موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٥

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٥

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

الثلاثاء فقطع المراحل حتى وصل إلى قريب من النهر إلى مرقد (عون بن علي) المعروف.

أما سلمان الخزعلي فإنه علم بوصول العساكر فجمع أطرافه القريبة والبعيدة ودعا العشائر. عدا من كان لديه من الخيالة والمشاة فصار يقسر الناس على الحرب ، وكذا وصل مدده من العشائر البعيدة وكان يأمل أن يسد طريق العسكر ويقطع خط رجعتهم. وبهذا الأمل حشد ما يربو على الأربعين ألفا بين مشاة وفرسان. هيأهم للوقيعة فعلم الوزير بذلك.

وفي اليوم التالي نهض الجيش من موطنه. يسير باحتراس وتوقّع للطوارىء من كل الجهات ، وكان أمل العشائر أن لا يقابلوا الجيش في هذا المنزل. ولما نزل قرب هذا النهر بنحو ثلاث ساعات أو أربع. شغل بتنزيل الاثقال وتهيئة ما يلزم. وبينا أصحاب الخيل على ظهور خيولهم قد شوهد أن سلمان الخزعلي حشد المشاة بين الأدغال في محل ضيق وصاروا يطلقون البنادق على الجيش. عبأوا المشاة وكذا الخيالة وظهروا على حين غرة. هاجموا هجوما عنيفا. فبدوا من وراء الستار. وحينئذ قابلهم الجيش واشتبكوا في القتال وبينا هم كذلك إذ سمعوا دوي المدفع كالرعد القاصف فرقوا شملهم وانتشروا كالجراد وحينئذ تولاهم الجيش من جميع جهاتهم وصاروا طعما للسيوف وولى سلمان الخزعلي الادبار. تعقبوا أثرهم ساعة أو ساعتين ونكلوا بهم تنكيلا مرا فعادوا منتصرين.

أوقع هذا الحادث في قلوب الاعراب الاضطراب وولد الخوف والهلع في نفوسهم. وبعضهم كان مكرها فأسرع بالطاعة ومال إلى الانقياد. هكذا قالوا.

ثم إن الجيش بقي يومين في ذلك المحل فرحل عنه ونزل عند النهر الجديد المراد حفره وحينئذ مسحوه فتبين أن طوله ٥١٧٠ ذراعا

١٨١

وعرضه ١٢٠ ذراعا وعمقه ٢٠ ذراعا. فشرعوا بالحفر. وأعطى كل فريق ما يلزم له من المساحي. وكذا ما يحتاج إليه من قزمات وغرائر وهزز (١) بدأوا في ٢٢ شهر رجب وامتد العمل إلى ٤٨ يوما ، وفي ١٢ شهر رمضان فتحوا السد بين النهر الجديد وبين الشط. وفتح المجرى. ولما كانت الأرض يابسة والنهر عظيما بقي الاتصال بمجراه القديم فلم يجد الحفر نفعا بالرغم مما صرف من جهود فلم ينجح.

جاء في هذا المحضر (٢) بيان جهودهم المبذولة إلا أنها لم تثمر.

قدموا المحضر ونهضوا من مكانهم في غرة ذي القعدة راجعين إلى بغداد.

وصل المحضر إلى القائد فعين ضابطا في الحسكة ومحافظا ورحلوا جميعا من طريق النجف وكربلاء إلى بغداد.

وفي أواخر هذا الشهر ورد كتاب من ضابط الحسكة ينبىء أن سلمان الخزعلي جاء إلى تلك الانحاء ، وطلب المدد من الوزير فلم يصل إليه في حينه. فتقدم سلمان واستولى على تلك الجهة (٣).

حوادث سنة ١١١٤ ه‍ ـ ١٧٠٢ م

أحوال بغداد ـ عزل الوزير :

في هذا الحين جاء الأمر إلى الوزراء بذهاب كل إلى محله. وفي

__________________

(١) القزمة آلة حفر تستخدم في الأماكن الصلبة أو الحجرية. وغرار ويقال لها بالعامية (هرار) واحدتها (هرارة). كيس من الشعر غير محبوك النسج. وأما (الهزّة) فإنها قطعة من هرارة معقودة من طرف منها لتوضع بين الرقبة والابط يحمل فيها التراب أو الاحجار ويرفع على الكتف فينقل إلى المحل المراد. وهي أشبه بالجاروكة إلا أنها عادية لنقل أمثال ما ذكر.

(٢) نصّ المحضر في كلشن خلفا ص ١٢١ ـ ٢.

(٣) كلشن خلفا ص ١٢٢ ـ ٢.

١٨٢

١٤ صفر عزل الوزير فأقام بضعة أيام بقرب الأعظمية فذهب إلى استنبول فوجهت إليه الصدارة في ربيع الآخر وتوفي في شهر رمضان. وهو شجيع غيور. له همة عالية. كتب رامي باشا رسالة سماها (اصطلاحات دالطبانية) تتضمن غلطاته اللغوية.

وكانت مدة حكمه سنتين وأربعة أشهر. ولي بغداد في ربيع الآخر سنة ١١١١ ه‍ (١).

الوزير يوسف باشا :

هذا الوزير حنكته التجارب. وهو عارف بالأحوال متحلّ بالاخلاق الجميلة ولائق من كل وجه. ولما عاد من سد نهر ذياب كان في منصب ديار بكر وبقي في بغداد ينتظر جواب المحضر. ومن ثم عهد إليه بمنصب بغداد فشرع في ادارة المملكة وتنظيم الحالة. بذل جهودا كبيرة في هذا السبيل (٢).

