موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٨

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٨

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

١
٢

٣
٤

من لم تفده عبرا أيامه

كان العمى أولى به من الهدى

ابن دريد

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

(وبعد) فالتاريخ بيان حياة الأمم فلم نر شعبا أهمل أمره ، ويرجع تاريخنا في القدم إلى أبعد العصور ، سجل حوادثه الحربية والسياسية ، وله الفخر في مضمار السبق في هذا التدوين. وكذا دوّن ثقافة العصور أو تاريخ التفكير ، وتعزى إلى التاريخ منافع جمة اجتماعية وتشريعية وأدبية وعلمية وسائر ما يتعلق بالحضارة كما نعلم منه نفسيات الأمم. ومجتمعنا أولى في استفادتنا وأحق بالتفهم ، فهو حياتنا في مختلف العصور ، وفيه تاريخ نضالنا تجاه العتاة القساة المعتدين والطامعين المدمرين ، فندرك الأخطار التي انتابتنا لنتوقى تكرارها ولا شك أننا نستفيد منه أكثر من تلقين الناصحين وأكبر من وعظ الواعظين ، لتلافي النقص ، وسدّ الخلل ، وكل ما فيه تجارب يعد إهمالها جهلا أو غفلة بل جريرة يؤخر بها سيرنا أمدا طويلا. والعراق طافح بأمثال هذه الحوادث وليس بعد المعرفة مستعتب من لزوم الذبّ عن حريتنا.

وحوادث هذا العهد تمتد من سنة ١٢٨٩ ه‍ ـ ١٨٧٢ م إلى سنة ١٣٣٥ ه‍ ـ ١٩١٧ م. وفي هذه عبرة كبيرة من المحتم أن نتحاشى تكرار ضررها حذر أن تنطبق علينا آية :

٧

(... لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ...) [سورة الأعراف :

الآية : ١٧٩].

أجارنا الله تعالى من سوء الأيام وهدانا إلى طريق الرشد وسدد خطانا ؛ إنه ولي الأمر.

نظرة عامة

مشاكل العراق وحوادثه الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية كثيرة لا تحصى وما دوّن منها قليل من كثير. وليس في الوسع الإحاطة بها. وكل هذه تحتاج إلى تثبيت بقدر الإمكان وهكذا ما كان متوقعا ومفاجئا ، ومنها ما هو مألوف معتاد. والعراق تأثر بها ، فلم يقف مكتوف اليدين ...

ورد بغداد ولاة كثيرون تعاقبوا بعد مدحت باشا ونعجب أن لا يطرأ خلل عظيم على إدارتهم مع أننا نشعر بخطل منهم على الأغلب. وكيف ينجحون ومدحت باشا أتعب من جاء بعده بل إنهم ولّدوا استياء عاما ونفرة شاملة فلم يذكر الولاة بعده بخير الأعمال وجليلها إلا في عهد المشروطية في الأغلب.

نعم أعجز من جاء بعده وظهر الخذلان الذريع فلم يفلح وال في عمل بل توالى ولاة كان هذا شأنهم مدة ليست بالقصيرة إلى أن أعلن الدستور. فهل كان هذا مقصودا من الدولة أو أنها فقدت الاختيار أو خافت ممن يلي خوفها منه ، لما أفزعوها به فحذروها منه فصارت تترقب حدوث الغوائل ، وفي هذا الخوف ضياع القدرة والرشد ، وموت المزايا الفاضلة.

بعد أمد قصير صار مدحت باشا صدرا أعظم (رئيس الوزراء)

٨

وأعلن الدستور وتكوّن مجلس الأمة ولم تمض مدة حتى أخفق العمل وانتهك الدستور وصارت الإدارة مستبدة ، فتغلب السلطان عبد الحميد على الأحرار ، والأمة كانت غير متأهبة ...

الإدارة غير صالحة ، والثقافة في ركود أو كانت تراعي الظواهر ليقال إن لها مؤسسات ثقافية ، وحالة الشعب في هدوء وطمأنينة لا يعلم ما يراد به ، وفي أمر كهذا لا يقال في الإدارة أكثر من أنها سيئة ولكنها تعلن في صحفها (أسايش بر كمالدر) أي الراحة والطمأنينة على أتمهما.

