موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٥

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٥

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

المائة حصان برخوتها وحليّها (١).

سفير ايران :

ثم إن سفير ايران مصطفى خان بعد أن عاد من زيارة العتبات توالت الأخبار عما وقع في ايران فعرض الوزير أحمد باشا الأمر لدولته بما وصلت إليه الحالة فأمرت بتأخير هدايا الطرفين في بغداد إلى أن يتبين الشاه. وبقي مصطفى خان ينتظر ما سيتم.

وكان من جملة هدايا نادر شاه إلى السلطان فيلان يجيدان المصارعة واللعب العجيب ، وخيمة من الديباج محبّرة بالذهب. بعض اعمدتها فضة ، وبعضها ذهب وأوتادها فضة وأطنابها من الابريسم المطعم بالذهب وطرازها محبوك باللؤلؤ الجيّد. ومن بين الهدايا المرسلة عرش الشاه. كان جلس عليه يوم مذاكرات الصلح فأمر أن يقدم إلى السلطان. أبدى ذلك معير خان للسفير العثماني (٢).

تزوج عائشة خانم :

رأى الوزير أن أحمد آغا مستكمل المزايا وقام بخدمات مهمة ولذا زوجه ببنته عائشة خاتون المستجمعة لصفات الكمال والأدب فهي درة زاهرة ، وجوهرة باهرة. كذا نعتها صاحب الحديقة. ومثله أو قريب منه في دوحة الوزراء (٣).

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ١٠٣ ـ ١١٢ وحديقة الزوراء ص ٢١٣.

(٢) دوحة الوزراء ص ١٠٣ ـ ١١٢ وحديقة الزوراء ص ٢١٢ وتاريخ العراق بين احتلالين ج ٣ وتخت السلطنة المهدى إلى السلطان مرصع باللآلىء وكان من عمل الهند ذكره صاحب جهانكشاي نادري ص ٢٥٩. وفي دوحة الوزراء تفصيل المذاكرات. وجاء صك المعاهدة في ص ٩١ من الدوحة. وفي كتاب (معاهدات مجموعة سي) ج ٢ ص ٣١٥.

(٣) حديقة الزوراء ص ٢١١ ـ ١ ودوحة الوزراء ص ١١٢.

٣٢١

وفي تاريخ نشاطي في ٢ ربيع الأول جرى العقد ، وفي ١٢ منه وقع الزفاف وأرخ بقصيدة تركية كما أن عبد الرحمن السويدي قال قصيدة فيها تاريخ الزواج.

وجاء في كتاب عنوان الشرف أن عبد الله باشا والي بغداد تزوجها بعد وفاة زوجها المذكور (١).

أكراد العمادية :

ثم علم الوزير أن أكراد العمادية وعشائرها صاروا يقطعون الطرق ويعيثون بالأمن. فأرسل الكتخدا سليمان باشا لتأديبهم (٢).

سليم باشا بابان :

قالوا : إن متصرف بابان سليم باشا تابع الايرانيين مدة. وبعد وفاة نادر شاه راسل العجم وطلب منهم قوة لضبط بغداد. وأسس معهم مناسبات فعزم على تأديبه بنفسه قطعا لغائلة الشقاق. فرتب جنوده وسار إليه. وكذا أرسل أمرا إلى الكتخدا سليمان باشا أن يتحرك إلى الوجهة التي قصدها وأن يجتمعوا هناك.

سار الوزير وفي اليوم الخامس من حركته ورد إليه والي كركوك مرتضى باشا ثم وصل إلى (حسن دبه). ومنها إلى (تابين) ، حتى ورد (قمچوقة) ، ولما كان سليم باشا لا قدرة له على المقاومة فرّ مع أخيه (شيربك) إلى رؤوس الجبال أقام سليم باشا في حصن سروچك (سروجق) وشيربك التجأ إلى حصن قمچوقة. فأول عمل قام به الوزير أنه هاجم حصن قمچوقة فأحاط به من كل صوب فقتل من قتل وأسر من

__________________

(١) عنوان الشرف. تأليف ياسين العمري. لا يزال مخطوطا منه نسخة بخط مؤلفه لدى الأستاذ المرحوم أحمد ناظم العمري. وفيها بعض النقص.

(٢) حديقة الزوراء ص ٢١٢ ـ ٢ ودوحة الوزراء ص ١١٢.

٣٢٢

أسر ولم ينج شير بك إلا بشق الأنفس. وفي اليوم التالي شوهد أن لم يبق أثر لهم ، فاستولى الوالي على الحصن.

وعن هذا الانتصار كتب عبد الله الشاوي من الأعيان وكان مصاحبا للوزير يخبر أهل بغداد بهذا النصر.

وللشيخ عبد الرحمن السويدي قصيدة في هذه الوقعة تاريخها سنة ١١٦٠ ه‍ (١).

ثم إن الجيش توجه نحو سروچك على سليم باشا فوصل إلى كيچينه ، وبعدها سوسة ، وبعدها (دپه رش) ، ثم (سرچنار) ، وهناك حدث ريح زعزع. ومنها وافوا (دپه كل) ، ثم (بستانسور) ومنها مضوا إلى (سروچك) وحينئذ حاصروا سليم باشا ولكن هذا الموقع كان رديء الهواء والماء. مرض فيه أكثر أفراد الجيش. ومات منهم مقدار كبير. وإن المرض سرى إلى الوزير فانحرف مزاجه.