زلزال وريح سموم :

وفي ٢٠ صفر حدث زلزال في بغداد وأعقبه ريح السموم (٣).

تخفيف الضرائب وبيع المقاطعات :

وفي ٢١ ربيع الآخر وردت الفرامين بلزوم تخفيف الرسوم. ورفع البدع المحدثة ، وأن تباع المقاطعات فتم ذلك وبوشر ببيع الاملاك.

يوضح هذا أن السلطان أمر بإصلاح خزانة بغداد وأن تمضي على نظام ونصب محمد الدري من كتاب الديوان (دفتريّا) فقام بتنظيمها ورفع

__________________

(١) سجل عثماني ص ٤١٢. وكلشن خلفا ص ١٢٢ ـ ٢.

(٢) كلشن خلفا ص ١٢٢ ـ ٢.

(٣) كلشن خلفا ص ١٢٢ ـ ٢.

١٨٣

الرسوم المحدثة والبدع وجعل للجيش الأهلي لكل من صنف اليمين وصنف اليسار أربعمائة نفر ورتب عليهم رئيس حجاب وقرر لكل صنف مائتي أقچة أرزاقا ونصب (آغا) لكل منهما ورتب لآغواتهم أربعة آلاف قرش مصاريف سفرية (١).

الخزاعل :

وفي أواسط رجب ورد الفرمان إلى الوزير بتولي امارة الجيش فنصب خيامه في الجانب الغربي. وصار ينتظر ورود العساكر المأمورة وأن يؤلف الجيش المتطوع فأرسلت الدولة آغوات وبوشر بقيد ما يلزم من الجنود وأن الضباط الجدد وردوا بغداد في ٥ شعبان. نزلوا حول فيلق الوزير.

وجاء بغداد للغرض نفسه كل من محافظ ديار بكر الوزير حسن باشا ووالي قرمان علي باشا ووالي الموصل يوسف باشا. وردوا بعساكرهم وحجابهم وسائر أتباعهم ، فاحتشد الجميع في الجانب الغربي.

عزم الكل على حرب سلمان الخزعلي. أما هذ الشيخ فإنه ركن إلى الخدعة. فأرسل ابنه رهنا وأرسل والده عباسا الخزعلي وأبدى أنه يؤدي الضرائب لناحية حسكة كل سنة وطلب الأمان وبتوسط منلا بغداد (القاضي) قبل مطلوبه وترك أمر حربه (٢).

حوادث سنة ١١١٥ ه‍ ـ ١٧٠٣ م

ميزانية بغداد ـ قلمية الوالي :

في ٥ ربيع الأول ورد دفتري جديد عمل ميزانية الخزانة في الوارد

__________________

(١) كلشن خلفا ص ١٢٢ ـ ٢ ، وتاريخ راشد ج ٢ ص ٣٣٥.

(٢) كلشن خلفا ص ١٢٣ ـ ١.

١٨٤

والمصروف وتعيّنت قلمية الوالي. أتى بالدفاتر من جانب الدولة ولما لم تساعد المالية حرر له نحو خمسمائة جندي لكل من متطوعي اليمين واليسار مجددا فبلغوا ألف نسمة وسرّح ما زاد. وفي ٢٥ من شهر ربيع الآخر ورد الفرمان بمنصب البصرة إلى محمد باشا القبطان وبمنصب بغداد إلى الوزير علي باشا والي البصرة.

ثم أحدثت في الدولة بعض تبدلات فأعيد والي بغداد الوزير يوسف باشا إلى وزارته وأقر كل في محله ...

ولما علم أن المتسلم من جانب الوزير علي باشا وصل إلى مندلي (بندنيجين) كتب الوزير في بغداد إليه كتابا بلزوم عودته فعاد ولكن الوزير علي باشا لم يصغ إلى هذا القول وإنما أعاده إلى بغداد وسار هو من البصرة متوجها إليها.

والملحوظ أن محمد باشا صدر الفرمان بولايته البصرة ويسمّى (آشجي محمد باشا) ونبّه بلزوم أخذ الاسطول ، لتأمين الحالة في مسقط من البرتغال في حرب السواحل العربية. وجاء ذكر للفرقته وعددها والقليونات التي يجب أن يتخذها إلا أننا لم نر نتيجة ، ولم يظهر أثر (١).

عزل الوالي ـ الوزير الجديد :

كان الوزير يوسف باشا عزل ثم ورد الوالي الجديد علي باشا ونزل بالقرب من الأعظيمة. جاء المتسلم الجديد في ٢١ جمادى الثانية ثم ورد هو بنفسه بعد أربعة أيام أو خمسة ونزل دار الحكومة وأن الوالي السابق ذهب إلى استنبول. وفي هذا ما فيه من اضطراب في أصل الدولة.

__________________

(١) تاريخ راشد ج ٢ ص ٥٩٤ ، وكلشن خلفا ص ١٢٣ ـ ١.

١٨٥

الوزير علي باشا :

ولي وزارة بغداد للمرة الثانية. وكان موصوفا بالدروشة ، واسع الخلق مشتهرا بالصلاح ، عفيف الذيل وهو فارس مشهور ، بذل جهوده في استقرار الحالة. كان ممتطيا جواده دوما ، يتجوّل ، فأبدى قدرة. وجلّ همه أن يقضي على أعمال أهل الشرور.

وفي هذه المرة طالت حكومته أكثر (١).

