غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ١

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

في قواطع الصلاة

قال رحمه‌الله : وقيل : لو أحدث ما يوجب الوضوء سهوا تطهّر وبنى ، وليس بمعتمد.

أقول : التروك الواجبة على ضربين : أحدهما متى حصل أبطل الصلاة عامدا كان أو ناسيا ، وهو جميع ما ينقض الطهارة ، قال الشيخ رحمه‌الله : وقد روي أنّه إذا سبقه الحدث جاز أن يعيد الوضوء ويبني على صلاته ، ولعل وجهه أنّ صلاته قد انعقدت صحيحة وإبطالها يحتاج إلى دليل ، وإنما يبطلها تعمد المنافي وهو لم يتعمد ، والمشهور عدم الفرق.

والضرب الآخر متى حصل وكان المصلي ساهيا أو ناسيا أو لتقية لم تبطل الصلاة ، وهو كل ما عدا نواقض الوضوء.

قال رحمه‌الله : والثاني لا يبطلها إلا عمدا ، وهو وضع اليمين على الشمال ، وفيه تردّد.

أقول : منشؤه من وجوب الاقتداء بفعله عليه‌السلام لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلّوا كما رأيتموني أصلي» (٦٦) ولم ينقل أنه كفّر في صلاته ،

__________________

(٦٦) عوالي اللئالي ١ : ١٩٧ ، ذيل حديث ٨.

١٦١

ومن التمسك بالبراءة الأصلية ، لأن الأصل عدم التحريم ، وبه قال أبو الصلاح ، والمشهور التحريم.

ولا فرق بين وضع الكف على الساعد أو بالعكس ، ولا بين وضع الكف على الكف أو الساعد ، ولا بين كون بين العضوين حاجزا أو لا ، وتبطل الصلاة بفعله عمدا اختيارا.

قال رحمه‌الله : والبكاء لشي‌ء من أمور الدنيا والأكل والشرب على قول ، إلا في صلاة الوتر.

أقول : قال صاحب الصحاح : البكاء يمد ويقصر ، إذا مددت أردت الصوت الذي يكون مع البكاء ، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها.

إذا عرفت هذا : فالبكاء لأمور الآخرة لا تبطل به الصلاة وإن كان له صوت ، لأنه من دواعي الخشوع ، والبكاء لأمور الدنيا تبطل به الصلاة إذا كان له صوت ، وأما تهامل الدموع بلا صوت فلا تبطل به الصلاة ، سواء كان لأمور الدنيا أو الآخرة.

والأكل والشرب لا يقطعان الصلاة إلّا إذا بلغا الكثرة عند العلامة في المختلف والشهيد في البيان ، لأصالة الصحة ، وأصالة براءة الذمة من وجوب الإعادة.

وقال الشيخ في المبسوط : تبطل الصلاة بالأكل والشرب سواء قلّ أو كثر ، وهو مذهب ابن إدريس واختاره أبو العباس لمنافاتهما الخشوع ، وإن لم يكن فعلا كثيرا دون ما لا ينافيه كازدراد ما بين الأسنان ، وإنما يجوز الشرب في الوتر بشروط :

الأول : أن يكون عازما على الصوم.

الثاني : أن يلحقه العطش في الصلاة.

الثالث : أن يكون في قنوت الوتر لا في الصلاة.

١٦٢

الرابع : اختصاص الرخصة بالشرب دون الأكل.

الخامس : أن لا يفعل بسبب الشرب ما ينافي الصلاة كالاستدبار ، ويغتفر الفعل الكثير فيه (٦٧) نفسه فإنّه لا يبطل وان طال زمانه ، ويجوز أن يمشي ليتناول الماء ثلاث خطوات فما دون.

قال رحمه‌الله : وفي عقص (٦٨) الشعر للرجل تردد ، والأشبه الكراهية.

أقول : منشؤه أصالة عدم التحريم ، وأصالة صحة الصلاة ، ومن الروايات (٦٩) الدالة على التحريم ، وبالتحريم قال الشيخ ، وبالكراهة قال ابن إدريس والمصنف والعلامة.

قال صاحب الصحاح : عقص الشعر ضفره وليّه على الرأس كالكبة ، وقيل : جعله كالكبة في مقدم الرأس على الجبهة ، فعلى هذا إن منع من السجود أبطل قطعا.

