موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٥

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٥

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

وسحب جيشه جميعه فهاجم المدد. كمن لهم في مصب نهر العظيم وعلى حين غرة فاجأهم بأمل أن يقضي عليهم وكانوا في حالة مبعثرة.

حينئذ صرخ بهم مهاجما فجعلهم شذر مذر بحيث لم يتيسر جمعهم فانكسرت الساقة والمقدمة والجناحان وأن الساقة لم يؤمل منها عودة إلى نظام. فرّ لا يلوي على شيء حتى وصل إلى الموصل ولكن القلب ثبت ولم يتغير نظامه لما فيه من الينگچرية والجيوش المدربة لا سيما وقد كان معهم القائد طوپال عثمان باشا ، فجمعوا باقي الجيوش من المقدمة وغيرها مما أمكن إعادته وحرض الكل على القتال وشجعهم كثيرا فأخذ جانب دجلة. لئلا ينقطع عنهم الماء ...

عبأهم بالوجه اللائق وكان يقال لهذا النوع من التعبئة (چرح فلك) أي نصف دائرة ، وجهوا المدافع نحو الاعداء وصوّبوا البنادق فتقابل الجيشان بعددهما الكاملة وتصادما. وهناك الهول بحيث لا يستطيع أن يعبّر القلم عن بعض ما جرى فأنست هذه الحرب ما تقدمها في شدتها وحرارة نيرانها ... فلم تمض مدة حتى قتل من العجم خلق لا يحصون وظهرت بوادر الغلب عليهم. صاروا ينسحبون رويدا رويدا والجيش التركي في أثرهم لم يمهلهم عقب القوم حتى لم ينج منهم إلا القليل فلم يدعوا لهم مجالا للفرار والهزيمة. وذكر صاحب نتائج الوقوعات أن نادر شاه جرح في هذه المعركة (١). ولم يتحقق ذلك.

وحينئذ وصل الخبر إلى المحصورين ليلا وعند الصباح هاجموا البقية الباقية واستولوا على الارزاق والمعدات والأسلحة والمدافع

__________________

(١) نتائج الوقوعات ج ٣ ص ٢٣ وهذا الكتاب من تأليف مصطفى نوري باشا المتوفى سنة ١٣٠٧ ه‍. طبع سنة ١٣٢٧ ه‍ في أربعة مجلدات. وفي (تاريخ ايران) للأستاذ عباس برويز طبعة سنة ١٣١٤ ه‍ ـ ش هلك في هذه الحرب نحو عشرين ألفا من كل جانب. ص ٧١.

٢٨١

والخيام. وقع ذلك في يوم الأحد ٧ صفر سنة ١١٤٦ ه‍.

وبعد ثلاثة أيام وصل المدد إلى بغداد فدخلها بعظمة وشوكة إلا أن البلدة كان أصابها القحط فلم يقدر الجيش أن يبقى مدة طويلة. وفي (نتائج الوقوعات) أن أحمد باشا حذر من بقاء القائد فلم يأمنه واعتذر بقلة المؤونة فعاد ...

وبذلك زال البؤس وصارت السوابل تتوارد إليها.

ومن ثم تراجع الأهلون وعاد كل إلى مأواه ...

عودة نادر شاه إلى بغداد :

دامت محاصرة بغداد سبعة أشهر فكانت بلاء عظيما لم ير الأهلون مثله في غابر الأزمان فكل من نجا من هذه الغائلة اكتسب حياة جديدة. ففرح الجميع بزوال الخطر. ولكن لم تمض مدة حتى وصل نادر شاه إلى همذان فجمع جيوشه ولم شعثه فعاد إلى بغداد مرة أخرى.

نظم له جيشا كالأول وتقدم به ... وأما الجيش العثماني فإنه رجع إلى مواطنه. فاغتنم نادر شاه هذه الفرصة إذ لم يبق مع طوپال عثمان باشا في كركوك إلا القليل. كما علم بما بث من جواسيس وأن بغداد لا تزال في قحط ...

كانت الحالة في العراق مضطربة ولكن عثمان باشا حينما سمع بخبر نادر شاه جمع بعض الجيوش رغم تفرقهم فقاومه لمدة لم يطل أمدها فقتل عثمان باشا أثناء الحرب فخلا الجو لنادر شاه وحينئذ ضاعف جيوشه على بغداد ...

كانت حالة بغداد معلومة. المؤونة مفقودة والجيوش متفرقة والپاشوات مضوا إلى مواطنهم فانقطع الرجاء في المدد بل استحال أمره ، فصار الوزير والأهلون في ارتباك حالة من رجوع نادر شاه لا سيما

٢٨٢

وقد علموا أن طوپال عثمان باشا قتل ، ولكن الوزير عزم على الدفاع إلى آخر نفس ...

ومما يلاحظ أن الوزير بعث بعائلته إلى البصرة ، وفي هذه الأثناء أرسل نادر شاه قائده بابا خان إلى جهة الحلة. وهذا خرّب (بستان الباشا) المعروف بهذا الاسم. ومن ثم أعلن الوزير أن من لم يستطع البقاء في المدينة فليخرج ، وليذهب حيث شاء فخرج كثيرون. ولكن الشاه ألقى القبض على غالبهم فقتلهم ، فلم يبق مع الوزير إلا القليل.