دام هذا وامتد إلى أيام إعلان المشروطية ثانية في ٢٣ تموز سنة ١٩٠٨ م (٢٤ جمادى الثانية سنة ١٣٢٦ ه‍) ومن ثم حصل تبدل فجائي في الدولة فأعلن الدستور مرة أخرى وكان توقف العمل به مدة فمال الشعب برغبة لا مزيد عليها إلى أن ينال حقوقه ويحصل على ما يؤكد مطالبه السياسية والحياتية من جميع وجوهها.

الأمد قصير إلا أنه أحدث انتباها عظيما ، والشعب حاول الاستفادة من أوضاع الأمم الحرة وما هي عليه لينال مرغوبه ، وكان الأمل فيه كبيرا في انكشاف الثقافة والانصراف إليها فتأهب للحياة الديمقراطية الحقة والتنظيم الاجتماعي الصالح.

والمهم أنه شوشته الحزبيات. وكانت ضرورة لا بد منها إلا أنها انقلبت إلى مماحكات واضطرابات فلم تستقر ولم يكبح جماحها من إدارة قويمة حتى جاءت (الحرب العامة الأولى) فقضت على هذه الفرحة واجتثتها من أصلها ، فحلت الإدارة العسكرية (العرفية) بعد ذلك التوسع على الناس في الحرية وانقلبت الآية فبلغ التضييق أشده.

ركن العثمانيون إلى الألمان بأمل أن يكون لهم موقع ممتاز بين الدول فأضاعوا ما عندهم وخسروا الحرب واحتلت الدول بلادهم ، فكان ما كان ، وانتهى الأمر بالتسليم بلا قيد ولا شرط.

٩

كان احتلال بغداد والاستيلاء على العراق وانتزاعه من الدولة العثمانية آخر المراحل وأعظمها خطبا وأشدها مصابا لو لا بيان قائد الجيوش البريطانية (السر ستانلي مود) بأنه جاء محررا ولم يكن فاتحا فلم يقطع الأمل ولم يمت الرجاء مما لا يكون موضوع بحث في هذا العهد.

والحاصل أن المشروطية كانت نعمة وانتهت بنقمة بعد الحرب ، واحتلال بغداد. والأمة صارت في ريب من أمرها وساورتها الهموم والآلام. اليأس قتّال. والأمر بيد الله يصرفه كيف يشاء. (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٦] ومن كان يدري ماذا يحدث أو لعل الأمة تنال الآمال الكثيرة ويتبدل بؤسها بنعيم ويتغير وجه الأرض ويتحقق وعد القائد. دخلت في جدال عظيم ونضال مستميت ثم هدأت ..

المراجع

تكاثرت الظباء على خراش

فما يدري خراش ما يصيد

تزايدت المراجع وتكاثرت بسبب تكاثر المطبوعات وتأسست خزائن الكتب فوصلت إلى درجة الإشباع وصرت في حالة تردد أو حيرة في الاختيار ، والرغبة توجه الاشتغال ، وتذلل الصعاب. ولا شك أن بعض المراجع السابقة امتدت إلى هذه الأيام ، وبعضها تجدد ظهوره ، والمكررات كثيرة ، والمطالعات متوفرة إلا أن العمر قصير والقدرة محدودة ... والاقتصار على المهم أو الأهم ضروري.

وعهدنا هذا أدركنا الكثير من أيامه وذقنا حلوه ومره شاهدنا أيام الاستبداد وزمن الدستور وأوقات الحرب بما فيها من غوائل وآلام ومحن وما فيها من أفراح وأتراح. وصفحات هذه الحقبة تدعو إلى تنقل الكاتب تنقلا غير مطرد بل تضطره إلى تحول مضطرب. يرى المرء نفسه في

١٠

حاجة ماسة إلى تدوين صفحات قد يكون شاهد عيانها أو من المطلعين على كثير من أوضاعها ولكن المرء تعوزه المعرفة التاريخية المتقنة الصحيحة أو إلى ما يذكّر بالحالة المشهودة والتبصر بما لم يكن من شهوده.

نعم إن هذه القصة لا يمليها الخيال ، ولا تكملها بعض الأوضاع التي يضطر القصصي إلى اللجوء إليها ، أو إلى أن يكتبها تتميما لما يجلب الأنظار وإنما تمليها الحياة الواقعية والحوادث اليومية بصفحاتها ...

