غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-679-9
الصفحات: ٤١٢

واحتجّ في المختلف له بوجوه ، الأوّل : أنّ كفّارة العبد نصف كفّارة الحرّ ، والتنصيف كما يكون في العدد كذا يكون في الوصف ، وكما أجزأ تتابع الشهرين بيوم ، كذا النصف يحصل التتابع به ؛ لأنّ الشهر في معرض النقصان ، فلو أوجبنا تتابع الستة عشر يوماً لزدنا على حكم الشهرين ، فاكتفي بتتابع الخمسة عشر التي تزيد على نصف الناقص بنصف يوم (١).

وحاصله : أنّ كفّارة العبد نصف كفّارة الحرّ ، وكما يُعتبر التتابع بين نصفي كفّارة الحرّ ، بمعنى لزوم اتصال الشهر الثاني بالأوّل ، كذلك يُعتبر بين آحاد النصف الأوّل جميعاً في كفّارة العبد التي هي نصف كفّارة الحرّ ، وكما يكون المعيار في حصول التنصيف في العدد وحصول وصف التتابع بين الشطرين في كفّارة الحرّ بيوم واحد ، فكذلك المعيار في حصولهما في جميع كفّارة العبد ، وإجزاء الشطر الأوّل منها يكون بيوم ، وذلك لأنّ الشهر في معرض النقصان.

فكما لو شرع الحرّ في الصيام في أوّل الهلال واتفق كون الشهر ناقصاً لا يحصل العلم بتنصيف زمان الكفّارة بصوم تسعة وعشرين ؛ إذ قد يكون الشهر القابل تماماً ، فيكون أزيد من الأوّل ، فالتنصيف إنما يحصل بزيادة نصف يوم.

وإذا لوحظ مع ذلك حصول التتابع بينهما ، فلا يمكن إلا بزيادة يوم ، فيكون صوم اليوم الأوّل من الشهر الثاني متمماً للنصف الأوّل ، ولا يتمّ إلا به ؛ لعدم جواز تبعّض الصوم ؛ ومحصلاً لتتابع الثاني ؛ إذ به يدخل في النصف الثاني.

وكذلك العبد لو شرع يوم السادس عشر من الشهر الهلالي واتفق ناقصاً ، فلا يحصل العلم بتنصيف العدد مع تتابع جميع أجزاء الشطر الأوّل إلا بانضمام يوم آخر من أوّل الثاني هو الخامس عشر ، وذلك لأنّ الصوم لا يتبعّض ، فلا يمكن الاكتفاء بنصف اليوم ، فيحتاج في تحصيل تتابع صيام جميع أيّام الشطر الأوّل إلى صوم ذلك

__________________

(١) المختلف ٣ : ٥٦٣.

٤١

اليوم ، فيحصل التتابع بين جميع أجزائه بخمسة عشر يوماً ، أو بصومها يحصل تمام النصف الأوّل وتتابع أجزاؤه على فرض الشهرين تماميين أو ناقصين أو مختلفين ، وإن تفاوت الحال بتطابق الخمسة عشر على التنصيف ، والتتابع في بعض الصور ، وبكونها أزيد من النصف في بعض الصور.

فلو قلنا باعتبار ستّة عشر يوماً لزدنا على حكم الشهرين ، ومقتضى تنصيف وظيفة العبد والحرّ بعد ملاحظة الفرق بين الشهر والشهرين بما قدّمناه عدم الحاجة إلى أزيد من خمسة عشر يوماً.

هذا كلّه إن أرجعنا الضمير المجرور في قوله «يحصل التتابع به» إلى اليوم ، وإن أرجعناه إلى نصف اليوم بضرب من الاستخدام ، أو بجعل اللام في النصف عوضاً عن المضاف إليه ، أعني نصف اليوم فالأمر أوضح.

وأنت خبير بأن هذا بعد تمامه بيان لكيفية التتابع بعد البناء على أنّ المعتبر في الشهر إنما هو متابعة جميع أجزاء شطره الأوّل ، وفي الشهرين متابعة الشهر الثاني للأوّل وإن تفرّقت أجزاء الثاني ، وهو فيما نحن فيه أوّل الكلام ؛ لعدم الدليل عليه ، وقياسه على الشهر المنذور باطل ، وكذلك على الشهرين.

ومن ذلك يظهر ضعف ما استدل به ثانياً أيضاً «من أنّه لا يزيد على النذر المتتابع ، وقد أجزأ فيه تتابع خمسة عشر يوماً ، فيثبت الحكم في الأضعف بطريق الأولى» لمنع الأولوية ، وبطلان القياس.