حوادث سنة ١١١٦ ه‍ ـ ١٧٠٤ م

والي البصرة :

وفي أوائل هذه السنة أبدى والي البصرة محمد باشا القبطان شدة في حكومته تجرأ على الناس ، ولم يتحاش من أحد. وفي أواخر هذه السنة توفي وكان لازم الفراش بضعة أيام ورد بذلك محضر إلى الوزير فأعلم دولته. وحينئذ عهد إليه بمنصب البصرة وعهد بولاية بغداد إلى الوزير حسن باشا والي ديار بكر. وكان ورد إليها في حادثة نهر ذياب.

ابتدأت حكومة الوزير السابق في ٢١ جمادى الثانية من سنة ١١١٥ ه‍ وانتهت في ١٣ صفر من سنة ١١١٦ ه‍ (٢).

وقائع بغداد :

إلى آخر أيام هذا الوزير علي باشا مضت حقبة كانت فيها أعمال الولاة مجملة لقلة ما قاموا به كما أن المصادر لم تكشف عنها. فالوثائق التاريخية المعاصرة والتواريخ الرسمية لم نجد فيها وضوحا وإن كانت أوسع من العهد السابق. وجل ما عرفنا أنهم لم يعملوا عملا يذكر.

__________________

(١) كلشن خلفا ص ١٢٣ ـ ١.

(٢) كلشن خلفا ص ١٢٣ ـ ٢.

١٨٦

لم تفسح الدولة المجال لهؤلاء الولاة ليستقلوا بالادارة. ومع هذا كانت بعيدة وتابعة لمواهب الولاة. تحسن مرة وتسوء مرات.

ويصح أن نعدّ الأيام التالية خاتمة للحكم المباشر للدولة وفيها سعة في السلطة والخير للعراق أن يؤسس فيه النظام ، وتتمكن الطمأنينة.

إن بقاء العراق تابعا لعاصمة الدولة أضرّ به من جهة ، وكلف الدولة كلفا زائدة. ولعلّ أهم سبب في ذلك وقائع بكر صوباشي ، والعلاقات الايرانية ، وسوء الادارة والاشتباه من أعمال الولاة ، واضطراب أصل الدولة.

وعندنا الادارة مصغرة من تشكيلات الدولة لا تعرف سوى ما عندها ، ولم تدرك تثبيت ما عندنا والجري بموجبه فكل هذا مما دعا للنفرة وعدم المألوفية.

إن صفة الحكم المباشر لم تزايل هذه الإدارة وإن كانت بدت أوصاف جديدة في (توسيع الإدارة) فهي تابعة لمواهب الوزراء وما فيهم من قدرة.

عهد جديد

أو أيام سبعة وزراء

حصل تجدد في الإدارة في هذا العهد غير مقصود من الدولة. وإنما تيسر للوزير حسن باشا وابنه أحمد باشا ما لم يتيسر لأحد قبلهما من حسن التنظيم. ولحق بهما إدارة وزراء آخرين بلغ الكل (سبعة وزراء). كنت أفردت كتابا خاصا بهؤلاء سميته (تاريخ سبعة وزراء) ، وهو تال لما مرّ بيانه إلا أني اخترت أن أوحدهما. وهنا أشير إلى أن هذا العهد يمتاز بحنكة في الإدارة لو لا أن آخره تشوش واضطربت فيه الحالة أيام نادر شاه وهجومه المتوالي على العراق وأيام نزوع المماليك إلى الإدارة.

١٨٧

الوزير حسن باشا

ويعرف هذا الوزير ب (حسن باشا الجديد). والأيوبي (١) ومحلة (جديد حسن باشا) باسمه ، وكذا جامع السراي وهو الجامع السليماني سمي باسمه فقيل (جامع جديد حسن باشا). عهد بالوزارة إليه في ١٣ صفر واشتهر بالقدرة وحسن الإدارة. وأول من أفرد له مناقب خاصة به (يوسف المولوي) شيخ المولوية ببغداد ، وسمى هذه المناقب ب (قويم الفرج بعد الشدة) أو (السيرة المولوية في المناقب الحسنية). وذكر صاحب گلشن خلفا وقائعه مفصلا. وأوسع من كتب (الشيخ عبد الرحمن السويدي) في كتابه (حديقة الزوراء في تاريخ الوزراء) ترجمه وابنه أحمد باشا. ثم جاء صاحب دوحة الوزراء وذكر أحواله ، وهكذا جاء ذكره في (تاريخ نشاطي) وفي التواريخ الرسمية للدولة.

أثنوا عليه ، وأبدوا حنكته ومهارته في الإدارة والحروب. توسعوا في حياته. حدث في عهده هدوء وطمأنينة. وكان العراق في أشد الحاجة إليهما. فأزال الاضطراب ، وقضى على التغلب.

وأصله من محل قريب من بلدة (دبرة) ، سكن مع والده قصبة (قترين). وفي سنة ١١٠٩ ه‍ نال وزارة وولي مناصب عديدة منها منصب الرها فانتصر على الموالي رؤساء طيىء. وفي سنة ١١١٤ ه‍ ولي آمد (ديار بكر) ، فأطاعته عشائر (الملية) من الكرد (٢).

وفي ١٣ صفر سنة ١١١٦ ه‍ ولي بغداد وفيها بدت مواهبه ، وتجلت أعماله ، فنال شهرة ذائعة ، وفي حديقة الزوراء ولي بغداد سنة ١١١٧ ه‍. وليس بصواب (٣).

