غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ١

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

كتاب الاعتكاف

٣٦١
٣٦٢

في شرائطه

قال رحمه‌الله : وإذا مضى له يومان وجب الثالث على الأظهر.

أقول : وجوب الثالث مذهب الشيخ في النهاية ، وبه قال ابن الجنيد ، واختاره أبو العباس في المحرر ، لرواية ابي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه‌السلام «قال : من اعتكف ثلاثة فهو يوم الرابع بالخيار ، إن شاء زاد يوما آخر وإن شاء ان يخرج خرج من المسجد ، فإن أقام يومين بعد الثلاثة فلا يخرج حتى يستكمل الثلاثة» (١).

وقال في المبسوط بوجوبه بالشروع كالحج ، لأن إطلاق الروايات (٢) على وجوب الكفارة على المعتكف بإفساده يدل على وجوبه مطلقا.

وذهب السيد المرتضى وابن إدريس إلى عدم الوجوب مطلقا وجواز الخروج متى شاء ، واختاره العلامة في المختلف ، لأنه عبادة مندوبة فلا يجب بالشروع فيه كالصلاة والصوم وغير ذلك من العبادات التي لا تلزم بالشروع.

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الاعتكاف ، باب ٤ ، حديث ٣. بتفاوت ، فراجع.

(٢) الوسائل ، كتاب الاعتكاف ، باب ٦.

٣٦٣

قال رحمه‌الله : ولو نذر اعتكاف ثلاثة من دون لياليها ، قيل : يصح ، وقيل : لا ، لأنه بخروجه عن قيد الاعتكاف يبطل اعتكاف ذلك اليوم.

أقول : قال في الخلاف : إذا قال : (علي لله أن أعتكف ثلاثة أيام) ، لزمه ذلك ، فإن قال متتابعا لزمه بينها ليلتان ، وإن لم يشرط التتابع جاز أن يعتكف نهارا ثلاثة أيام بلا لياليها. وقال في المبسوط : إذا نذر اعتكاف ثلاثة أيام وجب عليه أن يدخل فيه قبل طلوع الفجر من أول يوم إلى بعد الغروب من ذلك اليوم وكذلك اليوم الثاني والثالث ، هذا إذا أطلقه.

وان شرط التتابع لزمه الثلاثة الأيام بينها ليلتان ، والمشهور دخول الليالي مطلقا ، لأن الاعتكاف لا يكون أقل من ثلاثة أيام ، والمفهوم دخول الليالي ، فيجب الكون في المسجد قبل طلوع الفجر من أول يوم إلى غروب الشمس من اليوم الثالث.

فرع : هل يجوز ابتداء الاعتكاف في أثناء النهار؟ نص الشيخ في المبسوط على عدم الجواز ، قال : لأنه لا بد من الصوم ، والصوم لا يكون إلا من أول النهار.

وفي هذا التعليل نظر ، لأنا لو فرضنا كونه في رمضان أو غيره من الصوم الواجب أو الندب ، ثمَّ اعتكف في وسط النهار كان الشرط موجودا ، فإن صح اعتكافه بطل حكم الشيخ بعدم الصحة ، وإن بطل اعتكافه بطل تعليل الشيخ عدم الصحة لعدم الصوم ، إذ التقدير أنه صائم ، والشرط هو الصوم مطلقا ، سواء كان لسبب غير الاعتكاف أو به.

والأجود أن يقال : إن الاعتكاف لا يصح أقل من ثلاثة أيام ، واليوم حقيقة ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، والملفق من يومين لا يصدق

٣٦٤

عليه اسم اليوم وإن صدق عليه اسمه مجازا ، لأن اللفظ إذا أطلق حمل على الحقيقة ما لم يحصل قرينة تصرفه الى المجاز ، ولا قرينة هنا.