ضرب الحصار على البلدة كالأول. فعزم على فتحها فأصابها ما أصابها في المرة الأولى من الضنك والضيق. ولكن المحاصرة لم تطل بل طلب نادر شاه الصلح بسرعة فأرسل رسولا يدعو الوالي إلى إعادة المدافع التي أخذت في همذان ليقبل الصلح.

وكانت هذه المعاهدة ترمي إلى لزوم بقاء الحدود بين ايران والدولة العثمانية على ما كانت عليه قبل حرب الافغان.

اكتفى بهذا لأنه ورد إليه الخبر بأن محمد خان بلوج ثار عليه فتزايد ضرره وتسلط على بلاد كثيرة في فارس.

قبل الوزير بالصلح وأمضى العهد بين الجانبين وفي الحال ذهب نادر شاه لزيارة العتبات ورجع بسرعة إلى ايران.

إن هذه المحاصرة دامت عشرين يوما أو أقل إلا أن الأهلين رأوا منها مضايقة أشد من الأولى (١).

__________________

(١) حديقة الزوراء ص ١٢٠ ـ ١٢٣ وفيها تفصيل المشاهدات ، ودوحة الوزراء ص ٢٨ ـ ٣٨ وتاريخ ايران للأستاذ عباس برويز ص ٧٣.

٢٨٣

عربان الجزيرة :

إن الحكومة بعد أن مهدت ارجاء بغداد حوّلت عزمها نحو عربان الجزيرة. قالوا : وكانت رأت منهم أمورا أنكرتها من مناصرة العدو وإظهار العيوب. والدلالة على مواطن الضرر والمساعدة من كل وجه ... وأن عصيان هؤلاء كان خطرا أكبر فأظهروا الموافقة للشاه وتابعوه في الأغلب وبصّروه بمواطن الضعف مما لم يتيسر له الوقوف عليه لولاهم ...

فلما اندفعت تلك الغوائل عن الحكومة عزمت على الانتقام من هؤلاء وتأديبهم. ولذا سيّر الوزير أحمد باشا كتخداه محمد باشا إلى الحلة ومنها سار إليهم ...

وأول ما وجّه عزمه نحو شمر. وكانوا معتزين بكثرة جموعهم وعددهم فحصلت معركة قوية بين الطرفين دام القتال نحو بضع ساعات ثم دارت الدائرة على العشائر فقتل منهم الكثير وكسر الباقون وكانت الغنائم وفيرة. وأطلق سراح من أسر ...

ثم إن الكتخدا توجه نحو (آل قشعم). و(زبيد). وهؤلاء أوردوا موارد من سبقهم ، وأسر شيوخهم فأرسلوا إلى بغداد مكبّلين فعفا عنهم الوزير على أن لا يعودوا لمثلها.

بقي الكتخدا هناك مدة نظم في خلالها الأمور وأمن الطرق ورجع إلى بغداد ظافرا ...

وحينئذ بالغ الوزير في إكرامه وألبسه كرك سمّور ، فكانت تعد هذه الوقعة من أكبر مفاخره.

ويلاحظ هنا أن الحكومة كانت تختلق أنواع الأسباب للوقيعة بالعشائر كلما أحست من نفسها بقوة بأمل النهب والسلب. وهذا ما

٢٨٤

أحكم العداء بين العشائر والحكومة بحيث صار كل ينتظر الفرصة للوقيعة بصاحبه (١).

اليزيدية :

أرسل الوالي العساكر فنهبوا قرى اليزيدية على الزاب فتبعهم حسين باشا الجليلي وأخذ ما نهبوا وعاد (٢).

حوادث سنة ١١٤٧ ه‍ ـ ١٧٣٤ م

الوزير إسماعيل باشا

عزل ونصب :

عزل الوزير أحمد باشا ووجهت إليه ايالة حلب فامتثل الأمر ونصب مكانه إسماعيل باشا ، وكان والي طربزون (٣).

سفر أحمد باشا ووقائعه في طريقه :

أطاع أحمد باشا الأمر أملا في أن يستريح من غوائل بغداد المتمادية ، بالرغم من أن هذا المنصب أقل من سابقه مع أنه كانت له قوة من الكولات تبلغ (١٢٠٠) مملوك ، وهم صنوف بينهم الآغوات وجميع من كان في دائرته يبلغون اثني عشر ألفا. مطيعين له طاعة تامة (٤).

عزم على الذهاب فتوجه إلى محل وظيفته ... ويعزى سبب عزله

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٣٨ ، وحديقة الزوراء ص ١٢٥.

(٢) عمدة البيان.

(٣) تاريخ صبحي ص ٦٣ ـ ١ ودوحة الوزراء ص ٣٩.

(٤) نتائج الوقوعات ج ٣ ص ١٠٧.

٢٨٥

إلى ما كان بينه وبين علي باشا بن الحكيم من الخصومة ...

كانت بعض العشائر تضمر له العداء فلما علمت بعزله حاولت الانتقام منه ، والوقيعة به لما نالها منه فرابطت له في طريقه ، وأهم من عرف من هؤلاء عشيرة (الغرير والشهوان) وتابعتهما عشائر أخرى ، وكان الغرض الاستيلاء على ما عنده ، والوقيعة بمن معه من جند ، هاجمها بمن معه وصال عليها صولة مستميت لما علم من نياتها كما أن من معه من جيوش فادوا بأنفسهم وحملوا حملة صادقة ...