__________________

(١) نسبة إلى محلة أبي أيوب الانصاري في استنبول.

(٢) الملية عشائر كردية جاء ذكرها في عشائر الشام للأستاذ وصفي زكريا.

(٣) قويم الفرج بعد الشدة ، وكلشن خلفا ص ١٢٣ ـ ٢ وحديقة الزوراء.

١٨٨

أحوال بغداد :

لم تهدأ بغداد إلا بدخول السلطان مراد الرابع. والولاة حالهم ما ذكرنا. وفي سنة ١١٠١ ه‍ حدث الطاعون ، فبدّل الحالة وشوش الإدارة أكثر. فظهرت الفتن وتغلبت العشائر ، فاضطربت الأوضاع. ومن ثم جاء هذا الوزير بغداد ، فكانت أيامه من خير العهود. كان استطلع الأحوال ، وعرف الشيء الكثير قبل أن يصل إليها بل اتصل بها اتصالا مباشرا فأسس النظام داخلها ، وتوجه إلى الخارج ، فتسلط عليه بقوة. راعى الحزم وأبدى المصلحة. توضح ذلك كله من وقائعه المتوالية. وفي أيامه تنفس الأهلون الصعداء. بدأ الإصلاح فنجح. وللدولة اهتمام بأمر بغداد لبعدها عن العاصمة ، ولمجاورتها ايران. ومن أهم ما قام به أن وجه آماله نحو التسلط على العشائر ، فكانت سيطرته قاهرة. أرضت الدولة بالرغم من قسوتها.

عشائر الغرير والشهوان :

قالوا : كانوا أشد ضررا. عاثوا في طريق كركوك والموصل. وقطعوا السبل ، فلم يدعوا قرية عامرة حتى انتهبوها. طار شرهم إلى أنحاء ديار بكر. عجزت الدولة عن مقارعتهم مدة ، فاحتاط الوزير للأمر. وأعدّ له عدته ، فاتخذ بعض الوقائع منهم وسيلة. كانوا انتهبوا (كلكا) ورد من الموصل وكذا قطعوا طريق كركوك ، فتجمعت الأسباب.

جهز الوزير جيشا لجبا نحوهم ، فلما سمعوا بذلك أرسلوا مائتي فارس بالهدايا ، وأبدوا أنهم على الطاعة ، وكذبوا ما نسب إليهم تكذيبا باتا ، وقالوا : نتعهد بحفظ الطريق ، ونسلك سبيل الأمان ... فحمل ذلك على أنهم يقصدون تثبيط عزم الوزير ، عدّ ذلك خديعة منهم.

وكانوا تحصنوا (بالخانوقة) (١) ، جعلوا فيها أهليهم تقع على

__________________

(١) رحلة المنشي البغدادي ص ٨٧.

١٨٩

شاطىء دجلة. أمامها الماء وسكر عظيم (١) من السكور القديمة ، فلم يستطع أحد العبور إليها لشدة جريان الماء. وفي غربيّها (غابة) ملتفة بالأشجار وخلفها وشرقيها جبال شامخة. تقرب من الموصل بنحو ثلاث مراحل ...

شاهد الوزير هذا المكان ، فأرسل من ورائهم ثلاثة آلاف تمنعهم من الفرار ، فاتخذ مرتفعا هناك فوجه إليهم المدافع فأمطرت عليهم بالقنابل ، وتسلط بها عليهم ، فنالت هدفا منهم حاولوا الهرب إلى الغابة ، وحينئذ زاد الخطر. فاضطروا أن يخرجوا منها ، وكانوا نحو سبعة آلاف منهم ثلاثة آلاف فارس والباقون مشاة. وكلهم تعودوا الحروب ، وتمرنوا عليها.

حاربوا حرب مستميت ، فلم يصبروا أكثر من ثلاث ساعات ثم انهزموا من وجه الوزير. وفي هذه الحالة وجدوا الرصد بانتظارهم. فنالوا منهم ما نالوا ، ولم ينج إلا القليل ، صاروا طعما للسيوف ، وألقي القبض على رئيسهم ، وطلب الباقون الأمان. فأمنهم الوزير ولم يدع مجالا للاعتداء على النساء ، لكن أموالهم صارت نهبا بأيدي الجنود. وبعد أن تمت الحرب أطلق الوزير سراح النساء وكن في حرز حريز ، ففرحوا بذلك. وكان الجيش قديما لا تسلم منه النساء. وبئس الجيش الذي لا يستطيع أمراؤه ضبطه والتمكن منه (٢).

انتهت هذه الواقعة بانتصار الوزير. وأعلنها للعشائر الأخرى

__________________

(١) السكر سدّ قديم جاء ذكره في كتاب رحلة تافرنيه. راجع العراق في القرن السابع عشر ، نقله إلى العربية الأستاذان بشير فرنسيس وكوركيس عواد ص ٧٠ وص ١٤٥ ورحلة ريج ج ٢ ص ٢٩ ورحلة المنشي البغدادي ص ٨١.

(٢) حديقة الزوراء ، وقويم الفرج ، وكلشن خلفا ص ١٢٤ ـ ١.

١٩٠

يحذرها (١). وكنت تكلمت على عشيرة الغرير (٢) وأما الشهوان فقد سكنوا لواء كركوك ، وتكونت منهم ناحية (شوان). نسيت لغتها وصارت كردية ، أو كادت ، ومنها من يقيم الآن في أنحاء الموصل. ومنهم من يقول إن شوان كردية الأصل. ومعناها الراعي. ولكن حوادثها متعينة. ولعل الأيام تكشف أكثر (٣).