تنبيه : لا بد من نية الاعتكاف والصوم معا لكونهما عبادتين متغايرتين فلا يكفي نية أحدهما عن الأخرى لاشتراط النية في كل عبادة ، فإن اتحد السبب جاز جمعهما في نية واحدة ، فيقول : (أعتكف غدا صائما) أو (أصوم غدا معتكفا لوجوبه أو ندبه قربة إلى الله) ، وان اختلف السببان وجب نيتان ، فيقول : (أعتكف غدا لوجوبه أو ندبه قربة الى الله) ، ثمَّ يقول : (أصوم غدا من رمضان ، أو لوجوبه بالنذر ، أو عن كفارة كذا لوجوبه ، أو ندبه قربة إلى الله). ويكفي في الاعتكاف نية واحدة ، فيقول : (أعتكف ثلاثة أيام ، أو عشرة ، أو شهر كذا ، لوجوبه أو ندبه قربة إلى الله) ، لأن الاعتكاف عبادة واحدة ، ولا بد من تجديد نية الصوم في كل يوم ، لأن صوم كل يوم عبادة بانفراده.

قال رحمه‌الله : وقيل : لا يصح إلا في المساجد الأربعة : مسجد مكة ، ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومسجد الجامع بالكوفة ، ومسجد البصرة ، وقائل جعل موضعه مسجد المدائن ، وضابطه : كل مسجد جمع فيه نبي أو وصي جماعة ، ومنهم من قال : جمعة ،.

أقول : الاقتصار على المساجد الأربعة التي عددها المصنف أولا مذهب الشيخ والسيد المرتضى ، وهو المشهور بين الأصحاب ، ولهم عليه روايات (٣) كثيرة ، وجعل علي بن بابويه موضع مسجد البصرة مسجد المدائن ، قال : والعلة في ذلك أنه لا يعتكف إلا في مسجد جمع فيه إمام عدل ، وقد جمع النبي

__________________

(٣) الوسائل ، كتاب الاعتكاف ، باب ٣.

٣٦٥

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة ، وجمع أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه المساجد ، وقد روي (٤) مسجد البصرة ، واكتفى ابن ابي عقيل بمطلق المساجد ، واستدل الجميع بالروايات (٥).

__________________

(٤) المصدر السابق ، حديث ١٢.

(٥) الوسائل ، كتاب الاعتكاف ، باب ٣ هذا للمشهور ، ودليل ابن بابويه نقله في السرائر ١ : ٤٢١ ، ويظهر من كشف الرموز ١ : ٣١٧ والمهذب البارع ٢ : ٩٨ انه لم يتمسك برواية.

٣٦٦

في أقسامه

قال رحمه‌الله : والثاني لا يجب المضي فيه حتى يمضي يومان فيجب الثالث ، وقيل : لا يجب ، والأول أظهر.

أقول : قد سبق (٦) البحث في هذه.

قال رحمه‌الله : ولو شرط في حال نذره الرجوع إذا شاء كان له ذلك أيّ وقت شاء ولا قضاء ، ولو لم يشترط وجب استئناف ما نذره إذا قطعه.

أقول : هذه المسألة لم يتردد فيها المصنف ولا ذكر فيها خلافا ، ولكنها من المسائل المهمة من علم الفقه ، وهي ذات شعب وفروع ، فأحببت أن أكشف رموزها ونكاتها وأبين فروعها وتحقيقاتها وبالله المستعان ، فنقول :

يجوز اشتراط الرجوع عند العارض قطعا ، لقول الصادق عليه‌السلام : «واشترط على ربك في اعتكافك كما تشترط عند إحرامك بأن لك في اعتكافك ان تخرج عند العارض ، إن عرض لك من علة تنزل بك من الله» (٧)

__________________

(٦) ص ٣٦٣.

(٧) الوسائل ، كتاب الاعتكاف ، باب ٩ ، حديث ٢.

٣٦٧

وهل يجوز اقتراحا ، كأن يقول : (ولي الرجوع متى شئت)؟ عبارة المصنف هنا ، والعلّامة في القواعد تعطي الجواز ، وجزم به الشهيد ، قال : ولو شرط الرجوع متى شاء اتبع ولم يقيد بالعارض ، وهو مذهب أبي العباس في المحرر.