وأما ما استدل به ثالثاً «وهو روايتا موسى بن بكر المتقدّمتان بتقريب أنّ الجعل على نفسه قد يكون بالنذر ، وقد يكون بفعل ما يوجب ذلك من إفطار أو ظهار أو نحوهما» ففيه : مع ما مرّ من القدح في الرواية أنّ الجعل ظاهر في مثل النذر ، لا في مثل ما ذكر.

والعجب من الشهيد الثاني حيث نفى البأس عن ذلك الاستدلال في المسالك (١) ،

__________________

(١) المسالك ٢ : ٧٢.

٤٢

وهو بعيد جدّاً كما ذكره في المدارك (١).

ثمّ إنّ الكلام في وجوب التتابع وحصول الإثم بتركه وعدمه كما مرّ في الشهرين ، ولكن كثير منهم لم يتعرّضوا للحكم ، وعن المفيد (٢) والسيد في الجمل (٣) أنّه مخطئ بتركه ، وكذلك ابن إدريس (٤) وابن زهرة (٥).

وقال في المختلف : الخلاف في الإثم هنا مع الإجزاء في النذر كما تقدّم في الشهرين (٦) ، ومختاره ثمّة عدم الإثم.

ولا يبعد ترجيح الإثم في المنذور المقيد بالتتابع ، بل ومثل صوم العيد ؛ لوجوب التتابع ، وعدم منافاة رواية موسى بن بكر لذلك.

وأما الثلاثة الأيّام بعد يومين ثالثهما العيد في بَدَل دم المتعة ، فاختلف الأصحاب فيه ، بعدَ اتفاقهم على وجوب التوالي ، كما ادعاه في المنتهي (٧) ، ودلّت عليه الأخبار ، منها موثّقة إسحاق بن عمار ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «لا يصوم الثلاثة الأيّام متفرقة» (٨)

فالمشهور أنه إذا صام يومين ، وكان الثالث يوم النحر ، جاز أن يبني بعد انقضاء أيّام التشريق ، ويستأنف لو كان أقل من يومين ، أو أفطر في الثالث بغير يوم النحر ، وادعى عليه الإجماع في المختلف (٩).

وتدل عليه روايات ، مثل رواية عبد الرحمن بن الحجاج وفي طريقها مفضل بن صالح ، ولكنه ممن قد يروي عنه الحسن بن محبوب عن أبي عبد الله عليه‌السلام : فيمن صام

__________________

(١) المدارك ٦ : ٢٥٤.

(٢) المقنعة : ٣٦١.

(٣) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) ٣ : ٥٨.

(٤) السرائر ١ : ٤١٢.

(٥) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٢.

(٦) المختلف ٣ : ٥٦٤.

(٧) المنتهي ٢ : ٦٢٢.

(٨) التهذيب ٥ : ٢٣٢ ح ٧٨٤ ، الاستبصار ٢ : ٢٨٠ ح ٩٩٤ ، الوسائل ١٠ : ١٦٨ أبواب الذبح ب ٥٣ ح ١.

(٩) المختلف ٣ : ٥٦٨.

٤٣

يوم التروية ويوم عرفة ، قال : «يجزيه أن يصوم يوماً آخر» (١).

وصحيحة صفوان عن يحيى الأزرق ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل قدم يوم التروية متمتعاً ، وليس له هدي فصام يوم التروية ، ويوم عرفة ، قال : «يصوم يوماً آخر بعد أيّام التشريق» (٢).

وروى الفاضل الأصفهاني ، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : «كان جعفر عليه‌السلام يقول : ذو الحجة كلّه من أشهر الحج ، ومن صام يوم التروية ويوم عرفة فإنه يصوم يوماً آخر بعد أيّام التشريق».

ولم نقف على هذه الرواية ، ولعلّه أراد بها ما في آخر صحيحة عبد الرحمن الاتية ، والظاهر أنّ الرواية تنقطع عند قوله عليه‌السلام : «من أشهر الحج» وقوله : «من صام» إلى أخره عبارة الشيخ في التهذيب ، وليس من تتمّة الحديث فتبصّر (٣).

وكيف كان فالمسألة واضحة ؛ لاعتضاد الروايتين بعمل الأصحاب ، والإجماع المنقول ، والأصل ومهجورية ما خالفها ، وإن كان أصحّ سنداً.

