مستمسك العروة الوثقى - ج ١٣

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١٣

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٣

وإن أطلق ولم يقصد أحدهما فالظاهر التقسيط [١].

______________________________________________________

« إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (١) ‌وإن كان سير الحاكم يرتب آثار الواقع على الحجة التي تكون مع المنكر ، فان المنكر من يوافق قوله الحجة ، ولا يكتفي بها الحاكم في فصل الخصومة ، لانحصار فصل الخصومة بالبينة واليمين.

[١] كما نص عليه في القواعد. وفي جامع المقاصد : « لامتناع صرفه إلى أحدهما ، نظراً الى عدم الأولوية ، فيتعين الأول لانحصار الحال فيهما ويحتمل صرفه الآن الى ما شاء ، لعدم القصد وامتناع وقوعه بدونه. ويضعف : بأن المدفوع اليه ملكه من حين القبض ، فيمتنع أن لا يسقط شي‌ء من الدين في مقابله ، لأن قبضه إنما كان عن جهته ، فيتعين التوزيع لما قلنا من انتفاء الأولوية. وهو الأصح ، وأعلم أن المصنف تردد في الرهن في نظائر هذه المسألة ثمَّ رجع الى الفتوى هنا ، وفيه : أنه لا دليل على حصول الملك بالقبض كي يتعين التوزيع لعدم الأولوية ، كيف وان كل واحد من الدينين متعين في نفسه ، ولذا لو عينه في الوفاء تعين ، فاذا كان متعيناً في نفسه كان محتاجاً الى التعيين ، لان الوفاء قصدي ، وقصد الشي‌ء يتوقف على ملاحظته بخصوصياته. وإلا فالتقسيط محتاج الى مرجح كالتعيين لأحدهما ، فالبناء على التقسيط لعدم المرجح ليس أولى من البناء على عدم التقسيط لعدم المرجح. وقد ذكر الأصحاب أنه إذا كان الواجب متعدداً بلا تعين امتنع التعيين في مقام الوفاء ، فاذا جاء المكلف ببعض الواجب سقط البعض وبقي البعض بلا تعيين. فاذا كان عليه صوم أيام من شهر رمضان فصام يوماً سقط يوم من تلك الأيام بلا تعيين. وإذا كان الواجب متعدداً مع تعين بعضه في مقابل البعض الآخر ، كما إذا كان عليه صوم الكفارة وصوم‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢ من أبواب كيفية القضاء حديث : ١.

٣٢١

ويحتمل القرعة [١]. ويحتمل كونه مخيراً في التعيين بعد ذلك [٢] والأظهر الأول. وكذا الحال في نظائر المسألة ، كما إذا كان عليه دين وعليه رهن ودين آخر لا رهن عليه فادى مقدار أحدهما [٣] ، أو كان أحدهما من باب القرض والآخر ثمن‌

______________________________________________________

القضاء ، فصام يوما ولم يعين بطل ولم يصح لأحدهما. وكذا في المقام ما دام كل واحد من الدينين متعيناً في نفسه في مقابل الآخر لم يحصل الوفاء القصدي إلا بقصد أحد المتعينين ، وإلا خرج عن كونه قصدياً. وأما قصد الجامع بين المتعينين ، فليس قصداً لما في الذمة ، لعدم كون الجامع المذكور في الذمة ، وإنما الذي في الذمة كل واحد من المتعينين. هذا ما تقتضيه المرتكزات العرفية. ونظير المقام ما إذا كان عليه قضاء رمضان من هذه السنة وقضاء رمضان من السنين السابقة ، فإن قضاء رمضان هذه السنة تجب المبادرة إليه قبل رمضان الثاني ، فإذا لم يبادر كان عليه الكفارة ، وليس كذلك قضاء رمضان السابق فاذا نوى صوماً قضاء ولم يعين لم يصح لأحدهما.

[١] كما احتملت فيما لو كان له زوجتان أو زوجات فقال : « زوجتي طالق » ولم ينو واحدة منهما. لكن هذا الاحتمال ضعيف في المقيس والمقيس عليه ، إذ لا دليل على القرعة بعد أن كان موضوعها المشكل أو المشتبه (١) لعدم الاشكال والاشتباه بعد قيام الأدلة على البطلان.

[٢] قد عرفت أنه هو المتعين الذي تقتضيه الأدلة ، فيبقى المدفوع على ملك الدافع الى أن يعين المراد له.

[٣] فان المدفوع إن كان وفاء للأول بطل حق الرهانة لوفاء الدين ، وإن كان عن الثاني فالحق بحاله لبقاء دينه.

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ١٣ من أبواب كيفية القضاء. ومستدرك الوسائل باب : ١١ من أبواب كيفية القضاء.

٣٢٢

مبيع [١]. وهكذا ، فان الظاهر في الجميع التقسيط. وكذا الحال إذا أبرأ المضمون له مقدار أحد الدينين مع عدم قصد كونه من مال الضمان أو من الدين الأصلي [٢]. ويقبل قوله إذا ادعى التعيين في القصد [٣] ، لأنه لا يعلم إلا من قبله.

( مسألة ٢٨ ) : لا يشترط علم الضامن حين الضمان بثبوت الدين على المضمون عنه [٤] ، كما لا يشترط العلم بمقداره [٥] ، فلو ادعى رجل على آخر دينا فقال : « عليّ ما عليه » صح. وحينئذ فإن ثبت بالبينة يجب عليه أداؤه ، سواء كانت سابقة أو لاحقة [٦] ، وكذا إن ثبت بالإقرار‌

______________________________________________________

[١] فإن كان الوفاء للأول بقي حق الخيار من جهة عدم دفع الثمن.

[٢] فان كان من مال الضمان لم يرجع الضامن على المضمون عنه ، وإن كان من غيره رجع ، على ما تقدم.