وظاهر الخبر وعبارات الفقهاء التقييد بالعارض ، لأنهم شبهوا الشرط هنا بالشرط في الإحرام ، والاشتراط في الإحرام إنما يصح مع العارض ، ولأن النذر لازم والتخيير ينافيه ، وهو ظاهر الشيخ في المبسوط ، لأن عبارته فيه : إذا شرط المعتكف على ربه إن عرض له عارض رجع فيه ، وظاهر العلامة في تحريره كذلك.

ووقت هذا الشرط عند عقد النذر إن كان الاعتكاف منذورا ، فيقول : (لله علي أن أعتكف الشهر الفلاني ، أو ثلاثة أيام ـ مثلا ـ ولي الرجوع فيه عند العارض) ، أو مطلقا على جواز الاقتراح ، وإن كان مندوبا ففي ابتداء اعتكافه فيقول : (أعتكف ثلاثة أيام أو أكثر ـ على قدر ما ينويه ـ ولي الرجوع إذا شئت ، أو مع العارض) ، فلو أطلق عند النذر وشرط في ابتداء اعتكافه لغي الشرط ولم يثمر شيئا.

إذا عرفت هذا فالاعتكاف إما واجب أو مندوب فإن كان مندوبا وشرط فيه الرجوع ، فإن كان الشرط مع العارض يعتد به ، فان قلنا : يلزم بالشروع ـ كما ذهب إليه الشيخ في المبسوط ـ وحصل العارض في الأولين جاز الرجوع قطعا ، وإن حصل في الثالث ، قال في المبسوط : لم يكن له الرجوع ، لأن الشرط إنما يؤثر فيما يوجبه الإنسان على نفسه ، واليوم الثالث وجب بأصل الشرع ، وسببه مضي اليومين.

وقيل : يجوز الرجوع مطلقا قضية للشرط ، وهو مذهب الشهيد نقله عن النهاية.

وان كان الشرط مطلقا من غير قيد جاز الرجوع متى شاء ، سواء كان

٣٦٨

في الأولين أو الثالث على مذهب الشهيد ، وعلى مذهب السيد وابن إدريس يجوز الرجوع مطلقا ، سواء شرط أو لم يشرط ، وسواء كان في الأولين أو الثالث.

وعلى وجوب الثالث بمضي اليومين فجواز الرجوع في اليومين مطلقا ، وفي الثالث مع الشرط ، وإن كان الاعتكاف واجبا فإما أن يكون معيّنا أو لا ، وعلى التقديرين إما أن يكون يشترط التتابع أو لا ، وعلى التقادير الأربعة ، اما ان يشترط على ربه الرجوع عند العارض أو لا ، فالأقسام ثمانية :

الأول : ان لم يعيّن ولم يشترط التتابع ولا شرط على ربه ، فهذا يخرج مع العارض ، فإذا زال استأنف من رأس إن لم يعتكف ثلاثة ، وإن اعتكف ثلاثة وجب عليه الإتيان بالباقي ، فإن كان الباقي أقل من ثلاثة أكمله ثلاثة.

الثاني : لم يعيّن ولم يشترط التتابع واشترط على ربه ، فهذا يخرج مع العارض ، فاذا زال استأنف إذا كان الماضي أقل من ثلاثة ، وإن كان ثلاثة بني عليها إن كان الواجب أكثر ، وإن بقي أقل من ثلاثة أكمله ثلاثة ، هذا على مذهب المصنف في المعتبر والعلّامة في التذكرة وأبي العباس في المهذب ، لأنهم ذهبوا الى وجوب القضاء مع عدم تعيين الزمان ، وعدمه مع تعيينه ، وذهب العلامة في المختلف والمصنف إلى عدم القضاء مطلقا ، لأن فائدة الشرط سقوط القضاء ، وظاهر ابن الجنيد وجوب القضاء مطلقا وإنما تقسيمنا على المذهب الأول.