كثرت الوثائق فنرانا في حاجة قصوى إلى الاستزادة ومنهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال. والميل إلى تثبيت ما وقع مما هو مشاهد يحتاج في الأغلب إلى سعة اتصال بالحوادث وهذه الضرورة لا مندوحة لنا منها. ولا تزال المراجع غير مجموعة ولا منسقة والعوائق أو الموانع كثيرة لا تحصى ومنها ما أدى إلى تشتتها ولا تزال حوادثنا محتاجة إلى تنظيم وتنسيق. ومن هنا تولد العناء والتعب. وعندنا جريدة الزوراء تمتد إلى عهدنا هذا وتلازمه حتى نهايته بل إلى آخر يوم منه تقريبا والأمل أن ينال التتبع مكان من جمع شمل الوثائق والمصادر. ولخزائن الكتب الفضل في مثل هذا التنظيم أو الجمع مهما كان نوعه. والعلم كله في العالم كله. ومن المستطاع أن تذكر زيادة عما جاء في سابق العهود بعض الوثائق الجديدة.

١ ـ سياحت ژورنالي (تقرير السياحة). رحلة في استنبول إلى الموصل فبغداد فالبصرة وفيها بيان المواقع الأثرية ، والحاضرة إلى أيامه. وذكر المؤلف فها بعض الشخصيات مفصلا من جراء الاتصال بهم فهي خلاصة موجزة للولايات الثلاث لا سيما بغداد فقد ذكرها بإسهاب ولعلها أوسع سياحة بعد (سياحتنامهء حدود). ورأينا غالب نظراته صائبة وتدويناته مهمة والأوضاع التي مر بها نافعة.

١١

ألفه عالي بك والي (طربزون) السابق ومدير الديون العامة طبع سنة ١٣١٤ ه‍. نشره رؤوف بك باستنبول ، وكانت مدة سياحة المؤلف من سنة ١٣٠٠ ه‍ إلى سنة ١٣٠٤ ه‍. وكان مفتشا عاما لإدارة الديون العامة في ديار بكر وسعرد. ورد أيام الوالي تقي الدين باشا.

٢ ـ طريق الحج من الأحساء إلى الرياض فالحجاز (مكة والمدينة). كتبها مفتي العسكر الشيخ داود السعدي وكان مفتيا للجيش في الأحساء ، فذهب إلى الحج ودوّن الطرق التي مر بها ، وهذه الرسالة طبعت في مطبعة الزوراء أو مطبعة الحكومة سنة ١٢٨٩ ه‍ ثم أعيد طبعها في لغة العرب (١) ، سافر مع القائد نافذ باشا ، فقرب هذا القائد ابن سعود لجهة الدولة.

٣ ـ تقرير الأحساء. لأحد المتصرفين. ولم يصرح باسمه فلم نتمكن من معرفته ولكنه فصل أحوال الأحساء ، من مناطق إدارية ، وعشائر ، وأحوال معاشية وسائر ما تمكن من تدوينه عن الأنحاء المجاورة. وهذا التقرير كتب سنة ١٣٠٤ ه‍ أو سنة ١٣٠٥ ه‍. ويكمله كتاب السيد داود السعدي ، ومن تاريخ دخول الأحساء في حوزة الدولة العثمانية كتبت عدة تقارير ورسائل وكتب.

٤ ـ (نجد قطعه سي وأحوال عموميه سي). كتاب مهم في تاريخ نجد كتبه الأستاذ حسين حسني في حرب آل سعود أيام الحاج أحمد فيضي باشا ، ويتعرض لوقائع أخرى ، تهمنا العلاقة بالعراق وكتب آخرون يأتي ذكرهم عند الكلام على انتزاع الأحساء من الدولة العثمانية.

٥ ـ ثروت فنون : مجلة مهمة جدا تعرضت لبعض ولاة بغداد

__________________

(١) لغة العرب ج ٣ ص ١١٧ ـ ١٢٦.

١٢

وفصلت أحوالهم وتصدت لنواح مهمة من العراق وهي من الصحف المعتنى بما تكتب في تقدير القيمة العلمية والأدبية.

٦ ـ رسملي كتاب : من المجلات المهمة في عهد المشروطية ولها علاقة كبيرة بالعراق واتصال مكين به. ذكرت نواب العراق ونشرت تصاوير رجاله.