[٣] قد تقدم وجهه.

[٤] قد يظهر من جامع المقاصد والمسالك وضوحه والتسالم عليه. وقد يظهر من عبارتي الشرائع والقواعد اشتراط ذلك ، وسيأتي نقل ذلك في المسألة الآتية. وعمومات الصحة تقتضي عدم اشتراط ذلك. ولازم استدلال القائلين باشتراط العلم بمقدار المضمون بقاعدة نفي الغرر القول باشتراط العلم بوجوده لحصول الغرر بدونه. وقد أصر على ذلك في مفتاح الكرامة ، ناسباً له إلى الأصحاب ، مستدلا عليه بقاعدة نفي الغرر ، مؤيداً له بالعقل.

[٥] تقدم الكلام فيه في المسألة الأولى.

[٦] لإطلاق عموم دليل حجية البينة الشامل للحالين. والعمدة في هذا‌

٣٢٣

السابق على الضمان ، أو باليمين [١] المردودة [٢] كذلك [٣] وأما إذا أقر المضمون عنه بعد الضمان أو ثبت باليمين المردودة فلا يكون حجة على الضامن إذا أنكره [٤] ، ويلزم عنه بأدائه في الظاهر [٥]. ولو اختلف الضامن والمضمون له في ثبوت الدين أو مقداره ، فأقر الضامن أو رد اليمين على‌

______________________________________________________

العموم رواية مسعدة بن صدقة المتضمنة قوله (ع) : « والأشياء كلها على هذا حتى يتبين غير ذلك أو تقوم به البينة » (١).

[١] كما صرح بذلك غير واحد ، لحجيتهما.

[٢] بأن كان المضمون عنه قد أنكر الدين الذي يدعيه المضمون له ولم يقم المضمون له البينة على دعواه ، فكان على المضمون عنه اليمين على النفي أو رد اليمين على المضمون له ، فردها فحلف المضمون له على ثبوت دعواه.

[٣] يعني : قبل الضمان.

[٤] أما الإقرار فلأنه إقرار في حق الغير. وأما اليمين المردودة فهي بمنزلة الإقرار من هذه الجهة ، لا تكون حجة إلا للحاكم في فصل الخصومة لقصور دليل حجيتها عن شمول ذلك. وقد أشرنا إلى الخلاف في حجية اليمين المردودة في المسألة الثالثة من ( فصل فيه مسائل متفرقة ) من كتاب النكاح. وعن أبي الصلاح وأبي المكارم حجية الإقرار ، بل عن الثاني دعوى الإجماع عليه. وفيه : ما عرفت. والإجماع ممنوع.

[٥] هذا اللزوم غير ظاهر ، للعلم بفراغ ذمة المضمون عنه ، لأنه إن كان مشغول الذمة قبل الضمان فقد برئت بالضمان ، وإن كان برئ الذمة قبل الضمان فلا موجب لاشتغالها ، فأخذ المال منه مما يعلم بعدم استحقاقه.

__________________

(١) الوسائل باب : ٤ من أبواب ما يكسب به حديث : ٤.

٣٢٤

المضمون له فحلف ، ليس له الرجوع على المضمون عنه إذا كان منكراً [١] وإن كان أصل الضمان بإذنه. ولا بد في البينة المثبتة للدين أن تشهد بثبوته حين الضمان ، فلو شهدت بالدين اللاحق أو أطلقت ولم يعلم سبقه على الضمان أو لحوقه لم يجب على الضامن أداؤه [٢].

( مسألة ٢٩ ) : لو قال الضامن : « علي ما تشهد به البينة » وجب عليه أداء ما شهدت بثبوته حين التكلم بهذا الكلام [٣] ، لأنها طريق الى الواقع وكاشف عن كون الدين ثابتا حينه [٤]. فما في الشرائع من الحكم بعدم الصحة لا وجه له [٥]

______________________________________________________

[١] لعدم ثبوت الدين على المضمون عنه بإقرار الضامن ، لاختصاص حجيته به ، ولا بيمين المضمون له المردودة لما عرفت.

[٢] لعدم ثبوت الدين حال الضمان لينتقل الى ذمته ، والأصل عدمه.

[٣] يعني : حين الضمان.

[٤] وإذا كان ثابتاً حينه كان مضموناً على الضامن ومنتقلا الى ذمته.

[٥] قال في الشرائع : « لو ضمن ما تشهد به عليه لم يصح ، لأنه لا يعلم ثبوته في الذمة وقت الضمان ». وقوله : « وقت الضمان » يحتمل فيه أن يكون قيداً للثبوت في الذمة ، يعني : أن الثبوت في الذمة وقت الضمان غير معلوم ، إما لعدم شهادة البينة بالثبوت وقت الضمان ، وإنما كانت شهادتها بالثبوت حال الشهادة ، وإما لعدم كونها حجة على الثبوت وقت الضمان وإن كانت قد شهدت بذلك. ويحتمل أن يكون قيدا للعلم ، يعني : لا يعلم وقت الضمان بالثبوت في الذمة ، ومقتضى الأخير اعتبار العلم وقت الضمان بالثبوت في الذمة ، فإذا لم يعلم حين الضمان الثبوت في الذمة لم يصح الضمان ،

٣٢٥

______________________________________________________

كما أصر على ذلك في مفتاح الكرامة ، حاملا عبارات الأصحاب عليه ، كما أشرنا إليه آنفا ، فيكون مخالفاً لما تقدم في المسألة السابقة ، كما أشرنا إليه هناك. وعلى الاحتمالين السابقين لا تعرض فيه لذلك. والمصنف حملها على الاحتمال الثاني منهما. وهو غير ظاهر ، إذ لا خلاف من أحد في حجية البينة ، فكيف يحتمل الخلاف من المحقق (ره)؟! والأول منهما أيضاً غير ظاهر ، إذ ربما تشهد بالثبوت وقت الضمان ، كما ربما تشهد بالثبوت في الجملة ، فإطلاق عدم شهادتها بالثبوت حال الضمان لا وجه له.