وفي هذه الأثناء لم ير سليم باشا بدا من الطاعة والانقياد فأرسل ابنه إلى الوزير وتعهد بالخدمة الكاملة ونظرا لمرضه قبل منه ذلك وعفا عنه ... فاضطر إلى العودة (٢).

وجاء في تاريخ نشاطي أن الوزير مضى إلى (سروچك) ، فاتخذ المتاريس وحاصرها من جميع أطرافها. أمهل أهليها يومين بالتسليم فورد الجواب مع والدة سليم باشا ، فتقدم الفيلق ، وبقي الخازن وبعض الأتباع في (بستانسور) ، وأمر الوالي أن يمضوا بالحرم ومعها أحمد آغا صهر الوزير ، فجاؤوا إلى سراي خالد باشا في محل يدعى (سيد صادق) ، وذهب الجيش لجهة القلعة. وكان هذا المحل رديء الهواء أكثر من

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ١١٢ وتاريخ نشاطي وحديقة الزوراء ص ٢١٤ ـ ٢.

(٢) دوحة الوزراء ص ١١٣ وحديقة الزوراء ص ٢١٣.

٣٢٣

شهرزور ولا يقيم فيه الأكراد إلا صيفا أو خريفا ، وإن أمراء بابان يتصيدون فيه. فالسراي عمل لهذا الغرض.

ولما وصل الوالي طلبوا منه الأمان ، وأرسلوا أمهم إلى الوزير لهذا الغرض. واعتقد الوزير أن هؤلاء لا يفيد معهم الأمان ، فاتخذ التدابير الحربية ، وأحاط بالقلعة في جيشه ببنادقهم ومدافعهم ، وكان كتخدا البوابين حسين آغا توسط بأمر العفو ، فقبل طلب والدة سليم باشا. فعفا الوزير ، ورفع الحصار عن (سروچك). وفي اليوم التالي سار الوالي إلى محل سيد صادق ومنه إلى (بستانسور) ، فأقام الجيش يوما واحدا ثم عاد الوزير إلى بغداد ، فوصل إلى (گوز قلعة). وفي هذا المحل أذن لمرتضى باشا أن يذهب إلى كركوك محل وظيفته ، ونصب سليمان باشا آل خالد باشا على بابان ، وعثمان باشا على كوى ، وقوج باشا على إربل ، ومنح محمد بك (قراطاغ) ، وعبد الله بك (درنه) ...

وفي الجيش ظهرت علامات المرض. وفي ٣ شوال وافى محل (زادشت) ، ثم (عباسان) فأصيب الوالي بالمرض. وقطعوا مراحل. وفي ١١ شوال وصل إلى (زنگباد) ، وفي ١٢ منه جاؤوا (قره تبه) ، ومنها إلى (نارين) (١).

وفاة الوزير :

وفي طريقه توفي الوزير في (دلي عباس) المسماة الآن (ناحية المنصورية) قرب القنطرة يوم الخميس ١٤ شوال سنة ١١٦٠ ه‍ (٢). قالوا : فعم الأهلين حزن عظيم وأذرفوا عليه الدمع الغزير ... فدفن في مقبرة

__________________

(١) تاريخ نشاطي وفيه سعة.

(٢) بهجة الإخوان في ذكر الوزير سليمان. عندي نسخته المصورة من المتحفة البريطانية.

٣٢٤

الإمام الأعظم قرب مرقد والده يوم الجمعة ١٥ شوال.

إن وزارته وحكومته بلغتا نحو الثلاثين عاما. وفي تاريخ نشاطي أنه بلغ ٦٤ عاما.

وذكر قصيدة تركية بوفاته من نظم نشاطي وهو كاتب الديوان السيد عبدالله الفخري.

ويحكى عن نادر شاه أنه قال فيه : انسان كامل من أصحاب العقل والدراية ، كان يحذر حكومته مني كما أنه يخوفني بها. وبهذه الطريقة مضّى أوقات راحة (١). ولا شك أنه سيبقى ذكره خالدا ما بقي تاريخ نادر شاه ...

استفاد من الوضع كثيرا فعاد إلى بغداد ولم يعوّل على قوة المماليك وحدها بل إن خذلان من جاء بعده كان من أسباب عودته تغلبوا فلم يقدر الولاة على ردعهم فكان هو الدواء الشافي. يطيعونه ولا يعصون له أمرا.

وكان قاسيا على العشائر العربية والكردية وبهذه تمكن من إدارة حكومته. أطاعهم بالقسر والارهاق استخدم الكرد على العرب والعرب على الكرد فجعل الإدارة خالصة له.

وللسيد عبد الله أمين الفتوى ببغداد قصائد عديدة في ذكر وقائعه. وكان للسيد عبد الله الفخري (٢) وللسويديين قصائد كثيرة فيه ، ومنها ما جاء في مجموعة الفخري ، ومنها في المجموعات الأخرى وفي الحديقة.

__________________

(١) نتائج الوقوعات.