ولو كان شرط الرجوع اقتراحا ثمَّ رجع اقتراحا أيضا سقط عنه ما بقي من النذر قضية للشرط ، وان كان رجوعه لأجل العارض ولم يختر قطعه وجب عليه إتمام ما بقي ، لأنه لم يختر قطع الاعتكاف ، وإنما قطعه لعارض ، فإذا زال وجب عليه الإتيان بالباقي ، وإنما يسقط عنه لو اختار قطعه لأجل الشرط ،

٣٦٩

وهذا قطعه لغير الشرط فيجب إتمامه ، لأصالة البقاء وعدم صلاحية العارض لإسقاطه.

الثالث : لم يعين واشترط التتابع ولم يشترط على ربه ، فإنه يخرج مع العارض فإذا زال استأنف اعتكافا متتابعا ، لأنه وجب عليه متتابعا ولم يفعله كذلك وليس يتعين بشروعه في الاعتكاف ، لأنه لم يعينه في نذره فيجب عليه الإتيان به على وصفه الذي شرطه في نذره.

الرابع : عين زمانا ولم يشترط التتابع لفظا ولا شرط على ربه ثمَّ حصل العارض ، فإذا زال العارض فإن بقي منه بقية وجب الإتيان بها على الفور ، ويقضي الفائت بعد الفراغ من تلك البقية ، وإن لم يبق شي‌ء قضى ما فاته خاصة ولم يجب الفور.

الخامس : لم يعين زمانا لكن اشترط التتابع واشترط على ربه ،

فعند العارض يخرج ثمَّ يأتي بما بقي عليه متتابعا عند زوال العارض ، هذا إن كان اعتكف ثلاثة وإلا استأنف من رأس.

السادس : عين زمانا واشترط التتابع ولم يشترط على ربه ، فهذا يخرج مع العارض ويقضي مع الزوال متابعا.

السابع : عين زمانا ولم يشترط التتابع واشترط على ربه ، فهذا يخرج عند العارض ولا يجب عليه الإتيان ولا القضاء عملا بالشرط.

الثامن : عين زمانا واشترط التتابع واشترط على ربه ، فهذا يخرج عند العارض فإذا زال لم يجب عليه الإتمام عملا بالشرط ، ولا القضاء ، لأصالة البراءة.

فرعان :

الأول : لو شرط الخروج عند عارض معين تخصص به ، ولا يخرج لغيره

٣٧٠

ويخرج له إن عرض ، فإن قال : (إن عرض قطعت اعتكافي) خرج له وبطل اعتكافه ، وإن قال : (أخرج) ، خرج وعاد مع قصر الزمان ، ولا يبطل اعتكافه ، وان طال الزمان بطل.

الثاني : لو شرط المنافي كالأكل ، والنكاح ، والتكسب بالبيع ، أو الشراء ، أو الصنائع بطل نذره لعدم صحة الشرط المقيد به ، وإنما صح شرط الخروج ـ وإن كان منافيا للإجماع إلا من مالك فإنه لم يجوزه لكونه منافيا كالأكل والجماع ، وخالفه جميع العلماء ـ لورود النص به عن الصادق عليه‌السلام ، ولأنه عبادة وجبت عليه بعقده فكان له الشرط فيها ، ولأن الاعتكاف لم يخص بقدر معين ، فإذا شرط الخروج فكأنه نذر ذلك القدر الذي إقامة لا غير ، ولأن فيه استظهارا للمكلف على براءة ذمته من القضاء.

٣٧١
٣٧٢

في أحكامه

قال رحمه‌الله : وشمّ الطيب على الأظهر.

أقول : تحريم الطيب على المعتكف مذهب الشيخ في النهاية ، وبه قال ابن الجنيد وابن إدريس ، واختاره العلامة ، لأنه أحوط.

قال رحمه‌الله : وقيل : ويحرم عليه ما يحرم على المحرم ، ولم يثبت.