ومثلها في هذه الاحتمالات عبارة القواعد ، قال : « ولو ضمن ما تقوم به البينة لم يصح ، لعدم العلم بثبوته حينئذ ». نعم ظاهر عبارة المختلف أن المراد الاحتمال الأول ، قال في المختلف : « قال الشيخ في المبسوط : قال قوم من أصحابنا أنه يصح أن يضمن ما تقوم به البينة ، دون ما يخرج به دفتر الحساب. ولست أعرف به نصاً. وفي هذه العبارة إشكال ، وعبارة المفيد وأبي الصلاح هنا أحق ، وهو أنه يضمن حقه عليه ، إذ ما تقوم به البينة لا يعلم ثبوته وقت الضمان ، فلا يصح ، لأنه يكون ضمان ما لم يجب » فان الظاهر أن وجه الفرق بين عبارة قوم من أصحابنا وعبارة المفيد وأبي الصلاح : أن الثانية من قبيل ما علم ثبوته حال الضمان لان المفروض أن المضمون الحق الذي عليه ، والثانية من قبيل ما لم يعلم ثبوته حال الضمان ، لعدم شهادة البينة بذلك ، ولذلك كان من قبيل ضمان ما لم يجب ، يعني : ضمان ما لم يعلم أنه وجب ، لعدم ثبوت البينة بثبوته ، فيحتمل أن يكون من ضمان ما لم يجب.

وفي المسالك حمل عبارة الشرائع على إرادة ضمان الجامع بين الثابت وقت الضمان وغيره ، فإنه لا يصح ضمان الجامع المذكور ، ثمَّ قال : « فعلى هذا لو صرح بقوله : ما يشهد عليه ان كان ثابتاً وقت الضمان ، فلا مانع‌

٣٢٦

ولا للتعليل الذي ذكره بقوله : « لأنه لا يعلم ثبوته في الذمة » إلا أن يكون مراده في صورة إطلاق البينة المحتمل للثبوت بعد الضمان. وأما ما في الجواهر [١] من أن مراده بيان عدم صحة ضمان ما يثبت بالبينة من حيث كونه كذلك ، لأنه من ضمان ما لم يجب ، حيث لم يجعل العنوان ضمان ما في ذمته لتكون البينة طريقا ، بل جعل العنوان ما يثبت بها ، والفرض وقوعه قبل ثبوته بها. فهو ـ كما ترى ـ لا وجه له [٢].

______________________________________________________

من الصحة كما لو ضمن ما في ذمته ، ولزمه ما تقوم به البينة إن كان ثابتاً ». وكأنه أخذه من جامع المقاصد ، فإنه في شرح عبارة القواعد المتقدمة قال : « لو قال لعدم دلالة عقد الضمان على ضمان ما في الذمة حينئذ لكان أولى ، وتخرج العبارة على أن المراد لعدم العلم بثبوته من صيغة الضمان .. » يعني : أن صيغة الضمان بالمعنى المذكور لا تدل على ضمان ما ثبت ، لان ما ثبت أخذ بنحو الاجمال والإهمال لا بنحو الإطلاق. فلا يتوجه عليه ما في الجواهر ، من أنه إذا أخذ مطلقاً كان اللازم البناء على الصحة على تقدير شهادة البينة بالثبوت حال الضمان ، فلا وجه لإطلاق البطلان. فإنه يتم لو كان المراد مطلق ما تشهد به البينة ، وليس كذلك بل المراد ما تشهد به في الجملة.

[١] قال في الجواهر : « ولعل الأولى تفسير ذلك بإرادة بيان عدم صحة ضمان ما يثبت بالبينة من حيث كونه كذلك ، لأنه حينئذ من ضمان ما لم يجب ، ضرورة عدم جعل عنوان الضمان في ذمته والبينة طريق لمعرفته ، بل كان العنوان ما يثبت بها ، والفرض وقوعه قبل ثبوته. ومن هنا أردف التعليل المزبور في المختلف بقوله : فلا يصح لأنه ضمان ما لم يجب ».

[٢] إن كان المراد أنه لا وجه للحكم المذكور على تقدير كون المراد‌

٣٢٧

( مسألة ٣٠ ) : يجوز الدور في الضمان [١] ، بأن يضمن عن الضامن ضامن آخر ، ويضمن عنه المضمون عنه‌

______________________________________________________

ذلك فوجهه ظاهر لأنه من ضمان ما لم يجب. وإن كان المراد أنه لا وجه لحمل العبارة عليه لأنه بعيد ، فهو ليس بأبعد مما ذكره من الحمل.

وبالجملة : عبارتا الشرائع والقواعد ونحوهما تحتمل معاني كثيرة قد حملها كل واحد من الأكابر على واحد منها ، فحملها في مفتاح الكرامة على عدم العلم حال الضمان بالثبوت حاله ، فيكون من ضمان مجهول الثبوت ، وهو غير صحيح ، لاشتراط العلم بالثبوت حال الضمان. وحملها في المسالك وجامع المقاصد على ضمان ما لم يكن مفروض الثبوت حال الضمان. وحملها في الجواهر على ضمان ما عنون بعنوان غير ثابت حال الضمان. وحملها المصنف على عدم العلم حتى بعد الضمان بالثبوت ، لعدم حجية البينة ، والمحامل الثلاثة الأخيرة بعيدة جداً عن العبارات المذكورة. والمحمل الأول وإن كان قريباً بالنظر الى نفس التعبير ، لكنه بعيد عن سيرة الأصحاب ، إذ لو كان العلم وقت الضمان بثبوت الدين شرطاً للضمان كان اللازم عده في جملة شرائطه التي فصلت في كتبهم ، لا إهماله والإشارة إليه بمثل هذه العبارة. مضافاً إلى عدم الدليل على شرطيته غير عموم نفي الغرر ، وهو غير ثابت. ولذا بني على عدم اشتراط العلم بمقدار الدين المضمون. وأما تأييد الشرطية بالعقل ـ على ما ذكر في مفتاح الكرامة ـ فغير ظاهر. هذا بالنظر الى كل من الاحتمالات في نفسه. لكن إذا دار الأمر بينها فالأقرب ما ذكره في المسالك وجامع المقاصد.

