ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-387-1
الصفحات: ٣٠٥
الجزء ١ الجزء ٢

المكشوفة منه على سطح الأرض ، مغطاة بطبقة سميكة من الحجر والأسمنت ، وقد بلغنى أن هذه القناة لم يجر تطهيرها أو تنظيفها طوال الخمسين سنة الماضية ، والنتيجة المترتبة على هذا الإهمال هو ضياع القسم الأكبر من الماء أثناء مروره إلى المدينة خلال الفتحات ، أو من خلال شق طريق عنوة خلال الرسوبيات التى تعترض طريقه ، على الرغم من اندفاع الماء على شكل نهر قوى عند بداية ذلك المجرى المائى فى عرفات. كمية الماء التى ترد عن طريق القناة فى الظروف المعتادة تكفى للوفاء باحتياجات السكان ليس إلا ، وأثناء موسم الحج يصبح الماء العذب شيئا نادرا ، والقربة الصغيرة (التى يحمل الرجل اثنين منها) تباع فى معظم الأحيان بشلن واحد ، وهذا سعر مرتفع جدا بين العرب.

هناك مكانان داخل مكة تجرى قناة الماء منهما فوق سطح الأرض ، وفى هذين المكانين يؤخذ الماء من خلال قنوات فرعية أو أسبلة يقيم بجوارها بعض عبيد الشريف غالب ، لكى يحصلوا منها على إتاوة من الأشخاص الذين يقومون بملء قرابهم من هذه القنوات أو الأسبلة. فى موسم الحج ، تحاط هذه الأسبلة بجموع من الناس أناء الليل وأطراف النهار ، الذين يتشاجرون ويتضاربون على الوصول إلى الماء ، خلال الحصار الأخير قطع الوهابيون الماء عن مكة وذلك عن طريق سد المجرى المائى ، وقد استغرق إصلاح هذا الضرر وقتا طويلا بعد ذلك.

تاريخ هذا المجرى المائى ، الذى استغرق عملا كبيرا وجهدا فائقا ، أتى على ذكره باستفاضة مؤرخو الجزيرة العربية. هذه هى زبيدة ، زوجة هارون الرشيد ، هى أول من بنت السبيل المسمى عين النومان ، من منبعه فى جبل قورة إلى أن أوصلته إلى مكة ، وعين عرف التى تنبع من سفح جبل شامخ الذى يقع إلى الشمال من جبل قورة ، والتى كانت تروى الوادى الخصيب المسمى وادى حنين جرى توصيله بعد إلى عين النومان ، كما جرى مؤخرا إضافة أربع عيون أخرى إلى مجرى النومان المائى وهذه العيون هى : البرود ، وزفران ، وميمون ، وعين مشاش. ويبدو أن ذلك المجرى المائى جرت عرقلته مؤخرا ، كان قد جرى فى العام الهجرى ٦٤٣ إصلاح وترميم ذلك المجرى

١٤١

المائى بواسطة كوكبورى Kokeboury ، ملك أربيلا ، وفى العام ٧٦٢ ه‍ ، وبناء على أوامر من السلطان سيدSayd خادا بيده Khadanbede جرى ترميم ذلك المجرى من جديد ، وحدث الإصلاح الثالث ولم يكن كاملا فى عهد الشريف حسن بن عجلان فى العام ٨١١ الهجرى عندما كان فى سدة الحكم. وهذا هو قايتباى ، سلطان مصر ، ينفق مبلغا كبيرا على ذلك المجرى المائى فى العام ٨٧٩ الهجرى ، وفى العام ٩١٦ الهجرى يساهم قنصوه الغورى ، آخر سلاطين الدولة المملوكية ، مساهمة كبيرة فى إصلاح ذلك المجرى المائى ، ومع ذلك ظل المجرى مسدودا ، وكلما حدث ذلك أدى إلى تعريض الحجاج والمكيين إلى الموت عطشا. فى العام ٩٣١ ه‍ حاول السلطان العثمانى سليم إصلاح ذلك المجرى المائى من جديد ، لكن الخطة لم تكتمل. أخيرا قام ابنه سليمان بن سليم ، (سليمان القانونى) بعد سنوات من العمل ، وبعد مصاريف باهظة ، قام بحفر ممر فى الصخر الموجود خلف عرفة ، وأحدث مجرى مائيا جديدا وهو الموجود إلى الآن ، ونجح المشروع فى جلب الماء الوفير إلى مدينة مكة فى العام ٩٧٩ ه‍. يصل إجمالى طول المجرى المائى نحو مسير حوالى ثمانى ساعات.

هناك عين صغيرة تنساب من تحت الصخور الموجودة خلف القصر العظيم الذى بناه الشريف ، والذى يطلقون عليه اسم بيت السعد ، يقال إن هذه العين تعطى ماء عذبا أو أن شئت فقل : أعذب ماء فى هذا البلد ، لكن كميته قليلة جدا. هذه العين مغلقة ومخصصة لاستعمال الشريف وحده هو وأسرته.

الشحاذون ، وكذلك الحجاج الفقراء أو الضعاف يطاردون المسافرين ويلاحقونهم فى شوارع مكة طلبا لشربة من الماء العذب ، هؤلاء الشحاذون يتحلقون حول طاولات الماء ، التى توجد فى كل ركن من أركان المدينة ، حيث يباع الماء فى موسم الحج بواقع بارتين للجرة الواحدة وبارة واحدة للجرة فى غير موسم الحج.

سوف أواصل وصفى لمختلف أحياء مكة ، وسوف أؤجل وصف المسجد الحرام إلى المرحلة الأخيرة ، ثم أضيف بعد ذلك بعض الملاحظات عن السلطان وعن الحكومة.

١٤٢

أحياء مكة

عند المدخل القادم من ناحية جدة ، وعندما ندور حول زاوية واد من الزلط والرمل ، نشاهد برجين مستديرين من أبراج المراقبة ، هذان البرجان أنشأهما الشريف غالب للدفاع عن عاصمته. المسافر يشاهد أبراجا أخرى من هذا القبيل عند مداخل المدينة الأخرى ، وهذه الأبراج تتسع لحوالى عشرين شخصا ، وعندما تقترب التلال بعضها من بعض عند مدخل المدينة ، نجد أن هذه الأبراج هى التى تتحكم فى الممر. يبدو أنه كانت هناك من قبل بوابة فى هذا المكان ، ولم يعد يتبقى منها سوى عتبتها ، بالقرب من مبنى صغير ، يتجمع عنده موظفو الشريف غالب لتحصيل الرسوم على البضائع ، إلخ الداخلة إلى المدينة. هنا أيضا صف من الدكاكين ، والمنازل السكنية الخفيضة المدمرة ، التى يطلق الناس هنا عليها اسم الحارة ، أو إن شئت فقل : حى الجرول ، هذه الحارة تشتمل على مخيم فى الجهة اليمنى ، يعيش فيه البدو الذين يعملون فى نقل التجارة بين مكة وجدة ، وهؤلاء البدو من قبيلة حرب ، والمطرفى واللهاوى أيضا.