قال رحمه‌الله : إذا سلّم عليه جاز أن يردّ مثل قوله : سلام عليكم ، ولا يقول : وعليكم ، على رواية.

أقول : الرواية إشارة إلى ما رواه عثمان بن عيسى (٧٠) ، قال العلامة في المختلف : وعندي في العمل بهذه الرواية نظر ، فإنّ في طريقها عثمان بن عيسى وهو ضعيف ، والمحصّل أنه إذا سلّم عليه وهو في الصلاة وجب الرد وان كان المسلّم صبيا أو امرأة أجنبية ، لعموم قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ

__________________

(٦٧) في «ر ١» : في.

(٦٨) في «ن» : تعمد عقص.

(٦٩) الوسائل ، كتاب الصلاة ، باب ٣٦ من أبواب لباس المصلي.

(٧٠) الوسائل ، كتاب الصلاة ، باب ١٦ من أبواب قواطع الصلاة ، حديث ٢.

١٦٣

فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) (٧١).

وصورة الرد : «سلام عليكم» و «سلام عليك» و «السلام عليك» ، بأي هذه الثلاثة رد خرج من العهدة ، ولا يجوز الرد بـ «عليكم السلام» وإن سلّم بها (لعموم النهي عن الرد بها) (٧٢).

والواجب في الرد إسماع المسلّم ، فإن كان أصمّ لم يجب إسماعه إذا خرج عن العادة ، والأقرب وجوب الإشارة بالرد على الأصم بحيث يعلم أنه رد عليه لكونها قائمة مقام الكلام بعد تعذره في كثير من الأحكام ، فلا يخرج من العهدة بدونها.

فروع :

الأول : إذا حيّاه بغير السلام كالصباح أو المساء أو غير ذلك وجب الرد بلفظ السلام أو الدعاء ، كأن يقول : غفر الله لك ، بارك الله فيك ، وما شابه ذلك ، فان رد بمثل قوله وقصد الدعاء جاز ، وإن قصد مجرد الرد لم يجز ، وقال الشهيد في البيان : يمكن الجواز.

الثاني : لو لم يرد السلام هل تبطل صلاته؟ يحتمل ذلك ، لأنّ الرد واجب مضيق وهو غير مناف للصلاة ، فإذا فعل شيئا من أفعال الصلاة قبله كان منهيّا عنه ، لأنّه مخاطب بالرد ، والنهي في العبادة يدل (٧٣) على الفساد.

ويحتمل عدم البطلان ، لأنّها انعقدت صحيحة وبطلانها يحتاج إلى دليل وليس ، لأن قواطع الصلاة معدودة مضبوطة وليس ذلك منها ، والنهي الموجب للبطلان هو النهي المتعلق بذات الصلاة كصلاة الحائض ، أو لأمر لازم لذاتها

__________________

(٧١) النساء : ٨٦.

(٧٢) ما بين القوسين من «ن». والعموم مستفاد من رواية عثمان بن عيسى السابقة.

(٧٣) في «ن» و «ر ١» : يستلزم الفساد.

١٦٤

كالصلاة في الثوب المغصوب أو المكان المغصوب ، واختار صاحب الموجز وصاحب البيان عدم البطلان.

الثالث : لو طالبه برد الوديعة وهو في الصلاة وهو قادر على ردّها من غير إبطال الصلاة فلم يردّها كان حكمه حكم تارك السلام في احتمال البطلان وعدمه.

الرابع : المطالب بالوديعة أو الدين قبل دخوله في الصلاة وهو قادر على الدفع ، إذا صلّى قبل تضيّق الوقت ، بطلت صلاته ـ على المشهور بين الأصحاب ـ إذا كانت الصلاة منافيه لأداء حق الآدمي ، لكونه مضيّقا والصلاة موسعة ، ولو أمكن الجمع بين الصلاة والدفع لم تبطل. وحكم الزكاة والخمس كذلك وإن لم يطالب المستحق ، لأنه غير متعيّن فلا يتوقف الدفع على مطالبته ، وحكم الدين الذي لا يعلمه صاحبه حكم الزكاة.

تنبيه : يبطل المندوبة كل ما يبطل المكتوبة إلّا خمسة أشياء :

الأول : ترك السورة عمدا.

الثاني : ترك رفع الرأس من الركوع ، قاله في الموجز.

الثالث : ترك الطمأنينة في رفع الرأس من الركوع.