[١] كما صرح به جماعة ، وفي الجواهر : « لا إشكال في جواز الدور. خلافاً للمحكي عن الشيخ في المبسوط ، فمنعه ، لصيرورة الفرع أصلا وبالعكس ، ولعدم الفائدة فيه ».

٣٢٨

الأصيل. وما عن المبسوط من عدم صحته لاستلزامه صيرورة الفرع أصلا وبالعكس ، ولعدم الفائدة لرجوع الدين كما كان مردود بأن الأول غير صالح للمانعية [١] ، بل الثاني أيضاً كذلك [٢]. مع أن الفائدة تظهر في الإعسار واليسار [٣] ، وفي الحلول والتأجيل ، والاذن وعدمه. وكذا يجوز التسلسل بلا إشكال [٤].

( مسألة ٣١ ) : إذا كان المديون فقيراً يجوز أن يضمن عنه بالوفاء من طرف الخمس أو الزكاة أو المظالم أو نحوها من الوجوه التي تنطبق عليه [٥] ، إذا كانت ذمته مشغولة بها فعلا ، بل وإن لم تشتغل فعلا ، على إشكال.

______________________________________________________

[١] إذ لا محذور في صيرورة الفرع أصلا ولا في عكسه.

[٢] إذ لا محذور فيه ، لان مجرد عدم الفائدة لا يوجب الخروج عن إطلاق الأدلة المقتضية للصحة.

[٣] كما تقدم نظير ذلك في المسألة السابعة والعشرين.

[٤] كما في الجواهر ، أولا شبهه في جوازه كما في المسالك ، أو الظاهر عدم الخلاف فيه عند الأصحاب كما عن مجمع البرهان.

[٥] تارة : يكون المراد نقل الدين من ذمة الفقير الى مصرف الخمس أو غيره ، بأن يكون المتعهد المصرف الخاص. وأخرى : يكون المراد النقل إلى ذمة الضامن ويكون الأداء من الحق الخاص ، وثالثة : بأن يكون المراد التعهد بالوفاء من الحق الخاص من دون اشتغال ذمته بالمال ، لان التعهد كان بالوفاء لا بالمال. أما الأول : فتتوقف صحته على ولاية الضامن على الحق بحيث يجعله مديناً للمضمون له ، نظير ما إذا‌

٣٢٩

( مسألة ٣٢ ) : إذا كان الدين الذي على المديون زكاة أو خمساً جاز أن يضمن عنه ضامن للحاكم الشرعي [١] ،

______________________________________________________

اشترى ولي الزكاة علفاً لانعام الصدقة ، فإن الثمن يكون على الزكاة لا على ، الولي ، فإذا لم يكن له ولاية على الحق لم يصح منه أن يجعله مدينا للمضمون له. وثبوت هذه الولاية غير واضح من الأدلة ، خصوصاً في الخمس ورد المظالم والكفارات ونحوها من الحقوق التي يجب تمليكها الى الفقير ، فإنه لا تبرأ ذمة من عليه الحق إلا بالتمليك ، والوفاء على النحو المذكور ليس تمليكا. أما ما لا يجب فيه التمليك كالزكاة فإنه قد تبرأ ذمة المالك بالصرف في مصارفها من دون تمليك. لكن الولاية للمالك على هذه الاستدانة عليها غير ثابتة. بل ثبوتها للحاكم الشرعي غير ظاهر ، لقصور أدلة ولاية الحاكم الشرعي عن شمول مثل ذلك ، وإن كانت له ولاية على الاستدانة عليها إذا قضت الضرورة بذلك ، لكن عموم الولاية لما نحن فيه بحيث يجعل الضمان على الزكاة غير ثابت. مضافاً إلى أنه قد تقدم في المسألة الرابعة والعشرين أن نقل الدين من ذمة المضمون عنه الى نفس المال المعين لا يصح عند المصنف ، فكيف صح هنا عنده؟!. وأما الثاني : فهو أوضح إشكالا ، لأن صرف الحقوق في الوفاء عن ذمة المالك لا يصح في الزكاة فضلا عن غيرها ، فلا يصح اشتراطه. وأما الثالث : فهو وعد بالوفاء لا يجب العمل به ، ولا يوجب انتقال الدين من ذمة المضمون عنه إلى ذمة أخرى.

[١] لأنه الولي عليه ، فيكون هو المضمون له ، لأن المراد من المضمون له من له ولاية المال ، سواء كان مالكاً له أم ولياً عليه وإن لم يكن الدين مملوكاً لمالك كالزكاة. وإن شئت قلت : المضمون له الجهة المختص بها المال ، والحاكم ولي عليها ، فبقبوله يتم الضمان. وكذلك الحكم في‌

٣٣٠

بل ولآحاد الفقراء ، على إشكال [١].

( مسألة ٣٣ ) : إذا ضمن في مرض موته ، فان كان بإذن المضمون عنه فلا إشكال في خروجه من الأصل ، لأنه ليس من التبرعات ، بل هو نظير القرض والبيع بثمن المثل نسيئة [٢]. وإن لم يكن بإذنه فالأقوى خروجه من الأصل كسائر المنجزات. نعم على القول بالثلث يخرج منه [٣].