يتغير فى المنطقة الواقعة خلف جرول اسم الشارع إلى حارة الباب ، حارة الباب هذه عبارة عن شارع واسع ، فيه العديد من المنازل الجيدة ، وهو يؤدى إلى حى الشبيكة ، الذى يمتد فى اتجاه الناحية اليمنى ، وهو يسمى بهذا الاسم لأن أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جرى الهجوم عليهم من قبل أعدائهم ، هناك كثير من المنازل الجيدة فى الشبيكة ، التى تعد واحدة من أنظف الأحياء وأصحها فى المدينة كلها. كثيرون من أهل جدة يعيشون فى حى الشبيكة ، وفى الشبيكة أيضا نجد منزلا جميلا من ممتلكات الشريف غالب ، عاشت فيه أسرته المكونة من عدد كبير من الأطفال الصغار ، والبنات الكبار ، بعد عزل الرجل من منصبه. الشارع الرئيسى فيه بعض المقاهى ، التى ينطلق البريد منها كل يوم فى المساء ، على ظهور الحمير ، التى تحمل الرسائل المرسلة إلى جدة. هذا هو المكان الوحيد الخاص بالرسائل الذى شاهدته فى الشرق ، علاوة على ذلك المكان الذى أنشأه الأوروبيون فيما بينهم فى القاهرة ، ليعمل على نقل

١٤٣

الرسائل فيما بين القاهرة والإسكندرية ، لكن توصيل الرسائل بين القاهرة والإسكندرية أقل انتظاما منه بين جدة ومكة ، حيث يجرى نقل الرسائل بينهما بصورة منتظمة ، وبتكلفة صغيرة لا تتجاوز بارتين للرسالة الواحدة ، وبارتين للشخص الذى يقوم بتوزيع الرسائل الواردة من جدة.

فى المقاهى سالفة الذكر يعيش أيضا سماسرة القوافل ، الذين يؤجر البدو من خلالهم إبلهم التى تستعمل فى الرحلات المتجهة إلى كل من جدة والمدينة المنورة.

فى الجانب الغربى من الشبيكة وفى اتجاه الجبل ، يوجد مدفن كبير ، تتناثر فيه أكواخ البدو وخيامهم ، وبعض المساكن البائسة التى تعيش فيها أحط النساء ، وهذا المكان يسميه الناس هنا الخندريه. وعلى الرغم من أن الموروث يقول إن أعدادا كبيرة من أصدقاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه مدفونون فى هذا المكان ، فإنه أصبح من غير اللائق أو المناسب دفن الموتى هنا فى هذا المكان ، وهنا نجد أن كل أفراد الطبقة الأولى والثانية من المكيين يستعملون فى دفن موتاهم الجبانات الواسعة الواقعة شمالى المدينة. هناك قلة قليلة من الدكاكين فى الشبيكة ، يزاد على ذلك أن الشبيكة لا تضم فى موسم الحج كثيرا من الأجانب ، نظرا لأن من يسكنون الشبيكة هم من الميسورين الذين يجدون مهانة فى تأجير مساكنهم.

عندما نتحرك من الشبيكة على امتداد الشارع الواسع فى اتجاه الشمال ، نصل إلى الحمام الذى يعد أفضل الحمامات الثلاثة فى مكة ، إلا أنه أدنى بكثير من حمامات المدن الآسيوية الأخرى ، وسبب ذلك هو ندرة الماء فى ذلك الحمام ، هذا الحمام بنى فى العام الهجرى ٩٨٠ ، وقد بناه محمد باشا ، ممثل السلطان سليمان الثانى ، ويعد من أحسن مبانى المدينة (*). هذا الحمام يتردد عليه كل من الأجانب بصفة خاصة ، والمواطنين العرب غير المعتادين على استعمال هذه الحمامات ، ويفضلون الوضوء بطريقتهم الخاصة فى منازلهم.

__________________

(*) راجع قطب الدين.

١٤٤

هذا الحمام ، هو والشوارع الفرعية المتعددة المؤدية إلى المسجد الحرام ، تشكل فى مجملها ذلك الحى الذى يطلقون عليه اسم حارة باب العمرة ، الذى يسكنه عدد من المرشدين الذين يسمونهم المطوفين ، كما أن هذا الحى يعج بالحجاج ، وبخاصة الأتراك منهم. الشوارع هنا ضيقة فى هذا الحى ، وشديدة القذارة ، لكن الحجاج يفضلون هذا الحى لأنه أرخص الأحياء القريبة من المسجد الحرام الذى يشتاقون إلى السكنى بالقرب منه ، وذلك من باب الحرص من جانبهم على ألا تفوتهم الصلاة ، أو (على حد قولهم) أن يكونوا ، إذا ما اضطرب منامهم ، قريبين من المسجد الحرام على نحو يبعد عنهم تلك الأحلام السيئة. الرجال هنا ، نراهم وهم يجرون عند منتصف الليل متجهين إلى المسجد الحرام مرتدين ثياب النوم ، ويقومون بالطواف حول الكعبة ، ويقبلون الحجر الأسود ، ويدعون بدعاء قصير ، ويشربون من ماء زمزم ، ثم يعودون إلى فراشهم بعد ذلك. بالقرب من بوابة المسجد الحرام المسماة باب العمرة ، الذى يشتق الحى اسمه منه ، يوجد مبنى واسع كبير ، هو فى الأصل مدرسة عامة ، لكن يقيم فيه حاليا حسان باشا ، والى مكة. والأرجح أن يكون ذلك المبنى هو المدرسة التى أتى الفاسى على ذكرها ، وأنها بنيت بالقرب من باب العمرة فى العام ٨١٤ الهجرى ، بأوامر من منصور غيث الدين آثام شاه ، حاكم البنغال. فى العام ٥١٩ الهجرى ، أمر والى عدن ببناء مدرسة أخرى فى هذا الحى ، وهى التى أطلق عليها اسم دار السلسالة ، فى هذا الحى توجد إحدى عيون الماء العذب الذى يجلب من المجرى المائى ، كما توجد أيضا آبار عدة مالحة الماء.

عندما نعود من هذا الحى إلى الشبيكة ، ثم نتجه جنوبا نحو مختلف الشوارع ، المكونة من بنايات جيدة ، لكنها سرعان ما تبلى وتتحلل ، نجد أنفسنا نصعد صعودا هينا لنصل إلى الشارع الذى يسمونه السوق الصغير ، الذى ينتهى عند بوابة المسجد الحرام ، المسماة باب إبراهيم. المنازل منخفضة على جانبى الشارع ، وتسكنها الطبقات الدنيا من البشر ، وهناك سلسلة متصلة من الدكاكين التى تباع فيها كل أنواع المؤن والتموينات ، والحبوب بصفة خاصة ، والزبد والتمر. يباع الجراد فى بعض الدكاكين

١٤٥

بالمكيال. هذا السوق يتردد عليه البدو بصفة خاصة ، وبخاصة بدو جنوب الجزيرة العربية الذين يجلبون الفحم النباتى إلى هذا المكان. بعض فقراء الحجاج من الزنوج الأفارقة يتخذون من الأكواخ البائسة هنا مساكن لهم ، كما يسكنون أيضا فى المنازل المهدمة فى هذا الجزء من المدينة ، وقد أقاموا هنا سوقا للحطب الذى يجمعونه من الجبال المحيطة بالمكان.