الرابع : الشك في الأوليين.

الخامس : زيادة الركن سهوا ، ولا يحرم قطعها بخلاف المكتوبة.

١٦٥
١٦٦

بقية الصلوات

في صلاة الجمعة

قال رحمه‌الله : وكذا لو أدرك الإمام راكعا في الثانية على قول.

أقول : إذا أدرك المأموم الإمام وهو راكع في الثانية فقد أدرك الجمعة إذا ساواه في قوس الركوع ، وان كان بعد ذكر الإمام ، إذا كان الوقت باقيا ، أما مع خروج الوقت مثل أن يتلبس الإمام ولم يبق من الوقت غير قدر ركعة ويصلّي الثانية في غير الوقت ، فإنّه لا يدرك المأموم الجمعة ما لم يلحقه في الأولى ولو في قوس الركوع ، وقال الشيخ في النهاية : يشترط تكبيرة الركوع.

فرع : لو أدرك الإمام راكعا في الثانية فركع ثمَّ زوحم على السجود ، فإن أتى به قبل أن يسلّم الإمام فقد أدرك الجمعة ، وإن استمر الزحام بعد التسليم فقد فاتت الجمعة.

قال رحمه‌الله : وقيل : سبعة ، والأول أشبه.

أقول : يشترط في الجمعة العدد إجماعا ، واختلف علماؤنا على قولين :

أحدهما : سبعة ، وهو قول الشيخ وابن الجنيد رحمه‌الله ، لأنّ الإنسان مدني بالطبع لا يمكنه أن يعيش وحده ، والاجتماع مظنة النزاع ، والتنازع يوجب اختلال نظام النوع ، فاستدعا كمال نظامه وبقاؤه وجود رئيس يحملهم

١٦٧

على الطاعة ويعدهم عليها الثواب ، ويزجرهم عن المعصية ويتوعدهم عليها العقاب ، فوجب الامام ، ولمّا كان الإنسان محلا للحوادث وجب في بقاء الاجتماع ونظامه وجود نائب الامام ، ولمّا كان التنازع يفتقر إلى مدّع ومدعى عليه وجب اعتبارهما ، ولما كان التجاحد ممكنا وجب اعتبار شاهدين يثبت بهما ما يقع التنازع فيه ، وقد يكون التنازع مؤديا إلى استحقاق الحد في جنب أحدهما ، فوجب وضع مستوف للحد.

فظهر احتياج التمدن إلى هذه السبعة : المدعي حقا والمدعى عليه والشاهدان والإمام وقاضيه والمتولي إقامة الحدود ، فلهذه الحكمة وجب هذا العدد في الصلاة التي لا تجب على غير المستوطنين.

والقول الآخر : خمسة : المدعي حقا والمدعى عليه والشاهدان والامام ، ويتولى هو الحكم وإقامة الحدود ، كما فعل علي عليه‌السلام في كثير من الاحكام ، وهو مذهب المفيد وابن إدريس والمصنف والعلّامة وابي العباس.

قال رحمه‌الله : قيل : يجزي ولو آية واحدة مما يتم بها فائدتها.

أقول : المشهور بين الأصحاب وجوب قراءة سورة خفيفة ، وقال في الخلاف : يقرأ شيئا من القرآن ، وأمّا التقييد بالآية التامة الفائدة إنما نقله المصنف والعلامة. والتامة الفائدة هي التي يحسن السكوت عليها ، وحكمها فيها من الوعد والوعيد وغير ذلك من أحكام القرآن لا يتعلق بالآية التي قبلها ولا التي بعدها.

قال رحمه‌الله : ويجوز إيقاعهما قبل زوال الشمس حتى إذا فرغ زالت ، وقيل : لا يصح إلّا بعد الزوال ، والأول أظهر.

أقول : للأصحاب هنا ثلاثة أقوال :

الأول : وجوب الإيقاع قبل الزوال ، قاله الشيخ في النهاية والمبسوط ،

١٦٨

وهو مذهب ابن حمزة ، والمستند الروايات (٧٤).

الثاني : وجوبه بعد الزوال ، وهو مذهب السيد المرتضى وابن إدريس ، واختاره العلّامة ، لأنهما بدل من الركعتين ، ولا يجوز المبدل قبل الزوال فكذلك البدل تحقيقا للبدليّة المقتضية للمساواة.

الثالث : الجواز ، وهو مذهب المصنف جمعا بين الأدلة.

