موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٥

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٥

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

من شبيل وشبلي ودندن فصلبوا الواحد بعد الآخر خلال شهرين ... فقطع بذلك دابر العصيان (١).

حوادث سنة ١١٤٢ ه‍ ـ ١٧٢٩ م

تفرغ الوزير لبسط العدل وتأمين الراحة إذ لم يحدث ما يشوّش الأمن أو يقلق الراحة كما رعى العلم والعلماء ووجه عزمه نحو الفضلاء فصار سوق الأدب والعلم معمورا. توالى الشعراء والأدباء وتزاحموا على ناديه فنالوا من كرمه وإحسانه الشيء الكثير. فاشتهر في زمنه علماء وشعراء عديدون ... وراسله الوزراء والعلماء. والأمراء من أقاصي البلدان ...

حوادث سنة ١١٤٣ ه‍ ـ ١٧٣٠ م

واقعة همذان وكرمنشاه :

كان الناس في هدوء إذ فاجأهم نبأ ظهور الشاه طهماسب ابن الشاه حسين الصفوي جمع اعتماد دولته نادر خان جنودا كثيرة بأمل التغلب على ايران واستعادتها. وأول ما فعل أن أزاح الأفغان من أصفهان وسائر ايران سنة ١١٤٢ ه‍ ـ ١٧٢٩ م (٢).

ثم باغت في هذه السنة همذان وكرمانشاه فقاتل ولاتها والعساكر المرابطة وبعد وقائع وبيلة تمكن من تمزيق قواهم وتشتيت شملهم.

ولما طرق سمع الدولة نبأ ذلك نادت بالنفير العام وعلى هذا تأهب الوزير للحرب فنهض متوجها نحو ايران بسير متواصل. قضى ثمانية أيام حتى وافى الحدود من جانب (أدنه كوي) وتسمى اليوم بقرية المنصورية. فوصل إلى (درنة).

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ١٨.

(٢) دول إسلامية ص ٤١٥.

٢٦١

وفي هذه الأثناء ورد الأمر بجلوس السلطان محمود الأول مشيرا إلى لزوم التوقف إلى أن يأتي الفرمان. وحينئذ امتثل الأمر وضرب خيامه في شهرزور (١).

حوادث سنة ١١٤٤ ه‍ ـ ١٧٣١ م

الوزير ـ حرب طهماسب :

مكث الوزير أحمد باشا في شهرزور ثلاثة أشهر. وفي أوائل هذه السنة صدر الفرمان بالسفر فتوجه نحو كرمانشاه فسلمت البلدة مقاليدها إليه وأذعنت بالطاعة. فبقي فيها بضعة أيام للاستراحة ثم توجه نحو همذان فلما قاربها وجد الأهلين والجند متأهبين للحصار وزادوا في العدة والعدد وأبوا أن يذعنوا. كما أنه رأى الشاه طهماسب قد استعد للحرب وكان على بعد ثلاث مراحل من همذان فجمع الوزير رؤساء الجيش والأمراء وبعد الاستشارة رجح الجميع مقاتلة الشاه. فسار حتى وصل إلى (لولو كرد) فحط الجيش رحاله فيها وكان مقر الشاه في كور جان (كوريجان) وبين المنزلين مسافة نحو ثلاث ساعات.

وحينئذ تقدم الجيش لمقارعة الشاه. مرّوا من (بروجرد) فمنعوا الجيش من ورود الماء. وضعوا هناك كمينا فصادفهم الجيش بغتة فذبح منهم خلقا لا يحصى وفر القليل إلى عسكر الشاه. وكان مع الشاه على ما يروى مائة ألف أو يزيدون. فتلاقى الجيشان في محل يقال له (بيدا) و(كوريجان). فرتب الجمعان جيوشهما واستعدا للقتال ...

أما الوزير فكان معه من الخيالة اثنا عشر ألفا عدا المشاة. ومعه من المدافع والأدوات مقدار وافر فكانت الوقعة بين الفريقين أشبه بجهنم متحركة فلا تسمع فيها غير دويّ المدافع وصوت البنادق. ونظرا لكثرة

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ١٩.

٢٦٢

جيوش ايران من الاصفهانيين واللّر لم يؤمل الظفر لجهة الوزير ولكن الصبر والثبات أمّنا له ذلك وفي كل صفحات الحرب كان يحرض على القتال والصبر ويشجّع الجيش وكان في مقدمته قبائل الاكراد. كمن الوزير قره مصطفى باشا بجيشه فاختفى في حضيض جبل فاتخذت الأوضاع اللازمة بالنظر للمواقع الحربية ... فلم تمض مدة حتى انكشفت الحرب عن هزيمة العجم فنالوا من أعدائهم فأصابتهم الهزيمة وفروا نحو قزوين. فاقتفى الجيش التركي أثرهم واستمر حتى نصف الليل فنكلوا بهم. وأن طائفة (در گزين) قطعت طريق فرارهم وأعملت فيهم السيف فدمرت أكثرهم ، وأن ثلة من أتباع محمد بلوج خان طلبت الاستئمان وبيّنت ما حل بالعجم.

كانت ضائعات الوزير نحو ثلثمائة مقتول وخمسمائة مجروح في حين أن قتلى العجم وجرحاهم يقدرون بعشرين ألفا عدا الضائعات في خيالتهم.