أذعن للوزير بهذه الطاعة من أذعن من العشائر ، وعصى من عصى ، ولم يلتفت للانذار والقصد إلقاء الحجة.

هذا. وجاء في كتاب عمدة البيان في تصاريف الزمان أن هؤلاء من البو حمدان ، وأن الوزير حاربهم في الخانوقة ونهب وقتل وسلب. ولا يزال الغرير يدعون أنهم من البو حمدان (٤).

زيارة المشاهد :

ثم ذهب الوزير إلى زيارة سلمان الفارسي (رض). وبقي هناك بضعة أيام في الصيد. اتخذه وسيلة لسبر المواطن. ثم عاد. وفي شوال ذهب لزيارة كربلاء والنجف. وفي طريقه مرّ بنهر الشاه. وزار مشاهد الكوفة ، ومنها مضى إلى ذي الكفل ، فالحلة ومنها جاء إلى خان النصف (النص). وجده مهدما فعمره (٥).

وفي كل هذه التجولات لم يقطع في غزو جهة. وإنما كان يترصد المواطن والأوضاع الملائمة فجاء في عودته إلى الدورة. والملحوظ أن خان النص هو الخان القريب من مخفر الشرطة بين الاسكندرية

__________________

(١) نص الكتاب في قويم الفرج.

(٢) عشائر العراق ج ١ ص ٢٥٣.

(٣) عشائر العراق ج ٢ ص ١٦٣.

(٤) عمدة البيان ، حوادث سنة ١١١٦ ه‍.

(٥) حديقة الزوراء وكلشن خلفا ص ١٢٤ ـ ١.

١٩١

والمحمودية. وهو الآن مندثر. ومثله (خان الحصوة) أهمل في هذه الأيام. (وخان الناصرية) اندثر من مدة. وهذه في طريق بغداد ـ الحلة. والدورة متصلة ببغداد وهي اليوم ناحية من نواحيها.

عشائر بني لام :

في سنة ١١١٦ ه‍ غزاها الوزير. وكانت لم تذعن بالطاعة ، ولا أدت التكاليف المطلوبة بل هاجمت بعض القرى. وهي من أقوى العشائر شكيمة ، تقع حجر عثرة في طريق بغداد ـ البصرة. تجاوزت حتى بلغت (خان بني سعد). ومن أيام السلطان سليمان القانوني إلى اليوم لم تذعن للولاة. وكلما تضايقت مالت إلى ايران لتكون بنجوة. وعشائرها كثيرة جدا. تتفق مع شيوخ المنتفق ، ومع أمراء الحويزة دائما.

قصدها الوزير ، فلم يجد لها أثرا. رحلت عن منازلها ومضت إلى مضيق طور سنجاق (طور سخ). كمنوا في مواقع هناك خفية عن الانظار في الجبل المسمى ب (جبل البستان). وجعلوا أهليهم في مضيق منه. تتبع الوزير أثر هذه العشيرة حتى عثر على الكمين ، فظهروا على حين غرة. خرج من جيش الوزير عدة اشخاص بينهم (باش آغا) أي آغا الينگچرية. وحينما علم الوزير ساق جيشه عليهم ، وحمل بمن معه ، فانتصروا. وكان جماعة منهم مضوا إلى (شاه نخجير) بأمل أن يحرسوا أموالهم وأهليهم. التجأوا إلى اللّر الفيلية ولكن الوزير لم يتركهم ، ولم يبال بالعقبات ، حتى وصل إلى مواقعهم. فغنم الجيش أموالهم ، ولم يتعرض للنساء ، فأخمد ثورتهم ، وأمن الطرق ، وعاد إلى بغداد. غزوة ناجحة. نهب وعاد. وهو المطلوب (١).

__________________

(١) قويم الفرج ص ٤٥ ـ ٥٠ وحديقة الزوراء وكلشن خلفا ص ١٢٤ ـ ٢ وعشائر العراق الريفية ج ٣.

١٩٢

والملحوظ أن (طورسخ) أو (ترسخ) ويقال لها بالتركية (تورساق) بلدة مندثرة ، أطلالها مشهودة تقع في يمين الجدول المعروف بهذا الاسم. وتأتي مياهه من خلال الجبال ومن المحل المسمى (ده بالا). وتتفرع منه شاخات يمينا ويسارا يزرع عليها. وتبعد تلك الاطلال عن زرباطية نحو سبع ساعات من شماليها ، والمضيق يسمى باسمها.

والجبال هناك كل منها يعرف باسم خاص. ويقال لها (جبل البستان) أو قسم منه والجبل الأصلي يدعى (كبير كوه) أو (كور كوه). والعوام يقولون (جبل الفيلية). والوجه الناظر منه إلى ايران يسمى (پشكوه) والمطل على العراق يقال له (پشتكوه) ، وهو القسم الغربي منه أي ما وراء الجبل والطريق بين زرباطية ومندلي إلى الجبل يعد من پشتكوه و(شاه نخچير) من مواطن پشتكوه (١).