الناس هنا يطلقون على نهاية السوق الصغير من ناحية الجبل اسم حارة الحجلة أو حجلة تكية صادق ، حيث توجد بعض المنازل الجيدة ، التى يسكنها أولئك الطواشية الذين يحرسون المسجد الحرام ، والذين يعيشون مع زوجاتهم فى ذلك المكان ، نظرا لأنهم كلهم متزوجون من (إماء) سوداوات. هذا هو أدنى أجزاء مكة ، وعندما تجىء السيول الكبيرة فى موسم الأمطار فإنها تغرق الوادى ، كما يندفع الماء خلال هذا الشارع متجها صوب الأرض الفضاء. وأنا أرى هنا بعض بقايا المجرى المائى القديم ، وسبب ذلك أنه طوال صيانة ذلك المجرى كان ماؤه الزائد عن حاجة المدينة يتجه من هذا الطريق إلى الوادى الجنوبى ، ليجرى استخدامه فى رى بعض الحقول.

فى بعض الأحيان يدخل السوق الصغير ضمن المسفلة ، أو إن شئت فقل «المكان المنخفض» ، والمسفلة هو اسم الحى الواقع على الجانبين الشرقى والجنوبى من السوق ، لكن هذا الاسم ينطبق بصورة أو بأخرى على الحى الأخير. حى المسفلة مبنى بطريقة جيدة ، وهو مثل حى الشبيكة ، يحتوى على قلة قليلة من المنازل الجديدة ، لكن ذلك الجزء من حى المسفلة الذى يقع فى اتجاه قلعة التل الكبيرة ، يكاد يكون كله مخربا فى الوقت الحالى. هذا الجزء يسكنه التجار العرب والتجار البدو ، الذين يسافرون إلى اليمن فى زمن السلم ، وإلى المخواه بصفة خاصة ، التى يجلبون منها الحبوب والبن والأعناب المجففة. هذا المكان يقيم فيه أيضا عدد من فقراء الهنود المقيمين فى مكة ، هؤلاء الهنود الفقراء يؤجرون منازلهم لأبناء بلدهم ، الذين يأتون إلى مكة فى موسم الحج لأداء الفريضة. ونجد الحجاج الزنوج يتخذون من المنازل المهدّمة بيوتا لهم ، بعض

١٤٦

هؤلاء الزنوج يقيمون فى مكة ، ونساؤهم يقمن بعمل مشروب مسكر يصنعنه من الذرة ، ويسمونه البوظة ، التى يغرم بها أحط سكان المدينة ، وكما سبق أن قلت : فقد اتخذت من المسفلة سكنا لى عندما عدت من جدة ، سكنت فى بداية الأمر فى منزل واحد من المغربين ، ثم انتقلت بعد ذلك إلى منزل أحد التجار اليمنيين القريب من المنزل السابق. كان التاجر الذى استأجرت منه السكن من أهل صنعاء فى بلاد اليمن ، وكان يتخذ من الطوافة مهنة له ، وكان يسكن فى الطابق الأول من المنزل ، الذى انتقل فيه ، أثناء مقامى ، وفى ركن من أركان الطابق الأرضى ، كانت الأجزاء الأخرى من المبنى مأهولة بالسكان الذين جاءوا لأداء فريضة الحج ، كما كان يسكن فى المنزل أيضا أحد فقراء بلاد الأفغان ، أو بالأحرى منطقة السليمانية ، مثلما يسميها الناس فى الوقت الراهن ، كما كان فى المنزل أيضا ساكن أو حاج من الجزر اليونانية. فى منزل التاجر اليمنى ، وجدت نفسى بين جماعة من الحجاج المغربيين الذين من أمة البربر ، أو إن شئت فقل : من الشلهى ، الذين جاءوا إلى مصر عن طريق البحر. توجد فى هذا الجزء من المدينة قلة قليلة من المنازل التى لا يمكن الالتقاء فيها بذلك الخليط البشرى.

يوجد فى الناحية الجنوبية من المسفلة خان كبير مدمر ، لا بد أنه كان حقيرا حتى عندما كان جديدا ، كان ذلك الخان مخصصا لإعاشة قوافل الحجاج وإقامتها ، التى كانت تصل من قبل من اليمن عن طريق البر ، بالسير بمحاذاة ساحل البحر ، وجاءت قافلة حجاج يمنية أخرى قادمة إلينا من الجبال.

عند الخروج من مكة من هذا الجانب ، نجد برجا من أبراج المراقبة مقاما فى السهل وشبيها بتلك الأبراج المقامة عند مدخل جرول ، ونجد هنا أيضا واديا واسعا يفضى معه هنا ، وفى اتجاه الجنوب ، إلى قرية الحسينية ، التى تبعد مسير ساعتين أو ثلاث ساعات ، والتى يوجد فيها بعض من النخيل. الشريف غالب له فى هذه المنطقة استراحة صغيرة فيها بيت ريفى ، وله أيضا فى هذا المكان قطيع من الجاموس جرى جلبه من مصر ، لكن حال هذا القطيع ليس على ما يرام. وهنا طريق

١٤٧

يصل بين الحسينية وعرفات ، وهذا الطريق يتجه جنوبا ثم يتجه نحو الجنوب الشرقى وصولا إلى مكة ، وعلى بعد مسيرة ساعتين أو ثلاث ساعات من مكة ، وعلى هذا الطريق ، يوجد واد صغير خصيب ومستوطنة العابدية العربية الصغيرة. الوادى سالف الذكر يطلقون عليه هنا اسم وادى الترافين ، وعلى بعد مسافة ميل واحد خلف حدود المدينة الحالية يمكن اقتفاء أثر حطام منازل سابقة ، بين هذه الآثار والأنقاض توجد خزانات عدة كبيرة وعميقة وجيدة البناء ، والتى بشىء من الترميم يمكن أن تعود إلى سيرتها الأولى لتفى بالغرض الذى بنيت من أجله ، وهو حفظ ماء المطر أو تجميعه ، وعلى بعد ميل ونصف الميل من المدينة يوجد خزان حجرى كبير ، يسمونه بركة ماجن جرى بناؤه لتزويد قافلة اليمن بالماء. وجدت فى ذلك الخزان شيئا من الماء ، لكنه يتحلل ويبلى بشكل سريع. خلف هذا الخزان يزرع أهل المسفلة بعضا من حقول الخيار ومختلف الخضراوات ، عقب سقوط المطر مباشرة ، بعد أن تكون الأرض قد تشبعت بالماء. وتنتشر فى هذا الوادى أكواخ كثيرة وخيام كثيرة من أكواخ وخيام بدو قبائل الفهام والجهادلة ، سكان هذه الأكواخ والخيام يكسبون عيشهم عن طريق جمع الحشائش والأعشاب من الجبال وبيعها فى سوق مكة عندما تجف ، ملفوفة على شكل حزم. والناس يستخدمون تلك الأعشاب والحشائش الجافة غذاء للخيول والإبل والحمير ، ولكن هذه الأعشاب والحشائش جد نادرة ، إلى حد أن العلف اليومى للحصان يتكلف ما بين قرش واحد وثلاثة قروش. هؤلاء البدو يربون أيضا الأغنام ، لكنهم على الرغم من فقرهم ، يحافظون على تميزهم عن الطبقات الفقيرة من المكيين ، الذين يحتقرونهم ويربأون بأنفسهم أن يقلدوهم فى عاداتهم الاستجدائية. بعض هؤلاء البدو يعملون سقائين فى المدينة.