وهناك مجلات كثيرة مثل (مصور محيط) وجرائد عديدة يطول بنا تعدادها. ومن أهمها (شهبال) المجلة المعروفة.

٧ ـ لغة العرب. من المجلات البغدادية المهمة. ولها مساس عظيم بالعراق وتدوين حوادثه وبيان رجاله البارزين. قام بتحريرها المرحوم الأب أنستاس ماري الكرملي وشارك في تحريرها عراقيون كثيرون ويهمنا منها ما يتعلق بالعهد الذي نكتب فيه. وتوفي الأستاذ الأب في ٧ ـ ١ ـ ١٩٤٧ م.

٨ ـ الرقيب. من الجرائد المهمة. كتبت في أيامها حوادث عديدة وتعرضت أحيانا للماضي ، وشارك فيها جماعة من الكتّاب الأفاضل ... وكان يحررها الأستاذ المرحوم عبد اللطيف ثنيان الكاتب القدير صاحب المؤلفات النافعة. وتوفي في ٢١ نيسان سنة ١٩٤٤ م.

٩ ـ الإيقاظ. جريدة أصدرها في البصرة الأستاذ سليمان فيضي وهي من الجرائد المهمة في أحوال القطر. وتوفي الأستاذ في ١٩ ـ ١ ـ ١٩٥١ م.

١٠ ـ التهذيب. جريدة كان يصدرها معالي الأستاذ الشيخ محمد أمين عالي آل باش أعيان العباسي المتوفى في ٢٩ ـ ٥ ـ ١٩٢٨ م وهي من الجرائد المهمة توضح وقائع القطر. صدر العدد الأول منها في يوم الثلاثاء ١٣ جمادى الأولى سنة ١٣٢٧ ه‍ ـ وذلك بعد الإيقاظ بشهر واحد. وكان محرر القسم التركي الأستاذ عمر فوزي.

١٣

١١ ـ صدى بابل. للأستاذ داود صليوا المتوفى ٤ ـ ١١ ـ ١٩٢١ م في مجلدات منها نسخة في خزانة الآثار ببغداد. وهذه الجريدة تتعرض لحوادث كثيرة كشفت عن أوضاع القطر من بعض الوجوه.

١٢ ـ الروضة. للأستاذ السيد عبد الحسين الأزري وتوفي ١٧ ـ ١٢ ـ ١٩٥٤ م وكان صديقنا وهو من الأخيار وصحيفته هذه أسبوعية وحوادثها مهمة جدا ومنها ما يتعلق بالعراق خاصة. عندي نسخة منها.

١٣ ـ صدى الإسلام. وتتناول أيام الحرب الأخيرة. ولا تخلو من وقائع القطر لم نر سواها ، وسوى الزوراء. كان يحررها الأستاذ السيد عطاء جميل آل الخطيب المفتي. وتوفي ٢٢ ـ ١ ـ ١٩٢٩ م.

هذا والكتب التركية ، والتقارير ، والكتب المترجمة بعد الحرب كل هذه تبصر بوقائع القطر لا سيما مذكرات رجال بارزين مثل جاويد باشا وجمال باشا ، وحازم بك ، وبعض مؤلفات سليمان نظيف بك ومؤلفات أخرى لا تحصى. ولا شك أن ما تركه أمثال هؤلاء يرشدنا كثيرا إلى مؤلفات تفسر الأوضاع الحربية ومشاهدة الحرب ومعرفة دوافعها وهذه ليست بالقليلة. وحاجتنا إليها كبيرة استعدادا للطوارئ وتوقيا من ويلاتها في المستقبل بأن نكون على أهبة من غوائلها ومحنها. وهكذا وثائق عديدة ومجموعات تعين حادثة أو بضع حوادث مما لم يكن عاما مما نذكره في حينه وأقل ما في ذلك التعريف بأوضاعنا. وما عليه الأمم مما يدعو إلى الاهتمام. وتوقي الأخطار واتخاذ ما يلزم لصيانة العزة القومية والحياة الفاضلة أن يمسها سوء أو اعتداء.

وعلى كل حال إن هذه الوثائق كثيرة لم تنسق ولم تنظم بالوجه المطلوب وقد بذلنا قصارى جهدنا في تثبيتها في كتاب (التعريف بالمؤرخين للعهد العثماني) وبعض هذه لا يستفاد منها إلا القليل وبعضها أكثر فأكثر فأكتفي بالإشارة ، والنقل يعين في محله.