قالوا : دامت الحرب بين الفريقين مدة فأبدى هو وجنده بسالة لا مزيد عليها فكانت النتيجة أن هزموا هؤلاء العربان وقتلوا منهم الكثيرين وغنموا غنائم وفيرة وذهبوا في طريقهم حتى وصلوا إلى الموصل ...

عسكر خارج البلدة. وحينئذ قدم عرضا للدولة يطلب أن يعفى من حلب وأن يعين إلى غيرها في موطن قليل الموارد والمصادر. وعلى هذا أجيب إلى ما طلب فنصب لإيالة أورفة (الرها). سار إلى محل وظيفته الجديدة ... ولما قارب ماردين شكا إليه أهلها صولة (الكيكيّة) وهم مشهورون. قالوا نهبوا القوافل ، فأقلقوا الراحة ولم يقدر أحد على ردعهم ، فسمع هذه الشكوى وسار عليهم في جيشه فلما قاربهم تأهبوا للقتال وللنضال. لكنهم لم يلبثوا طويلا ولم يقووا على القراع ففروا وصار القسم الأعظم منها طعما للسيوف وبذلك رفع كيدهم وقضى على غائلتهم ...

ثم سار حتى قارب اورفة فاستقبله الأهلون والعشائر واحتفلوا بقدومه ، أذعنوا له بالطاعة ، ثم بعد أيام وفدت عليه عشيرة طيىء فرحب بأمرائها ... ثم رحلوا عنه شاكرين.

وبعد ذلك قام بتأديب (عشيرة البقارة) ، وتلاها بعشيرة (قوجه عز الدين) وكانوا يسكنون في (جبل الگاوور) بين حلب وأورفة ويعنون به

٢٨٦

جبل النصارى. فأمن الحالة والطمأنينة (١).

وجاء في تاريخ نشاطي أن الوزير عزل في سنة ١١٤٧ ه‍ ووجهت إليه مدينة حلب. وقبل أن يصل إلى تلك الإيالة أنعم عليه بمنصب الرقة. وفي شعبان دخل الرها (٢) ...

بغداد أيام الوزير إسماعيل باشا :

أما الأهلون في بغداد فقد كانوا يتحسرون على أيام أحمد باشا ، ويحسبون أنها لا تعود إليهم مرة أخرى. فيئسوا من صلاح الحالة ، اختل النظام داخلا وخارجا وفقد الأمن وتشوشت الأمور بحيث استحالت السيطرة على الادارة. فأحال الوالي الأمر في الخارج إلى رؤساء العشائر وليس لهم تلك الكفاءة والقدرة.

وهنا يلاحظ أن إسماعيل باشا كان واليا قديما لكنه قليل الخبرة بأحوال العراق وأصول إدارته. ولذا اضطربت الإدارة في أيامه فاستغاث الأهلون منه ونقموا عليه ... فالينگچرية عاثوا في الداخل وكانوا ألوفا متعددة. قال صاحب الحديقة : أخبرنا الكهول أن هؤلاء كان بأيديهم حكم البلد في أيام الولاة الأول لا يقدرون على إذلالهم غير الوزير أحمد باشا وأبيه حسن باشا. وإلا فقد شاهدنا أعمال هؤلاء أيام إسماعيل باشا ومحمد باشا كما قدمنا بل شاهدنا أفعالهم بعد موت أحمد باشا. وكذا العشائر استفحل أمرها في الخارج (٣).

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٣٩. وحديقة الزوراء ص ١٢٨.

(٢) تاريخ نشاطي.

(٣) دوحة الوزراء ص ٤٠ ، وحديقة الزوراء.

٢٨٧

حوادث سنة ١١٤٨ ه‍ ـ ١٧٣٥ م

عزل إسماعيل باشا وولاية محمد باشا :

إن الخطة العراقية مهمة جدا من جهة مجاورتها لإيران ، ومن جهة أنها مجمع عشائر مختلفة ، ومحل إثارة القلاقل فالضرورة تدعو إلى حسن إدارتها وأن تعهد إلى وزير منحك يقوم بشؤونها.

ولما كان زمن إسماعيل باشا أيام تسيب وانحلال ضجت الناس ، وشاع التذمر من إدارته فاقتضى ايقاف الأحوال عند حدودها خشية أن يتسع الخرق فيصعب تسكين الوضع ...

وفي (گلشن معارف) (١) أن الوزير إسماعيل باشا اختير للصدارة فذهب من بغداد بسرعة فوصل إلى اسكدار في ١١ جمادى الأولى فبقي في الصدارة ٨٧ يوما ثم عزل.

عهد بإدارة بغداد إلى حسين باشا الجليلي والي الموصل إلى أن يأتي الوزير محمد باشا (٢). وكان من الصدور السابقين.