قال رحمه‌الله : وهل الطهارة شرط فيهما؟ فيه تردد ، والأشبه أنها غير شرط.

أقول : منشأ التردد من أصالة براءة الذمة ، وشغلها بواجب أو ندب يحتاج إلى دليل ، ومن أن مع الطهارة تحصل البراءة بيقين ، وبدونها لا يحصل يقين البراءة ، فكان العمل بما يحصل به اليقين أحوط ، وهو مذهب الشيخ في الخلاف والمبسوط ، وبالأول قال ابن إدريس والعلّامة.

وأجيب عن حجة الشيخ بأن الاحتياط لا يقتضي الوجوب ، واعتقاد وجوب غير الواجب خطأ ، فلا يحصل به الاحتياط مع اعتقاد وجوب الطهارة.

قال رحمه‌الله : ويجب أن يرفع صوته بحيث يسمع العدد المعتبر فصاعدا ، وفيه تردد.

أقول : هذا فرع على وجوب الاستماع ، ومنشأ التردد من أصالة براءة الذمة ، ومن أن الفائدة من الخطبة والوعظ إنما يحصل بالإنصات والاستماع ، وبه قال الشيخ وابن إدريس ، والاستحباب مذهب الشيخ في المبسوط ، وظاهر المصنف والعلّامة في القواعد الاكتفاء بسماع العدد.

وقال العلّامة في المختلف : لا يقال : الخطبة إنما تجب مع حضور

__________________

(٧٤) الوسائل ، كتاب الصلاة ، باب ٨ من أبواب صلاة الجمعة.

١٦٩

الخمسة فيكفي سماعهم وانصاتهم ، ويحرم الكلام عليهم لا على الزائد.

لأنّا نقول : لا تخصيص لأحد بكونه من الخمسة دون غيره ، فيحرم على الجميع.

وذهب أبو العباس في المقتصر إلى تحريمه على الخطيب والمستمع ، وليس مبطلا للجمعة ولو (٧٥) صدر من كل منهما ، وقال في الموجز : يكره للخطيب ويحرم على المستمع.

قال رحمه‌الله : الخامس أن لا يكون هناك جمعة أخرى وبينهما دون ثلاثة أميال ، فإن اتفقتا بطلتا ، وإن سبقت إحداهما ـ ولو بتكبيرة الإحرام ـ بطلت المتأخرة ولو لم يتحقق السابقة أعادتا ظهرا.

أقول : هذه المسئلة لم يتردد فيها المصنف ولا فيها خلاف ، ولكنها تفتقر إلى كشف وإيضاح ، فنقول : إذا صلى في بلد واحد جمعتان بينهما أقل من ثلاثة أميال بطلت الأخيرة وصحت السابقة ، فإن اقترنتا بطلتا ، فإن حصل اشتباه في السبق ، فإمّا أن يكون حصل بعد أن كانت إحداهما معلومة السبق بعينها أو معلومة السبق لا بعينها ، أو يشتبه الحال بمعنى : ان لا يعلم هل حصل سبق أم لا؟ ففي الصورتين الأوليين يحصل القطع ببراءة الذمة من صلاة الجمعة ، لأنه قد وقع في ذلك البلد جمعة صحيحة لكن كل طائفة شاكة في كون الجمعة الصحيحة هل هي جمعتها أم جمعة الطائفة الأخرى؟ فيتعين عليهما الإتيان بالظهر ، لعدم قطع كل طائفة منهما بخروجها من العهدة.

واما الصورة الثالثة ـ وهي صورة الاشتباه ـ فإنهما يعيدان جمعة وظهرا

__________________

(٧٥) في «م» و «ن» و «ر ٢» : لو.

١٧٠

ليحصل يقين البراءة ، لأنهما لو أعادا (٧٦) جمعة فقط أمكن أن يكون جمعة إحداهما صحيحة ، فتبطل الأخرى ، والواجب على من بطلت جمعته الظهر ، وإن أعادا ظهرا فقط أمكن اقتران الجمعتين ، فتبطلان ، فيجب عليهما الجمعة ، فلا يحصل يقين البراءة إلا بالإتيان بهما معا.