إن العجم كانوا أضعافا مضاعفة بالنظر لجيش الوزير ومع هذا تمكن من قهرهم ... وهلك من أمرائهم خان قزوين ، وخان شيراز ، وكاتب الجيش ، وخليفة الخلفاء. وأمثالهم كثيرون.

غنم منهم ٣٢ من مدافع هاون بين صالح للعمل وغير صالح و٢٠٠ من نوع زنبرك ومهمات وأسلحة وأدوات مدفعية وخياما وغنائم لا تحصى ...

ثم حطوا خيامهم في محل يبعد عن همذان بضع ساعات. فانهزم من جيش العجم من استطاع الهزيمة وبقي في المدينة العجزة فبقوا محصورين وأذعنوا بالطاعة فضبطت المدينة وفيها سبعة من المدافع من نوع (باليمز) و٢٨ شاهيا و٢ خمبره هاون و١٢ زنبرك ... فاستولى على المدينة فمكث فيها الجيش يوما واحدا. ثم تحول إلى موقع تجاه

٢٦٣

المدينة. وأقيمت صلاة الجمعة في أكبر الجوامع وقرئت الخطبة وفيها الدعاء للخليفة والتبريك بالفتوحات ...

عرض الوزير تفاصيل ما جرى وأطرى بسالة جيوشه. وكان رسوله إلى السلطان أحد موظفيه وهو خليل. فأكرمه السلطان وخلع عليه الخلع النفيسة وقلّده سيفا ورمحا ... وقدمت للوزير خلعتان كريمتان و١٥٠ خلعة لمن معه من الأمراء جاء بذلك سلحشوره الخاص والميراخور الثاني علي بك (عبدي باشا زاده) شاكرا ما صنعوا وقرىء الفرمان على الكل ودعوا للسلطان بدوام التوفيق ...

وفي هذه الحرب كان ولاة ديار بكر وسيواس وأمراء مرعش وأماسية وحسين باشا الجليلي متصرف الموصل سابقا حاضرين (١).

الشاه طهماسب والصلح :

إن الشاه انهزم في صحراء همذان إلى انحاء (قم وقاشان) مع من معه. تركوا خيامهم وأسلحتهم. واقتفى أثرهم وفلول جموعهم (سليم باشا) متصرف (أماسية) ومعه سبعة آلاف أو ثمانية آلاف من الفرسان فضبط ما مرّ به من قرى وبلدان وتتبع المغلوبين على عجل. وهكذا أمراء آخرون.

أما الوزير فإنه اكتسح القلاع والبقاع والقصبات وأوقع خسارات كبيرة وعادوا منصورين بغنائم وافرة.

وهذه الحالة أوقعت الشاه في رعب واستولى عليه الهلع وصار يترقب أمورا أخرى أكبر. فلم يستطع البقاء في قم بل مضى إلى طهران ونجا بنفسه ...

__________________

(١) حديقة الزوراء ص ١٠١ ودوحة الوزراء ص ١٩.

٢٦٤

ثم ورد كتاب منه بصحبة رسوله (محمد باقر خان) من أكابر رجال العجم يرجو فيه عقد الصلح ، وأنه بعث محمد رضا قولي خان قوريجي باشي من رجال الصفوية ليكون مرخصا في المفاوضة. وتكرر الالتماس.

وعلى هذا دعا الوزير أحمد باشا وزراءه وأمراءه وعقد مجلس شورى استطلع فيه آراء جماعته فاستقر الرأي على أن طلب المفاوضة والإلحاج بها دليل الضعف والعجز التام. فمن الضروري الصفح عنهم وإجابة ملتمسهم. ولذا بشر الرسول بالقبول وأعيد.

وحينئذ جاء رضا قولي خان من جهة الشاه. مفوضا بسلطة واسعة ، فشرعوا في المفاوضة فاستأذن الوزير دولته. وكذا قدمت رسالة من اعتماد الدولة يسترحم فيها قبول المفاوضة في أمر الصلح فأرسلت أيضا للاطلاع عليها ...

ثم ورد الجواب متضمنا أنه لما كان طلب المسالمة بعد أن نالوا ما يستحقونه ، وبعد أن تحقق أنهم لا يرجى لهم نهضة إثر المخذولية الهائلة ... فلا مانع من قبول الصلح ، على أن لا تهملوا الحيطة والاستعداد للطوارىء ، والاحتفاظ بحراسة الممالك المفتوحة ، وأن لا يترك الحذر من أمر العودة فيجب التأهب للطوارىء وأن تكونوا في يقظة تامة. وليعقد الصلح ، ويعجل بإنجازه. ولكن بشروط مقبولة ومشروعة.

وعلى هذا ورد من جانب الشاه (رضا قولي خان قوريجي باشي) مفوضا بسلطة تامة فعقد معه الصلح على أن تبقى الممالك المفتوحة في حوزة الدولة وتصرفها ... فكانت المعاهدة موافقة. فأمضيت مع (صك الحدود). وأخذ كل فريق نسخة.

وبعد أن تم الأمر أرسل الوزير كاتب ديوانه (مصطفى أفندي) وهو كاتب قدير فبلغ الدولة مما جرى ومعه كتاب من الوزير يتضمن أن

٢٦٥

الحرب بين الفريقين انتهت وتم النضال بالتغلب على الاعداء وعقدت المصالحة ...