(٢) هو المعروف بشعره التركي بنشاطي ، وتاريخه سمي ب (تاريخ نشاطي). ويعد من خير التواريخ في تفصيله إلا أننا لم نجد نسخة كاملة منه.

٣٢٥

ولشناسي الشاعر التركي قصيدة في مدحه مذكورة في ديوانه. ومنه نسخة خطية برقم ١٧٨٦ في خزانة الآثار القديمة ببغداد. ورثاه الشيخ عبد الرحمن السويدي في قصيدة.

بقي في بغداد مدة اكتسب خلالها خبرة من والده حسن باشا ومن تجاربه ونال ثروة ، واشترى مماليك كثيرين. استخدم من أظهر منهم كفاءة لوظائف الحكومة ، وللملحقات. فهو المؤسس لحكومة المماليك. وبعد وفاته أرسلت الدولة ولاة لم يستطيعوا البقاء في الإدارة والتمكن منها مع وجود اعوانه في حين أن الولاية كانت توجه إلى من أظهر قدرة ولياقة في مناصبه ، ففشلوا ومن ثم تولى هؤلاء المماليك ونالوا نفوذا عظيما ولم يبق للدولة العثمانية إلا الاسم وبعض الطاعة ودامت ادارتهم مدة طويلة.

حوادث سنة ١١٦١ ه‍ ـ ١٧٤٨ م

الصدر الأسبق الحاج أحمد باشا

إيالة بغداد والبصرة :

إثر وفاة أحمد باشا بقيت بغداد والبصرة شاغرتين ولما علمت الدولة بالأمر فكرت في كتخدائية سليمان باشا ومحمد باشا وقاما مع الوزير بأعمال كبيرة فأبديا قدرة لا مزيد عليها. وكذا في (بغداد والبصرة) وإنهما تقعان قرب حدود ايران ، وهما مجمع العشائر وتحتاجان إلى تدبير وإدارة. فالضرورة تدعو أن تودع أمورهما إلى من حنكته التجارب. وبهذا الاعتقاد عدلت عن الكتخدائين ووقع الاختيار على أحد وزراء الدولة الحاج أحمد باشا الصدر الأسبق والي ديار بكر فوجهت إليه إيالة بغداد. وقصدها الحقيقي أن تكون الإدارة بيدها رأسا.

وأما البصرة فأودعت إلى أحمد باشا (الكسريه لي). وبقي ببغداد بالوجه المشروح.

٣٢٦

إن والي بغداد سار من ديار بكر وتوجه إليها فدخلها باحتشام وتمكن في الحكومة وزاول الأعمال ...

ورجحته الدولة لأنها لا تريد أن تعين أحدا من الأهلين فيكون وبالا عليها لما جربت من حوادث.

حوادث ايران وسفراؤها :

نال (علي شاه) السلطنة بعد نادر شاه سنة ١١٦٠ ه‍ فطلب اعتراف الدولة العثمانية. فأرسل محمد عبد الكريم خان أمير كرمانشاه بكتاب إلى السلطان يلتمس فيه أن يرعاه بعين عنايته وأنه مخلص لسرير الخلافة. كما كتب اعتماد دولته أخوه إبراهيم ميرزا إلى الصدر الأعظم كتابا في نفس الموضوع وكذا كتب الملا باشي إلى المشيخة الإسلامية ومضى هذا السفير ومعه الكتب من طريق بغداد.

ولما وردها كان الوالي الحاج أحمد باشا الصدر الأسبق فأكرم مثواه وأحسن ضيافته سوى أنه أخره وأخبر دولته كما أرسل ترجمة كتبه. ولملاحظة المصلحة من جانب الدولة لزم تأخيره لمدة ثم صدر أمر آخر بلزوم تسييره إلى استنبول فأرسل بصحبته مرافق ...

وفي كتاب الشاه يبدي أنه تمكن من السلطة. وأنه يؤيد الصداقة راغبا في استمرار الألفة والمصافاة (١).

شغب على الوالي :

قالوا : كان الوزير من رجال الدولة العاملين ، وهو صاحب قدرة على إدارة الأمور ويعد من أفذاذ العصر إلا أن القطر العراقي لا يستقر على وتيرة ولا يقف عند رأي. كما أن الخشونة بادية على الأهلين. وأن الينگچرية أصحاب فظاظة.

__________________

(١) دوحة الوزراء ١١٤ وفيها نص الكتاب.

٣٢٧

لذا يحتاج في إدارته إلى تدبير زائد وحكمة بالغة. فالصعوبة كل الصعوبة في ضبطه وسوقه إلى النظام.

كان الواجب يقضي بوجود وزير فعال ، مدبر ، وافر الحكمة وحسن الإدارة مع الشدة والشجاعة ... وهكذا كان الوزير ولكنه تعوزه المعرفة بطبائع الأهلين. حاول أن يذعن الأهلون له فبذل أقصى جهده. فكان ذلك داعية صعوبات وفيرة فأضجر الأهلين وصاروا يتذمرون منه. ولم تمض مدة يسيرة إلا وتزايدت النفرة منه وكثر القيل والقال عليه وبدت المعارضات من كل صوب.

أما الينگچرية فلا يطاق حالهم. ولا يستطاع الصبر على أعمالهم. وأول ما قاموا به أنهم كانت لهم مواجب في زمن أحمد باشا لمدة سنة ونصف جعلوها وسيلة المطالبة وسبب المكاشفة ...