عودة نادر شاه :

قضى نادر شاه على غائلة محمد خان بلوج سنة ١١٤٦ ه‍. وفي السنة التالية لها سمع أن عبد الله باشا الكوبريلي والي مصر سار إلى أنحاء قارص بجيش لجب. سارع إليه فحدث تصاف بين الفريقين قرب اريوان في صحراء بغاوند فكان ربح الشاه هذه المعركة بعد قتال عنيف. وفيها استشهد القائد عبد الله باشا. وأجرى الصلح على أساس ما جرى

__________________

(١) ومثله في تاريخ صبحي فلا أصل للقول بأنه عزل من ولاية بغداد ص ٦٨ ـ ١ ولم يشاهد أثر للشكاوى.

(٢) كلشن معارف ص ١٢٨٠ ـ ٢ ودوحة الوزراء ص ٤٠.

٢٨٨

مع أحمد باشا والي بغداد. ثم ذهب إلى صحراء مغان فأعلن سلطنته في ٢٤ شوال سنة ١١٤٨ ه‍ وبهذا انقرضت الدولة الصفوية. وبعد ذلك قصد ارضروم فاختار السلطان الوزير أحمد باشا قائدا لمقارعة الشاه فأصدر فرمانه بذلك ودعاه للمهمة بعد أن أثنى على أعماله وأعمال والده وما قاما به من الخدمات الجليلة. جهزت الدولة ما يلزم من جيوش وأمراء ومهمات وذخائر له وكان هذا الوزير مطلعا على دخائل نادر شاه ومكايده وقادرا على تحمل الخطوب الجسام ، وأهلا للنضال وخوّل أن يتصالح معه إذا رغب في الصلح ، فتوجّه بعساكره الجرارة وجحافله ... ولما وصل إلى قرب أرضروم وجد الأهلين في ارتباك فأزال عنهم الخوف وسكن من روعهم.

وجاء في تاريخ نشاطي أنه في سنة ١١٤٨ ه‍ أودعت إليه قيادة الجيش في أرضروم ، ومنح ايالة الأناضول في ١٥ ربيع الأول وأورد نص الفرمان. فعزم على الذهاب إلى أرضروم في ٢ شهر ربيع الآخر متوجها إليها.

وفي رجب دخل أرضروم ، وشرع في عقد الصلح مع نادر شاه ، فكان عمله سمعة وسلامة (١).

رأى نادر شاه أن الدولة العثمانية اهتمت للأمر وعزمت على المقارعة وتيقن أن هذه الحروب ليس وراءها فائدة فأذاع أنه لا يزال على العهد ، وأنه لم يقصد سوى تسخير السند والهند ولم يكن له غرض في هذه الديار وإنما قصد تجديد الصلح ...

عاد السفير العثماني مبيتا غرضه المذكور فعرضت القضية على الدولة العثمانية وتمت المعاهدة في جمادى الآخرة سنة ١١٤٩ ه‍ وفيها

__________________

(١) تاريخ نشاطي.

٢٨٩

بيان أن الحدود تبقى على ما كانت عليه في معاهدة السلطان مراد الرابع (١). ثم رجع نادر شاه كما أن الوزير عاد إلى مقر حكومته ...

ويلاحظ أن نادر شاه حوّل عزمه لمقارعة من لم يكن معتاد الحروب متمرنا عليها. ألهم هذا الخاطر مما وقع من التأهبات في أنحاء الاناضول. فوجد أن الأمر لم يكن مقصورا على العراق (٢) ...

حوادث سنة ١١٤٩ ه‍ ـ ١٧٣٦ م

وزارة أحمد باشا :

إن الحكومة العثمانية نظرا لما قام به أحمد باشا من محافظة الحدود ، وصد غائلة نادر شاه ، وإنهاء أمر الصلح معه أنعمت عليه انعامات عظيمة وأصدرت الفرمان بعزل محمد باشا ونصبه مكانه ... لما رأته من مرض محمد باشا واعتلاله بعلة (داء الفيل) دون أن يهتم بأمر العراق فاختلت الاحوال واضطربت داخلا وكذا العشائر انحرفت عن الطاعة في حين أن الإدارة أيام أحمد باشا وأبيه كانت على ما يرام من راحة وطمأنينة وأن الينگچرية كانوا منقادين يخشون البطش فلم يستطيعوا أن يتدخلوا في الأمور.

زالت الطمأنينة واستولى الهلع وتحرك أحمد باشا من أورفة إلى بغداد فوصل إليها في ٨ رجب وعين سليمان باشا كتخدا له وأخرج الكتخدا السابق فكان سرور الأهلين بالوالي كبيرا فاحتفلوا به في اليوم

__________________

(١) تفصيل المذاكرات في (تاريخ صبحي) ص ٣٥ ـ ١ إلى ص ٩٢ ـ ٢ كتبت بقلم راغب باشا صاحب السفينة وصاحب كتاب (تدقيق وتحقيق) وهو صاحب الخزانة المشهورة باستنبول. ونص المعاهدة في كتاب معاهدات مجموعة سي ج ٢ ص ٣١٥.

(٢) حديقة الزوراء ص ١٣٠ ـ ١.

٢٩٠

التالي وأن إسماعيل الروزنامة جي مدحه بقصيدة تركية كما مدحه آخرون بجملة قصائد عربية. ثم رتب الوزير رجاله وصار يتحرى عن العابثين ويوقع بهم ... فنكل برؤساء الينگچرية.