ولما لم يبق للوزير حاجة في البقاء ترك هذه الديار وقفل راجعا إلى بغداد فوردها بأبهة لا مزيد عليها. ومدحه الشعراء بهذا النصر ، ومنهم الملا سليمان البصري ، والسيد عبد الله أمين الفتوى. والملا سليمان الكردي وغيرهم (١).

حوادث سنة ١١٤٥ ه‍ ـ ١٧٣٢ م

زواج :

في هذه السنة زوج الوزير ابنته عادلة خاتون وهي مشهورة بالعلم والكرم والأخلاق القويمة من كتخداه سليمان بك بعد أن أتم حروبه ومال إلى رغد العيش والراحة. وإن هذا الكتخدا موصوف بالشجاعة والاقدام وحنكة الرأي وحسن التدبير. صار واليا على بغداد وهو أول المماليك في العراق كما أن زوجته صاحبة أوقاف العادلية (٢).

وجاء في تاريخ نشاطي أن الوزير في سنة ١١٤٤ ه‍ زوج ابنته المزبورة من سليمان باشا وهو من أقدم المصادر.

الوزير والأسد :

كان الوزير في بعض أيامه عزم أن يقضي نهاره بالصيد ومعه الخيل والحشم فعبر بموكبه إلى الجانب الغربي من دجلة متوجها نحو هور (عگر گوف) (عقر قوفا). سار في طريقه في الآجام. وبينما هو سائر إذ جاءه أحد أعوانه مرعوبا فقال له رأيت أسدا ربض قرب عربته في حالة مهيبة تدعو للخطر والخوف ...

__________________

(١) حديقة الزوراء ص ١٠٩ ـ ٢ وهناك نصوص القصائد ودوحة الوزراء ص ٢٥.

(٢) حديقة الزوراء ص ١٠٩ ـ ٢ ودوحة الوزراء ص ٢٧.

٢٦٦

وحينئذ صال الوزير عليه مرخيا عنان فرسه قاصدا افتراسه فنهض في وجهه وتحفّز للوثوب عليه وحينئذ فر أعوان الوزير حذرا من بطشه وضاع رشدهم من هول ما رأوا ولم يبق سوى الوزير والأسد. وكل منهما يحاول قنص صاحبه ويحسب أن حملته القاضية عليه ...

فأغار الوزير عليه بقوة جأش. رماه بحربة أصابت أحشاءه حيث مرقت من تحت إبطه لكنه تجلد ووثب عليه لكن الحصان أراد أن يكفي الوزير شره فحينما وثب الأسد ليختطف الوزير رمحه على أم رأسه فكاد يقطع أنفاسه. نزل الوزير من حصانه وبقي ساكنا ليحتال على الأسد وبيده خنجره قصد أن يفري بطنه بطعنة. ولكنه طال انتظاره. وحينئذ شهر سيفه وصال عليه فلم يجد له أثرا فعلم أن الضربة نالت منه مقتلا وأردته فطلب النجاة بنفسه وهرب لشأنه ، وأن رفسة الفرس زادت في إذلاله وأوهنت قواه.

ثم إن الوزير ركب حصانه ودعا أعوانه فتراجعوا عن خجل. ويروى أنه ضربه حينما هاجمه وهو على صهوة حصانه ... ومما يحكى عن بعض أعوانه الظرفاء حينما أنحى عليه باللائمة والتأنيب أنه قال له : أيها الوزير إن أسدين تقارعا. فما شأن الكلاب في أن تدخل بينهما ، أو تتعرض بشأنهما ...! فضحك ومضت القصة ...!

وحينئذ أمر الوزير أن يطوفوا الآجام ليتحروا عن الأسد الطريح فأبصروا أنه مختف خلال الشجر ولم يقدر أن ينهض من مكانه لما ناله من ألم الحربة التي عاد لا يستطيع معها أن ينقل رجله. فقتل وسلخ اهابه وحشي تبنا وجىء به إلى بغداد.

ولما شاهد هذه الحالة بعض أهل البادية امتدحه بقصيدة عامية.

ويروى أن الوزير طارد صيدا بواسطة طير يتصيد فيه فأبعد عن

٢٦٧

حاشيته فلاقى الأسد في طريقه فجرى ما جرى. ويقال إن فرسه قتلت من ضربة الأسد حينما صال عليه بعد أن أصابته الضربة الأولى فالتفت إليه الوزير وضربه بخنجره فأرداه قتيلا ... ومن ثم شاهده بعض الفرسان من العرب في هذه الحالة حينما قتلت فرسه فقدم الفارس له حصانه وقال له : أنت أهل له بعد قتلك هذا الأسد.

وهذه الواقعة ذكرها أبو الضيا توفيق مع تصوير الوزير راكبا والأسد هاجما عليه (١)

وفي تاريخ نشاطي أنه في سنة ١١٤٣ ه‍ قصد الصيد في هور نمرود ، فظهر عليه الأسد على حين غرة ففر أتباعه منه فقاتل الأسد وأرداه قتيلا ، وكان ظهر فارس عربي شاهد منه هذه الفعلة العظيمة فقدم له فرسه ومدحه. ولعلها وقعة أخرى.