توجد على قمة من قمم السلسلة الغربية من وادى الترافين ، وأمام المسفلة مباشرة ، ومن قبل الغزو الوهابى ، بناية صغيرة عليها قبة تكريما (لسيدنا) عمر أحد الصحابة الأربعة ، ولذلك يطلق الناس هنا على هذه البناية اسم مقام سيدنا عمر. وقد دمر الوهابيون ذلك المقام تدميرا كاملا.

١٤٨

وعلى قمة الجبل المقابل توجد قلعة كبيرة ، عبارة عن هيكل ضخم وكبير ، تحيط به جدران سميكة وأبراج صلبة. هذه القلعة تتحكم فى القسم الأكبر من مكة ، لكن يمكن التحكم فيها من القمم المتعددة الأعلى منها. بلغنى أن هذه القرية ترجع إلى زمن الشريف سرور ، سلف الشريف غالب ، لكنى أرى أنها أقدم من ذلك من الناحية التاريخية. وقد أتى العصمى مرارا على ذكرها ، فى تاريخه ، فى مطلع القرن الرابع عشر ، لكنه لم يحدد من هو بانى هذه القلعة ، وغير مسموح لأى إنسان بدخول هذه القلعة بدون إذن أو تصريح من والى مكة ، وأنا لا أرى أن من الحكمة جر المتاعب ، والتقدم بطلب لدخول هذه القلعة. قام الشريف غالب بتقوية تلك القلعة تقوية كبيرة وترميمها ترميما كاملا ، وزودها بالمدافع الثقيلة. يقال إن الشريف غالب جعل مخازن هذه القلعة مضادة للقنابل ، وإنها يمكن أن تأوى حامية مقدارها ألف رجل. العرب يرون أن هذه القلعة يصعب اختراقها ، وتلك هى نظرة المكيين إلى هذه القلعة ، هذه القلعة يمكن أن تشكل مقاومة كبيرة أمام الأوروبيين ، والدخول إلى هذه القلعة يكون عن طريق ممر ضيق.

خلف تل القلعة ، وفى سهل صغير يقع بين الجبل وجبل قورة ، يوجد القصر الكبير ، المملوك للشريف الحاكم ، والناس يطلقون على هذا اسم بيت السادة ، يقال أيضا إن الذى بنى هذا القصر هو الشريف سرور ، لكنى اكتشفت أن العصمى أتى على ذكر هذا القصر فى روايته عن المعاملات التى حدثت قبل مائتى عام. جدران هذا القصر عالية جدا وصلبة ، ويبدو أن هذا القصر قصد به أن يكون تكملة للقلعة التى فوقه ، والتى يوجد بينها وبين القصر اتصال عن طريق خندق أو نفق تحت الأرض. القصر عبارة عن بناية غير منتظمة الأبعاد ، ويضم أفنية كثيرة فسيحة ، وغرف كئيبة ، لم يسكنها أحد منذ هروب الشريف غالب أمام العدو إلى جدة ، ثم حاول الشريف غالب تدمير هذا القصر بعد ذلك عن طريق النار ، لكن البناية كانت أقوى من النار بكثير. حول الأتراك ، فى زمن محمد على باشا ، هذا القصر إلى مخزن للغلال. فى السهل المجاور ، الذى كان من قبل ميدانا لتدريب قوات الشريف ، عثرت على قطيع من الإبل ،

١٤٩

ومخيم لجمّالة ذلك القطيع ، الذين يقومون برحلة كل أسبوع إلى جدة أو الطائف. يوجد هنا أيضا كثير من الحجاج الفقراء ، الذين لا يستطيعون دفع إيجار المسكن ، ونصبوا خيامهم البائسة ، المكونة من مجموعة من الخرق البالية المفرودة على بعض العصى. كان الجنود مشغولين فى تدمير الأسقف المتبقية كلها من القصر وذلك بحثا أو طلبا للحطب.

فى مدخل ضيق فى الجبل ، وإلى الشمال من القصر ، وبالقرب من السهل سالف الذكر يوجد عدد كبير من الأكواخ المنخفضة المبنية من خشب الأراك ، هذه الأكواخ كانت من قبل مساكن لعبيد الشريف غالب ، الذين كانوا يعملون جنودا فى حرس الشريف. وقد هرب الكثيرون من هؤلاء الجنود عقب أسر الشريف غالب ، هذه الثكنات هى فى الوقت الراهن مقر لحوالى مائتين من الجنود العرب ، فى خدمة الشريف يحيى خلف الشريف غالب.

عند مغادرة هذا المكان إلى المسجد الحرام ، على الجانب الأيمن ، نصل إلى حى صغير ، مبنى عل منحدر الجبل ، فيه كثير من المنازل شبه المهدمة ، هذا الحى يسمونه حارة الجياد ، ويسكنه أناس فقراء ، وكثير من الخدم العاملين فى قصور الشريف. يقول العصمى إن هذا الحى يشتق اسمه من كونه المكان الذى كان يحتله الخيالة ، الذين رافقوا طوبه ، ملك اليمن ، أثناء الحملة التى جردها على مكة ، هذا الحادث شهير عند الكتاب العرب المسلمين ، نظرا للدمار الشديد الذى أصاب جيش هذا الملك ، المؤكد أن هذا الحى واحد من أقدم أحياء مكة.

على مقربة من المسجد الحرام ، وعلى جانبى مدخل السهل سالف الذكر يوجد قصر الشريف ، القسم الشمالى من هذا القصر مكون من منزلين فخمين متصلين ببعضهما البعض ، يعيش فيهما الشريف يحيى ، حريم الشريف يعشن فى المبنى الشمالى المقابل ، الذى بناه الشريف غالب ، الذى أمضى القسم الأكبر من وقته فى هذا المسكن المفضل ، الذى يمتاز بالقرب من المسجد ، كما يمتاز هذا المسكن أيضا بموقعه المهم ، والأرض المفتوحة الواسعة التى يطل عليها.