قال صاحب حديقة الزوراء حصلت بغيبة الوزير المعارك في مدينة السلام ، وكثر القتل فأظفره الله برؤساء الينگچرية ، فخنق منهم الجبابرة المتمردين وقتل منهم العتاة. ونفى بعضهم عن البلد وحصل بذلك الفرح والسرور ، ولم يبق منهم إلا القليل ولم يترك إلا الضعيف ، فذلت أولاد الحاج بكداش (بكتاش) بعد شموسهم ، وهم إذ ذاك آلاف متعددة وجنود مجندة ، واخبرنا الكهول بأن هؤلاء بأيديهم حكم البلد لم يقدر على اخضاعهم غير هذا الوزير وأبيه صارا مضرب المثل وتفردا بهذا الأمر وإلا فقد شاهدنا أفعال هؤلاء أيام إسماعيل باشا ومحمد باشا بل أيام الحاج أحمد باشا فأخرجوه من البلد على ما سيوضح (١).

ثم رشح الوزير كتخداه السابق محمد باشا فعيّن لإمارة شهرزور برتبة (مير ميران). وكذا بعد مدة حصل لكتخداه سليمان باشا امارة البصرة برتبة (مير ميران) (٢).

حوادث سنة ١١٥٠ ه‍ ـ ١٧٣٧ م

عشائر بني لام :

نظم الوزير الداخل وأكمل كل الوسائل لراحة الأهلين ... ثم عطف نظره إلى أمر الخارج وتنظيمه أيضا ...

علم أنه حين غيابه قامت العشائر بقطع الطرق والشقاء وارتكاب

__________________

(١) حديقة الزوراء ص ١٣٦ ـ ٢.

(٢) حديقة الزوراء ص ١٣٠ ـ ٢ وتاريخ نشاطي ودوحة الوزراء ص ٤١.

٢٩١

المفاسد فعزم على تأديبهم دون تمييز صنف عن صنف.

ومن بين هؤلاء الشيخ عبد القادر شيخ بني لام كان أشد ضررا. تجاوز الحد وأكبر ما يركن إليه أن عشائره وافرة العدد ، كثيرة العدد كما استعان بالمجاورين ، وبالفيلية وناوءوا الحكومة مناوأة تامة فتجمعوا في محل يقال له (علي الظاهر) وهو محل بين بغداد والبصرة (١).

وعلى هذا قدم الوالي أمر هؤلاء على غيرهم فجهز عليهم قوة كافية ، وذهب بنفسه ... عند ما قدم الوزير إلى بغداد كان جاء لمواجهته موح ابن الشيخ عبد القادر للتبريك معتذرا عن والده أنه مريض لا يستطيع الحضور خشية أن يبطش به فقال الوالي له إن والدك مريض القلب وسأتواجه معه وأكرم الابن وسيره. ولم يحقق تهديده إلا في هذه السنة فقام بجيشه.

ولما كانت البصرة تحت حكم هذا الوزير ، وكان الاسطول بيد موسى باشا القپودان شعر الوزير منه ببعض الخيانة فأمر بأخذ الاسطول منه سوى أنه حذر أن يفر بها إلى البحر فاتخذ الوسائل بخصوص تقريبه إليه فجلبه لجهته ثم عزله وحبسه. ونصب مكانه إبراهيم باشا وعهد بالأسطول إليه.

قال في الحديقة :

«سار ـ الوزير ـ في البر والسفن تجري على سيره في البحر. لتكون حاضرة عند الحاجة للعبور وحمل الامتعة والذخيرة والاسلحة ، وهذه السفن ليست كغيرها بل هي على هيئة مراكب صغيرة فيها المدافع والبنادق وسائر آلات الحرب ولها أناس معينون يقال لهم (الفرقدجية) ،

__________________

(١) هو علي الغربي. قال في حديقة الزوراء : سمي باسم صالح قبر فيه. والآن هو قضاء في لواء العمارة.

٢٩٢

ولكل سفينة كبيرة موظفون لهم الوظائف من الخنكار مهيئة للحرب لكنها ربما تحمل التجار بإذن الوالي.» اه (١).

سار الوزير في أواخر السنة الماضية وحينئذ وقع الرعب في قلوب القوم. حاذر الشيخ عبد القادر (٢) على أمواله وعياله من نتائج هذه الحرب فاتخذ بعض الأماكن الحريزة الصعبة المنال واستعد للحرب وأبدى خصومة شديدة وقبل أن يشتبك الفريقان حدثت مبارزة فتجاول الابطال فيها على الانفراد فأبدى كل من الجانبين المهارة ومنتهى البسالة ...

ثم إن الفريقين اشتبكا في الحرب حتى أنهما لم يجدا مجالا إلا التناحر بالخناجر فثبت كل من الجانبين في ساحة القتال ولم يتبين الغالب فكان الهول عظيما. ثم ظهرت علائم النصر في جيش الوزير وولى العشائر الأدبار وقتل خلق كثير وفر الباقون فعقبوهم إلى أخبيتهم واغتنموا أموالهم وأسروا قسما كبيرا منهم ، وعلى هذا ورد جماعة وطلبوا الأمان وتصالحوا على أن يؤدوا الميري ومصاريف الجيش فقبلوا وأبقى كاتب الخزانة وبعض الجيش فصدر الأمر بالعودة (٣) ...