أقول : القائل بذلك الشيخ في الجمل ، وتبعه ابن حمزة وابن البراج ، وقال في المبسوط : وله أن ينكح وينظر في أمور معيشته ، وروي أنه يجتنب ما يجتنبه المحرم ، وقال : وذلك مخصوص بما قلناه ، لأن لحم الصيد لا يحرم عليه ، وعقد النكاح.

وقال ابن إدريس بعدم التعميم ، واختاره المصنف والعلامة.

قال رحمه‌الله : ومن مات قبل انقضاء اعتكافه الواجب ، قيل : يجب على الولي القيام به ، وقيل : يستأجر من يقوم به ، والأول أشبه.

أقول : عبارة المصنف وعبارة العلامة في القواعد والتحرير وعبارة الشيخ في المبسوط توهم أن الموت في أثناء الاعتكاف قبل فواته والتمكن من قضائه ،

٣٧٣

لأن قولهم : من مات قبل انقضاء اعتكافه يدل على الموت في أثنائه ولا يدل على الموت قبل القضاء بعد الفوات ، لحصول الفرق بين لفظي القضاء والانقضاء ، مع أن عبارتهم في هذه الكتب التي ذكرناها لا تختلف لفظا ولا معنى ، ولم يتابعهم الشهيد على هذا اللفظ ، بل قال : لو مات قبل القضاء بعد التمكن وجب على الولي قضاؤه ، وهذا هو المقصود وإن أوهم لفظهم غيره ، لأن الموت قبل الفوات والتمكن من القضاء ، والإهمال لا يوجب على الولي القضاء.

إذا تقرر هذا فحجة القائل بالوجوب عموم (٨) الأمر بوجوب قضاء الصوم الواجب على الميت ، ولا يمكن الإتيان بمثل هذا الصوم إلا على هيئته ـ وهي هيئة الاعتكاف ـ فيكون الاعتكاف واجبا.

واحتج القائل بالعدم بأصالة براءة الذمة ، ووجوب قضاء الصوم لا يدل على وجوب قضاء الاعتكاف ، لعدم الملازمة بينهما.

قال رحمه‌الله : ومنهم من خص الكفارة بالجماع حسب ، واقتصر في غيره من المفطرات على القضاء ، وهو الأشبه.

أقول : البحث هنا في موضعين :

الأول : في الجماع ، وأوجب الشيخ في المبسوط به الكفارة ، سواء كان الاعتكاف واجبا أو مندوبا ، واختاره العلامة في التحرير والتذكرة ، وأكثر الأصحاب أطلق وجوب الكفارة في الجماع ولم يفصلوا (٩) ، وهو اختيار أبي العباس أيضا ، واشترط في القواعد وجوب الاعتكاف لأصالة البراءة ، ولأنه لم يفسد صوما متعينا عليه فلا يجب عليه الكفارة.

__________________

(٨) الوسائل ، كتاب الصوم ، باب ٢٣ من أبواب أحكام شهر رمضان.

(٩) كذا.

٣٧٤

واحتج الأولون بعموم الروايات (١٠) ، والأخذ بالاحتياط.

وعلى تقدير الوجوب ، هل هي كفارة أو كفارتان إذا كان الجماع نهارا؟

قيل : إن كان في رمضان لزمه كفارتان ، إحداهما لرمضان ، والأخرى للاعتكاف ، وإن كان في غير رمضان فهي كفارة واحدة لأصالة براءة الذمة من الزائد.

وقيل : يلزمه كفارتان أيضا كرمضان ، وهو مذهب ابن إدريس ، واستقربه الشهيد ، لأن في النهار صوما واعتكافا ، فحينئذ لا فرق بين رمضان وغيره في وجوب كفارتين إن وقع الجماع نهارا ، وكفارة واحدة إن وقع ليلا.