١٤

بقية

حوادث سنة ١٢٨٩ ه‍ ـ ١٨٧٢ م

ولاية محمد رؤوف باشا

الوالي محمد رؤوف باشا :

عزل الوزير مدحت باشا في أوائل ربيع الأول سنة ١٢٨٩ ه‍ ـ ١٨٧٢ م فخلفه في الوزارة محمد رؤوف باشا وإثر وروده بأيام قلائل سافر مدحت باشا إلى استنبول من طريق البحر في ١٣ مايس سنة ١٨٧٢ م. والوالي الجديد لم تبد منه قدرة بل تضاءلت قدرته أو انعدمت تجاه أعمال مدحت باشا وماذا يؤمل من وال يأتي بعد مدحت؟ فلا شك أن الخذلان يكون حليفه ولا يتصور أن يصل إلى درجة سلفه (١).

لم نجد لهذا الوالي فرمانا. ويهمنا أن نقف على ما جرى في أيامه من وقائع فهي ظاهرة عمله وميزان قدرته (٢). فإذا كان مدحت باشا فاق أقرانه من الوزراء بسياسته وثقافته الكاملة. فإن محمد رؤوف باشا كان من طبقة الوزراء الذين لا تعرف سوى أسمائهم ولا يعرف لهم عمل أو يبدو الخلل أو الخطل في أوضاعهم وأعمالهم ..

اللواء حمدي باشا :

جاء من نجد ، وفي طريقه أصابه المرض ، ولما ورد بغداد توفي. وأخبرت جريدة الجوائب أنه قتل في المحاربات مع العرب في نجد. وهذا غير صحيح.

التسجيل في الطابو :

جرى التسجيل في الطابو للأراضي الأميرية خاصة في بعض

__________________

(١) الزوراء عدد ٢٤٨ في ١٣ ربيع الأول سنة ١٢٨٩ ه‍.

(٢) الزوراء عدد ٢٦٦ و ٢٦٩.

١٥

الأنحاء العراقية ، وتعيّن مصطفى أفندي لهذا الأمر في بغداد. وكان قائممقام النجف ، فصار مأمور الطابو ، ومن ثم شرع بذلك ، وأعدت له العدة ، إلا أن النقص ظاهر في العمل وإن كان قد نشر قبل هذا نظام الطابو وتعليماته وقانون الأراضي. فكانت هذه القوانين والأنظمة طول هذه المدة لم يعمل بها. والغالب أن التسجيل كان فيما تفوّضه الحكومة.

وكانت تسجيلات البيوع للمسلمين تجري في المحكمة الشرعية ، وأما غير المسلمين فكانت تسجل في كنائسهم وبيعهم. وعند اليهود (الشيطار) تعني الحجة أو الوثيقة المشعرة بالبيع والشراء للأملاك ، وتستعمل غالبا في الأملاك ، فاستمرت إلى سنة ١٢٩٨ ه‍. وكانت السجلات تسمى (شيطاروث) إلى ما قبل إسقاط الجنسية لليهود سنة ١٩٥١ وأصل اللفظة من (سطر وتسطير). أو كما يقولون (شيطار) يعني السطر ويقصد به المكتوب أو المدوّن.

ولم يعمل بالتسجيل في الطابو بالوجه الأتم إلا في أيام عبد الرحمن باشا ، فإنه يعدّ مؤسسا وإلا فإن التسجيل جرى في التفويض أيام مدحت باشا ومن بعده وهو أيام معاون الوالي الجديد. وفي ٢٠ ذي الحجة سنة ١٢٨٩ ه‍ قد قيل إن الطابو تأسس منذ سنتين أو ثلاث سنوات في الخطّة العراقية ، فتهافت الناس على هذا التسجيل (١) ..

المحاماة :

تعد المحاماة في الغرب مهنة محترمة ويعتبر المتصف بها من الطبقة الممتازة. وفي هذا العهد أصبحت مهنة وضيعة في نظر الناس ، وتستخدم كنبز ، يقولون (أوقات) ، أو (أوقاتي) تصرفا بهذا اللفظ ، ويعني

__________________

(١) الزوراء عدد ٣٢٣ في ٢٠ ذي الحجة سنة ١٢٨٩ ه‍.