وفي أول سنة ١١٥٠ ه‍ عاد الوزير إلى بغداد.

__________________

(١) حديقة الزوراء ص ١٤١ ـ ١. والفرقته نوع سفينة حربية وعمالها (فرقته جيه) أو كما ذكر في الحديقة.

(٢) ومما ينسب إليه (الجادرية) قلعة قديمة لا تزال آثارها باقية. ويختلط فرعا الغراف (أبو حجيرات) و(شط الأعمى) يختلطان عند (الذنابة) في جنوب قلعة سكر. وإن الجادرية تقع في جنوب الذنابة هذه كما أن (هور حافظ) منسوب إلى أحد رؤساء بني لام مما يدل على سعة سلطتهم (الاستاذ يعقوب سركيس).

(٣) دوحة الوزراء ص ٥٢ وحديقة الزوراء ص ١٤٠ ـ ١.

٢٩٣

ورود سفير نادر شاه :

رغب نادر شاه في تأكيد الصلح فأرسل سفراء إلى الدولة. ورد أحدهم بغداد يوم الخميس ١٠ المحرم سنة ١١٥٠ ه‍ ومعه كتاب إلى الوزير يفيد أن الصلح تم بيننا وقويت روابط الصداقة إلا أن أسرى الطرفين بقوا على حالهم فإذا تم فكهم قويت الأواصر أكثر ورجا أن ينهي ذلك.

تلقى الوزير كتابه هذا بقبول حسن وأجاب الطلب واستقبل السفير استقبالا باهرا وأمر أن تنصب له الخيام وتتخذ الضيافة اللائقة ودعي أن يدخل المدينة (١) ...

بلباس :

قالوا : كانت هذه العشيرة تقطع الطرق وتنهب القوافل فتزعج الراحة. فقصد الوزير التنكيل بها فجهز جيشا عليها. وذهب بنفسه لمحاربتها ولما وصل إليها رآها احتمت بحصونها ومتاريسها وتأهبت فرسانها للغارة والحرب ... لكنها لم تقو على هجمات الجيش فولت الأدبار من أول حملة إلا أن المشاة المتحصنين ثبتوا نظرا لمناعة الأمكنة والاحتماء بها فصاروا يضاربون الجيش ببنادقهم وسهامهم نساء ورجالا.

أما الوالي فإنه أعد العدة للحرب في الأماكن المنيعة. فهاجمهم بالخيالة والمشاة ولم يبال بالدفاع المستميت فتمكنوا من صعود الجبل والموافاة إلى المواقع فأطلقوا السيوف في رقابهم وقتلوا فيهم تقتيلا شائنا وأسرت بقيتهم الباقية ...

ثم إنهم طلبوا الأمان ولما كانوا من اتباع الإمام الشافعي فحرمة لمذهبهم عفا عنهم وعاد الجيش ظافرا منصورا (٢).

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٤٤.

(٢) دوحة الوزراء ص ٤٤.

٢٩٤

قال صاحب الحديقة : لم يكن هؤلاء قطاع طرق ، وإنما كان ذلك لأمر أراده الوزير وإلا فهم شافعية ذوو غيرة دينية وحمية ، أكثرهم طلبة علم وأصحاب جوامع وقرى يكرمون الضيف (١) وجل ما هنالك أن الوزير أراد الغزو والنهب فحصل على مرغوبه من الغنائم!!

سرية أيضا :

وقالوا : وكان هذا شأن بعض العشائر في الجانب الغربي مع أهل القرى. أرسل عليهم الوزير بعد عودته سرية مع كتخداه سليمان باشا فأدبهم تأديبا تاما ، ثم أغار على عشائر زبيد فلم يقووا على المقاومة ، ففروا من وجهه وقفل راجعا (٢) ، وعلى كل أرادوا نهب أهل القرى والعشائر فحصلوا على الغنيمة.

الطاعون في الموصل :

حدث الطاعون في الموصل ، بدأ في هذه السنة واشتد في السنة التالية. فكان يحدث في اليوم نحو ألف اصابة فأكثر (٣).

حوادث سنة ١١٥١ ه‍ ـ ١٧٣٨ م

عشائر بني لام :

في كل مرة نعتقد أن الوزير قضى على هذه العشيرة وأمثالها لكننا لا نلبث أن نراها عادت إلى ما كانت عليه. فصرنا نشتبه من كل حادث عشائري ونتائجه. وفي هذه المرة قيل إن عشائر بني لام لم ترتدع وإنما استمرت على حالتها من قطع السبل وزادت عتوا فعزم الوالي على محوها حفظا لراحة العباد.

__________________

(١) حديقة الزوراء ص ١٤٤ ـ ١ وعشائر العراق الكردية ج ٢ ص ١٠١ ـ ١٢٨.

(٢) حديقة الزوراء ص ١٤٤ ـ ٢ ودوحة الوزراء ص ٤٥.

(٣) عمدة البيان.

٢٩٥

أراد الوالي أن يخفي أمره فجهز في الخفاء العدد اللازمة فقام من بغداد وأشاع أنه ذهب للصيد.