بين لهم الوالي أنه ليس لديه من أموال الميري ولا من الأموال الخاصة ما يؤديه فاستمهل شهرين إلى أن يكتب إلى استنبول ويأتيه الجواب. فلم يوافقوا وأصروا. ومن ثم اشتعلت نيران الفتنة. واشتبك الفريقان. وثارت البنادق والمدافع من الطرفين فحاصروا الوزير في دار الإمارة وامتد القتال من الصباح إلى المساء ...

وعلى هذا تدخل المصلحون وتعهد الوالي أن يكتب ويأتي بالمواجب في خلال شهرين وتم الصلح فسكنت الفتنة.

ويقال إن أصل الفتنة أن الوزير لما وصل إلى بغداد انتسب إليه بعض الأهلين فامتثل أقوالهم بأن يجروه على سنن من قبله وقالوا له إن أردت أن تحكم في الرعية فاكسر أولا شوكة الينگچرية فبدأ بهم وظهر على لسانه أنهم لا يصلحون لخدمة الدولة وبالغ في أمرهم. فلما شاهدوا افعاله وسمعوا مقاله تحرك في أصاغرهم عرق الحمية وحصل لأكابرهم من ذلك حيرة. قالوا نحن أولو قوة وبأس ومن هذا حتى

٣٢٨

يتربص لنا بضرر؟ ... وكأنه يريد أن يتخلق بأخلاق المرحوم أحمد باشا! ، إن لم ينزجر قطّعنا أوداجه ...! فمن يكون هذا حتى يروم هذا المرام؟ فأرسل إليهم الذبائح كما هي العادة بينهم عند ارادة الصلح فأبوا وقالوا لا بد لنا من اخراجه فعاد الحرب بينهم سجالا ثم كسرهم وفرقهم فصالحوا عن ذلة وسالموا ...!

والظاهر أنه لم يعمل بسوى المرسوم فلم ينجح. وهنا لم يعين حزب الوالي. ثم إنهم عادوا فتعاهدوا وأقسموا أنهم لا ينفكون عن قتاله إلى أن يخرج ...

ولذا جمع الوالي في تلك الليلة أعوانه وجعلهم في دار الحكومة وملأ جامع السراي (١) أيضا بالعسكر ليأمن الغائلة فظن أن ذلك عين الصواب.

ثم إن الينگچرية لم يتعرضوا فلما أصبح الصباح تأهب للطوارىء فأشار عليه البعض أن يأخذ (القلعة الداخلية) بأمل أن يتسلط عليهم. أرسل مائة رجل بزيهم ليدخلوا القلعة وليقوموا بالعمل فكانت النتيجة أن عرف الغرض وغلقت أبواب القلعة وعرفت المكيدة فأطلقت في وجوههم النيران. ومن ثم ابتدأت الفتنة من جديد وعادت الحرب جذعة ...

وحينئذ تجمع الينگچرية وأوقعوا برجال الوزير وأحرجوهم على الحصار في دار الحكومة ودام القتال ثلاثة أيام. تسلطت خلالها مدافع الينگچرية من القلعة ومن الأسواق على دار الحكومة فدمرتها.

وحينئذ أرسل الوزير إليهم يطلب الصلح بالشروط التي يوافقون عليها فلم يقبلوا إلا أن يخرج فأعاد الرسول إليهم راضيا بالخروج

__________________

(١) هو جامع حسن باشا.

٣٢٩

فوافقوا على أن لا يخرج من ناحيتهم بل ألزموه أن يركب زورقا ويعبر إلى بستان الباشا (١) وتعهدوا أن يمر رجاله وخيله من الجسر ... عبر هو وأهله بزورق حتى وصل إلى البستان وكان فيها السفير أحمد باشا (الكسريه لي) فآواه وحرمه فاجتمعت عساكره لديه فعبر بهم من الشريعة البيضاء إلى الجانب الشرقي.

وتأنى بعض الأيام يرجو أن يصالحوه فأبوا وأقاموا مكانه رجب باشا السفير الثاني وكتبوا ما جرى إلى الحكومة ... لترى رأيها في الأمر.

ساعد الوزير في الوقعة الأولى كل من محمد باشا وسليمان باشا ولكنهما في الثانية حوصرا في داريهما ولم يدعهما المشاغبون أن يخرجا حتى رحل الوزير عن بغداد.

كان يرمى بعدم المعرفة بالمحيط. والحال أنه حاول تنفيذ سياسة الدولة فلم ينجح ، وأسندوا إليه أنه تابع المغرضين ولعل المحرك له نفس المماليك. حاولوا أن يوقع بالينگچرية ليصفو لهم الجو. ومهما كان الأمر فالحكومة لا تزال بيد المماليك فأوجدوا الشغب على الينگچرية للوقيعة بهم أو بالوالي. والدولة اختارت أكابر الرجال لكن التغلب كان مكينا.

الوزير أحمد باشا الكسريه لي :

قام هذا الوزير أيام الفتنة بالوسائل المهمة لتسكينها وأبدى السداد والاستقامة ، فأرضى دولته. فأرادت أن تقطع دابر هذا الاضطراب باستخلاص العراق وإنقاذه من أيدي المتنفذين. ولذا وجهت إليه إيالة

__________________

(١) هو بستان أحمد باشا. ويعرف اليوم ببستان المتولية.