حوادث سنة ١١١٧ ه‍ ـ ١٧٠٥ م

ماسة نفيسة :

كان الحديث في بغداد في أوائل هذه السنة يدور حول ماسة نفيسة عثر عليها جسار في الحلة. رأى حجرا براقا فباعه لآخر بثمن بخس. وهذا باعه لصراف يهودي بثمن أكثر. وحينئذ شاع الخبر في الحلة وتحدث الناس به فدعا إلى نزاع بين المشتري والبائع فوصل الخبر إلى ضابط الحلة. وهذا استولى عليه وقدمه إلى الوزير. وكانت هذه الماسة لا يقتنيها إلا الملوك لنفاستها. عرضت على الجوهريين فتحقق للوزير أنها من أفخر أنواع الماس ، زنتها نحو ١٥ قيراطا أو ١٤ (٢). كانت في غاية الصفاء والبهاء. حجمها بقدر الباقلاء. أما الوزير فإنه ختمها

__________________

(١) كلشن خلفا وسياحتنامه حدود ص ١٠٠.

(٢) في كلشن خلفا على رواية أنها ٢٥ قيراطا.

١٩٣

وقدمها هدية إلى السلطان لعلمه أنه اللائق بها (١). ولم يبينوا شيئا عن أخذها من المالكين الأولين.

زيارة المشاهد في سامراء :

في أواسط هذه السنة توجه الوزير لزيارة الإمامين علي الهادي وحسن العسكري في سامراء فأنعم على الفقراء والخدام. ثم ذهب يتصيد في تلك الفلوات فعاد. وغالب ما تكون أمثال هذه الزيارات مقدمة تأهب لغزو وهكذا وقع (٢).

الخزاعل وحادثة حسكة :

ثم عزم على أن يقضي على الشيخ سلمان العباس الخزعلي. قالوا كان سبب فتنة العشائر في أنحائه ، وكانت الخزاعل قليلة العدد إلا أنها اكتسبت بمهارة رئيسها الشهرة الكاملة وانقادت لها العشائر لحد أن صار رئيسها يدعي الإمارة على العرب وصاهر عشائر كثيرة فتجمعت له أعراب البادية والتفت حوله.

ولما شعر أنه في عدة كاملة سوّلت له نفسه أن يملك بغداد فاستولى على الحسكة وهي من أحسن ضياع العراق. فأقدم الوزير على حربه وساق إليه جيشا قويا وشن الغارة من بغداد في أربعة أيام وثلاث ليال. فوصل الحسكة فلم يجد له أثرا فقيل له إنه انهزم إلى السماوة. وهناك حاول أن يجمع العشائر للقتال فلم توافقه. حذروا أن يصيبهم ما أصاب بني لام فلم يبق معه إلا اتباعه فاستولى الوزير على أمواله وعياله. وحينئذ كتب إلى الأطراف يدعوها إلى العودة فعادت وتعهدت بالمحافظة على السكينة وأن لا تميل بعدها إلى شيخ الخزاعل. وضع

__________________

(١) حديقة الزوراء وقويم الفرج وكلشن خلفا ص ١٢٤ ـ ٢.

(٢) كلشن خلفا ص ١٢٤ ـ ٢.

١٩٤

المدفع على سور الحسكة وأمر أن يحافظ عليها من الهجوم.

رأى الشيخ حالته هذه غير مرضية فأرسل ابنه إلى الوزير يطلب الأمان فلم يوافق الوزير أن يبقى في تلك الأنحاء وأمنه بنفسه وأهليه ولكن لم يأمن أن يسلم. فهرب إلى البصرة فأجاره شيخ المنتفق.

ثم إن الوزير بعد أن أمن تلك الأطراف نصب فيها بعض المحافظين ولم يكن يخطر بالبال أنه سوف يمزق جيش الخزاعل البالغ نحو أربعين ألفا. ورجع إلى بغداد في أواخر جمادى الثانية (١).

حوادث البصرة

البصرة والأمير مغامس :

كان والي البصرة محمد باشا القبطان توفي في أوائل سنة ١١١٦ ه‍ ، فعهد بمنصب البصرة إلى والي بغداد علي باشا فذهب إليها. وبقي فيها إلى أن عزل ، فصار مكانه خليل باشا ورد بغداد في جمادى الثانية من سنة ١١١٧ ه‍ وتوفي علي باشا قبل أن يصل إلى بغداد بثلاثة منازل في طريق عودته وصلت جنازته في سلخ رجب. فدفن بمقبرة الأعظمية.

استفاد الأمير مغامس بن مانع أمير المنتفق من انحلال البصرة فلم يبق فيها سوى المتسلّم ، فاستولى عليها. استغل فترة تبدل الولاة ووجود المتسلّم وحده وكان في هذه الاثناء بعد ما استولى الأمير مغامس حضر أمامه في ٢٢ رجب سنة ١١١٧ ه‍ ـ ٧ تشرين الثاني سنة ١٧٠٥ م الربّان الهولندي. وبعد أن هنأه التمس منه عقدا بين الهولنديين والعرب يتعلق بشؤون شركتهم وأن يحمي كنيسة الكرمليين ودارهم. وفي ٩ من تشرين

__________________

(١) كلشن خلفا ص ١٢٥ ـ ١.

١٩٥

الثاني قدم مذكرتين إلى الأمير مغامس ، فأحالهما إلى قاضيه الشيخ سلمان فصدقهما. وفي ١٢ منه أرسل البراءتين إلى الربان الهولندي. فحصل الكرمليون على عهد يتعلق بكنيستهم ودارهم. وهذا نصه :

توكلت على الله

«تعلمون به الواقفون على كتابنا هذا من كافة خدامنا وعمالنا وضباطنا بأن أعطينا حامل الورقة البادري حنا (١) على موجب ما بيده من فرمانات أولياء الدولة القاهرة ومن أوامر الوزراء العظام والأمراء الكرام. وله منا فوق زيادة الحشمة والرعاية وقد أسقطنا عن خدامه وترجمانه الجزية والخراج وكتبنا له هذا الكتاب سندا بيده يتمسك به لدى الحاجة إليه. وعلى كتابنا هذا غاية الاعتماد. والله تعالى شأنه ولي العباد وبه كفى. حرر في ٢٢ من شهر رجب الفرد سنة ١١١٧ ه‍».