ويؤم بالطائفتين إمام من غيرهما ، لاحتمال أن يكون الذي يؤم بهما من طائفة قد سبقت جمعتها وقد برأت ذمته منها ، فلا يجوز أن يكون إماما لمن ذمته مشتغلة بها ، وكذا إن صليا الظهر جماعة ، فلو صلت كل واحدة الظهر وحدها جاز أن يؤم بها إمام منها ، لعدم إمكان اختلاف حكم الإمام والمأموم حينئذ ، ولو افترقتا بفرسخ صلت كل طائفة الجمعة فقط بإمام منها أو من غيرها لا من الطائفة الأخرى.

قال رحمه‌الله : وفي العبد تردّد.

أقول : الجمعة لا تجب على العبد ، ولو حضر وجبت عليه كالمريض ، وهل تنعقد به؟ قال الشيخ رحمه‌الله في الخلاف : تنعقد ، وبه قال ابن إدريس ، لعموم (٧٧) الدليل الدال على اعتبار العدد من غير تقييد بحرية أو غيرها ، وعدم وجوبها عليه لا ينافي انعقادها به كالمريض. وقال الشيخ في المبسوط بعدم الانعقاد ، واختاره العلامة وأبو العباس في موجزه ومحررة ، لأن العبد لا يجب عليه الحضور إجماعا ، ولا يجوز بغير إذن سيّده وهو غير معلوم ، فيحكم ظاهرا بقبحه لأصالة عدم الاذن ، فلو اعتددنا به في تكميل العدد الموجب لتكليف الغير ، كان ذلك التكليف قبيحا لاشتماله على التصرف بمال الغير من غير اذنه ،

__________________

(٧٦) كذا في النسخ.

(٧٧) الوسائل ، كتاب الصلاة ، باب ٢ من أبواب صلاة الجمعة.

١٧١

وما ليس ينفك عن القبيح فهو قبيح ، فلا ينعقد به إلا مع إذن سيده بالحضور.

فرع : لو ألزم المولى عبده بحضور الجمعة ، احتمل الوجوب ، لوجوب طاعته في غير العبادة ففيها أولى ، ويحتمل العدم ، لأنه غير مكلف بالحضور ، وإلزام السيد غير صالح لإثبات ما أسقطه الشارع عنه من العبادات ، كعدم صلاحيته لإسقاط ما أوجب عليه منها ، فلا يلتفت إلى إلزامه قبل الحضور كما لا يلتفت إلى منعه بعد الحضور ، بل يكون تكليف العبد مع إذن سيده قبل الحضور تكليفا اختياريا موكولا إلى اختيار العبد ، إن شاء حضر وإن شاء ترك.

قال رحمه‌الله : ولو هاياه مولاه لم تجب الجمعة ولو اتفقت في يوم نفسه على الأظهر.

أقول : قال الشيخ لو انعتق بعضه وهاياه مولاه فاتفقت الجمعة في يوم نفسه وجبت عليه ، لأنه ملك المنافع وزال عذر الحضور في ذلك اليوم ، وحكم المصنف والعلامة بعدم الوجوب ، لأصالة البراءة ، ولأن المهاياة ليست واجبة ، فلو وجبت عليه الجمعة في يوم نفسه وجبت مطلقا.

قال رحمه‌الله : الإصغاء إلى الخطبة هل هو واجب؟ فيه تردد ، وكذا تحريم الكلام في أثنائها.

أقول : سبق البحث في هذه (٧٨).

قال رحمه‌الله : ويعتبر في إمام الجمعة كمال العقل ، والايمان ، والعدالة ، وطهارة المولد ، والذكورة ، ويجوز أن يكون عبدا ، وهل يجوز أن يكون

__________________

(٧٨) ص ١٦٩ ـ ١٧٠.

١٧٢

أجذم أو أبرص؟ فيه تردد ، والأشبه الجواز وكذا الأعمى.

أقول : بعض هذه الشروط مجمع عليه وبعضها مختلف فيه ، فالمجمع عليه كمال العقل والإيمان والعدالة وطهارة المولد والذكورة ، والباقي مختلف فيه ، فمما اختلف فيه الحرية ، ولم يعتبرها الشيخ في المبسوط إذا تمَّ العدد بدونه ، واختاره المصنف والعلّامة والشهيد في دروسه ، لأنّه مكلف عدل فجازت إمامته ، واعتبرها في النهاية والمفيد في المقنعة ، لأن الإمامة أحد المناصب الجليلة فلا يليق بحال العبد ، ولما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه ، عن علي عليهم‌السلام «قال : لا يؤم العبد إلّا أهله» (٧٩) وهو مذهب أبي العباس في موجزه.