وهذه تذكرنا بقصيدة :

أفاطم لو شهدت ببطن خبت

و قد لاقى الهزبر أخاك بشرا

ومثله قول المتنبي :

أمعفر الليث الهزبر بسوطه

لمن ادخرت الصارم المسلولا

وعلى كل حال دخل هذه القصة بعض التحوير والتعديل.

الشيخ محمد بن عقيلة :

وفد على هذا الوزير في أوائل هذه السنة العلّامة ذو التآليف المفيدة الشيخ محمد بن عقيلة المكي فأكرمه. وأجاز بعض علماء بغداد ،

__________________

(١) حديقة الزوراء ص ١٠٩ ـ ٢ صورها كمقامة ، ودوحة الوزراء ص ٢٧.

٢٦٨

ومنهم الشيخ عبد الرحمن السويدي صاحب الحديقة وألبس الخرقة في التصوف (١). وعندي نسخة من اجازته. ويرجع الكثير من علمائنا إليها.

نادر شاه ـ حصار بغداد :

وفي ٢٦ جمادى الآخرة ظهر نادر شاه مهاجما العراق بجيش عظيم على حين غفلة. وكان اعتماد دولة الشاه طهماسب. وهو مشهور بالشجاعة. ويقال إنه مرّن جيشه تمرينا زائدا على الشجاعة ... وعوّده على المشاق ثم نهض به نهضة جبارة.

مال صرح السلطنة الصفوية إلى الانهيار ، عجّل بذلك هجوم الافغان وصولتهم عليها بقيادة الأمير محمود الافغاني فنال الشاه حسين الصفوي الخذلان.

أما ولي عهده طهماسب فإنه تمكن من الفرار فبقي مدة في أنحاء مازندران يتجول وحيدا وبينا هو في هذه الحالة إذ حط رحاله في أنحاء خراسان وخوارزم لاستنجاد من هناك من العشائر التركمانية وغيرها. فاستنفرها فلبّى دعوته فتح علي خان التركماني ، وعشائر أفشار وبيات. وجمشكز. مالت إليه وعاهدته على النصرة.

وإثر ذلك استولى على المشهد فأخرج منها محمود السيستاني (السجستاني). ويدعي نسبه إلى رستم فقضي على استقلاله.

وفي جملة هؤلاء (نادر الاقشاري). أبدى خدمات جلى واشتهر بين رجال قبيلته بكياسته وذكائه وشجاعته وسخائه ، فهو يعد من ذوي الاقدام ويزاول الأعمال العظيمة.

دخل في خدمة الشهزادة فظهرت مواهبه ومجاهداته المبرورة.

__________________

(١) حديقة الزوراء ص ١١١ ـ ٢.

٢٦٩

وكان اسمه (نادر علي خان) فلقبه الشهزادة ب (طهماسب قولي) دليلا على رضاه عنه.

إن طهماسب قولي هذا أعاد العدة لمقاتلة أشرف خان. ووقعت بينهما عدة حروب في (دامغان) وفي (دره حار) وقرب (أصفهان) فنكل بالافغان تنكيلا مرا واسترد أصفهان قسرا كما أعاد البلاد الأخرى لسطوة الصفويين ...

وحينئذ أجلس الشهزادة على سرير السلطنة ولقب هو (باعتماد الدولة) وهي (رتبة الصدارة أو رئاسة الوزراء) فاشتهر أمره وذاع صيته وحينئذ جهز الشاه الجيوش لحرب أحمد باشا الوزير أمير الحملة العام في أنحاء العراق ...

كسر أحمد باشا الشاه شر كسرة فاضطر للمصالحة.

أما طهماسب قولي خان فإنه لم يرض بهذا الصلح. وكان يضمر نيات ظهرت للعيان. ولذا تقدم للحرب ولم يقبل بالصلح.

وكان قبل هذا جهز جيشا من جهات عديدة على هراة فاستولى عليها ورتب أمرها. ثم إن الشاه كتب بما تم من أمر الصلح مبشرا به بواسطة (صفي قلي بك) سفيره. ولما علم بالصلح كاد يتميز غيظا. حنق على الشاه وسبّه وحبس رسوله. وفي الحال أغار على أصفهان في ٥ ربيع الأول سنة ١١٤٥ ه‍ فخلع الشاه إثر وصوله بثلاثة أيام وأجلس مكانه ابنه الصغير عباس ميرزا ولم يتجاوز الاربعين يوما من العمر. باسم الشاه عباس الثالث.

ثم جعل نفسه (وكيل الشاه) أي وصيا عليه وأرسل طهماسب محبوسا إلى مازندران. كما سجن أعوان الشاه وهم (محمد رضا خان) القوريجي باشي ، وسائر الأمراء والأركان ممن تعلق به واستولى على أموالهم.

نال ما كان يضمر وتوصل إلى السلطنة بهذه الطريقة بعد أن عمل

٢٧٠

لها جهده وبذل ما في وسعه. فاكتفى بأن سمى نفسه (وكيل الشاه).

وحينئذ أخذ عدّة الشاه وعساكره وهاجم الوزير أحمد باشا معلنا لزوم أخذ الانتقام. ولم يكتف بما لديه من الجيش بل كاتب الطوائف والعشائر الأخرى فجمعها بقصد الهجوم على بغداد والاستيلاء عليها ...