الفقير مغامس آل مانع اه (٢)

أخبر الوزير بوفاة الوالي السابق وورد والي البصرة الجديد. وكان أتم أعماله في الحسكة ، فرجع إلى بغداد ، وأمر ببيع متروكات الوالي المتوفى ، فأرسلت إلى استنبول مع باقي مخلفاته من الأشياء المشهورة مع الكتخدا والخزندار (الخازن). ولم يقم بأي عمل.

وولي علي باشا البصرة سنة ١١١٢ ه‍. وكان قبلها واليا على حلب سنة ١١١١ ه‍ (٣).

__________________

(١) جاء في المطبوع : البادري حقّا وجاء في تعليقات الأستاذ مصطفى جواد على المجلد الخامس من تاريخ العراق بين احتلالين : «صوابه : البادري حنا ، وكان غلط ناسخ».

(٢) مباحث عراقية ص ٢٠٤ وفيه تصوير الكتاب.

(٣) كلشن خلفا ص ١٢٥ ـ ١ وقويم الفرج ، وحديقة الزوراء ونهر الذهب ج ٣ ص ٢٩٣.

١٩٦

برد وثلج :

في ٨ شهر رمضان ظهر في العراق شتاء لم يتفق مثله مع ريح عاصف ونزل المطر بكثرة كما تساقط الثلج ويقال : إن ارتفاعه بلغ ذراعين وعلى قول بلغ الشبرين. نزل لأربع مرات أو خمس ، ودام الانجماد خمسة عشر يوما فأحدث ضررا كبيرا في المغروسات من نخيل وتوت ونارنج واترج ونبق وليمون. صار أكثرها حطبا. وفي گلشن خلفا كان بتاريخ ٧ و٨ من شوال ابتدأ البرد ولعل سقوط الثلج (الوفر) (١) كان في التاريخ الذي عينه صاحب الحديقة (٢).

حوادث سنة ١١١٨ ه‍ ـ ١٧٠٦ م

قبيلة شمر :

إن الوزير رأى من شيخ شمر غانم الحسان (٣) عصيانا. هاجم الشامية وجمع جموعا فاستولى الرعب على تلك الأنحاء. وكان ممن وافق شيخ الخزاعل في مناوأة الحكومة ، لما رأوا من عزمها أن تقضي على العشائر.

استولى على الناس الخوف ، إلا أن هذا الوزير وقف القوم عند

__________________

(١) وفر معرب بفر الكردية. وهي مقلوب برف الفارسية. والواو أصلها (ب) وتتحول إلى الواو. والوفر مستعمل عندنا بدل (الثلج).

(٢) حديقة الزوراء وكلشن خلفا ص ١٢٥ ـ ١.

(٣) وهذا أصل سلسلة نسبهم المحفوظ ورئيسهم الآن ذياب الحسان توفي ١٧ ـ ٦ ـ ١٩٥١. (عشائر العراق ج ١ ص ٢٠٧) وجاء في الحديقة (حسان وغانم). وهذا غير صواب.

وقد جاء في رسالة الشيخ وداي العطية : نقلت صحيح الاسم من قويم الفرج بعد الشدة وهو غانم الحسان. وتحققت من ابن حسان عن أسماء أجداده. وهم من أول من ورد العراق من شمر ، فهم أعرف بأنفسهم. والبدو أكثر علاقة بأنسابهم وأهل الأرياف لا يشعرون بالحاجة إلى ضبط أنسابهم.

١٩٧

حدودهم وولد فيهم خشية. ولما رأى شيخ شمر أن ركونه إلى الخزاعل غير مجد مال إلى بغداد مذعنا بالطاعة وعند خروجه رفع الراية وأبدى أنه صار شيخا في حين أنه لم يقدم (البيتية) (١) وإنما وافقه على ذلك شيوخ آخرون.

رأى الوزير من الضروري التنكيل بهؤلاء لغزوهم ونهبهم وعدم طاعتهم بتأدية (البيتية) فجهز عليهم جيشه وتوجه بنفسه فعبر الجسر الرضواني ووصل إلى مواطنهم فلم يجد لهم أثرا. فاستراح هناك قليلا ثم فرق جيشه إلى جهات مختلفة للعثور عليهم واللحاق بهم لضربهم وذهب بنفسه في الطريق السلطاني حتى وصل إلى منزل (مشيهد) فحط ركابه واستراح. ولم يقف على خبر عنهم.

وفي نتيجة التحريات أدركهم جيش الوزير ليلا وصاروا على مقربة منه فلم يقاتلهم حتى الصباح وحينئذ هاجم الوزير بجيشه وأبدى البسالة والشجاعة بما لا يوصف. والعشائر ناضلوا نضالا ليس وراءه نضال إلا أنهم لم يستطيعوا المقاومة ففروا.