ومنشأ التردد في الأجذم والأبرص نفور القلوب عنهما ، وفي الأعمى عدم تحرزه من النجاسة ، ومن هذا شأنه لا يجوز أن يكون إماما ، وهو مذهب الشيخ في النهاية وابن إدريس ، ومن أصالة الصحة ، وهو المشهور.

قال رحمه‌الله : الأذان الثاني يوم الجمعة بدعة ، وقيل : مكروه ، والأول أشبه.

أقول : اختلف الأصحاب في وقت الأذان المشروع في يوم الجمعة ، والمشهور أنه حال جلوس الإمام على المنبر.

قال ابن أبي عقيل : إذا زالت الشمس صعد الإمام المنبر وجلس وقام المؤذن فأذّن ، فإذا فرغ المؤذّن من أذانه قام الإمام خطيبا للناس.

ومثله قال ابن الجنيد وابن حمزة وابن إدريس ، واختاره العلّامة.

وقال أبو الصلاح : وإذا زالت الشمس أمر مؤذنيه بالأذان ، فإذا فرغوا منه صعد المنبر وخطب.

__________________

(٧٩) الوسائل ، كتاب الصلاة ، باب ١٧ من أبواب صلاة الجماعة ، حديث ٤.

١٧٣

وقال الشهيد في بيانه : ولو جمع بينهما أمكن نسبة البدعة إلى الثاني زمانا وإلى غير الشرعي ، فينزل على القولين.

مراده : لو أذّن قبل صعود الإمام المنبر وبعد صعوده كان البدعي هو الأذان الذي بعد صعود الإمام المنبر لكونه ثانيا ، ويحتمل أن يكون البدعي هو غير المشروع منهما.

فإن قلنا : إنّ المشروع هو المشهور ، كان البدعي هو الأول الذي قبل صعود الإمام ، وكان ثانيا لعدم الاعتداد به (وان قلنا : المشروع ما قاله أبو الصلاح كان البدعي الثاني بالزمان ومذهب الدروس كالبيان وقال ابن إدريس) (٨٠) :

الأذان الثاني هو الحاصل بعد نزول الإمام عن المنبر مضافا إلى الأذان الأول الذي عند النزول ، واختاره العلامة في المختلف وأبو العباس في المقتصر واستقربه الشهيد في بيانه.

إذا عرفت هذا ، فالتحريم مذهب ابن إدريس والمصنف والعلامة في تحريره ومختلفه ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفعله إجماعا ، وشرع الصلاة بأذان واحد وإقامة ، فالزيادة المماثلة بدعة ، وقيل : أول من أحدثه عثمان ، وقيل : معاوية ، وقال الشيخ في المبسوط بالكراهة لأصالة الإباحة ، وقوّاه صاحب الدروس.

قال رحمه‌الله : يحرم البيع يوم الجمعة بعد الأذان ، فإن باع أثم ، وكان البيع صحيحا على الأظهر.

أقول : إذا وقع البيع عند الأذان ممن وجب عليه الجمعة فعل حراما إجماعا ، وهل ينعقد؟ جزم الشيخ في الخلاف بعدم الانعقاد ، لكونه منهيا عنه

__________________

(٨٠) ما بين القوسين من «ن» ، وفي باقي النسخ عبارة : (وان كان) بدلا عنه.

١٧٤

والنهي يدل على الفساد ، وهو مذهب ابن الجنيد ، وأكثر المتأخرين على الانعقاد ، لأنه بيع صدر من أهله في محله ، لأن العقد سبب لنقل الملك إلى المشتري بالإجماع ، وهو موجود هنا ، والنهي الذي يستلزم الفساد هو النهي في العبادات لا المعاملات.

فروع :

الأول : النداء الذي يتعلق به التحريم هو الأذان المشروع حالة صعود الخطيب المنبر.

الثاني : لو كان بعيدا عن الجمعة ، بحيث يفتقر إلى السعي قبل الزوال وجب السعي ، وحرم البيع إن منع من السعي ، وإلّا فلا.

الثالث : لو لم يمنع البيع حالة الأذان من السعي ولا من سماع الخطبة ، احتمل الجواز لعدم المنافاة ، والعدم لعموم (٨١) المنع حالة النداء.

