في العمرة
قال رحمهالله : ويكره أن يأتي بعمرتين بينهما أقل من شهر ، وقيل : يحرم ، والأول أشبه.
أقول : للأصحاب هنا أربعة أقوال :
الأول : لا يصح الاتباع بين العمرتين إلا بعد مضي شهر بينهما ، وهو المشهور (بين الأصحاب و) (١٦١) في الروايات (١٦٢) ، واختاره العلامة في المختلف ، قال : لأن هذه الأحكام شرعية متلقاة من الشارع ، فيجب اعتبار ما وقع الاتفاق عليه ، وقد أجمعت الإمامية ـ إلا ابن أبي عقيل ـ على تسويغ العمرتين في الشهرين ، فيجب المصير إليه أخذا بالمتيقن.
الثاني : لا يصح أن يكون بين العمرتين أقل من عشرة أيام ، وهو مذهب الشيخ في الخلاف.
الثالث : لا يكون بين العمرتين أقل من سنة ، وهو مذهب ابن أبي عقيل.
__________________
(١٦١) ما بين القوسين لم يرد في «ن» و «ر ١» و «ر ٢».
(١٦٢) الوسائل ، كتاب الحج ، باب ٦ باب ٧ من أبواب العمرة.
الرابع : عدم التقدير ، بل يصح في كل يوم ، وهو مذهب ابن إدريس ، وفخر الدين ، واختاره أبو العباس في محررة ، احتج ابن إدريس بأن العمرة عبادة مشروعة ، وذكر مطلوب ، والتقدير منفي بالأصل ، والإجماع منعقد على جواز الاعتمار ، فمن قدره يحتاج إلى دليل ، وأخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا.
قال العلامة في المختلف : واحتجاج ابن إدريس ضعيف جدا ، وما عنده إلا التشنيع على الشيخ.
كتاب الجهاد
في من يجب عليه
قال رحمهالله : إذا كان عليه دين مؤجل فليس لصاحبه منعه ، ولو كان حالا وهو معسر ، قيل : له منعه ، وهو بعيد.
أقول : أطلق الشيخ في المبسوط اشتراط إذن صاحب الدين الحال ، وكذا ابن الجنيد ، وهو يعطي منع الموسر والمعسر ، والمشهور عدم منع المعسر ، لأنه مع الإعسار بالدين مخاطب بالجهاد للعموم (١) ، فيجب عليه عملا بالمقتضي السالم من معارضة صاحب الدين ، إذ لا سبيل له عليه حينئذ ، وإنما يتوجه المنع على القول بان له مؤاجرته ، وهو ضعيف.
قال رحمهالله : لو تجدد العذر بعد التحام الحرب لم يسقط فرضه على تردد إلا مع العجز عن القيام به.
أقول : إذا تجدد العذر بعد التحام الحرب ، فإن كان العذر من قبل
__________________
(١) المراد بالعموم ما دل على وجوب الجهاد على المكلفين عموما. راجع كنز العرفان كتاب الجهاد ، النوع الأول في وجوبه ـ ١ : ٣٤١.
نفسه كالعمى والمرض كان له الانصراف ، لأنه لا يمكنه القتال ، وان كان من قبل غيره ، كما لو أمره صاحب الدين ثمَّ رجع عند التحام الحرب أو الأبوان ثمَّ رجعا كذلك ، قال الشيخ : ليس له الرجوع ، لأنه لا دليل عليه ، وهو جيد.
وقال ابن الجنيد : لا يجوز له الرجوع بعد التحام الحرب مطلقا ، سواء كان العذر من قبل نفسه أو من قبل غيره لعموم قوله تعالى (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) (٢) الآية ، ونحن نقول بالموجب مع القدرة لا مع العجز ، لأن الله تعالى أسقط الجهاد عن العاجز في الابتداء ، فكذلك في الأثناء ، والمعتمد تفصيل الشيخ.
قال رحمهالله : ومن عجز عنه بنفسه وكان موسرا وجب إقامة غيره ، وقيل : يستحب ، وهو أشبه.
أقول : الوجوب مذهب الشيخ وابن البراج وابن إدريس لعموم الأمر بالجهاد على الكفاية (٣) ، وهو فعل يقبل النيابة في الحياة لا بعدها ، فإذا تعذرت المباشرة وجبت الاستنابة تحصيلا لأمر الشارع.