وفي هذه الحرب نالهم ما لم تنله عشيرة. وأن الجند نهبوا مواشيهم وأغنامهم وربحوا منهم أموالا كثيرة ... ومما يحكى أن الحكومة من حين استولت على العراق إلى اليوم لم تنل ظفرا مثل هذا. وأن العشائر لم تر حربا كهذه. ظهرت فيها الشجاعة والفروسية من الجانبين بكل معانيها ... وأبلى العربان واستماتوا ... جادلوا بكل طاقتهم وبما أوتوا من قوة. لكنهم قهروا. وقتل منهم خلق كثير ...

وعلى هذا جاء إلى الوزير من بقي منهم من كبار وصغار وأطفال

__________________

(١) ضريبة تؤخذ على البيوت من أهل البادية وتسمى (الخانة) ومعناها (البيتية).

١٩٨

ونساء فطلبوا الأمان فقبل دخالتهم وعفا عنهم (١).

كانت هذه العشيرة تظهر الطاعة أحيانا إلا أنها كانت في الخفاء تغري العشائر البدوية وتحرضها على الاشتراك معها ، وبذلك تؤذي السكان في غربي الفرات بالنهب والغارة.

أغار عليها الوزير في شعبان فغنم غنائم لا تحصى وعاد إلى بغداد فاستقبله العلماء والوجهاء استقبالا فخما (٢) ...

وهذه الوقعة كانت السبب في انفصال شمر طوقة (طوگة) وبعض العشائر مثل المسعود فتبدد شملهم فصاروا شذر مذر ... فالمسعود استقروا في أطراف المسيب وكربلاء ، وشمر طوقة في جزيرة حميد بين ديالى و(كوت العمارة) (٣)(٤).

الوزير ومجالس العلم والأدب :

ثم صرف الوزير همته لتنظيم البلد ، وصار يعقد مجالس في ديوانه الخاص يؤمها العلماء والأعيان ، فتارة تراها (مجالس علم) وبحث في منقول أو معقول ... ويتخللها الشعر واللطائف ... وطورا تراعى فيها

__________________

(١) قويم الفرج بعد الشدة ص ٦١.

(٢) قويم الفرج بعد الشدة ص ٦١ ـ ٦٧. وكلشن خلفا ص ١٢٥ ـ ١.

(٣) شمر طوكه (طوقة) وابن حسان في عشائر العراق ج ١ ص ٢٠٧ وفي كلشن خلفا ص ١٢٥ ـ ٢.

(٤) قال الشيخ العطية في رسالته : في سنة ١١١٨ ه‍ كانت انقطعت حوادث شمر العظيمة. وفي سنة ١١٠٦ ه‍ وما بعدها لا تزال حوادثهم العظيمة متكررة. فالأولى الأخذ بما ذكرت. فأما المسعود فقسم منهم في ديار الشام فانشطروا شطرين وكان ورودهم في تلك الأثناء. وإن وجود الزقاريط لا يمنع من وجود المسعود في حين أن المسعود مالوا إلى الأرياف من أمد بعيد حتى صاروا من أهل الأرياف. ولا يزال الزقاريط على البداوة. لا سيما وأن لغة المسعود تأثرت كثيرا بلغة أهل الأرياف ولذا فقدت منهم البداوة من أمد طويل.

١٩٩

التمارين الحربية وأصول قراع الكتائب ، ومرة يقضيها باستماع (قراءة القرآن) الكريم ، وآونة في النظم والغزل ... فراجت سوق العلم والأدب يتخلل ذلك التفكير في حسن الإدارة والاطلاع على الأحوال وعلى طرق الإصلاح فأثار جميع المواهب (١). وبيوت الأعيان لا تخلو من هذه المجالس.

غزية وقبائل أخرى :

بينا الوزير والأهلون في راحة إذ ورد الشيخ شبيب أمير قشعم يشكو من عشيرة غزية و(ساعدة) و(آل حميد) و(آل رفيع) مبينا أنهم أغاروا على المجاورين وأخذوا أغنامهم وأموالهم وعاثوا في أنحاء السماوة والرماحية ونهر الشاه وما والى. فأحدثوا أضرارا بليغة.

وفي هذه الأثناء جاء رسول من ضابط الحلة فأيد ما قال (أمير قشعم). فاهتم الوزير للأمر خوف استفحاله وسارع للذهاب. وفي يومين أو ثلاثة أيام وصل إلى قرب الحلة فاستراح قليلا وسار توا فعبر الشط ومضى لجهتهم بقصد أن يدركهم. وكانت المسافة أربعين ساعة. قطعها بثلاثة أيام أو أربعة لكنه لم يدركهم. سمعوا بالخبر ففروا وتفرقت جموعهم.

ولم يتركهم الوزير وشأنهم وإنما بعث خلفهم بألف فارس من جنده ليدركوهم. وصار هو أيضا يتحرى عنهم ويتعقب أثرهم يمنة ويسرة إلى نصف الليل. ولما بدت بشائر الصبح تبين أثر اظعانهم فوجدهم قرب القائم ، وحينئذ تركوا الأثقال والعيال والاطفال وفروا بأنفسهم ... والكثير منهم ألقى بنفسه في الماء ...

وحينئذ غنم الجيش أموالهم وخيامهم وإبلهم وبقرهم وخيلهم وعاد من ناحية القائم.

ومن هناك مضى الجيش لتعقيب عشيرة ساعدة فظفروا بها وغنموا أموالها وأرسلوها إلى الحلة. فعادوا ظافرين منتصرين وألقي القبض على

__________________

(١) قويم الفرج بعد الشدة وحديقة الزوراء.

٢٠٠