الرابع : لو كان أحد المتبايعين مخاطبا بالجمعة دون الآخر حرم على المخاطب إجماعا ، وعلى الآخر أيضا لما فيه من المعاونة على الإثم والعدوان المنهي عنه في الآية (٨٢) ، وقيل : يكره لغير المخاطب.

الخامس : لا فرق بين البيع وغيره من العقود للمشاركة في العلّة.

قال رحمه‌الله : إذا لم يكن الإمام موجودا ولا من نصبه للصلاة وأمكن الاجتماع والخطبتان ، قيل : يستحب أن يصلّى جمعة ، وقيل : لا يجوز ، والأول أظهر.

أقول : إذا أمكن في حال الغيبة اجتماع العدد المعتبر والخطبتان استحب

__________________

(٨١) الجمعة : ٩.

(٨٢) المائدة : ٢.

١٧٥

الاجتماع وإيقاع الجمعة بنية الوجوب ، وتجزي عن الظهر ، هذا مذهب الشيخ في النهاية ، واختاره العلامة والشهيد وأبو العباس ، لعموم قوله تعالى (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) (٨٣) ولهم عليه روايات (٨٤).

والمنع مذهب ابن إدريس والسيد المرتضى ، لأن شرط انعقاد الجمعة الإمام أو من نصبه الإمام للصلاة وهو مفقود ، ولأن الظهر أربع ركعات ثابتة في الذمة بيقين فلا يخرج من العهدة إلا بفعلها ، وأخبار الآحاد مظنونة لا يجوز التعويل عليها.

وأجاب العلامة بأنّ الفقيه المأمون منصوب من قبل الإمام ، ولهذا تمضى أحكامه ، ويجب على الناس مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس.

فروع :

الأول : على القول بانعقاد الجمعة حال الغيبة ، يجوز إيقاع جمعتين في بلد واحد بينهما أقل من فرسخ ، قاله أبو العباس في موجزه ، وفيه نظر حققناه في شرح الموجز ، والأقوى (٨٥) عدم الجواز.

الثاني : يجب على الإمام نية الإمامة ، لأن من شرطها الاجتماع وكل صلاة الاجتماع فيها شرط يجب فيها نية الإمامة.

الثالث : قال الشهيد في البيان : فرع : انما يجوز مع باقي الشرائط ، فإذا اجتمعوا نووا الوجوب ، ويجزي عن الظهر فيكون الوجوب هنا تخييريا.

ووجدت قيدا على بعض نسخ البيان منسوبا إلى بعض الفضلاء أن

__________________

(٨٣) الجمعة : ٩.

(٨٤) الوسائل ، كتاب الصلاة ، باب ٥ من أبواب صلاة الجمعة.

(٨٥) في «ي ١» : والظاهر.

١٧٦

مراده في قوله (تخييريا) أي التخيير بين نية الوجوب ونية الندب وأيهما نوى أجزأ عن الظهر ، وهو غلط ، بل مراده التخيير بين الجمعة والظهر ، فيكون من باب الواجب المخير ككفارة رمضان وغيرها من الواجبات المخيّرة ، ولا يجوز نيّة الندب ، لأن الجمعة بدل من الظهر ، وحكم البدل حكم المبدل عنه في جميع الأحكام إلا ما أخرجه النص هنا ، من زيادة القنوت ونقصان الركعتين المعوض عنهما بالخطبتين ، ومن بعض احكام المبدل اشتراط نية الوجوب فيجب في البدل تحقيقا للبدلية ،

ولأنها مجزية عن الظهر ، والندب لا يجزي عن الواجب مع تحقق الوجوب في شي‌ء من الأحكام إجماعا.

فإن قيل : إن هذه الجمعة مندوبة مع أنها تجزي عن الظهر عند القائل بها ، والوضوء المندوب يجزي عن الواجب في بعض الصور ، فكيف قلتم :