( مسألة ٣٤ ) : إذا كان ما على المديون يعتبر فيه مباشرته لا يصح ضمانه [٤] ، كما إذا كان عليه خياطة ثوب‌

______________________________________________________

الصدقات المعينة للجهات إذا كانت دينا فضمنه للجهة المعينة اعتبر قبول الولي الخاص إن كان ، وإلا كان القبول من الحاكم الشرعي. كل ذلك لعموم الأدلة المقتضية للصحة.

[١] ظاهر ، لأن آحاد الفقراء لا يملكون المال ، بل ولا حق لهم فيه ، إذ لا دليل على شي‌ء من ذلك ، فلا ولاية لهم عليه.

[٢] كما صرح بذلك في المسالك وغيرها.

[٣] كما جعله الأصح في الشرائع ـ قال (ره) : « إذا ضمن المريض في مرضه ومات فيه خرج ما ضمنه من ثلث تركته على الأصح » ـ لبنائه على خروج المنجزات من الثلث ، وقوله (ره) : « خرج ما ضمنه من ثلث تركته » ظاهر في الضمان التبرعي الذي يحتاج الى المخرج ، إذ الضمان المأذون فيه لا نقص فيه مالي كي يحتاج الى مخرج.

[٤] لامتناع انتقاله إلى ذمة غير المديون ، لان ما في ذمة غير المديون ليس مصداقاً لما في ذمة المديون. اللهم إلا أن يقال : لا مانع من تعهد غير المديون بفعل المديون ، فمباشرة الخياطة مثلا إنما تقتضي اعتبار صدور‌

٣٣١

مباشرة ، كما إذا اشترط أداء الدين من مال معين للمديون [١] وكذا لا يجوز ضمان الكلي في المعين [٢] ، كما إذا باع صاعاً من صبرة معينة ، فإنه لا يجوز الضمان عنه والأداء من غيرها مع بقاء تلك الصبرة موجودة.

( مسألة ٣٥ ) : يجوز ضمان النفقة الماضية للزوجة [٣]

______________________________________________________

الخياطة من المديون ولا تقتضي اعتبار اشتغال ذمته به ، فيجوز أن يتعهد غير الخياط بفعل الخياط ، بأن يستأجر زيد على خياطة ثوب ، ويشترط أن يكون المباشر للخياطة عبده أو أجيره.

[١] يمكن مجي‌ء الإشكال السابق فيه أيضاً ، بأن يتعهد زيد بالوفاء من مال عمرو ، فاعتبار الوفاء من مال معين لا يقتضي اختصاص التعهد به بمالك المال ، بحيث لا يمكن أن يتعهد به غيره وتشتغل ذمته به.

[٢] لا يخفى أن الكلي في المعين ليس ثابتاً في ذمة فلا يكون ضمانه من ضمان ما في الذمة ، الذي هو موضوع كتاب الضمان ، على ما عرفت في الشرط الثامن. ومع غض النظر عن ذلك فلو ضمنه بقصد الأداء من تلك الصبرة لا مانع من صحته ، ولو ضمنه بقصد الأداء من صبرة أخرى مع بقاء تلك الصبرة لم يصح ، لأن الأداء من الصبرة الأخرى ليس أداء للمضمون ، بل أداء لغيره.

[٣] قال في الشرائع : « ويصح ضمان النفقة الماضية والحاضرة للزوجة ، لاستقرارها في ذمة الزوج دون المستقبلة ». ونحوه في القواعد بإسقاط التعليل. وحكي عن كثير من كتب القدماء والمتأخرين. وفي مفتاح الكرامة عن مجمع البرهان : « لعله لا خلاف فيه » ثمَّ قال : « وهو كذلك ». وفي الجواهر في الماضية نفي الخلاف والاشكال. ويظهر من المسالك التسالم على الحكم في الماضية والحاضرة.

٣٣٢

لأنها دين على الزوج. وكذا نفقة اليوم الحاضر لها إذا كانت ممكنة في صبيحته ، لوجوبها عليه حينئذ [١]. وإن لم تكن‌

______________________________________________________

[١] قال في الشرائع : « الزوجة تملك نفقة يومها مع التمكين » ، وظاهره أنها تملك نفقة اليوم في أول اليوم مع التمكين ، كما لعله صريح القواعد ، حيث قال : إنها تملك النفقة في صبيحة اليوم. وظاهر المسالك : أنه لا اشكال فيه. وكذا ظاهر غيرها. وعلله في المسالك : بأنها تحتاج الى الطحن والخبز والطبخ ، إذ الواجب عليه دفع الحب ونحوه ومئونة إصلاحه ، لا عين المأكول مهيئاً ، عملا بالعادة ، فلو لم يسلم إليها في أول النهار لم تنله عند الحاجة ». ويشكل بمنع الاكتفاء بدفع الحب ونحوه ، إذ هو خلاف إطلاق النفقة والرزق ، وإلا لأجزأ دفع الصوف والقطن في نفقة الكسوة. مع أنه لو سلم ذلك كان اللازم الدفع في الوقت الذي لا بد منه في تحصيل المأكول والملبوس ، فقد يقتضي تقديمه على اليوم ، كما هو الغالب ، فان دفع الحب لا يكفي في أكله الصبح ، وقد يقتضي تأخيره عن الصبح إذا كانت المقدمات تتهيأ في جزء يسير من الزمان. وبالجملة : تعيين أول اليوم لا دليل عليه ، ومقتضى الأدلة حصول الملك عند الحاجة. ولذلك اعترف في الجواهر : بأن أدلة الإنفاق لا تقتضي الملك ، فضلا عن ثبوته في صبيحة اليوم. لكن الظاهر من قوله تعالى : ( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (١) هو الملك. اللهم الا أن يحمل الرزق والكسوة على المصدر لا العين. لكن لازم ذلك السقوط بخروج الوقت ، فلا تقتضي إذا فاتت ، وهو خلاف المتسالم عليه. وكون العادة جارية على البذل لا ينافي ذلك إذا كان البذل مع التراضي ، فإنه يجوز وفاء الدين بغير جنسه إذا كان مع التراضي.