واحتج القائلون بالاستحباب بسقوطه مباشرة لعجزه فيسقط استنابة ، لأن الاستنابة تابعة لوجوب المباشرة ، وقد سقط وجوب المباشرة فيسقط وجوب الاستنابة ، وهو المعتمد. نعم لو احتيج إلى الاستنابة ـ بأن يعجز القائمون عن المقاومة ـ وجبت.
قال رحمهالله : ولو نذر المرابطة وجبت مع وجود الامام وفقده ، وكذا لو نذر أن يصرف شيئا في المرابطين وجب على الأصح ، وقيل : يحرم ، ويصرفه في وجوه البر إلا مع خوف الشنعة ، والأول أشبه.
__________________
(٢) الأنفال : ١٦.
(٣) الوسائل ، كتاب الجهاد ، باب ١ من أبواب جهاد العدو.
أقول : المشهور بين الأصحاب وجوب صرف ما نذره للمرابطين إليهم مطلقا ، سواء كان الامام ظاهرا أو مستورا ، لأنها مستحبة في حال الغيبة ، لأنها تتضمن حفظا أو إعلاما بدخول عدو فيتأهبوا لدفعه ، والممنوع منه حال الغيبة الجهاد ، وهي ليست جهادا ، فإذا نذر إنسان لهم شيئا وجب صرفه إليهم ، لأنه بذل مال في إعانة مسلم على طاعة فيكون لازما.
وقال الشيخ وابن البراج : يصرفه في وجوه البر إلا أن يكون نذره ظاهرا ، أو يخاف الشنعة ، فحينئذ يجب الوفاء به ، والمستند رواية علي بن مهزيار (٤) الدالة على هذا التفصيل ، وهي مشتملة على المكاتبة ، فلا يجب التعويل عليها مع قيام الأدلة القاطعة على وجوب الوفاء بالنذر.
قال رحمهالله : ولو آجر نفسه وجب عليه القيام بها ولو كان الإمام مستورا ، وقيل : إن وجد المستأجر أو ورثته ردّها ، والا قام بها ، والأولى الوجوب من غير تفصيل.
أقول : هذه المسئلة فرع على المسئلة التي قبلها ، فمن أخذ من غيره شيئا ليرابط به حال الغيبة وجب عليه القيام به عند القائلين بوجوب المرابطة حال الغيبة ، أو استحبابها مع الحاجة ، لأنه أخذ مالا على فعل مباح ، فيجب عليه القيام إن أخذه بعقد لازم كالإجارة ، وإن أخذه بعقد جائز كالجعالة جاز له القيام والترك ، وهذا هو المعتمد. وقال الشيخ : يجب ردّه على مالكه أو ورثته ، لأن الواجب صرفه في وجوه البر ، والولاية في ذلك إلى المالك ، أو من يقوم مقامه عند فقده ، وهم الورثة ، فإن لم يجد المالك وورثته وجب القيام به ، وهو بناء على مذهبه من عدم جواز المرابطة حال الغيبة.
__________________
(٤) باب ٧ من المصدر المتقدم ، حديث ١.
في كيفية القتال
قال رحمهالله : ولو غلب العطب ، قيل : يجب الانصراف ، وقيل : يستحب ، وهو أشبه.
أقول : إذا زاد المشركون على ضعف المسلمين لم يجب الثبات إجماعا ، ومع ظن الظفر (٥) يستحب الثبات ، ولا يجب عملا بالأصل ، ومع ظن العطب هل يجب الفرار أو يستحب؟ نقل الشيخ في المبسوط وجوب الفرار ، وجزم به العلامة في القواعد ، واختاره في المختلف ، وقيل : يستحب ، واختاره المصنف ، واستحسنه العلامة في التحرير.
احتج الأولون : بقوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٦) ووجوب حفظ النفس ، ولأن المقصود من الجهاد يحصل بعد ذلك.
واحتج الآخرون : بأصالة عدم الوجوب ، واستحباب تحصيل الشهادة.
قال رحمهالله : ولو انفرد اثنان بواحد من المسلمين لم يجب الثبات ، وقيل : يجب ، وهو المروي.