إن المندوب لا يجزي عن الواجب إجماعا؟! الجواب عن الأول : إن المندوب هو الاجتماع والعدول إليها عن الظهر ، فإذا اختار المكلف ذلك وأراد الدخول فيها ، تعين عليه نية الوجوب ، لاختياره إيجابها عليه بالدخول فيها ، كاستحباب الجهر يوم الجمعة ، والجهر بالبسملة في مواضع الإخفات ، فإنّ المستحب هو العدول إلى الجهر ، فإذا أتى به اعتقد الوجوب ، لأن القراءة لها صفتان الجهر والإخفات وكلاهما واجب ، فلا يجوز أن يوقع أحدهما بنية الاستحباب ، فكما أن الواجب في الظهر هو الإخفات ، والعدول إلى الجهر مستحب وإذا أتى به اعتقد وجوبه ولا يجوز أن يوقعه بنية الندب ، كذلك الواجب في الجمعة حال الغيبة هو الظهر ، والعدول إلى الجمعة مستحب مع الإمكان ، فإذا دخل فيها دخل بنية الوجوب ، لأن الأصل فيها الوجوب ، لكون الفرض غيرها ، وهو الظهر ، وقد استحب له العدول إلى الجمعة ، فإذا عدل إليها وجب إيقاعها على أصلها كالجهر ، لأن

١٧٧

الأصل فيه الوجوب ، ولكن فرضه في الظهر غيره ، وهو الإخفات ، وقد استحب العدول إلى الجهر ، فإذا عدل إليه وجب إيقاعه على أصله ، وهو الوجوب ، فلا يجوز إيقاع الجمعة بنية الندب ، كما لا يجوز فعل الجهر بنية الندب لمساواتها له من كل الوجوه.

واما الجواب عن الثاني : ـ وهو إجزاء الوضوء المندوب عن الواجب ـ فإنا نقول : انما يجوز إيقاع الوضوء المندوب المجزي عن الواجب في غير وقت التكليف بالواجب (٨٦) ، فلو كان مكلفا به لما جاز إيقاعه بنية الندب ، ولا أجزأ عن الواجب ، وانما أجزأ مع خلوّه عن الواجب ، لأنه أوقع طهارة مشروعة رافعة للحدث ، مبيحة للصلاة ، فإذا دخل وقت الوجوب وهو على تلك الطهارة اجتزأ بها ، لعدم بطلانها بدخول وقت الوجوب ، والجمعة ليس كذلك ، لأنه أوقعها في وقت هو مكلف فيه بأداء الفرض ، فلو أوقعها بنية الندب لم تكن معتبرة ولا مجزية عن الفرض كما لو أوقع الوضوء الندب بنية الفرض لم يكن معتبرا ولا مجزيا عن الفرض.

ولقد نص أبو العباس في مهذبه ومقتصره والشهيد في بيانه على نية الوجوب ، ولم نجد قولا لبعض الأصحاب بجواز نية الندب ، فتعين القول بالوجوب ، لنص الأصحاب عليه ، وسياقة الدليل اليه ، وإنما أطلنا البحث هنا ليظهر بطلان ذلك القيد الذي نقله أكثر الطلبة ، وقال به.

قال رحمه‌الله : إذا لم يتمكن المأموم من السجود مع الإمام في الأولى ، فإن أمكنه السجود واللحاق به قبل الركوع وجب ، وإلا اقتصر على متابعته في السجدتين وينوي بهما الأولى ، فإن نوى بهما الثانية ، قيل : تبطل الصلاة

__________________

(٨٦) في «ن» : بالوجوب.

١٧٨

وقيل : يحذفهما ويسجد للأولى ويتم ثنائية ، والأول أظهر.

أقول : إذا ركع مع الإمام في الأولى ومنعه الزحام عن سجودها ، فإن تمكّن ـ بعد قيام الإمام من الأولى إلى الثانية ـ من السجود أتى به ولا كلام ، وإلّا فلا يتابعه في ركوع الثانية ، فإذا سجد الإمام سجد معه ونوى بهما أنهما للركعة الأولى ، ولو لم ينو أنهما للأولى بطلت صلاته.

وقال ابن إدريس : لا يجب تجديد نية أنهما للأولى ، بل الاستدامة كافية والأصل براءة الذمة من وجوب تجديد النية ، واستقربه الشهيد.

والجواب أن المأموم أفعاله تابعة لأفعال الإمام ، والإمام سجد السجدتين بنية أنهما للثانية فيكون المأموم بحكمه ، فلو لم ينو أنهما للأولى انصرفا إلى الثانية تحقيقا للمتابعة.

وقال في المبسوط : إذا لم ينو بهما الأولى لم يعتد بهما ، ووجب ان يحذفهما ويسجد سجدتين للركعة الأولى ، والأول مذهب الشيخ في النهاية ، واختاره المصنف والعلامة.

١٧٩
١٨٠