١٥٠

إذا ما واصلنا المسير من هذا المكان وفى اتجاه الشمال ، وبمحاذاة المسجد الحرام ندخل شارعا طويلا اسمه المساسة. الشوارع الفرعية الموجودة على اليمين ، عند الاقتراب من المساسة هى التى تكوّن حى الصفا ، الذى اشتق اسمه من جبل الصفا الذى سبق أن وصفناه. المنازل المحيطة بهذا المكان عبارة عن مبان أنيقة ، كما أن الأجانب الأثرياء ينزلون ويقيمون فى هذا الحى فى موسم الحج. يسكن فى هذا الحى أيضا أغا طواشى المسجد الحرام ، إضافة أيضا إلى الصبية الطواشيّة الذين يتلقون العلم هنا ، إلى أن يبلغوا السن الذى يسمح لهم بالعيش فى مساكن خاصة بهم.

نتحول الآن إلى المسعى ، أول شوارع مكة وأكثرها استقامة ، ومن أحسن الشوارع من حيث البناء. هذا الشارع أخذ اسمه من طقس السعى ، الذى يجرى تنفيذه فى هذا الشارع ، والذى سبق أن تناولته بالوصف ، بسبب هذا الظرف من ناحية ، وامتلاء هذا الشارع بالدكاكين من ناحية أخرى ، نجد أن هذا الشارع هو أكثر أماكن المدينة ضوضاء وحركة. الدكاكين هنا لها الوصف نفسه الذى أوردناه عن دكاكين جدة ، بالإضافة إلى حوالى اثنى عشر دكانا من دكاكين السمكرة ، الذين يصنعون القوارير مختلفة الأنواع من الصفيح والقصدير التى يستعملها الحجاج فى نقل ماء زمزم إلى بيوتهم أثناء عودتهم إلى أوطانهم. الدكاكين هنا عبارة عن مخازن فى الأدوار الأرضية من المنازل ، وأمام كل دكان توجد مصطبة من الحجر ، فوق هذه المصطبة يجلس التاجر تحت مظلة هزيلة مصنوعة من الحصير المثبت فى أعمدة طويلة ، هذه العادة سائدة فى سائر أنحاء الحجاز. كل منازل المسعى مستأجرة من الحجاج الأتراك. عند وصول جماعة من الحجاج من جدة ، وهذا هو ما يحدث صباح كل يوم تقريبا طوال أربعة أشهر أو خمسة من العام ، يقومون بوضع أمتعتهم فى شارع المسعى ، ليذهبوا بعد ذلك لزيارة المسجد الحرام ، ثم يبدءون بعد ذلك فى البحث عن السكن ، وعلى هذا النحو كنت أجد الشارع كل يوم ، وهو عامر بالزائرين الجدد ، وحملة الأخبار ، وكذلك المرشدين أو إن شئت فقل المطوفين.

١٥١

خلال مقامى فى مكة كان المسعى شبيها بسوق من أسواق إسطنبول. هذه دكاكين كثيرة يملكها أتراك جاءوا من أوروبا أو من آسيا الصغرى ، هذه الدكاكين تبيع أنواعا مختلفة من الألبسة التركية ، التى كان الحجاج الأتراك يرتدونها إلى أن وافتهم المنية ، أو ملابس هؤلاء الأشخاص الذين حدث لهم عجز فى النقود فاضطروا إلى بيع ملابسهم. المحلات هنا تبيع السيوف ، والساعات الإنجليزية الجيدة ، ونسخا جميلة من القرآن ، هذا يعنى أن أقيم ثلاثة أشياء فى أمتعة الحاج التركى ، كان يجرى عرضها للبيع فى هذه الدكاكين ، تباع فى هذه الدكاكين أيضا قطع الفطير الإسطنبولى كما تباع الحلوى أيضا فى الصباح ، هذه الدكاكين تبيع أيضا الكباب الضانى ، فى فترة العصر ، كما تبيع فى فترة المساء نوعا من البالوظة يسمونه مهلبية توجد أيضا فى هذا المكان مقاه كثيرة تزدحم بالناس اعتبارا من الساعة الثالثة صباحا إلى الساعة الحادية عشر ليلا. سوف يندهش القارئ إذا ما علم أن المشروبات المسكرة تباع فى اثنين من هذه الدكاكين ، على مرأى من الناس جميعا أثناء الليل ، على الرغم من أن ذلك لا يجرى أثناء النهار : مشروب من هذين المشروبين يجرى صنعه من الزبيب المخمر وعلى الرغم من خلط هذا المشروب بمقدار كبير من الماء ، فإنه يظل قويا جدا ، الأمر الذى يجلب السكر لمن يتناول كئوسا قليلة من هذا المشروب. المشروب الثانى هو نوع من البوظة ، المخلوطة بالتوابل ، ويطلقون عليها اسم سوبيا. هذا المشروب معروف فى القاهرة (على الرغم من أنه ليس بقوة المشروب الذى يصنع فى مكة).

المسعى هو المكان المخصص لتنفيذ القصاص ؛ فى هذا المكان يجرى القصاص من المذنبين وإعدامهم. أثناء مقامى فى مكة شاهدت رجلا وهم يقصون عنقه بناء على حكم من القاضى ، لأن الرجل سرق من حاج تركى حوالى مائتى جنيه إنجليزى ، كانت تلك هى الحالة الوحيدة من حالات القصاص التى شاهدتها ، على الرغم من القول بأن اللصوص يكثر وجودهم فى مكة ، فى موسم الحج. ومع ذلك فإن تاريخ مكة فيه كثير من الأمثلة على أحكام القصاص : فى العام الميلادى ١٦٢٤ م جرى سلخهم فى الشارع

١٥٢

وهم أحياء ، فى العام ١٦٢٩ م جرى ثقب ذراعى وكتف أحد الرؤساء العسكريين اليمنيين بعد أن أسره الشريف الحاكم ، ثم جرى وضع أشرطة مشتعلة فى تلك الثقوب (الجراح) ، وجرى لف قدمى هذا الرئيس العسكرى إلى الأعلى ، وتثبيتها فى كتفه بواسطة خطاف حديدى ، وعلق الرجل على هذا الوضع طوال يومين على شجرة فى المعالة ، إلى أن لفظ آخر أنفاسه. مسألة فقأ عينى رجل من الرجال أمر شائع فى هذه الأجزاء من الشرق ، لكن هذه العقوبة لم يحدث أن لجأ إليها وال من ولاة الحجاز.

فى المسعى ، يقع ذلك المبنى الجميل ، الملحق بالمسجد الحرام ، الذى أقامه قايتباى سلطان مصر ، فى العام ٨٨٢ الهجرى ، والذى أنشأ فيه مدرسة عامة كبيرة تضم اثنتين وسبعين شقة مختلفة ، وقد زود قايتباى تلك المدرسة العامة بمكتبة قيمة. وهذا هو المؤرخ قطب الدين ، الذى عمل أمينا لتلك المكتبة ، بعد ذلك بقرن من الزمان ، يشتكى من أن عدد المجلدات التى تبقت إلى عصره كان يقدر بحوالى ثلاثمائة مجلد فقط ، أما بقية المجلدات فقد سطا عليها أولئك الذين جاءوا قبله وكانوا عديمى الأخلاق والمبادئ.