حذرت العشائر وعلمت أن الصيد وسيلة للإخفاء. لذا تفرقت كل عشيرة وذهبت إلى جهة. ولما وصل الوزير إلى الجوازر أبقى (رئيس آغواته) المسمى (باشا آغا) مع ثلة من الجيش في صحبة ضابط الجوازر لتحصيل الرسوم الأميرية من (ربيعة) وعاد (١).

عشائر ربيعة :

شرعوا في استيفاء الرسوم الأميرية من ربيعة ولما بدأوا بالعمل تأخر عن الأداء بعض رؤسائهم (أبو سودة) فسجنه أميرهم (علي بك) .. ثم إن العشيرة هاجمت الأمير ليلا وقتلته وأخرجت أبا سودة من سجنه وهربت إلى بطون الأهوار ، وتبعتها بقية الفرق ...

ثم إن الجند أخبروا الوزير فأرسل سرية بقيادة كتخداه سليمان باشا. ولما ورد أخبر بأنهم متحصنون بجزيرة يحيط بها الماء من جميع الجوانب فحاربهم من جهة منها رأى فيها ضعفا ومجالا لوصول الطلقات.

ولما صار الليل أبقى الكتخدا البنادقية أمامهم وسار حتى جاء من ورائهم فعبر الجيش. وكان تعوّد على اجتياز أمثال هذه الأخطار أو العقبات. فلم يشعروا إلا والجيش في الجزيرة فصاروا في حيرة من أمرهم.

وربيعة معروفة بالشجاعة وتعد من أقوى العشائر ولها دربة على

__________________

(١) الحديقة ص ١٤٥ ـ ١ ودوحة الوزراء ص ٤٥.

٢٩٦

الحروب ، فلم يكن لها بد من قتال مستميت. شاهدت من الجند ما لم يكن يجول في خاطرها. ولما أصبح الصباح هرب من هرب سابحا ونجا من نجا بنفسه. فاغتنم الجيش خيولها وأموالها (١).

حسكة وأمير المنتفق سعدون :

ثم إن الكتخدا بأمر من الوزير رجع إلى حسكة ليصلح منها بعض الشؤون والصحيح لينال منها بعض الغنائم ، فوردها وأمّن طرقاتها من جميع جهاتها وانقادت عشائر البدو من كل فج. وكان من جملة من قصد أمير المنتفق سعدون بجملة من عشائره. فاتخذ الكتخدا ذلك فرصة للوقيعة به. قالوا : وكان يزعم أنه (سلطان العرب) فقبض عليه وكبّله ورجاله وجاء بهم إلى بغداد ، وسجن في الثكنة الداخلية ، بقي زمنا وكاد يقضي نحبه وأيقن بالهلاك فطلب من الوزير أن يعفو عنه وشفع فيه بعض الأعيان فعفا عنه وجعله رئيسا كما كان وألبسه حلة الرضا (٢).

وقعة الشيخ سعدون :

وفي السنة نفسها أخبر الوزير بأن الأمير سعدون جمع نحو عشرة آلاف مقاتل فنزل بين النجف والكوفة ، وتغلب على بعض القرى ، ومنع الزراع من الانتفاع ... قائلا : أنا السلطان في هذه الديار. وما شأن أحمد باشا وما السلطان؟ إني إن شاء الله آخذ بغداد وأحكم فيها بالعدل ، ومن ثم حاصر الحلة وبقية الضياع ... كما حاصر البصرة قائلا : إنها ملكنا ليس للروم فيها شيء ، وإنا كنا نأخذ كل عام من أهلها الغنيمة (٣) ...

__________________

(١) حديقة الزوراء ص ١٤٥ ـ ١ ودوحة الوزراء ص ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) حديقة الزوراء ص ١٤٧ ـ ١.

(٣) دوحة الوزراء ص ٤٦.

٢٩٧

قال في الحديقة : صدق ... فإن هؤلاء المنتفق أعراب البصرة ، وإنهم أكثر العرب مضرة ، عجزت الولاة عن كسر شوكتهم ، وذلت الوزراء عن درء أذاهم.

نقل عن والده أنه قال : كانت بغداد قبل تولية حسن باشا تأتي إليها العساكر الكثيرة من قبل الدولة والوزراء العديدون يخيمون في الكرخ يأخذون صحبتهم والي بغداد إلى قتال هؤلاء فيرجعون خائبين من فتك أولئك وقوتهم ... وإن أهل البصرة يؤدون الخراج إليهم وإن واليها لا يسلم من ضرهم حتى يفوض الأمر إليهم ، لكن مذ حل الوزير حسن باشا مدينة السلام كسر شوكتهم ، ورفع غائلتهم عن أهل البصرة ، وبعده جرى ابنه مجرى الأب.

نعم كان هؤلاء استخدموا العناصر العراقية بعضها على بعض فتمكنوا وقويت سلطتهم كما أن المماليك كانوا عونا لهم. وكانت طاعتهم عمياء.