١٦

الوكيل بالخصومة. جاء في الزوراء أنها ولّدت استياء في حين أنها مناظرة في الدعوى تابعة لآداب البحث بإظهار كل جانب أدلة موكله.

رئيس الهماوند :

وهو فقي قادر سلم نفسه للحكومة ، فوصل إلى بغداد ، وتعهد رئيس عشيرة گوران عزيز الله خان من عشائر إيران بتسليم الهماوند ، وأن ينكل بهم (١).

أخبار نجد :

تنبىء بأن الأمير سعود الفيصل تشتت شمله ، والجيش العثماني في نجد يتمتع بالصحة. والمخابرات جارية من طريق البحر يصل المركب إلى (رأس التنورة) في ثلاثة أيام ، وهو أسهل من طريق البر ، وصار مركبان يشتغلان في هذه الطريق مناوبة لتسهيل النقل (٢).

شيخ عنزة :

وهو ساجر الرفدي قد توفي ، فاختارت الحكومة الشيخ عبد المحسن الهذّال ، وهذا تعهد بإسكان عشيرته ، فكان أميرا عليهم بلقب (قائممقام). شكل له (قضاء المحسنية) باسمه في كربلاء ، وكتب إلى متصرف كربلاء بذلك ليختار لهم موطنا لائقا ، فلم يتم الأمر ، ولا تزال عشائر عنزة إلى اليوم في حالة البداوة (٣).

__________________

(١) الزوراء عدد ٢٥ في ١٢ ربيع الآخر سنة ١٢٨٩ ه‍ وفي عشائر العراق ج ٢ تفصيل.

(٢) الزوراء عدد ٢٦٨ في ٢٣ جمادى الأولى سنة ١٢٨٩ ه‍.

(٣) في عشائر العراق تفصيل أحوال عنزة ج ١ ص ٢٥٨ وما بعدها.

١٧

العمارة :

هذه البلدة (١) تكوّنت سنة ١٢٧٨ ه‍ ـ ١٨٦١ م ، وكانت تسكنها عشيرة (دوزاوة) من اللر الفيلية ، وجملة عشائر بدوية فأقامت الحكومة البلدة. وكانت بيوتها من الطوف ، وإن متصرفها مراد وهو أبو گذيلة أنشأ جسرا له جساريات (دوبات) ، وبتشويق من قائممقامها حسين بك شرع الملاكون في بناء بيوتهم من الآجر. ومضت البلدة في التقدم في الأبنية والعمارات بسرعة (٢).

التشكيلات الإدارية :

الأنحاء الملحقة ببغداد كانت تقوم إدارتها بـ (قائممقامية). وهذه ألغيت كما ألغي منصب معاون الوالي وأودعت مهمته إلى (قائمقام الوالي) وعهد بها إلى (ثابت باشا) قائممقام النواحي سابقا (٣). وألغيت إدارة النافعة أيضا (٤).

ثم إن متصرفية السليمانية جعلت قائممقامية وربطت بـ (لواء شهرزور). ومن ثم كانت الدولة قد اتخذت طريق الاختصار في التشكيلات الإدارية التي جرت أيام مدحت باشا .. ومما جرى اختصاره من الألوية أن جعلت ألوية العمارة ، والدليم ، وكربلاء. أقضية إلا أن الأمر لم يستمر طويلا حتى أعيدت كما كانت (٥).

__________________

(١) في تاريخ العراق بين احتلالين ج ٧ بيان تاريخ تكوّنها.

(٢) الزوراء عدد ٢٥٦ في ١٢ ربيع الآخر سنة ١٢٨٩ ه‍ وعدد ٢٩٠ في ١٣ شعبان سنة ١٢٨٩ ه‍.

(٣) الزوراء عدد ٢٥٨ في ٢٣ ربيع الآخر سنة ١٢٨٩ ه‍.

(٤) الزوراء عدد ٢٦٠ في ٢٦ ربيع الآخر سنة ١٢٨٩ ه‍.

(٥) الزوراء عدد ٢٨٣ في ١٩ رجب سنة ١٢٨٩ ه‍.

١٨

حوادث :

١ ـ ولي مدحت باشا الصدارة في الدولة ، وقد أبرق إليه كثيرون من بغداد يهنئونه فشكرهم. وجاءت برقية إلى الولاة يطلب فيها أن يقوموا بالمهمات المودعة إليهم خير قيام ، وأن يبدأوا في أعمالهم بما يترتب من الحمية والاهتمام الزائد (١).