٣٣٠

بغداد. توقف فيها من أجل إرسال الهدايا إلى ايران. ثم عين واليا للبصرة فلم يذهب إليها لأمر اقتضى فوجهت إليه الإيالة في هذه المرة (١).

ايالة الموصل والبصرة :

وجهت ولاية الموصل إلى الحاج محمد باشا الصدر السابق. ومنصب البصرة إلى الوزير حسين باشا الجليلي الذي كان في الموصل (٢).

أعمال والي بغداد ووقائعه

في هذه السنة أرسل إلى بغداد من خزانة الدولة مائة وخمسون ألف قرش نقودا وأحيلت خمسون ألف قرش من متروكات أحمد باشا الوالي المتوفى لتكميل المواجب (الرواتب) للطوائف العسكرية في بغداد عن سنتي ١١٥٩ ه‍ و١١٦٠ ه‍ فأعطوا ما يستحقونه سيّر ذلك صحبة كتخدا البوابين نعمان بك ولما وصل الفرمان جلس الحاج أحمد باشا الكسريه لي في منصبه وقام بما يقتضي من مصالح الدولة. وكان مدركا للأوضاع (٣).

ولاية البصرة توجه إلى سليمان باشا :

في أيام وزارته هذه كتب محمود ابن الشيخ عثمان الرحبي مفتي الحلة رسالة سماها (بهجة الإخوان في ذكر الوزير سليمان) لخص بها الحكومات السابقة ومنها تطرق إلى ذكره. كتب عن هذه الأيام فحسب.

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ١١٨.

(٢) كذا كذا.

(٣) كذا كذا.

٣٣١

إن سليمان باشا هو صهر أحمد باشا وكتخداه تخرج على يده في الإدارة والجندية فنال رتبة (مير ميران). وكانت بعهدته آنئذ ولاية أطنة. وفي أيام أحمد باشا قام بخدمات جليلة في بغداد والبصرة فضبط الأمور وأمّن الثغور والحدود وسائر المصالح ... فمآثره جليلة وجميلة في دفع الغوائل ، ورفع الشرور ... فكان رجلا قديرا وظهرت أعماله للدولة العلية عيانا.

يضاف إلى ذلك أن الوزير أحمد باشا كان قام بمصالح عسكرية ومقتضيات أخرى فاستدان مبالغ عظيمة لا تزال بذمته وهي (١٨٠٠) كيس كما أنه صرف على السفراء للمدة التي بقوا فيها ببغداد مبلغ ٤٨١٣٤ قرشا من الديون الأميرية بموجب الفرمان ... فتعهد سليمان باشا بدفع هذه المبالغ كلها وتسديدها من كيسه الخاص على أن يمنح الوزارة وكذا أرباب الديون التمسوا ذلك أيضا تأمينا لحقوقهم. رأت الحكومة أن لا مخرج من مأزق تأدية هذه الديون بغير هذه الطريقة وهي لا ترغب في إخراج فلس مما يدخل إليها. ولا حظت أيضا أن الاضطراب متوقع في أطراف البصرة بسبب مجاورتها لإيران لا سيما أن أكثر العشائر هناك سلك طريق الغي فلم يقدر أحد عليها سوى سليمان باشا. رأوه أهلا للقيام بأعمال كهذه ... هذا ما لاحظته الدولة وتيقنت صحته.

وعلى هذا منح ايالة البصرة برتبة وزارة على أن يقدم الوصولات من أرباب الديون ويؤديها بتمامها فأرسل إليه فرمان الوزارة والولاية وانفصل سلفه حسين باشا الجليلي ووجهت إليه ايالة أدنة (أطنة) (١).

عشيرة طيء :

في هذه السنة أرسل والي الموصل محمد باشا الترياكي عسكرا

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ١١٩ وعمدة البيان.

٣٣٢

لمحاربة هذه العشيرة فهربت ، ثم رجعت على الجيش ، وغنمت منهم (٣٤٦) فرسا وأمتعة أخرى (١).

حوادث ايران مع علاقات عثمانية :

لما جلس علي شاه على سرير الحكم في ايران وصار أخوه إبراهيم ميرزا خان اعتماد دولته كان الواحد يساعد الآخر إلا أن أرباب الزيغ أفسدوا ما بينهما فحدث الخلاف حتى انجر إلى الحرب.

هاجم علي شاه أخاه إبراهيم ميرزا بجيش قوي ولما لم يستطع مقاومته فر من وجهه فجمّع جيوشا من الأفغان والأزبك وغيرهما وأعلن سلطنته في أنحاء آذربيجان كما أنه تمكن من جلب الأمير أرسلان لجانبه وكان ممن ادعى الحكومة لنفسه فمشى على الشاه بجمع عظيم فاشتعلت نيران الحرب بينهما في صحراء بين سلطانية وزنجان ...