__________________
(٥) في «ن» : (ومع عدم ظن العطب) بدل : (مع ظن الظفر) ، وفي «ر ٢» : (الغلب) بدل : (الظفر).
(٦) البقرة : ١٩٥.
أقول : عدم وجوب ثبات الواحد من المسلمين للاثنين من المشركين مذهب الشيخ في المبسوط ، وبه قال العلامة ، وقواه فخر الدين لأصالة البراءة ، والآية (٧) انما دلت على وجوب ثبات المئة بإزاء المئتين ، وهو يقتضي وجوب الثبات على الكثرة في مقابلة الضعف ، ووجوبه على الكثرة لا يقتضي وجوبه على الواحد.
والوجوب مذهب الشيخ في النهاية ، وبه قال ابن إدريس لرواية الحسين بن صالح ، عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال : كان يقول : من فرّ من رجلين في القتال من الزحف فقد فر ، ومن فرّ من ثلاثة من الزحف فلم يفر» (٨).
قال رحمهالله : ويحرم بإلقاء السم ، وقيل : يكره ، وهو أشبه.
أقول : التحريم مذهب الشيخ في النهاية ، وبه قال ابن إدريس والشهيد.
والكراهية مذهب الشيخ في المبسوط ، وبه قال ابن الجنيد ، واختاره المصنف والعلامة ، وهو المعتمد ، ولو لم يمكن الفتح إلا به جاز قطعا ، والدليل الروايات (٩).
قال رحمهالله : ولا يلزم القاتل دية ، ويلزمه الكفارة ، وفي الأخبار : ولا الكفارة.
أقول : لا خلاف في سقوط الدية ، وأما الكفارة فالمشهور عدم سقوطها وللشيخ قول بسقوطها لأصالة البراءة ، وللأخبار (١٠) الدالة على السقوط ،
__________________
(٧) الأنفال : ٦٦.
(٨) الوسائل ، كتاب الجهاد ، باب ٢٧ من أبواب جهاد العدو ، حديث ١. وفي المصدر (الحسن بن صالح) بدل : (الحسين ...).
(٩) باب ١٦ و ١٨ من المصدر المتقدم.
(١٠) نفس المصدر المتقدم ، حديث ٢.
والأول هو المعتمد.
قال رحمهالله : والمبارزة بغير اذن الإمام ، وقيل : يحرم.
أقول : الجواز مذهب الشيخ في المبسوط ، واختاره المصنف والعلامة والشهيد لما في ذلك من الحرص على الجهاد ، ولأن المبارزة جهاد ، وقد أمر الإمام بالجهاد فلا يحتاج إلى أمر آخر ، ولرواية عمر بن جميع (١١) ، عن أمير المؤمنين عليهالسلام.
والتحريم مذهب الشيخ في النهاية ، وبه قال أبو الصلاح وابن إدريس ، لأن الإمام أعرف بما تقتضيه المصلحة ، وهو أعلم بفرسان المسلمين والمشركين ، ومن يصلح للبراز ومن لا يصلح له.
والتحقيق أن المبارزة تنقسم إلى الأحكام الخمسة :
واجبة : وهي إذا ألزم الإمام. ومستحبة : وهي إذا ما طلب المشرك البراز ، فيستحب لمن فيه قوة من المسلمين مبارزته بإذن الإمام.
ومكروهة : وهي مبارزة الضعيف من المسلمين للقوي من المشركين.
ومباحة : بأن يخرج المسلم ابتداء فيطلب المبارزة.
ومحرمة : مع منع الإمام منها.
قال رحمهالله : فإن شرط أن لا يقاتله غيره وجب الوفاء له ، فإن فرّ وطلبه الحربي ، جاز دفعه. ولو لم يطلبه لم يجز محاربته ، وقيل : يجوز ما لم يشترط الأمان حتى يعود إلى فئته.
أقول : البحث هنا في موضعين :
الأول في لزوم الشرط ، والمشهور لزومه ، لأنه عقد أمانا لنفسه ، فيجب الوفاء به.
__________________
(١١) باب ٣٢ من المصدر المتقدم ، حديث ١. وفي المصدر : (عمرو) بدل : (عمر).