__________________

(١) البقرة : ٢٣٣.

٣٣٣

مستقرة لاحتمال نشوزها في أثناء النهار ، بناء على سقوطها بذلك [١].

______________________________________________________

[١] الاحتمالات في نفقة الممكنة في أول اليوم إذا نشزت في أثناء النهار ثلاثة : الأول : أن تكون ثابتة في ذمة الزوج أول اليوم ، ولا يجوز استرجاعها إذا طرأ النشوز في أثناء النهار. الثاني : أن تكون ثابتة في الذمة أول اليوم ويكون النشوز مسقطا لها بعد الثبوت. الثالث : أن تكون ثابتة في الذمة أول اليوم ثبوتاً مراعى باستمرار التمكين ، فاذا نشزت في أثناء النهار انكشف عدم الثبوت من أول الأمر. والذي يقتضيه إطلاق الأدلة هو الأخير ، لأن النشوز مانع من استحقاق النفقة ، فإذا حصل في أثناء النهار انكشف عدم الاستحقاق من أول الأمر. ودعوى : حصول الاستحقاق بالتمكين أول اليوم ، فيكون النشوز مانعاً من بقائه وموجباً لسقوطه بعد الثبوت. لا دليل عليها ، ولا تساعدها أدلة المقام ، كما أن الزوجية موضوع النفقة فإذا زالت بالموت أو الطلاق انكشف عدم الحكم لعدم موضوعه. ودعوى : أن الموضوع هو الزوجية في صبيحة اليوم ، فاذا كانت زوجة حينئذ استحقت نفقة اليوم تامة ، غير ظاهر من الأدلة. ومن ذلك يشكل ما في القواعد من أنها إذا ماتت أو طلقها في أثناء النهار لم يسترد النفقة لأنها ملكتها. كما يشكل الفرق بين الطلاق والموت وبين النشوز حيث حكم في القواعد أيضاً بالاسترداد فيه دونهما إذا طرأ في أثناء النهار ، على إشكال ، من تقديم القبض الموجب للملك قبل النشوز ، ومن أن التمكين شرط في ملك النفقة. إذ لا يخفى أن دخل الزوجية في استحقاق النفقة آكد من دخل التمكين فيه ، فكيف لا يكون فوات الزوجية بالموت أو الطلاق موجباً لفوات الاستحقاق وفوات التمكين موجباً لذلك؟! وفي بعض عبارات القواعد أنه لا تسترد النفقة في الطلاق‌

٣٣٤

وأما النفقة المستقبلة فلا يجوز ضمانها عندهم ، لأنه من ضمان ما لم يجب. ولكن لا يبعد صحته ، لكفاية وجود المقتضي وهو الزوجية [١]. وأما نفقة الأقارب فلا يجوز ضمانها بالنسبة الى ما مضى ، لعدم كونها دينا على من كانت عليه [٢] ،

______________________________________________________

في أثناء النهار ، وتسترد في موتها أو موته أو نشوزها. وهو كما ترى.

فاذاً التحقيق أن الجميع من باب واحد ، وأن فوات كل منها موجب لفوات الاستحقاق. والملك في أول اليوم إن تمَّ فهو مراعى ببقاء الموضوع والشرط ، ومع انتفاء واحد منهما ينكشف فوات الاستحقاق من أول الأمر.

وعلى هذا فصحة ضمان النفقة الحاضرة مراعاة ببقاء التمكين. وأما ما ذكره المصنف من احتمال ثبوت الملك أول النهار ، ويستقر باستمرار التمكين فإذا طرأ النشوز بطل التمليك. فهو ظاهر التعبير بالاسترداد في كلام الجماعة. قال في المسالك : « وأما الحاضرة فلا إشكال في وجوبها وثبوتها في الذمة مع التمكين. أما استقرارها ففيه نظر ، مبني على أنه لو نشزت في أثناء النهار هل تسترد نفقة ذلك اليوم أم لا؟ فيه خلاف ، يأتي إن شاء الله الكلام فيه » وظاهر أن القائلين بالاسترداد يقولون بالسقوط بعد الثبوت ، لا أنه كاشف عن عدم الثبوت من أول الأمر » كما عرفت أنه ظاهر الأدلة. وكيف كان فالإشكال في كون الملك لتمام نفقة اليوم أول اليوم أو أن الملك يكون حين الحاجة إلى النفقة بالنسبة إلى أبعاضها في اليوم ـ كما هو ظاهر الأدلة ـ لا ينافي صحة ضمان النفقة الحاضرة بناء على الملك ، لحصول الملك واشتغال الذمة المصحح للضمان على كل حال.

[١] قد تقدم الاشكال فيه في الشرط الثامن من شروط الضمان فراجع.

[٢] فلا تقتضي بلا خلاف أجده فيه ، بل ظاهر بعضهم الإجماع عليه.