وفي هذه الحرب لم يظهر الغالب من المغلوب. وبينما هم كذلك إذ مال جيش الشاه إلى الميرزا وتابعه ... فبقي الشاه وحيدا مع بعض رجاله وحاشيته فاضطر إلى الهزيمة من وجه أخيه إبراهيم ميرزا فاستولى على خيامه ومعداته وأرسل سرية لتعقيب الشاه واقتفاء أثره فقبض عليه وجيء به إلى إبراهيم ميرزا فاكتفى بسمل عينيه.

وعلى هذا جلس على سرير السلطنة وقام بمهام الملك. ولكن الأمير أرسلان كانت له نوايا يضمرها فلم يتفق مع الشاه الجديد وابتدأت النفرة بينهما. ولذا انحاز الأمير أرسلان إلى جهة آذربيجان. وكذا الميرزا توجه إلى تبريز.

وبهذه الصورة اشتد الخصام في انحاء تبريز وأعد كل منهما عدته

__________________

(١) عمدة البيان.

٣٣٣

للحرب منتظرا ما تأتي به الأقدار. ومن ثم التحق جيش الأمير أرسلان بجيش الميرزا وقبض على كل من أمير ارسلان وأخويه صاري خان وحسن ميرزا وأعوانهم والمتعلقين بهم فأمر بقتلهم جميعا.

تيقن الميرزا أن لم يبق له مزاحم وصار شاها بالاستقلال. فقام بما يقتضي من لوازم الملك وكاتب الأطراف لجلب الايرانيين له وأخذ يخطب ودهم ...

وفي هذه الأثناء نهض شاه رخ ميرزا حفيد نادر شاه المتولد من بنت الشاه حسين الصفوي (ولي عهد نادر شاه) وجمع له جمعا عظيما مؤلفا من أكراد قوچان وخراسان والمواطن الأخرى فتألف لديه نحو ستين ألفا من طوائف مختلفة. جاء بهم إلى المشهد وتقلد سيف السلطنة.

كان استولى على خزائن ايران مما كان بيد نادر شاه وملك سائر المعدات والأدوات الكثيرة فتمكن من تجهيز الجيش. فأظهر سلطنته وصار يقارع إبراهيم ميرزا.

والحاصل أن ايران انتابتها الغوائل من كل صوب. وحاقت بها الفتن فكأنها لهيب نار.

وقبل أن ينجلي الموقف ورد كتاب مؤرخ في شوال سنة ١١٦١ ه‍ إلى مصطفى خان وكان أرسله نادر شاه إلى الدولة العثمانية فتوقف في بغداد ومؤداه أنه تفوق وتغلب على أخيه علي شاه فأعلن سلطنته واستقل في حكومة ايران وأنه ينهي إلى الدولة العلية اخلاصه وأنه على الصلح والمسالمة ويتوقع مكارم السلطان والتفاته الهمايوني. وذكر أنه وكل مصطفى خان لملاقاة الدولة العلية نيابة عنه.

أما الوزير والخان فإنهما كتبا ما جرى من الحوادث بتفصيلها إلى الدولة العثمانية. وأرسل الخان الكتاب الوارد إليه بعينه وقدمه إلى

٣٣٤

استنبول واستأذن في القبول والمواجهة فأطلع رجال الدولة على الحالة وأبانوا أن المصالحة القديمة لا تزال مرعية وأن إجابة سؤال الخان ينافي شروطها. مما لا يسع الدولة قبوله. فلم ترخص الخان في المقابلة وأنهي إلى الوزير أن يبقى الخان في بغداد إلى انتهاء أمر الاختلال في ايران إلا أنها أمرت بتلطيف مصطفى خان والعناية به وأرسلت إليه ألفي ليرة كما أرسلت إلى رفيقه السفير الآخر محمد مهدي خان ألف ليرة من الذهب الخالص هدية لهما من الخزانة الهمايونية مع ساعة مجوهرة لكل واحد منهما.

أما الوزير فإنه مضى بمقتضى الأمر حرفيا وأوصل إليهما الهدايا بعينها (١) ...

الصدر الأسبق الحاج محمد باشا :

حدث خلاف بين الجيش الأهلي وبين الطوائف العسكرية الأخرى في أمر محافظة بغداد واشتعلت الفتن لحد أنه لم يعد يسمع قول من أحد وزاد الشغب ... والسبب معروف.

عرض الوالي الأحوال على دولته. وكانت تفكر في اختيار من يصلح لإدارة بغداد وإنقاذها مما حاق بها فوقع الاختيار على والي الموصل آنئذ الصدر الأسبق الحاج محمد باشا لما رأته فيه من مزايا. كان من الينگچرية وله وقوف على أحوال الأفراد وله مهارة في ملاطفة الموظفين ومعاملتهم بالحسنى لتمشية الأمور بالوجه المطلوب ...

منح منصب وزارة بغداد بتاريخ ١١ ذي الحجة سنة ١١٦١ ه‍ كما أن ايالة الموصل عهدت إلى يحيى باشا والي (روم ايلي) (٢) فكتب إلى

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ١٢٠.

(٢) في تاريخ عزي أن إيالة ديار بكر وجهت إلى يحيى باشا الذي وجهت إليه قبل أيام إيالة الموصل ص ٨٨ ـ ١.

٣٣٥

والي بغداد الحاج أحمد باشا الكسريه لي أن يسلم ادارة بغداد ويتوجه إلى الاناضول ليأتيه الفرمان بوظيفته الجديدة.