وذهب ابن الجنيد إلى بطلان هذا الشرط ، لأن الله ألزم المؤمنين الدفع عن المؤمن من كل من أراد البغي عليه ، ولا شك ان المشرك باغ على المؤمن ، ولقوله عليهالسلام : «المؤمنون يد على من سواهم» (١٢).
الثاني : إذا قلنا بلزوم الشرط ، ثمَّ فرّ المسلم من القتال ، فإن طلبه المشرك جاز دفعه قطعا ، وإن لم يطلبه ، هل يجوز قتاله؟ قال المصنف لم يجز محاربته ، واختاره العلامة في القواعد لوجوب الوفاء بالشرط ، وقال الشيخ :
يجوز قتاله ما لم يشترط الأمان حتى يعود إلى فئته ، واختاره العلامة في التحرير ، لأن الشرط اقتضى أن لا يقاتله غير المبارز ما دام في القتال ، وقد زال القتال بفرار المسلم ، فيزول الشرط ، فيباح القتال.
__________________
(١٢) سنن البيهقي ٩ : ٩٤.
في الذمام
قال رحمهالله : وهل يذم لقرية أو لحصن ، قيل : نعم ، كما أجاز علي عليهالسلام ذمام الواحد لحصن من الحصون ، وقيل : لا ، وهو الأشبه.
أقول : المشهور المنع من ذمام الواحد لأهل قرية أو حصن ، لأن الأمان عقد شرعي ، فيقف على الدليل الشرعي.
واحتجاج المجوزين ذلك بفعل علي عليهالسلام (١٣) ضعيف بما قاله المصنف ، إذ هو قضية في واقعة فلا يتعدى ، واقتضاء المصلحة إجازته في تلك الواقعة لا يقتضي جوازه في كل واقعة ، وهذا هو المعتمد.
قال رحمهالله : ويراعى في الحاكم كمال العقل والإسلام والعدالة. وهل يراعى الذكورة والحرية؟ قيل : نعم ، وفيه تردد.
أقول : منشؤه من أنه حكم متعلق بالمعرفة وحسن الرأي ، فيصح ممن له معرفة وحسن رأي مع باقي الشرائط المجمع عليها ، فلا يتخصص بنوع دون نوع ، ومن أنه من المناصب الجليلة ، لأنه حكم على فريقي المسلمين
__________________
(١٣) الوسائل ، كتاب الجهاد ، باب ٢٠ من أبواب جهاد العدو ، حديث ٢.
والكفار ، فلا يليق بالعبد ، ولا بالمرأة لضعف رأيها.
وذهب العلامة في التحرير إلى اشتراط الحرية والذكورة ، وفي القواعد اشتراطهما في مختار الفريقين ، أو الإمام دون مختار المشركين خاصة ، ولم يعدّهما الشهيد من الشرائط ، وهو يدل على اختياره عدم كونهما شرطا.
في الأسارى
قال رحمهالله : وحكم الطفل المسبي حكم أبويه فإن أسلما أو أسلم أحدهما تبعه الولد. ولو سبي منفردا ، قيل : يتبع السابي في الإسلام.
أقول : الطفل لا يخلو من ثلاثة أحوال : إما أن يسبى مع أبويه ، أو مع أحدهما ، أو منفردا.
الأول : أن يسبى معهما ، وهذا لا خلاف في أنه يتبعهما في الكفر والإسلام ، فإن أسلم أحدهما دون الآخر تبع المسلم منهما.
الثاني : أن يسبى مع أحدهما خاصة ، قال الشيخ رحمهالله : إنه يتبع أحد أبويه في الكفر ، فلا يتوهم أحد أنه يتبع أحد أبويه في الكفر مع إسلام الآخر ، فإن هذا لا يقول به أحد ، إذ لا خلاف في أن الطفل يتبع أحد أبويه في الإسلام ، سواء كانا معه أو فرق بينه وبينهما ، وإنما مراد الشيخ : أنه لو بقي المسبي معه على الكفر مع كفر غير المسبي كان حكمه حكمه ، وهذا القول لازم لكل من قال بأنه لو سبي منفردا لم يتبع السابي في الإسلام ، وإنما يتوجه الإشكال على القول بأنه إذا سبي منفردا تبع السابي في الإسلام.