ويقال إن الوزير لما سمع ذلك قال حينما دمرنا جيش طهماسب لو كان ذلك الكلب يريد (نادر شاه) موجودا لكنا خلصنا المسلمين منه فلما سمع ذلك الكلام جمع جموعه وأرسل إلى الوزير يخبره : قلت يوم كذا : (كذا وكذا) فها أنا قادم إليك إثر الرسول فتأهب للحرب والقتال ...!

ثم إن الوزير عرض الأمر على دولته مبينا أن طهماسب قولي خان قصد بغداد ولما ورد كرمانشاه أخبرها بواسطة عثمان آغا الجوقدار (الچوخه دار) ، قال : وعند ذلك جهزنا جيوشا وأعددنا ما استطعنا في الحدود قدر الإمكان ، ولم نهمل أمرا ، راعينا الحيطة والمقدر كائن ، وعلى حين غرة في ٢٦ جمادى الآخرة يوم السبت سحرا هاجم أمير (درنة) ، وصال على جيشنا هناك فوردنا الخبر أن جرح بعضهم ، فوصلوا في المساء إلى خانقين ، ولم يعرف بعد مقدار الشهداء في المعركة ، وتمكن قسم منهم من العودة سالمين. ولا شك أنه يقصد اقتحام الجيوش محاولا الوصول إلى بغداد.

علم أنه جهز جيوش آذربيجان في قيادة خان تبريز ، وسار هؤلاء من قلعة (چولان) متوجهين نحو كركوك ، وكان الأمل أن نستعين بالكرد فشغلوا بأنفسهم وعيالهم ، فلم يعد في الإمكان أن يمدونا ، فخاب أملنا منهم. أما اللوندات عندنا فهم يبلغون نحو ثلاثة آلاف أو أربعة ، والخيالة نحو ثلاثة آلاف فارس ومن هؤلاء ألفان نكّل بهم العدو في درنة ، والألف الموجود لم نتمكن من جمع أكثر من ستمائة منه. وكذا سائر الجيوش من (سرد نكچدي) ، ومن الحجّاب (قپو قوللري) ، وهكذا جمعنا كل من يستطيع العمل. ولا يبلغون أكثر من ثلاثة آلاف أو أربعة

٢٧١

آلاف ، وهناك بعض الايالات التي لا تستطيع أن تمدّنا بجيش يعوّل عليه ، ويصح أن نقول : ليس لدينا جيش يعتمد عليه. اتفقت كلمتنا أن نتخذ الحصار في بغداد. عرضنا مرارا أن ليس في الإمكان إرسال الخزانة ، وأن التجهيزات من بغداد غير متيسرة ، وليس في المقدور الدوام على الحصار مدة طويلة ، ولم يكن لنا من الأمر إلا أن نترقب الحل الإلهي ، وسنتعب جهدنا ونبذل ما نستطيع بذله بأمل أن تبقى سلطنة الدولة متمكنة ، ونسعى جهدنا للدفاع ولا نفلت الاخلاص للدولة بوجه ، فلا نقصر في مجهود. وفي هذه الحالة نأمل من ولي النعم أن يلحظنا ، ولا يهمل شأننا. ونحن في أشد الحاجة إلى ثلاثة عشر ألفا من الجيوش المدربة من الفرسان وإلى اثني عشر ألفا من المشاة المختارين لمساعدتنا وإلى ألف كيس من النقود مع ذخائر وافرة من ديار بكر وماردين بأن تكون هذه المساعدات من طريق البر على الابل ، وأن لا تضيع الفرصة. وإننا مسؤولون أمام الله والناس. نطلب الاهتمام للأمر واتخاذ العدة اللازمة من جميع جهاتها.

إن عدونا اتخذ أطوارا قلّد بها هولاكو وتيمور ، وعدّ نفسه كأحدهما. وإننا في حالتنا الراهنة لو تمكن العدو من فرجة من جانبنا فلا يبقى مجال لسد الثغرة في كل الاناضول بل تبقى الحدود مفتوحة أمامه ـ لا سمح الله ـ فلا يعوقه أمر آخر ، فاختلال الأمر عندنا يسبب محاذير كثيرة من شأنها أن تخلّ بالوضع كله ، ويولّد مكاره ليست في الحسبان. ومن الضروري تدارك الأمر والاهتمام له. وقد تحقق بعض ما توقعناه في كتبنا السابقة. ولم يكن غرضنا تكثير السواد وتطويل المقال فالحذر والاهتمام مما يؤدي إلى حفظ مكانة الدولة ، وإبداء الحرص على المصالح مما يجب أن أعده من أكبر الضروريات لحياة الدولة.

برهنت على ذلك مرارا لحد أنه عقب عقد المصالحة عرضت في قائمة أن النزاع بين طهماسب قولي خان وبين الافغان لم يتمّ ، ولا تزال

٢٧٢

المجادلات لم تحسم ، فالانتصار لا يعرف لواحد ، ومن الضروري أن نلحظ ما يحدث خلاف المأمول. وطلبت لزوم تقوية الحصون ، ومواطن الدفاع في الثغور ، وأشرت إلى لزوم تدارك الأمر قبل أن يقع ما يخشى منه فتفوت الفرصة. والآن بدت آثار ذلك ، وحدث ما توقعنا من بعد النظر ، وليس لنا اليوم بدّ من أن نذكر أولياء الأمور ، ليبذلوا أقصى ما يمكن من قدرة ، وذلك موكول إلى ذمتهم وحميتهم ، وهذه الوديعة منوطة بعاطفتهم. والأمل أن يعجل في الاهتمام وأن يتخذ التدبير السريع لصيانة المملكة.