يوجد فى الطرف الشمالى من المسعى مكان يسمونه المروة ، التى هى نهاية المسعى ، كما سبق أن أسلفت ، المروة بالشكل التى هى عليه الآن جرى بناؤها فى العام ٨٠١ هجرى. خلف المروة يوجد منزل كان يسكنه العباس ، أحد أعمام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بالقرب من المروة توجد دكاكين الحلاقين ، التى يحلق فيها الحجاج شعر رءوسهم بعد الانتهاء من السعى. هنا فى هذا المكان تعقد المزادات العامة صباح كل يوم ، حيث تعرض كل أنواع الملبوسات والبضائع على اختلاف أنواعها لبيعها بأعلى الأسعار ، وإرضاء للأتراك يجرى استخدام لغتهم فى تلك المزادات ، وليس هناك صبى من صبية مكة لا يعرف شيئا من التركية ، بما فى ذلك الأعداد فى أضعف الأحوال. بالقرب من المروة يوجد سبيل ، وهو من أعمال الإمبراطور العثمانى سليمان بين سليم ، هذا السبيل يجرى إمداده بالماء من مجرى مكة المائى ، وهو يزدحم طوال اليوم بالحجاج الذين يأتون لملء قربهم.

١٥٣

فى الناحية الشرقية من المسعى ، وبالقرب من نهايته عند المروة ، نجد أنه يتفرع منه شارع يسمونه السويقة ، أو إن شئت فقل : السوق الصغير ، التى تمتد محاذية للجانب الشرقى من المسجد الحرام. هذه السويقة ، على الرغم من ضيقها ، تعد أنظف شوارع مكة ، حيث يجرى تنظيفها بصورة منتظمة ورشها بالماء ، الأمر الذى لا يتاح فى الشوارع الأخرى. فى هذه السويقة يعرض تجار الهند الأثرياء بضاعتهم التى تباع بالقطعة ، كما يعرضون أيضا شيلان الكشمير ، والموسلين. يوجد فى السويقة حوالى عشرين دكانا ، تبيع العطور ، والزيوت الحلوة ، والبلسم المكى (مغشوش بطبيعة الحال) وبخور العود ، وطيب الزباد إلخ. قلة قليلة من الحجاج هم الذين يعودون إلى منازلهم دون أن يحملوا معهم هدايا لعائلاتهم وأصدقائهم ، هذه الهدايا عادة ما تكون خرزا ، أو عطورا ، أو بلسما مكيا ، أو طيب العود الذى يستخدم سائلا فى أنحاء الشرق ، على شكل قطع صغيرة توضع فوق التبغ المشتعل فى الشيشة ، لتنتج رائحة ذكية.

الدكاكين الأخرى تبيع عقود المرجان ، وحبات اللؤلؤ غير الحقيقية ، والمسابح التى تصنع من خشب العود أو الصندل ، أو من خشب الكالمباك ذكى الرائحة ، كما تبيع هذه الدكاكين أيضا العقود الجميلة المصنوعة من حبات العقيق الأحمر ، كما يستخدم العقيق أيضا فى صناعة الخواتم المنقوشة ، وأنواعا مختلفة أخرى من البضائع الصينية. هذه الدكاكين كلها مملوكة للهنود ، وبضاعة هذه المحلات كلها من الإنتاج الهندى ومن المصنوعات الهندية. هؤلاء الهنود يقع عليهم نوع من الظلم أو سوء المعاملة فى الجزيرة العربية ، جراء فكرة صغيرة مفادها أن هؤلاء الهنود هم من عبدة الأصنام ، علما بأن هؤلاء الهنود يلتزمون من حيث المظهر بطقوس الإسلام وتعاليمه : المفروض أن يكون هؤلاء الهنود من الطائفة (المذهب) الإسماعيلية ، هؤلاء الأتقياء الذين تحدثت عنهم فى رحلتى إلى لبنان (*) ، والذين يطلق اسمهم فى مكة على هؤلاء الهنود. هنا فى مكة

__________________

(*) راجع كتاب أسفار فى سوريا إلخ.

١٥٤

نجد حوالى اثنى عشر رجلا من هؤلاء الهنود ، أما الآخرون منهم فيصلون إلى مكة فى موسم الحج ، هؤلاء الهنود يشترون الذهب والفضة القديمة ، وينقلونها إلى سورات ، التى يأتى منها القسم الأكبر من هؤلاء الهنود. بعض هؤلاء الهنود يعيشون فى مكة منذ عر سنوات ، يؤدون الطقوس الدينية كلها ، هؤلاء الهنود يستأجرون بيتا كبيرا ، يعيشون فيه مع بعضهم البعض ، ولا يسمحون لأى غريب عنهم بالوجود أو الإقامة فى هذا المنزل ، حتى وإن كانت بعض غرف هذا المنزل غير مشغولة. وعلى العكس من المسلمين كلهم ، نجد أن هؤلاء الهنود لا يحضرون نساءهم مطلقا لأداء فريضة الحج على الرغم من قدرتهم على تحمل النفقات ، يزاد على ذلك أن هؤلاء الهنود الذين يقيمون فى مكة منذ زمن بعيد لم يعرف عنهم مطلقا أنهم تزوجوا فى هذه المدينة ، وهذا أمر شديد الوضوح ، نظرا لأن الهنود الذين يطول مقامهم فى الهند ، عادة ما يتخذون لأنفسهم زوجات من هذا البلد ، على الرغم من أنهم قد يكونون متزوجين فى بلادهم.

هذه القصص التى تروج عن هذه الطائفة ، يجرى ترديدها أيضا عن أفراد الطائفة الإسماعيلية السورية (*) ، وقد باءت كل المحاولات التى بذلتها من أجل الوقوف على تعاليمهم السرية بالفشل الذريع هنا فى مكة وفى سوريا من قبل ، وقد قيل فى سوريا إن المقر الرئيسى للطائفة الإسماعيلية كان فى الهند ، وإن ذلك المقر كانت له مراسلات منتظمة مع سوريا. هناك مذهب من مذاهب «عبدة النار» موجود فى كل من الهند ، وبلاد الرافدين ، وإن الإسماعيليين فى كل من سوريا ، ومكة ربما كانوا ينتمون إلى ذلك المذهب. هؤلاء الذين أراهم فى مكة لهم ملامح الفرس وقسماتهم وليس الهنود ، كما أنهم أطول وأمتن من الهنود بشكل عام (**).

__________________

(*) راجع كتابى أسفار فى سوريا والأرض المقدسة.

(**) البشر الذين أتى مؤلفنا هنا على ذكرهم ربما كانوا من البارسيين الذين من سورات وبومباى.