٣٣٥

الا إذا أذن للقريب أن يستقرض [١] وينفق على نفسه ، أو أذن له الحاكم في ذلك [٢] ، إذ حينئذ يكون دينا عليه [٣]. وأما بالنسبة الى ما سيأتي [٤] فمن ضمان ما لم يجب. مضافا الى أن وجوب الإنفاق حكم تكليفي [٥] ، ولا تكون النفقة‌

______________________________________________________

كذا في الجواهر. لكن قال بعد ذلك : « قد يشكل أصل عدم وجوب القضاء بأن الأصل القضاء في كل حق مالي لآدمي ودعوى : كون الحق منا خصوص السد الذي لا يمكن تداركه ، واضحة المنع بعد إطلاق الأدلة المزبورة ، وحرمة العلة المستنبطة عندنا ». وفيه : أن أدلة النفقة للأقارب قاصرة عن إثبات ملك المال. ففي خبر حريز : « قلت لأبي عبد الله (ع) : من الذي أجبر عليه وتلزمني نفقته؟ فقال : الوالدان والولد والزوجة » (١) ‌ونحوه غيره. وهي ـ كما ترى ـ لا تعرض فيها لملك عين النفقة ، بل ظاهرها التكليف بالبذل للنفقة في زمان الحاجة إليها ، فلا موضوع له بالنسبة إلى الزمان الماضي ، فلا يتضح هذا الإطلاق المقتضي للقضاء.

[١] هذا واضح ، فإن الإذن كاف في صحة الاستقراض.

[٢] كما ذكره في الشرائع وغيرها ، ويظهر منهم المفروغية عن صحته.

[٣] لكن الدين يكون للمقرض ، لا للقريب المستقرض.

[٤] ظاهره خصوص المستقبلة.

[٥] إن كان مورد كلامه المستقبلة فكونها من قبيل الحكم التكليفي أيضاً غير ظاهر ، لعدم ثبوت هذا التكليف بالنسبة إلى الزمان المستقبل. نعم يتم بالنسبة إلى الزمان الحاضر لو بني على الاقتصار على ما تحت عبارة النصوص. أما بالنظر الى جواز مطالبة القريب بالنفقة ، وعرض الأمر على الحاكم الشرعي ، وإذنه في الاستدانة لها ، فيتعين البناء على عدم كونها تكليفا‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب النفقات حديث : ٣.

٣٣٦

في ذمته. ولكن مع ذلك لا يخلو عن إشكال [١].

______________________________________________________

بحتا ، بل على كون القريب يملك الإنفاق عليه أو النفقة ، إذ لو لا الملك والحق الوضعي لم تجز المطالبة إلا من باب الأمر بالمعروف. لكنه يختص بشرائط لا مجال له مع فقدها. وكذلك لو لا الحق الوضعي لا وجه لرفع الأمر إلى الحاكم ، ولا لإذنه بالاستقراض ، كما هو واضح. نعم لما كان الحق مردداً بين الحقين لا مجال للاستصحاب في إثبات القضاء ، لأنه من قبيل الاستصحاب الجاري في المفهوم المردد ، وهو غير حجة ، فيتعين الرجوع في وجوب قضائه إلى أصالة البراءة ، فهو حق وضعي لا تكليف محض.

[١] لما عرفت. مضافا الى بنائهم على صحة ضمانها ، فقد ذكر في القواعد : أنه يصح ضمان النفقة الحاضرة للقريب دون الماضية والمستقبلة. وفي التذكرة : « أما نفقة اليوم فالأقرب جواز ضمانها ، لوجوبها بطلوع الفجر ». ونحوه في المسالك وعن مجمع البرهان. ومن المعلوم أن الضمان لا يصح في التكليف ، فلا بد أن يكون الإنفاق حقاً مالياً مملوكاً للقريب ويكون المضمون هو ذلك الحق المالي. وإن كان ظاهر كلامهم أن المضمون عين النفقة ، كما يقتضيه أيضاً سوقها مساق نفقة الزوجة التي يكون المضمون منها عين النفقة بلا شبهة. لكن لا مجال للأخذ بهذا الظاهر ، إذ لا دليل عليه ، بل لا يتناسب مع فتواهم بعدم قضاء الماضية.

والذي يتحصل مما ذكرنا أمور : ( الأول ) : أن وجوب الإنفاق ليس من باب التكليف ، بل من باب الحق المالي. ( الثاني ) : أن هذا الحق في الزوجة لما كان مشروطاً بالتمكين وعدم النشوز لا يكون ثابتاً الا عند الحاجة مع حصول الشرط ، ولا يثبت قبله. وما ذكره الأصحاب من أن نفقة اليوم تثبت للزوجة عند طلوع الفجر غير ظاهر ، بل تثبت نفقة الصبح عند حصوله مع الشرط ، ونفقة الظهر عند حصوله كذلك ،

٣٣٧

( مسألة ٣٦ ) : الأقوى جواز ضمان مال الكتابة [١] سواء كانت مشروطة أو مطلقة ، لأنه دين في ذمة العبد [٢] وإن لم يكن مستقراً لإمكان تعجيز نفسه [٣]. والقول بعدم الجواز مطلقاً [٤] ، أو في خصوص المشروطة معللاً بأنه‌

______________________________________________________

ونفقة العشاء عند حصوله كذلك ، وكذلك نفقة القريب. وعلى تقدير البناء على ثبوت الملك عند الفجر فهو مراعى ببقاء الشروط ( الثالث ) : أن الفرق بين نفقة الزوجة ونفقة القريب : أن الأولى من قبيل ملك النفقة ، والثانية من قبيل ملك الإنفاق. ( الرابع ) : أن عبارة المصنف أهملت التعرض لنفقة القريب الحاضرة ، مع أنها أولى من غيرها بالتعرض ، لذكر الأصحاب لها بالخصوص من حيث جواز الضمان ، وإن كان التعليل الثاني كافياً في المنع عن ضمانها. لكن عرفت إشكاله. ( الخامس ) : أن التحقيق جواز ضمان نفقة القريب الحاضرة كنفقة الزوجة الحاضرة. كما ذكره الجماعة آنفاً. وكون الثابت في الثانية ملك العين وفي الأولى ملك الإنفاق لا يوجب الفرق بينهما في ذلك. فإن الإنفاق حق مالي في الذمة يقبل الانتقال منها إلى ذمة أخرى ، وليس من قبيل الحكم التكليفي الذي لا يقبل ذلك ، فكما أن الخياطة إذا كانت ديناً يجوز ضمانها كذلك الإنفاق.