إذا عرفت هذا فنقول : يحتمل عدم الحكم بإسلامه مع عدم إسلام أحد
أبويه ، لأنه لو سبي معهما كان حكمه حكمهما ، فكذا إذا سبي مع أحدهما لعدم الانفراد عنهما ، ويحتمل الحكم بإسلامه لقوله عليهالسلام : «كل مولود يولد على الفطرة ، وانما أبواه يهودانه وينصرانه» (١٤) ، فقد أضاف التهود والتنصر إلى الأبوين معا ، والحكم إذا علق على سببين لا يثبت بأحدهما دون الآخر ، فإذا كان معه أحدهما دون الآخر لا يتبعه في كفره وكان كما لو سبي منفردا يتبع السابي في الإسلام.
الثالث : أن يسبى منفردا عن أبويه ، قال الشيخ : يتبع السابي في الإسلام ، لأن الكفر انما يثبت له تبعا لأبويه ، وقد انقطعت تبعيته لهما بإخراجه عن دارهما ودخوله في دار الإسلام منفردا عنهما ، فيكون تابعا لسابيه في دينه.
والمعتمد عدم تبعيته للسابي في غير الطهارة ، لأنه محكوم بكفره لكونه مولودا بين كافرين ، فلا يحكم بإسلامه إلا بإسلام أحد أبويه ، أو بالإقرار بالشهادتين بعد بلوغه ، وإنما حكم بطهارته خاصة نفيا للحرج ، فيجوز بيعه على الكافر ، ولا يحكم بارتداده مع إعرابه الكفر بعد بلوغه ، ولا يدخل في الوصية والوقف للمسلمين ، وعلى القول بالتبعية بالإسلام يثبت ضد هذه الاحكام.
قال رحمهالله : ولو كان الزوجان مملوكين لم ينفسخ النكاح ، لأنه لم يحدث رق ، ولو قيل بتخير القائم في الفسخ كان حسنا.
أقول : المتعمد تخييره ، لأنه مالك تجدد له ملك الزوجين فكان مخيرا بين الفسخ والإمضاء ، كما لو ملكهما بغير الاغتنام.
قال رحمهالله : ولو أعتق مسلم عبدا ذميا بالنذر ، فلحق بدار الحرب
__________________
(١٤) باب ٤٨ من المصدر المتقدم ، حديث ٣.
فأسره المسلمون جاز استرقاقه ، وقيل : لا ، لتعلق ولاء المسلم به ، ولو كان المعتق ذميا استرق إجماعا.
أقول : هذا بناء على جواز عتق الكافر بالنذر ، وسيأتي البحث فيه إنشاء الله تعالى.
أما وجه عدم الاسترقاق ، فقد ذكره المصنف وهو تعلق ولاء المسلم به ، وفي تعليل المصنف مع تقييده العتق بالنذر والكفارة نظر ، لأن ولاء العتق إنما يثبت مع التبرع بالعتق ، لا مع وجوبه بالنذر والكفارة ، وهذا ظاهر مسطور في جميع مصنفاتهم ، والعلامة في تحريره لم يقيد العتق بالنذر ، فيتوجه التعليل.
وأما وجه الاسترقاق فلعموم (١٥) ، الإذن بالاسترقاق من غير قيد ، فيصح الاسترقاق ، ويبطل ولاء المسلم.
قال رحمهالله : إذا أسلم عبد الحربي في دار الحرب قبل مولاه ، ملك نفسه بشرط أن يخرج قبله ، ولو خرج بعده كان على رقه ، ومنهم من لم يشترط خروجه ، والأول أصح.
أقول : لا خلاف في حريته مع الخروج إلينا قبل مولاه ، لما روي عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، حيث حاصر أهل الطائف ، «قال : أيما عبد خرج إلينا قبل مولاه فهو حر ، وأيما عبد خرج إلينا بعد مولاه فهو عبد» (١٦).
وإنما الخلاف إذا لم يخرج إلينا قبل مولاه ، والمشهور بقاؤه على الرق ، وهو المعتمد للرواية المتقدمة ، ولأصالة بقاء الملك ما لم يعلم السبب المزيل له ، ولأنه لم يقهر مولاه على نفسه ، فيبقى على الرق.
__________________
(١٥) باب ٢٣ من المصدر المتقدم.