١٥٥

فى منتصف السويقة تقريبا حيث يصل عرض الشارع إلى أربع خطوات فقط ، توجد مقاعد حجرية على جانبى الشارع. فى هذا المكان يعرض العبيد الإماء الحبشيات للبيع ، ولما كان الجمال شكلا من أشكال الجاذبية الكونية ، فقد كان الحجاج ، الكبار والشبان منهم ، يتحلقون بشكل دائم حول هذه المقاعد ، ويتظاهرون بمساومة تجار العبيد ، مستهدفين بذلك رؤية الإماء للحظات قليلة فى شقة مجاورة للمكان. كثير من هؤلاء العبيد والإماء ينقلون من مكة ، إلى الأجزاء الشمالية من تركيا. كان ثمن أجمل جميلات الإماء يتردد بين مائة وعشرة دولارات ، ومائة وعشرين دولارا.

فى نهاية السويقة نجد الشارع مغطى بسقف على شكل قبة من الحجر ، مدعومة من الجانبين بالعديد من البنايات الضخمة ، التى يستخدمها التجار الأثرياء مخازن لبضاعتهم ، هذه البنايات كانت من أعمال شخص يدعى محمد ، باشا دمشق ، قبل قرون عدة ، وهذه البنايات تتبع المسجد الحرام فى الوقت الراهن ، ولما كانت هذه المنطقة هى مناطق مكة فى وقت الظهيرة ، فقد نجد الحجاج الميسورين يقضون فترة الصباح وفترة المساء فيها ، كما يدخنون فيها النرجيلات والشياش أيضا. تعرفت على واحد من باعة العطور وأصبح من بين معارفى ، وكنت ساعة بالنهار وأخرى فى فترة العصر ، جالسا على مصطبة أمام دكانه ، وأنا أدخن النرجيلة ، وأقدم له القهوة ، فى هذه الجلسة كنت أستمع إلى الأخبار ، حول وصول أى أحد من الحجاج الكبار العظام فى الليلة السابقة ، كما كنت أستمع أيضا إلى أخبار آخر القضايا التى عرضت على القاضى ، كما كنت أعرف أيضا أخبار ذلك الذى يدور فى جيش محمد على باشا ، كما كانت تصلنى أيضا أخبار الصفقات التجارية التى أبرمت. فى بعض الأحيان كان يجرى مناقشة الأخبار الأوروبية التى من قبيل آخر الأخبار عن بونابرت وما حدث له ، ذلك أن الحجاج الذين كانوا يصلون من إسطنبول واليونان كانوا يحملون معهم دوما أخبارا من أوروبا. كنت أقضى جزءا من الصباح الباكر ، والقسم الأخير من المساء ، فى التجوال فى مكة ، والتردد على المقاهى الموجودة فى أطراف المدينة ، على أمل التقاء البدو ، وتحيتهم بكوب من القهوة ، لأجعلهم يتحدثون بعد ذلك مباشرة عن بلدهم وعن أمتهم. فى ساعات الظهيرة كنت أمكث فى منزلى ، وكنت أمضى القسم الأول من الليل فى الميدان الكبير

١٥٦

الموجود أمام المسجد الحرام ، الذى يهب عليه نسيم بارد بصفة دائمة ، كنت أجلس فى هذا الميدان على سجادة كان عبدى يفردها لى ، وأروح أفكر فى أقاليم بعيدة ، فى الوقت الذى يكون الحجاج فيه مشغولين بالصلاة والطواف حول الكعبة.

فى الطرف الشرقى من السويقة يتغير اسم الشارع إلى شارع الشامية ، الذى ينطبق أيضا على العديد من الشوارع الفرعية على الجانبين ، ونجد أن الشوارع الواقعة على الجانب الأيمن تفضى إلى الجبل ، أما الشوارع الواقعة على الجانب الأيسر فتفضى إلى المسجد الحرام. عند نهاية شارع الشامية نجد الشارع يفتح على حى الشبيكة وباب العمرة. هذا الجزء من المدينة جيد البناء ، ولا يسكنه سوى التجار الأثرياء ، أو العلماء الذين تربطهم صلة بالمسجد الحرام. هناك قلة قليلة من الدكاكين فى الشارع الرئيسى ، لكن فى موسم الحج يتزايد عدد هذه الدكاكين ، التى يعرض فيها التجار السوريون منتجات بلادهم ومصنوعاتها وهذا هو السبب وراء تسمية الشارع باسم شارع الشامية. فى هذه الدكاكين تعرض المنسوجات الحريرية القادمة من دمشق وحلب ، كما يباع أيضا قماش الكمبريس الذى يصنع فى حى نابلس ، وتباع أيضا فى هذه الدكاكين الخيوط الذهبية والفضية التى تأتى من حلب ، كما تبيع هذه الدكاكين أيضا غتر البدو ، التى يسمونها كوفية ، التى تصنع من خامات بغدادية ودمشقية ، نجد أيضا فى هذه الدكاكين الحرير اللبنانى ، والسجاد الفاخر الذى يأتى من الأناضول ومن البدو التركمان ، وتبيع هذه الدكاكين أيضا العباءات التى تأتى من حماه ، ونجد أيضا فى هذه الدكاكين الفواكه المجففة وقمر الدين الذى يأتى من دمشق ، وتبيع هذه الدكاكين أيضا البستاسيوس الذى يأتى من حلب إلخ. من بين السوريين كلهم ، الذين فى مكة ، لم أكتشف مطلقا أنى لم أر أى أحد منهم أو أعرفه فى بلده ، اللهم باستثناء ولد شيخ (رئيس) تدمر الذى لم يعرفنى ، فقد جاء هذا الابن ومعه مائتى جمل أو ثلاثمائة جمل ، لكى يقوم بنقل أمتعة باشا دمشق.

١٥٧

أثناء عودتى من حى الشامية فى اتجاه السويقة ، أجد على الجانب الأيسر من هذه الشوارع حيا يطلقون عليه اسم قاراره ، وهذا هو أشهر أحياء المدينة ، وربما كان أفضلها من حيث البناء ، وفيه يبنى التجار الأثرياء منازلهم. أول تاجرين من تجار الحجاز وهما : الجيلانى والسقاط ، يمضون فى هذا الحى القسم الأكبر من العام ، ولا يذهبان إلى جدة (التى لهم فيها بعض المؤسسات والمنشآت) إلا إذا تطلب وصول الأسطول الهندى حضورهما إلى ذلك المكان. فى حى قاراره ، نجد أن نساء محمد على باشا ، ومعهن حاشية من الطواشيّة الذين يقومون على خدمتهن ، يتخذن من حى القاره مكانا لسكناهن. مساكن القاراره كلها مكونة من طابقين أو ثلاثة طوابق ، وكثير من تلك المنازل مدهونة بالألوان الغامقة ، وفيها شقق فسيحة. بنى الشريف غالب لنفسه قصرا فى هذا المكان ، وجاء هذا القصر أحلى وأبهى القصور التى بناها الشريف فى مكة ، وكان يقيم فيه بصفة أساسية فى فصل الشتاء ، وقسم الشريف غالب وقته بين هذا القصر والقصر الآخر القريب من المسجد الحرام. بعض الرؤساء العسكريين أقاموا لأنفسهم مساكن فى هذا الحى ، الأمر الذى سيعجل بتخريبه وتدميره. هذه القصور تتميز عن منازل مكة الأخرى من حيث الحجم ، وعدد النوافذ.