وعليه امتثل الحاج محمد باشا الصدر الأسبق وتوجه إلى بغداد ليتسلم أعباء حكومته فوصل في أوائل سنة ١١٦٢ ه‍ وزاول مهام الأمور.

وفاة الحاج أحمد باشا الكسريه لي :

إن الدولة عهدت إليه بإيالة مرعش ورد الفرمان إليه وهو لا يزال في بغداد وحينئذ سلم جميع الودائع والأوراق والهدايا التي كانت أرسلت إلى نادر شاه بمحضر من العلماء والأعيان والأكابر ووضعت في المحل المعد لها وسجلت في دفاتر خاصة بمرأى من الدفتري على وجه المفردات وحفظت ...

ولم تمض مدة حتى مرض الوزير فوافاه الأجل المحتوم (١).

حياة هذا الوزير :

ورد خبر وفاته إلى استنبول في ١٣ جمادى الأولى لمرض اعتراه. وكان سفير الدولة إلى نادر شاه. ولد في (روم ايلي) في مدينة كسريه ثم ولي مناصب عديدة منها أمانة العاصمة وغيرها ، فشوهد منه كل إقدام وإخلاص.

وفي سنة ١١٥٧ ه‍ صار دفتريا للفيلق في أنحاء قارص. وهكذا حتى عهد إليه بمنصب الوزارة في سيواس. وفي أول المحرم من سنة ١١٦٠ ه‍ صار سفيرا إلى ايران فورد بغداد ومنها ذهب إلى الشاه فجرى ما جرى. دفن في مقبرة الإمام الأعظم ...

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ١٢١.

٣٣٦

وللمترجم أعمال خيرية (١).

مشادة بين الوزيرين :

إن الوزير محمد باشا ورد بغداد فرأى أن والي البصرة سليمان باشا لم يذهب. والسبب معلوم فاجتمع به وعلم نواياه وما يدعو إليه فصار كل منهما يسعى أن ينال المنصبين معا. أشيع ذلك على لسان أعوان سليمان باشا ، في كتاباته على الوزير محمد باشا ...

حصلت المشادة وأكثر الدعايات كانت من طريق أعوان سليمان باشا وفي الحقيقة إن سليمان باشا كان يهيىء لنفسه الفكرة ويدعو ويشاغب على وزير بغداد فيجتمع بالأعيان ورجال الإدارة ويغريهم عليه. وكلهم آنئذ من الدعاة له ...

سفر الوزير سليمان باشا إلى البصرة :

ومهما كان الأمر توجه سليمان باشا إلى البصرة وترك بغداد بأمل العودة ... ولما وصل كتب إلى دولته كتابا أنه وصل إليها في غرة ربيع الأول بيّن فيه أنه ساهر على مصلحة الدولة ، ومراع رغباتها. وفيه ترشيح ضمنا لنفسه لوزارة بغداد. قال :

إن عشائر المنتفق اغتنمت فرصة وفاة الوالي أحمد باشا فخرجت عن الطاعة وعاثت بالأمن. واختارت الشيخ بندرا أميرا لها ، واتفقت مع عشائر بني لام ، وعشائر الحويزة والمعادي (المعدان) ممن يسكن الأهوار ، فتجمعت في القرنة وأعلنت العصيان فاضطرب حبل الأمن وقام الوزير من بغداد فنازع هؤلاء قاصدا (البصرة) ولما ورد الحسكة جاءه محضر من العلماء والصلحاء وسائر الأهلين يشعر أن الشيخ بندرا

__________________

(١) تاريخ عزي ص ٢٠٣ ـ ١ وفيه تفصيل.

٣٣٧

أضر بالأنحاء المذكورة وأنهم حينما سمعوا بتوجه الوزير إليهم بادروا في البيان وأبدوا أنهم حاضرون للمعاونة والقيام معه ... فبقي فيها بضعة أيام نظم خلالها الأمور وقضى بعض اللوازم ثم تحرك متوجها نحو جمع العصاة لمقابلتهم ولكنهم لم يستطيعوا البقاء ولا المقاومة فتشتتوا. فروا إلى الصحارى والبوادي النائية وتمزق عقد جمعهم ... والباقون هربوا في الأهوار والتجأوا إلى الشيخ منها العثمان. وهذا اتفق مع المعادي (المعدان). ولما وصل العرجة نظم الجيش ثم عبر (الفرات) (١). وحينئذ هاجم (هور بني مالك) وفيه الشيخ مهنا مع العشائر. وكانوا تحصنوا في آجام القصب من أنحاء الهور. دامت الحرب نحو أربع ساعات. ومن ثم ضبط مكمنهم فانكسروا وفروا لا يلوون على شيء وقتل منهم ما يتجاوز الألف بينهم برهام وابنه كلب علي وأربعة آخرون من الرؤساء ونهب ما عندهم من مواش فقضى على العصيان في أنحاء البصرة كما أخمد غائلة بني كعب ورئيسهم مسطور الكعبي ، كان هاجمهم الجيش وقتل منهم نحو ٢٥ من مشاهير رجالهم وأحرقت سفنهم ... ولم يكن آنئذ في طاعة الحكومة سوى عشيرة الدواسر وهم في ثغر البحر ... ومن ثم اطمأن الناس وزال الخوف. وصار الذهاب والإياب من البصرة وإليها برا وبحرا أمينا.