وهذا الوزير أكد ذلك. حض على الاهتمام بالأمر ، فحرك الحمية ، وهيج الفكرة ، وأثار الغيرة في رجال الدولة (١).

قال صاحب الحديقة : ثم إن الدولة أمدته لكنه لم يؤمر بقتاله ، ولا بمقابلة جيشه بجيشه بل أمر بحفظ المدينة وحراستها ، وأن يكفّ عن لقائه فأرسلت الجنود لحفظ البلاد لا للمكافحة والنزال. وكان الصدر الأعظم آنئذ علي باشا المعروف بابن الحكيم.

ويقدر الجيش المساعد للوزير بمائة ألف وكان معه من الوزراء قره مصطفى باشا ، وصاري مصطفى باشا وأحمد باشا ابن الحمال.

وفي هذه الأثناء دخل نادر شاه حمى مدينة السلام وهرب من أمامه أهل القرى واستأصل غالب الناس وقابله أمير (درنة) بعساكر الاكراد فقتل وتفرقت أتباعه.

ثم نزل محاصرا بغداد في الخامس والعشرين من رجب كذا في دوحة الوزراء وفي الحديقة. وجاء في تاريخ قباطي أن الحصار حدث في ٢٧ رجب سنة ١١٤٥ ه‍ ودام إلى ٧ صفر سنة ١١٤٦ ه‍. نزل محاذيا قصبة الإمام الأعظم بحيث ترى خيامه من فوق السور فكانت القبائل

__________________

(١) هذا ملخص ما كتبه الوالي في القائمة المرسلة إلى استنبول رأيتها في مجموعة محررات عندي مخطوطة ولم يتعرض صاحب الدوحة لتفصيل ذلك.

٢٧٣

تصل إليها فتحول فوق منزله بنصف ساعة خشية أن يصيب المرمى الخيام. لكنه بنى ليلا بعض الأبنية في مواضع شتى قريبة من السور بحيث تصل إليه قنابل الزنبرك ويقال لهذه الأبنية (الكونكرة). وضع عليها بعض المدافع بقصد أن يفتح ثغرات من السور ليدخل البلد. وحينئذ وجّه إليها من بغداد المدفع القالع فهدم بعضها ، والبعض الآخر بعيد عن السور فليس بضار فترك ...

أما بغداد فكان سورها متينا ، وخندقها عميقا جدا ، ولذا احتار العدو في أمره ولم يقدر على قلع حجر منه بمدافعه ... أما بنادقه فكانت تذهب هباء.

وأما الجانب الغربي فمعمور الجهات ، وإن دجلة كانت خير حارس مانع. وتراقب السواحل أن يعبر أو يجتاز. وضعت عساكر من الجانبين تمنعه من العبور ولا تدعه ينصب الجسور ... ولم يزل هذا الجانب سالما من الحصار ، متيسرا فيه كل ما يحتاج إليه فيستمد أهل الجانب الشرقي منه ما يتطلبون بدون عناء وكلفة ...

ومن أيام مجيء نادر شاه كتب الوزير إلى حكومته يطلب منها المدد ورفع الحصار عنهم. فلم يتيسر للحكومة آنئذ القيام بأي أمر من أمور الحرب. ادارتها منحلة ولم تتمكن من الامداد والمساعدة.

كتب والي الرقة إلى أحمد باشا يستطلع رأيه في إرسال المؤونة من (بيره جك) إلى بغداد بصورة أمينة وسالمة مبينا له من يختاره من شيوخ الموالي من حمد العباس ، أو الشيخ فندي لمحافظة السفن ، وأخذ التعهد منهم بذلك ...

الجانب الغربي :

وفي غرة رمضان عبرت الأعاجم إلى الجانب الغربي قريبا من تكريت ، ولم يشعر بهم أحد ، رفعوا مدافعهم وخيامهم وكانت تجاه العسكر فظنوا أنهم ملّوا الحرب ، أخبروا الوزير بما وقع فقال إذا كان

٢٧٤

الأمر كذلك فاحرسوا الشرائع وصفّوا ألف فارس كل يوم يراقبونها فيقطع على العدو العبور. فبقي الحال كذلك إلى أن عبروا من ناحية دجيل ليلا ... وإن أهل الجانب الغربي اهتموا للأمر وبنوا سورا من اللبن عرضه نحو خمسة أذرع بذراع الكرباس ... وحفروا خندقا واسعا عميقا إلا أنه لم يتم بناء السور ولا حفر الخندق. لأن الوقت ضاق والعدو أحرجهم. فلم يشعروا إلا وفي غرة شهر رمضان بعد نصف الليل هاجمهم ولكن القوة الموجودة في جانب الكرخ أوقفته عند حدّه وحدثت معركة طاحنة بين الفريقين أودت بنفوس كثيرة فمثلت يوم المحشر في وقعها فلا تسمع غير الضرب والقتل ودامت الحرب طيلة تلك الليلة حتى مطلع الشمس.