الثاني : في الإفطار على غير الجماع ، وأوجبها الشيخ في المبسوط مطلقا في المعيّن والمطلق ، وفي أوّلي المندوب أو ثالثة ، وهو بناء على مذهبه فيه ، وهو أنه يجب بالشروع وغير المتعين يتعين بالشروع فيه ، وقال في النهاية : يجب في المتعين خاصة ، وعليه العلامة وأبو العباس.

فرعان :

الأول : لو نذر اعتكاف زمان معين كرجب مثلا ، ثمَّ أخلّ به من رأس وجب عليه كفارة واحدة لخلف النذر ، ولو اعتكفه وأفسده تعددت الكفارة بتعدد كل يوم يحصل فيه الإفساد ، ولو أفسد بعضه وأخلّ بالباقي وجب عليه عن كل يوم أفسده كفارة ، ووجب عما أخلّ به كفارة واحدة لخلف النذر ، لأن الباقي لا يسقط بإفساد ما قبله ، بل يجب عليه الإتيان به ، فإذا أخلّ به يكون قد أخلّ بالنذر فيجب الكفارة ، ولو نذر صوم شهر معين وأخلّ به من رأس تعددت الكفارة بتعدد الأيام ، قاله أبو العباس في اللمعة بخلاف الاعتكاف ، ولم يذكر الفرق بينهما.

__________________

(١٠) الوسائل ، كتاب الاعتكاف ، باب ٦.

٣٧٥

والظاهر ان الفرق كون الاعتكاف عبادة واحدة ، لأنه يكفي فيه نية واحدة ، كقوله : (أعتكف هذا الشهر من أوله إلى آخره لوجوبه بالنذر قربة إلى الله) ، والصوم عبادة متعددة بتعدد الأيام المنذورة لافتقار كل يوم إلى نية ، وكل من نذر عبادة في زمان معيّن وأخل بها وجب عليه كفارة خلف النذر ، فتتعدد الكفارة بتعدد العبادة المنذورة مع الإخلال.

فإن قيل : هذا لازم لكم في الاعتكاف ، لوجوب الصوم فيه ، فالإخلال به إخلال بالصوم الواجب بالنذر ، مع أنه يجب تعدد النية فيه بتعدد الأيام ولا يكفي فيه نية واحدة.

قلنا : لا يلزمنا هذا ، لأن الصوم عبادة منفردة لم يتناولها عقد النذر ، وإنما وجب لكونه شرطا في صحة الاعتكاف ، كما أن الطهارة شرط في صحة الصلاة ، فلو نذر صلاة ركعتين وجبت الطهارة ولو أخلّ بها في الزمان المعين وجبت كفارة واحدة عن ترك الصلاة ، ولا تجب كفارة أخرى عن ترك الطهارة ، لأن نذر المشروط لا يستلزم نذر الشرط ، لجواز تغاير سبب الوجوب فيهما ، لأنه قد تجب الطهارة لصلاة غير المنذور ، ثمَّ يدخل وقت المنذورة فيؤديها فيها ، وقد يجب الصوم لغير الاعتكاف ، ثمَّ يؤدي الاعتكاف فيه ، فلا يلزم ما قلتم.

الثاني : إذا كان الإفساد بالخروج من المسجد ، فإن كان النذر معينا بزمان وجب عليه كفارة خلف النذر ، أو العهد ، أو اليمين بحسب الموجب لتحقق الحنث ، وكذا لو أفسده بما يوجب القضاء دون الكفارة كتعمد القي‌ء.

ويحتمل ذلك في غير المعين ، لوجوبه بالشروع فيه ، ويحتمل العدم ، لإمكان الإتيان بالنذر لعدم تعينه في زمان فلا يتحقق الحنث.

ولو خرج من المسجد في ثالث المندوب لم تجب الكفارة وان وجب القضاء ،

٣٧٦

قاله الشهيد في دروسه ، وأبو العباس في مهذبه ، ولو أفسده بالمفطر وجبت الكفارة.

قال رحمه‌الله : الارتداد موجب للخروج من المسجد ، ويبطل الاعتكاف ، وقيل : لا يبطل ، وإن عاد بنى ، والأول أشبه.