بالقرب من القصر ، وفوق تل يمكن القول بأنه داخل البلد ، قام الشريف غالب ببناء قلعة فيها أبراج قوية على جنباتها ، لكنها أصغر من القلعة الرئيسية من حيث الحجم ، وعندما تقدم الجيش التركى صوب الحجاز ، قام الشريف غالب بتزويد هذه القلعة بالمدافع ، كما مدها بالمؤن والتموينات ، لكن حامية هذه القلعة الصغيرة شأنها شأن حامية القلعة الكبيرة سرعان ما تفرقت بعد أن جرى أسر الشريف غالب. التل المقام عليه هذه القلعة يتردد اسمه عند كثير من الشعراء العرب. مقابل هذا التل ، وفى اتجاه الجنوب الشرقى ، وفوق قمة جبل من الجبال يقع خلف حدود المدينة الخارجية ، توجد قلعة صغيرة أخرى ، كان الشريف غالب قد أصلحها ورممها. هذه القلعة يسمونها جبل هندى ، وذلك تيمنا باسم شيخ أو ولى من أولياء كشمير الذين دفنوا هنا. البرج

١٥٨

لا يسكنه حاليا سوى بعض الأسر الهندية القليلة. هذا الجبل يسميه الناس ، «جبل القيقعان» ، هذه التسمية ربما كانت أقدم من مكة نفسها. المؤرخ الأزرقى ، يضع جبل قيقعان فى اتجاه الشمال على مسافة بعيدة ، ويقول : إن اسم الجبل مشتق من أصوات السلاح وصرخات الجيوش التابعة للجيش المكى ، الذى كان متمركزا هنا عندما قام الجيش اليمنى بقيادة طوبا بالاستيلاء على كل الجياد. فيما بين تلال القلعتين ، نجد المنطقة مليئة بالفقراء ، والمنازل شبه المدمرة ، والتى لا تسكنها سوى الطبقات الدنيا من الهنود المقيمين فى مكة.

عندما نتحول شرقا من قاراره ، ونتجاوز الحى المسمى ركوبه ، نجده يتساوى من حيث البناء مع قاراره مدعة ، التى تعد استمرارا لحى المسعى ، ثم نوجه خطانا بعد ذلك عبر حى المسعى لنصل إلى المنطقة المجاورة للصفا ، كيما نقوم بمسح للأحياء الشرقية من المدينة.

بالقرب من الصفا يتفرع شارع واسع يمتد موازيا لمدعة ، إلى الشرق منها ، ويسميه الناس القشاشية. هنا من بين المبانى الصغيرة الكثيرة ، مساكن متعددة جيدة البناء ، وبعض البنايات العالية ، كما نشاهد أيضا عددا من المقاهى ، وبعض محلات صناع البنادق ومصلحوها ، كما نشاهد حماما أيضا. هنا فى القشاشية يسكن الحاكم. أو إن شئت فقل المشرف العام على شئون السلطة ، الذى هو الضابط الأول بعد شريف مكة مباشرة. جزء من الشارع مبنى على المنحنى المنخفض من الجانب الشرقى من الجبل ، الذى يسمونه جبل قبيص ، الذى تؤدى إليه بعض الحارات المنحدرة القذرة الضيقة التى فى هذا الجانب. القشاشية من الأحياء التى يفضلها الحجاج ، نظرا لاتساع هذا الشارع ، وتهويته الجيدة ، وتعرضه لهبوب الرياح الشمالية. قضيت الأيام الأخيرة من شهر رمضان فى هذا المكان ، وكان ذلك فى شهر سبتمبر من العام ١٨١٤ الميلادى ، عندما وصلت مكة أول مرة قادما إليها من الطائف.

١٥٩

شارع القشاشية هذا ، على امتداده كله ، يطلق الناس عليه حارة سوق الليل ، التى تضم حيا متراميا فى الناحية الشرقية ، يجرى فيه الاحتفال بمولد النبى ، كما يجاور حى سوق الليل هذا المعاملة أو إن شئت فقل : مؤسسة الخزافين أو صناع الأوانى الفخارية. الشوارع الجانبية القريبة من شارع المولد يسميها الناس شعب المولد ، أو صخور المولد ، لأن الأرض المرتفعة هنا تغطيها الصخور.

تقع المعاملة على جانب جبل قبيص ، وهى تضم حوالى اثنى عشر فرنا ، إنتاجها الرئيسى كله عبارة عن جرار ، وبخاصة تلك الجرار التى تستخدم فى نقل ماء زمزم ، هذه الجرار الفخارية على الرغم من سحبها سحبا جيدا فإنها ثقيلة جدا ، ولذلك فهى من هذه الناحية أثقل من فخار الصعيد الجميل وكذلك فخار بغداد ، وهذان النوعان من الفخار يبلغان من الخفة حدا يمكن معه لأية نسمة من نسمات الهواء الخفيفة أن تلقى الجرة أرضا. المعاملة وحدها هى التى تمد الحجاز كله فى الوقت الراهن بكل أوانى الماء هذه ، يضاف إلى ذلك أن قلة قليلة من الحجاج هم الذين يعودون إلى أوطانهم وليس معهم جرار مليئة بماء زمزم ، وكعينة من عينات العبقرية المكية.

هناك منطقة بعيدة عن سوق الليل يسمونها الغزة ، وهذا الاسم يطلق على جانبى الشارع الرئيسى ، الذى يشكل فى هذه المنطقة استمرارا للقشاشية. هذا الشارع فيه آبار متعددة مالحة الماء ، فى هذا الشارع توجد أيضا دكاكين النجارين ، والمنجدين الذين يجيئون من تركيا ، وكذلك الحانوتية أو مجهزى دفن الموتى ، الذين يصنعون السرر والطاولات التى ينام عليها المكيون ، وكذلك النقوش التى يحملون فيها إلى القبور ، ونجد فى هذا المكان أيضا تجار الجملة فى الفاكهة والخضراوات التى تجلب من الطائف ومن وادى فاطمة. هؤلاء التجار يعرضون بضاعتهم هنا أمام تجار التجزئة فى ساعة مبكرة من ساعات الصباح ، فى الطرف الشمالى من شارع الغزة حيث يتسع الشارع اتساعا كبيرا ، ينعقد كل يوم سوق الإبل والأبقار ، وعلى الجانب الشرقى فى اتجاه الجبل ، وفوق منحناه إلى حد ما ، نجد الشارع الذى يسمونه

١٦٠