وفي هذه المعركة كان الأعداء أكثر إلا أن جيش الوزير كان مدافعا في مواطنه فأبدى بسالة ومقاومة وحارب حربا دامية فتمكن من صده ...

ثم دامت الحرب سجالا بين الفريقين حتى أدركهم المدد من قره مصطفى باشا فزاد في شجاعة القوم وقوى أملهم فألزموا العجم مكانهم ومنعوا تقدمهم بل صاروا ينهزمون ويفرّون من مواقع القتال ... ورد المدد فثبتوا.

وعلى هذا حمي الوطيس واشتد القتال لدرجة أنه صار أشبه بالفزع الأكبر من هول ما جرى والكل صابر على مضض القتال. أبدى الجيش بسالة وإقداما لا مزيد عليهما فلم يقصّروا في الدفاع عن المدينة ووقفوا سدا حائلا ، ولم يحصل فيهم وهن.

أما مدد ايران فكان يتزايد ، والجنود تتكاثر ... فكانت امارات الغالبية ظاهرة فيهم فوصلوا إلى المنطقة بين الكاظمية وبغداد إلا أنهم استولى عليهم الرعب وحذروا من البقاء هناك فتركوا هذا الموقع من تلقاء أنفسهم وولوا الادبار وعاد الجيش إلى محله ... وفي المعركة قتل

٢٧٥

خزيندار (خازن) الوزير فنقل جثمانه ودفن في باب المعظم. وكان صاحب الحديقة شاهد الوقعة.

شورى :

شاهد الوزير هذه الحالة من عبور اعدائه ، ورأى تزايد شرورهم ، فأكثر عدد الحرس والمحافظين ... سوى أنه علم بالخطر المحدق به ، وأن أمر المحافظة صعب عليه جدا فشاور من معه فأجمع الرأي على العبور إلى (جانب الرصافة) والدخول في القلعة ... فأمر بذلك. ولمدة ثلاثة أيام عبر الأهلون من الجسر وبوسائط أخرى. وفي هذه الحالة انتهكت أعراض وهلكت نفوس كثيرة من شدة الزحام ... فحل العدو محلهم وهدم الدور واستخدم الاخشاب والأبواب لجيشه من أجل اتخاذ حمّامات ودكاكين في معسكره فأحاط ببغداد من ثلاث جهاتها فصار يطلق المدافع والطلقات الأخرى للتضييق ولكن ثبت القوم على الحصار وصار الوزير يرسل بالعساكر كل يوم لمحاربة الاعداء ، فكانت الحرب سجالا ...

إن نادر شاه استولى بهذه الصورة على القرى والضياع المجاورة والبعيدة فصارت تأتيه الارزاق والحاصلات والحاجيات الأخرى من أماكن بعيدة فزاد رفاه عسكره وأما الأهلون في بغداد فإن حالتهم كانت في منتهى السوء لكنهم تجلدوا وصبروا ، وأخفوا حزنهم وكدرهم ... ففي كل يوم يذهبون لحرب العدو. انقطعت عنهم القوافل والسوابل ولم يبق لهم اتصال بالخارج ، وإن الاقوات الموجودة في بغداد قلت وأصاب الناس الضنك الشديد فتبدل رغد عيشهم بالعسر. ومن شدة الجوع أكلوا لحوم الكلاب والبغال والحمير والسنانير ... ومن ثم تولدت فيهم أمراض وعاهات قاتلة.

والحاصل أن الاضطراب بلغ حده واستولت الحاجة على الأهلين فصاروا يرتكبون في سبيل ذلك أنواع المنكرات. وحوادث الجوع

٢٧٦

كثيرة ... كانت تجلب عطف الوزير وتألمه فكان يسكب الدمع الغزير ولكنه لم يبد عجزا ولا فتورا في المحافظة. يتجوّل في الأماكن ويحرّض من جهة أخرى على المبارزة والدفاع ...

كان إذا اجتمع بأناس وشاهدوا بعض القنابل وقعت قريبا منهم وقد خافوا عنفهم لئلا يستولي الرعب على الناس وكان يرسل بعض من لم يكن معروفا فيتسور سور بغداد ويدخل المدينة مبشرا بورود المدد من جانب الدولة.

بذلك تمكن من تسلية الأهلين لبضعة أيام إلا أن تكرر الحادث وعدم ظهور نتيجة سبب عود اليأس ...

ولذا عزم الينگچرية والأهلون ـ لما استولى عليهم من الضجر والسآمة أن يتقدموا لمحاربة العدو. فإما أن ينالوا ما يتمنون ، فيرفع الحصار ، أو أن يموتوا بشرف وعزة دون أن يهلكوا جوعا وحتف أنوفهم ...

علم الوزير ومن معه من الوزراء بذلك فبيّنوا لهم غلط الفكرة وأنها لا تخلو من محاذير وأن النصر مأمول فنصحوا الجميع بالعدول عن ذلك.