٢ ـ دام القحط سنتين بسبب قلة الأمطار ،والمحتكرون تحكموا بالناس الأمر الذي ودعا الحكومة أن تمنع تصدير الطعام إلى الخارج لما رأته من التجار في استغلالهم الوضع ، وشرائهم كافة الأطعمة.

٣ ـ إن رئاسة الفيلق السادس عهدت إلى الفريق نافذ باشا متصرف لواء شهرزور.

٤ ـ تكررت الحوادث من عشائر شمر ، فأضروا بالأهلين والآن أخلدوا للسكون والطمأنينة ، وأدوا الميري بسبب رئيسهم أو متصرفهم فرحان باشا (٢) ويعرف بالشيخ. وهو أخو الشيخ عبد الكريم الذي قبضت عليه الحكومة وقتلته.

٥ ـ كثر الإعلان ، والتفويض بالمزايدة لأراضي أميرية عديدة منها في قضاء خراسان (خريسان) ، وفي قضاء الصلاحية (كفري) ، وفي أنحاء الحلة والمحاويل والمدحتية والجربوعية (ناحية القاسم). وفي البصرة وخانقين ، ونشرت قوائم هذه المقاطعات ، فاستمرت الحكومة على ما قام به مدحت باشا. إذ إن بقاء الأراضي باسم الحكومة خسارة كبيرة. لأنها محتاجة إلى المال ولم تقصد أنها لم تتداولها الأيدي فتستفيد مما يجري عليها من المعاملات وما ينالها من الإعمار. والتفويض ببيع

__________________

(١) الزوراء عدد ٢٧٠.

(٢) الزوراء عدد ٢٧٤ في ١٥ جمادى الثانية سنة ١٢٨٩ ه‍. والمجلد السابع من تاريخ العراق بين احتلالين.

١٩

الأراضي الأميرية خاصة ولا يطلق على غيرها.

٦ ـ عشيرة السواعد كانت في أنحاء العمارة ، وإن رئيسها موزان المحمد مال إلى إيران ثم عاد بعشيرته البالغة ٣٠٠ بيت.

٧ ـ جرت حوادث لليزيدية أوضحناها بتفصيل في تاريخ اليزيدية المعدّ للطبعة الجديدة. وهذه الوقائع مهمة جدا.

٨ ـ إن قائممقام نجد السابق عبد الله الفيصل استعان بالدولة بأمل أن يستقل بالأحساء فلم توافقه فذهب لحاله. ووردت برقية من الكويت تفيد أن سعودا اغتال أخاه (عبد الله الفيصل) .. وأن سعودا أبدى طاعته للدولة ، وأرسل أخاه (عبد الرحمن الفيصل) إلى متصرفية نجد وقائدها الفريق محمد باشا ، فنال الالتفات اللائق ، وما يستحق من احترام وترحيب (١). وهو والد جلالة السلطان عبد العزيز آل سعود. وجريدة بدر التي تصدر باستنبول تنحي باللائمة على المصاريف والجهود المبذولة في سبيل نجد وتقول ذهبت هباء (٢) .. وقد مرّ في المجلد السابع الكلام عليهم.

٩ ـ كان يزرع التبغ في أنحاء عديدة من المملكة ، ونظرا لوضع الرسوم عليه (رسوم الدخانية) ترك الناس الاشتغال به ، وفي هذه الأيام حصل تشويق لزرعه مرة أخرى (٣).

١٠ ـ في الرمادي لم يوجد جامع ، فجرت تشويقات من متصرف لواء الدليم أشرف باشا فجمع إعانة كافية لإقامة هذا الجامع ، فشرع بالبناء في شوال سنة ١٢٨٩ ه‍ ، وتم ، فجرى افتتاحه في ١٢ ربيع الأول

__________________

(١) الزوراء عدد ٢٩١ في ١٧ شعبان سنة ١٢٨٩ ه‍.

(٢) الزوراء عدد ٣٠٣ في ٢٩ شهر رمضان سنة ١٢٨٩ ه‍.

(٣) الزوراء عدد ٣٠٠ في ١٨ شعبان سنة ١٢٨٩ ه‍.

٢٠