سمع الوزير بالخبر فعجل بالمسير وصحبه الاكراد وسائر ما عنده ولما علم بقدوم الوزير عليه قفل إلى ناحية البصرة فتبعه الوزير فاحتجب في بطون الأهوار ، وكسر السد من جميع الجهات ، وكانت طليعة عسكر الوزير الأكراد ورئيسهم عثمان باشا الكردي. فعبرت عليهم من خيول المنتفق الشجعان وقصدوهم فرسانا فالتقوا وبدأت الحرب. تكاثرت عليهم خيول المنتفق حتى صاروا أضعافهم وازدحم عليهم المدد حتى فاقهم فقاتل ذلك اليوم عثمان باشا قتالا تتضاءل عنده الابطال فذهلوا مما رأوا وولوا الادبار وتحرزوا في أهوارهم.

ثم جاء الوزير ووجه عليهم المدافع وحاصرهم لبضعة أيام فلم يبرح. فنالهم الجوع والضيق لحد أن ابن الشيخ سعدون قدم على الوزير وقال له : يا عماه إني جائع فأشبعني وإن أهلي وأقاربي كادوا يموتون

٢٩٨

جوعا فإن عفوت فلك الفضل وإن لم تعف فلا ترجعني إلى أهلي فأهلك معهم فضحك الوزير لذلك وعفا عن سعدون ورجع عنه ...

ولما رجع الوزير عاد الشيخ سعدون إلى ما كان عليه فأرسل سرية أمر عليها كتخداه سليمان باشا ولما وصلوا البصرة أبصروه بالمرصاد ينتظر قدوم العسكر فعزم على القتال. اشتبك الفريقان في الحرب ثم انجلت عن هزيمة سعدون وقومه. تركوا الخيام وقبض على سعدون في المعركة فأخمدت أنفاسه وأرسل رأسه إلى الوزير ولما جاءه البشير أنعم عليه وعلى قاتله بالعطايا الكبيرة وحينئذ أمر أن يسلخ جلد رأسه ويحشى تبنا ويوضع في صندوق ويرسل إلى الدولة لما شاع وذاع عندهم من قوة بطشه (١). وهذا منتهى الحنق ...!

وبعد أيام قلائل وصل الكتخدا إلى بغداد منتصرا فألبسه الوالي الخلعة لما قام به من خدمة وما أحرزه من نصر ...

قال في الحديقة : «ما ثبت في هذا الكتاب هو رواية الأكثر. وحدثني بعض الجند وهو الأصح عندي أن غزوة سعدون كانت بعد غزوة بلباس ، وأن نائب الوزير في بغداد (القائممقام) سمع بغائلة سعدون فخاف من ازدياد شوكته إذا أهمل فأرسل إلى الوزير وهو في بلباس بريدا يخبره بذلك فحين سمع ألوى عنان العزم وسار إليه فحدث ما قدمنا.

وحدثني البعض أن غزوة ربيعة وقضية القبض على سعدون كانت قبل بلباس. وهذا هو الصحيح عندي.» اه (٢).

وفي تاريخ نشاطي ذكرت قضية الأمير سعدون في حوادث سنة ١١٥٥ ه‍ جاء أنه أرسل الوالي كتخداه سليمان باشا على الشيخ سعدون

__________________

(١) دوحة الوزراء ص ٤٧.

(٢) حديقة الزوراء ص ١٥٠ ـ ١.

٢٩٩

شيخ المنتفق ، وهذا قتل الشيخ وبعث برأسه إلى الدولة العلية فأنعمت عليه برتبة (روم اپلي).

وفي مجموعة عمر رمضان أنه قتل سنة ١١٥٣ ه‍ ومثله في عمدة البيان (١). وآل السعدون ينسبون إلى هذا الأمير. فاشتهر امراؤهم باسمه.

تربة العزير :

جاء في سياحتنامه حدود ما ترجمته : «مضينا من القرنة إلى جهة الشمال من طريق دجلة حتى وصلنا إلى منتهى حدود المنتفق ، فرأينا في الجانب الايمن من دجلة المقام الشريف للنبي عزير (ع). وهذا النبي ذو الشأن من أنبياء بني اسرائيل وهناك يهود كثيرون ، وزوارهم أكثر من زوار سائر الملل ، وذلك أن المسلمين والنصارى إذا مروا بطريقهم من بغداد إلى البصرة ، أو بالعكس ووقفت بهم السفينة هناك يتقدمون للزيارة ولكنهم لا يقصدونها خصيصا كاليهود.

إن والي بغداد الأسبق المرحوم أحمد باشا أمر بتجديد بنائه سنة ١١٥٠ ه‍ واتخذ على مرقده الشريف قبة مغطاة بالكاشي واتخذ تربة واسعة وكتب على باب التربة بعد تمامها :

(قد جدّد وعمر هذا المكان المشرف الذي دفن فيه العزير عليه السلام ذو الدولة الوزير المكرم والي بغداد أحمد باشا سنة ١١٥١ ه‍).

والتربة لها ساحة وفي ثلاثة جوانبها حجر إلا أنها خالية ، وليس هناك من يتصدى لتنظيفها وتطهيرها إلا أن نفس التربة الشريفة لها باب مقفل وأن مفتاحه لدى أحد رجال القبيلة التي تسكن هناك. وفي خارج هذه التربة بضعة أشجار وفي داخل الساحة خمس نخلات وقد يعدّ ذكر

__________________

(١) تاريخ نشاطي ومجموعة عمر رمضان. وعندي بخط يده.

٣٠٠