[١] وفي الشرائع : أنه حسن. وفي التذكرة والقواعد : أنه أقرب. وحكى عن الإرشاد والتحرير والمختلف. وفي جامع المقاصد : أنه الأصح وفي المسالك : أنه يصح. وحكي نحو ذلك عن غيرها.

[٢] هذا مما لا خلاف فيه حتى من الشيخ (ره) ، كما سيأتي كلامه ووجه خلافه.

[٣] لأنه إذا عجز نفسه بطلت المكاتبة ، فتبرأ الذمة من مالها.

[٤] ذكره الشيخ في المبسوط ، لأنه لا يلزم العبد في الحال ، لأن‌

٣٣٨

ليس بلازم ولا يؤول إلى اللزوم. ضعيف كتعليله [١].

______________________________________________________

للمكاتب إسقاطه بفسخ الكتابة للعجز ، فلا يلزم العبد في الحال ، ولا يؤول إلى اللزوم ، لأنه إذا أداه أعتق وإذا أعتق خرج عن أن يكون مكاتباً ، فلا يتصور أن يلزم في ذمته مال الكتابة بحيث لا يكون له الامتناع من أدائه ، فهذا المال لا يصح ضمانه ، لأن الضمان إثبات مال في الذمة والتزام لأدائه ، وهو فرع لزومه للمضمون عنه ، فلا يجوز أن يكون ذلك المال في الأصل غير لازم ويكون في الفرع لازماً ، فلهذا منعنا من ضمانه. وهذا لا خلاف فيه. انتهى. هذا وفي المسالك : أن موضع الخلاف الكتابة المشروطة كما بينا ، إذ لا خلاف في المطلقة ، فإطلاقها من المصنف غير جيد. انتهى وما ذكر غير ظاهر ، لإطلاق عبارة المبسوط ، وقد صرح جماعة بأن الخلاف لا يختص بالمشروطة كما ذكر في الشرائع. نعم ما حكاه في الشرائع من أن بناء الشيخ (ره) على جواز تعجيز العبد نفسه يختص بالمشروطة ، وأنها الجائزة دون المطلقة يقتضي اختصاص خلافه بها دون المطلقة ، وإن كان هذا التخصيص من الشيخ غير ظاهر.

[١] قد يظهر من العبارة تعليلان للحكم. الأول : أن مال الكتابة في ذمة العبد غير لازم. وهو كما ترى أولاً : من أجل أن عدم اللزوم غير مانع من صحة الضمان ، فيكفي في الضمان الثبوت في الذمة ، كما سبق في شرائط الضمان ، فيكون كضمان الثمن في مدة الخيار. وثانياً : أن المشهور المنصور لزومه من جهة العبد ، قال في الشرائع : « الكتابة عقد لازم ، مطلقة كانت أو مشروطة. وقيل : إن كانت مشروطة فهي جائزة من جهة العبد ، لأن له أن يعجز نفسه. والأول أشبه ، ولا نسلم أن للعبد أن يعجز نفسه ، بل يجب عليه السعي ، ولو امتنع يجبر. وقال الشيخ : لا يجبر وفيه إشكال ، من حيث اقتضاء عقد الكتابة وجوب‌

٣٣٩

وربما يعلل : بأن لازم ضمانه لزومه ، مع أنه بالنسبة إلى المضمون عنه غير لازم ، فيكون في الفرع لازما مع أنه في الأصل غير لازم [١]. وهو أيضاً كما ترى [٢].

( مسألة ٣٧ ) : اختلفوا في جواز ضمان مال الجعالة قبل الإتيان بالعمل ،

______________________________________________________

السعي ، فكان الأشبه الإجبار. لكن لو عجز كان للمولى الفسخ ». وما ذكره مقتضى القواعد ، كما أشار إليه في كلامه ، لأن الأصل اللزوم.

[١] هذا هو التعليل الثاني من التعليلين الذين ذكرهما في عبارة المبسوط المتقدمة. ويحتمل أن مفاد العبارة تعليل واحد ، وهو هذا الأخير. وحاصله : أنه لا يجوز ضمان غير اللازم ، لأنه يؤدي الى أن يكون الفرع غير لازم والأصل لازما. فيكون الأول من قبيل الصغرى له.

[٢] لأنه لم يتضح وجه منعه من صحة الضمان ، إذ يكون من قبيل ضمان الثمن في مدة الخيار.

والذي يتحصل في الاشكال على الشيخ : أنه إن كان المانع من صحة ضمان مال الكتابة هو الجواز مطلقاً. ففيه أولاً : أنها ليست جائزة. ولو سلم فليس بمانع ، إذ لا دليل على منعه. وإن كان الجواز الذي لا يؤول إلى اللزوم ولذلك افترق عن ثمن البيع الخياري. ففيه : ـ أيضاً ـ أنه ليس بفارق ، ولا دليل على الفرق به. وإن كان قاعدة عدم جواز زيادة الفرع على أصله. ففيه : أنها ليست قاعدة عقلية على نحو يجب تخصيص الأدلة الشرعية لأجلها.

كما أن المتحصل في الاشكال على المصنف : أنه جزم أن الأول تعليل للمنع ، واحتمل أن يكون الثاني تعليلاً ثانياً ، مع أن الأولى العكس وأن الثاني هو تعليل الحكم ، ويحتمل أن يكون الأول تعليلا آخر ، كما يحتمل أن يكون تمهيداً للتعليل الثاني ، نظير الصغرى للكبرى.

٣٤٠