ولما وصل الخبر إلى الدولة شكرت سعيه وأكدت عليه لزوم إتمام العمل بإنهاء الاضطرابات وحراسة الوضع بالقضاء على أهل الزيغ (٢) ...

اتخذ هذا الوزير كافة الوسائل لينال رضا الدولة تمهيدا لمطلوبه. هذا ولا ندري محل هذه الوقائع من الصحة بل الشبهة كل الشبهة في

__________________

(١) يسميه الترك (نهر مراد) وهكذا دعاه سليمان باشا فخاطبهم بما يعلمون.

(٢) تاريخ عزي ص ١٩٨ ـ ١.

٣٣٨

صحتها ... وإنما أراد أن يظهر بمظهر العظمة والقدرة.

وقائع جديدة :

قالوا : إن الوزير سليمان باشا بذل كل مجهوداته لتنظيم البصرة ، ومراعاة وسائل راحتها وجذبها إليه ... فأبدى :

أن البصرة اصابها القحط ولا يتيسر له البقاء فيها بحاشيته ولو نداته فاضطر أن يخرج منها. فأول هذا بالقيام على وزير بغداد فأشاع والي البصرة أنه رأى لزوم تأديب بعض العشائر والتنكيل بهم لتمردهم فأعلم الوزير محمد باشا بذلك فلم يرق له ذلك لعلمه أنه ينوي ترتيب الجيش وتمرينه واستهواء العشائر لجانبه. صار يخشى مما وراء ذلك. يقصد غير ما أظهر.

لذا حمل الوزير محمد باشا القضية على غير شكلها الظاهري فقدم إلى دولته شكواه منه ، وأبدى الخطر الذي سيحيق فيما إذا تغافلت عنه. ولكن سليمان باشا أظهر اخلاصه ، وأنه العبد المطيع وأن معارضة محمد باشا كانت لأمل منه. أما الدولة فإنها رأت ميلا لاحتمال أن ما عرضه محمد باشا صحيح منه.

وفي هذه الأيام اختلت أمور ايران ، وزادت الاضطرابات فيها. فكانت الدولة تحذر من وقوع حوادث فاحتاطت وأعطت الاحتمالات حقها من الاهتمام ...

كانت تخشى من حركة سليمان باشا وتخاف أن يحدث لها مشكلة بل عدت ذلك منه عين المشكلة. وحينئذ راعت الحكمة في خطتها ، وقررت لزوم نصحه وإقناعه بالحسنى فإذا لم تجد النصائح نفعا فلا ترى بدا من دفع غائلته بالقوة ، وأوعز إلى محمد باشا بذلك وأكد له في الأمر.

٣٣٩

ولم تكتف الدولة بهذه التدابير. وإنما احتاطت أكثر والتزمت سبيل الحزم فأرسلت والي سيواس الوزير محمد باشا الزازه لجهة بغداد ونصبته قائدا عاما وعينت ولاة حلب والرقة وديار بكر والموصل وأمراء الأكراد والعشائر وأمير ماردين ونبه الوزير ابراهيم باشا والي مرعش بصورة خاصة بحاشيته وزعماء الإيالة وأرباب التيمار أن يذهبوا على العجلة إلى بغداد لمحافظتها.

ولما علم الوزير سليمان باشا باهتمام الدولة بشأنه وتيقن بجميع ما كتبه محمد باشا عنه عرض لدولته الحالة وبين أنه المحق. فإن الغلاء استولى على البصرة فاضطر إلى الخروج وأنه لا يصح بوجه أن يقوم على دولته فيكفر نعمتها. وأن محمد باشا تجاوز عليه في الكتابة وحاول إسقاطه فصور سليمان باشا الوقعة بشكل مرض وأبدى أنه عند الاقتضاء يأتي بنفسه ليقابل جلالة السلطان لإيراد ما يبرىء ساحته مما عزي إليه.

وحينئذ أرادت الدولة أن تثبت من أقوال الاثنين وتقف على ماهية القضية فأرسلت مصطفى بك الميراخور على جناح السرعة فاكتشف الحالة واطلع على مجاري الأحوال وعرف أن ما كتب على سليمان باشا لا أصل له ، وظهر له صدق القول من سليمان باشا وسداد رأيه وإخلاصه لدولته فأخبرها بواقع الحال. والصحيح أن سليمان باشا لم يدع وسيلة موصلة إلى هدفه إلا فعلها. أمال مصطفى بك لجهته. ولا شك أن الذين يتحقق منهم ويستطلع آراءهم كانوا من جماعة سليمان باشا وأعوانه سواء من الموظفين أو غيرهم ، أو أنه شاهد الخطر فراعى جانب سليمان باشا ، أو أن الدولة أظهرته كذلك بعد أن عرفت حقيقة الوضع من رسولها مصطفى بك ، فصبته في هذا القالب.

ثم إن سليمان باشا كتب إلى دولته على حدة في براءة ذمته ، وأبدى اخلاصه وخدماته ، وكذا التمس واستدعى أن تضاف إليه حكومة

٣٤٠