ووضع سكن واستقر واستودعته وديعة استحفظته إياها.

« وآتاه من العلم مفاتيحه » كأنه كناية عن وفور ما أعطاه من العلم بأن منحه

٢١٩

ابتعثه رحمة للعباد وربيعا للبلاد وأنزل الله إليه الكتاب فيه البيان والتبيان « قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ » قد بينه للناس ونهجه بعلم قد فصله ودين قد

______________________________________________________

خزائن العلم وسلم إليه مفاتيحه أو أنه أعطاه الأمور التي يستنبط منها العلوم ككتب الأنبياء والوحي والإلهام ، وعلم النجوم والقرآن المجيد والقواعد الكلية التي يستخرج منها الأحكام كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : علمني ألف باب ، وكذا الاحتمالان جاريان في الفقرة الثانية ، وفي القاموس بعثه كمنعه أرسله كانبعثه فانبعث.

« وربيعا للبلاد » أي جعله سببا لطراوة البلاد وحسنها وعمارتها ونموها في الخيرات كما أن الربيع سبب لظهور الأزهار والأنوار ونمو الأعشاب والأشجار ، وقال في النهاية : في حديث الدعاء : اللهم اجعل القرآن ربيع قلبي ، جعله ربيعا له ، لأن الإنسان يرتاح قلبه في الربيع من الأزمان ويميل إليه ، انتهى.

وقال الطيبي كما أن الربيع زمان إظهار آثار الله وإحياء الأرض كذا القرآن يظهر منه بتأثير لطف الله من الإيمان والمعارف ويزول به ظلمات الكفر والجهل والهموم « فيه البيان والتبيان » حال عن الكتاب والتبيان أخص وأبلغ من البيان ، لأنه بيان للشيء مع دليل وبرهان وقيل : المراد بالتبيان تبيان المعارف الإلهية والأسرار اللاهوتية ، وبالبيان بيان الأحكام الشرعية والقوانين العلمية ، وتقديم الظرف إما للحصر أو لقرب المرجع ، أو للاهتمام لاشتماله على ضمير الكتاب ، أو لربط الحال على ذي الحال ابتداء.

« قُرْآناً » حالا بعد حال عن الكتاب لتأكيد اشتماله على كل شيء و « عَرَبِيًّا » صفة مخصصة أو مادحة ، واشتماله على غير العربي نادرا لا يضر في عربيته « وغَيْرَ ذِي عِوَجٍ » أي لا اختلاف فيه أو لا شك صفة بعد صفة للمدح و « لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ » علة غائية للإنزال ، ولم يذكر متعلق « يتقون » لقصد التعميم أو الاختصار والتحرز عن توهم التخصيص.

« قد بينه للناس » إما حال ثالثة للكتاب أو استيناف ، كأنه قيل : ما فعل به

٢٢٠