أقول : القول بعدم البطلان قول الشيخ في المبسوط لأصالة الصحة ، والقول بالبطلان مذهبه في الخلاف ، واختاره المصنف والعلامة ، لأنه إن كان عن فطرة وجب قتله ، وإن كان عن ملة وجب خروجه عن المسجد ، لأنه نجس ، ووجوب الخروج ينافي الاعتكاف ، ولأن الاعتكاف عبادة مشروعة من شرطها التقرب إلى الله تعالى ، وذلك لا يصح من الكافر.

قال رحمه‌الله : قيل : إذا أكره امرأته على الجماع وهما معتكفان نهارا في شهر رمضان لزمه أربع كفارات ، وقيل : يلزمه كفارتان ، وهو الأشبه.

أقول : وجوب الأربع مذهب ابن الجنيد وابن إدريس وابن حمزة وابن البرّاج ، واختاره العلّامة ، وقال الشهيد : لا نعلم فيه مخالفا غير المعتبر ، لأنه اقتصر فيه على كفارتين ، واختاره المصنف هنا كاختياره في المعتبر ، لأصالة براءة الذمة ، ولأن المكرهة لم تفطر فلا كفارة عليها.

احتج القائلون بوجوب الأربع بأنه فعل موجب للكفارة على اثنين فيتضاعف على المكره ، لصدور الفعل عنه أجمع لسقوط اعتبار فعلها باكراهها ، ولأنها لو طاوعته لزمهما أربع ، فمع الإكراه يلزمه ما يلزمها مع المطاوعة.

قال رحمه‌الله : إذا باع أو اشترى ، قيل : يبطل اعتكافه ، وقيل : يأثم ولا يبطل ، وهو الأشبه.

أقول : البطلان مذهب ابن إدريس إذا كان البيع والشراء اختياريا لا

٣٧٧

ضرورة داعية إليه ، لأن الاعتكاف هو اللبث للعبادة ، فإذا فعل قبائح ومباحات لا حاجة إليها فما لبث للعبادة ، وخرج عن حقيقة المعتكف اللابث للعبادة فيبطل اعتكافه.

وقال الشيخ في المبسوط : يأثم ويصح اعتكافه لأصالة الصحة ، وهو اختيار العلامة.

تنبيه : لو باع المعتكف أو اشترى معاطاة لم يحرم ، لأنها ليست بيعا حقيقة ، لأنه هو الإيجاب والقبول اللذان تنتقل بهما العين من مالك إلى غيره ، فإذا خلا عن الإيجاب والقبول لا يكون بيعا حقيقة وإن كان بيعا مجازا لأصالة الإباحة ، والمنع يحمل على البيع الحقيقي ، لأن اللفظ إذا أطلق انصرف إلى الحقيقة دون المجاز.

ولقد نبه الشهيد على ذلك حيث شرط إباحة بيع ما يضطر إليه أو شرائه ، كشراء الغذاء والقميص المضطر إلى لبسه ، أو بيع شي‌ء كذلك مع تعذر المعاطاة ، فإن تعذرت جاز له العقد على ذلك ولا إثم حينئذ.

قال رحمه‌الله : إذا اعتكف ثلاثة متفرقة ، قيل : يصح ، لأن التتابع لا يجب إلا بالاشتراط ، وقيل : لا ، وهو الأصح.

أقول : إذا نذر ثلاثة أيام مثلا ولا عينها بزمان ولا شرط التتابع ، هل يجب عليه تتابعها؟ قال الشيخ : نعم ، واختاره المصنف ، لأن الاعتكاف لا يكون أقل من ثلاثة أيام ، وقيل : يجوز تفريقها بأن يأتي بيوم من النذر ثمَّ يضم إليه آخرين نفلا ، أو من واجب غيره وهكذا ثلاثا ، لأن التتابع لا يجب إلا بالاشتراط كما قاله المصنف.

٣٧٨

كتاب الحج

٣٧٩
٣٨٠