أما نادر شاه فإنه لم ير لهذه المحاصرة نهاية فكتب كتابا عن لسان مفتي العسكر إلى علماء بغداد مؤداه :

إن بغداد جسيمة وأمر محافظتها يحتاج إلى قوة وقدرة وأنتم ليس لكم جيوش ولو كانت لظهرت. فالمحاصرة امتدت ومات عباد الله من الجوع. قولوا لأحمد باشا لا يقتل الخلق عبثا وليسلم فأجابه الوزير بما ملخصه أننا لم يكن وضعنا ناشئا عن ضعف وأن توقفنا كان لحكمة اقتضت. وسترون ما سيحل بكم. وتيقنوا أنكم لن تنالوا منا ولو حجرا واحدا فضلا عن مملكة.

ثم إن نادر شاه ركن إلى ارسال بعض أكابر رجاله إلى الوزير ليكلمه في أمر الصلح ظاهرا بأمل الاطلاع على الحالة من ضيق أو

٢٧٧

رفاه. ولينظر قلة الجيوش وكثرتها وضعف الأهلين وقوتهم ورصانة السور ووهنه والقلعة ووضعها ودرجة قابليتها للمقاومة ومعرفة الأوضاع والأحوال الأخرى.

أما الوزير فإنه جعل في طريقهم جميع الحالات الجيدة الداعية إلى النشاط مما يدل على القوة وعدم الضعف بإحضار أنواع الأطعمة وإعدادها للبيع بأثمان بخسة فبيع رغيف الخبز بأربعة فلوس مع أنه كان يباع بليرة (دينار ذهبا) بصعوبة ولا يتيسر الحصول عليه فكان الوزير يعطي النقصان من خزانة الدولة ليكمّل ثمنه الحقيقي ...

واتخذ للايرانيين ضيافة بديعة دعت إلى اعجابهم فكذبوا الإشاعة القائلة بأن بغداد في مجاعة ففاوضوا بالصلح ، ولكن ظهر أخيرا أنهم لم يكن منهم الصلح إلا خديعة. وإنما قصدوا أن يدققوا أحوال بغداد من جميع الوجوه فلم يجدوا ما يحقق ظنهم بل غيروا اعتقادهم عن مسموعاتهم. ولما عادوا أخبروا بما شاهدوا ... وعلى هذا وافق على الصلح ودخل في مذاكرته فأرسل محمد باشا وراغبا الدفتري ببغداد ...

وفي أوائل ذهابهم إليهم رأوا منه لطفا والتفاتا زائدا وقال : بغداد طيبة الهواء وأتيت ببذور البطيخ معي فزرعتها هنا فكانت صالحة الثمر وأريد أن أرسل إلى أحمد خان (باشا) منها. وجدوا التفاتا أزال عنهم الرعب والخوف. ولكنه أحضر راغبا ليلا وتكلم معه عكس ما كان فاه به نهارا وكان علم بوصول المدد من الدولة العثمانية فكان داعية رفضه أمر الصلح.

ثم إنه دعا محمد باشا وراغبا الدفتري وتهور عليهما قائلا : إن غرضي لم يكن بغداد وحدها وإنما أقصد قيصر الروم ودياره فلماذا يتوقف أحمد باشا قولوا له ليسلّم بغداد فأجابوه بأنهما حينما يذهبان يقولان له في التسليم وقصدهما النجاة من مخالبه ...

ولما عادا قصّا ما وقع على الوالي فقال لو قطعت إربا إربا لما

٢٧٨

سلمت إليه حجرا واحدا فضلا عن مملكة ... ولذا أطلق عليه مدفعا يشير به إلى أنه عازم على الحرب فتعاطيا الطلقات العديدة ... واشتركت مدفعية الطرفين وأوقدت نيران الحرب مجددا ...

وحينئذ اشتد الأمر بالناس وضاقوا ذرعا وخرجت المخدرات من بيوتهن لما نالهن من سغب فلم يبق تحمّل. أما الوزير فإنه فادى بخيله لذبحها وإطعام الناس منها وكذا تابعه الأغنياء والأمراء فساعد كل على قدر استطاعته حتى لم يبق من الخيول والحيوانات ما يقتاتون به وصاروا يأكلون الشريس وحبّ القطن بسبب ما ألحهم من الجوع ... فاستولت عليهم الأمراض فلا تمر في طريق حتى ترى الواحد والاثنين والثلاثة أمواتا.

وصلت الحالة بالناس أن صاروا يستهينون بالموت لما نالهم من عظيم المصيبة ولذا اتفقت كلمة الينگچرية والأهلين أن يموتوا شهداء أولى من أن يموتوا جوعا ... سمع الوزير بالخبر فدعا الرجال البارزين منهم وبيّن لهم خطل هذا الرأي. وأن النتائج المترتبة عليه أكبر خطرا. بذل الجهد ليعدلهم عن رأيهم حتى تمكن.

حوادث سنة ١١٤٦ ه‍ ـ ١٧٣٣ م

المدد :

بينا الأهلون والجيش بهذه الحالة من اليأس وانقطاع الأمل إذ جاء المدد من الدولة على يد القائد طوپال عثمان باشا أي الاعرج فأحيا الأمل وأوجد النشاط. فعلم نادر شاه بذلك أثناء مذاكرة الصلح فكان السبب في تعنّده.

ومن ثم أبقى قسما من جيشه نحو اثني عشر ألفا لمناوشة المحصورين ومضاربتهم ليلا بالمدافع والخميرة لئلا يعلموا بحركته هذه ،

٢٧٩

٢٨٠