(١٦) باب ٤٤ من المصدر المتقدم ، حديث ١.
وقوى الشيخ في المبسوط صيرورته حرا وإن لم يخرج ، لقوله عليهالسلام : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» (١٧) فإذا أسلم صار حرا ، وإلا كان يعلى عليه.
والجواب بيعه على المسلمين قهرا ، كما لو أسلم عبد الذمي في دار الإسلام ، فلا يعلى على الإسلام لعدم استقرار يد الكافر عليه.
__________________
(١٧) الوسائل ، كتاب الفرائض والمواريث ، باب ١ من أبواب موانع الإرث ، حديث ١١.
في أحكام الغنيمة
قال رحمهالله : ولا يجوز لهم التصرف بشيء منه إلا بعد القسمة والاختصاص ، وقيل : يجوز لهم تناول ما لا بد منه ، كعلف الدابة وأكل الطعام.
أقول : ظاهر الشيخ في النهاية ، وابن إدريس وابن البراج وأبي الصلاح عدم جواز التصرف بشيء من الغنيمة قبل القسمة مطلقا ، واختاره المصنف ، لأنه مال مشترك فلا يجوز التصرف فيه قبل قسمته ، وذهب الشيخ في المبسوط إلى جواز علف الدواب وأكل الطعام قبل قسمته ، وبه قال ابن الجنيد ، قال : ما كان للمسلم محللا أكله من طعام المشركين فمحلل اكله من الغنيمة قبل القسمة لقوله تعالى (فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) (١٨) ، ولم يشترط في ذلك قسمة ولا غيرها ، وهذا هو المعتمد ، لأن الضرورة تدعو إلى ذلك فكان سائغا ، وللآية المذكورة.
ولهم ان يذبحوا البهائم مع الحاجة إلى ذبحها وأكل لحمها ، ويجب رد الجلود إلى الغنيمة ، ولا يجوز إطعام البزاة والصقور ولا غيرهما من الجوارح شيئا
__________________
(١٨) الأنفال : ٦٩.
من الغنيمة ، لأنه لا حاجة داعية إلى ذلك.
قال رحمهالله : إذا باع أحد الغانمين غانما شيئا أو وهبه لم يصح ، ويمكن أن يقال : يصح في قدر حصته ويكون الثاني أحق باليد على قول ، ولو خرج هذا إلى دار الحرب أعاده إلى المغنم لا إلى دافعه ، ولو كان القابض من غير الغانمين لم تقر يده عليه.
أقول : وجه إمكان الصحة في قدر حصته ، لأنه باع مالا مشتركا بينه وبين غيره فيصح في قدر حصته ويبطل في قدر حصة غيره ، والصحة في قدر حصته مبنية على أن الملك ، هل يحصل بمجرد الاستيلاء ، أو به مع اختيار التملك ، أو بالقسمة ، أو تكون القسمة كاشفة عن سبق الملك بالاستيلاء ، وان حصلت تبينا سبق الملك بالاستيلاء ، وإن تلف المال أو أعرض الغانم عن حصته تبينا عدم ملكه بالاستيلاء؟ الجميع محتمل ، أما احتمال الملك بالاستيلاء من غير افتقار إلى غيره ، لأن الاستيلاء على ما ليس بمعصوم من الأموال سبب لتملكه ، ولأن ملك الكافر يزول عنه بالاستيلاء عليه ، فلو لم يدخل في ملك من استولى عليه بقي بغير مالك ، وهو غير جائز.
وأما احتمال الملك إن قصد التملك عند الحيازة ، [ف] لأن الأصل عدم تجدد الملك إلا مع ثبوت السبب المقتضي له ، وقد بينا أن الجهاد ليس لقصد الملك ، بل لحفظ ملة الإسلام ، فلا بد للملك من سبب غيره وهو القصد إلى التملك بعد الحيازة ، وأما وجه التملك بالقسمة ، [ف] لأنه لو ملك قبل القسمة بالاستيلاء ، لما جاز مشاركة من لا يحضر الاستيلاء ، ولما زال بالإعراض عنه ، لأن سبب زوال الملك أشياء مخصوصة ليس الإعراض هاهنا (١٩) منها.
__________________
(١٩) من «ن».