وعن ابن زهرة أنّه قال : والثالثة في الحج يوم السابع ، والثامن والتاسع من ذي الحجة ، ومن فرّق صومها عن اختيار استأنف ، وإن كان عن اضطرار وكان قد صام يومين قبل يوم النحر صام الثالث بعد أيّام التشريق (٤) ، فاقتصر على ما لو كان الإفطار عن اضطرار.

ويمكن أن يقال قوله : «وكان قد صام» إلى أخره عطف تفسيري للاضطرار ، فلم تكن مخالفة.

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٣١ ح ٧٨٠ ، الاستبصار ٢ : ٢٧٩ ح ٩٩١ ، الوسائل ١٠ : ١٦٧ أبواب الذبح ب ٥٢ ح ١.

(٢) الفقيه ٢ : ٣٠٤ ح ١٥٠٩ بتفاوت ، التهذيب ٥ : ٢٣١ ح ٧٨١ ، الاستبصار ٢ : ٢٧٩ ح ٩٩٢ ، الوسائل ١٠ : ١٦٧ أبواب الذبح ب ٥٢ ح ٢.

(٣) التهذيب ٥ : ٢٣٠ ح ٧٧٩ ، الاستبصار ٢ : ٢٧٨ ح ٩٨٨ ، الوسائل ١٠ : ١٦٥ أبواب الذبح ب ٥١ ح ٤.

(٤) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٢.

٤٤

وعن الشيخ في جملة من كتبه إطلاق جواز البناء إذا صام يومين (١).

وكذا عن ابن حمزة ، مع زيادة أنّه إن صامَ يوم التروية ، ويوماً قبله ، وخافَ إن صام يوم عرفة عجز عن الدعاء ، أفطر وصام بدله بعد انقضاء أيّام التشريق (٢) ، ونفى عنه البأس في المختلف ، مستنداً بمستند ضعيف (٣).

فالأقوى الاقتصار على ما ذهب إليه الجمهور ، من سقوط التتابع إلى انقضاء أيّام التشريق ، وعدم جواز الإتمام قبله ؛ لدلالة الإجماع المدّعى في كلامهم والأخبار على حُرمة صوم العيد وأيّام التشريق ، مثل صحيحة ابن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل تمتع ولم يجد هدياً؟ قال : «يصوم ثلاثة أيّام» قلت له : أمنها أيّام التشريق؟ قال : «لا» (٤).

وصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : كنت قائماً أُصلي ، وأبو الحسن عليه‌السلام قاعداً قُدّامي ، وأنا لا أعلم ، فجاءه عبّاد البصري ، قال : فسلّم ثمّ جلس ، فقال له : يا أبا الحسن ما تقول في رجل تمتع ولم يكن له هدي؟ قال : «يصوم الأيّام التي قال الله» قال : فجعلت أصغى إليهما ، فقال له عباد : وأي الأيّام هي؟ قال : «قبل التروية بيوم ، ويوم التروية ، ويوم عرفة» ، قال : فإن فاته ذلك؟ قال : «يصوم صبيحة الحصبة ويومين بعد ذلك» قال : فلا تقول كما يقول عبد الله بن الحسن؟ قال : وأيش قال؟ قال : يصوم أيّام التشريق ، قال : «إن جعفر كان يقول : إنّ رسول اللهُ أمر بديلاً يُنادي أنّ هذه أيّام أكل وشرب ، فلا يصومنّ أحد» قال : يا أبا الحسن ، إنّ الله قال (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) قال : «كان جعفر يقول : ذو الحجة كلّه من أشهر الحج» (٥).

وزاد الفاضل الأصفهاني بعد ذلك : ومن صام يوم التروية ويوم عرفة إلى آخر

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٨٠.

(٢) الوسيلة : ١٨٢.

(٣) المختلف ٤ : ٢٧٥.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٢٨ ح ٧٧٤ ، الاستبصار ٢ : ٢٧٦ ح ٩٨٣ ، الوسائل ١٠ : ١٦٤ أبواب الذبح ب ٥١ ح ١ بتفاوت يسير.

(٥) التهذيب ٥ : ٢٣٠ ح ٧٧٩ ، الاستبصار ٢ : ٢٧٨ ح ٩٨٨ ، الوسائل ١٠ : ١٦٥ أبواب الذبح ب ٥١ ح ٤.

٤٥

ما ذكرنا سابقاً ، والظاهر أنّه من كلام الشيخ كما أشرنا.

وما رواه الشيخ ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن هشام بن سالم ، عن سليمان بن خالد ، وعليّ بن نعمان ، عن ابن مسكان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل تمتع ولم يجد هدياً ، قال : «يصوم ثلاثة أيّام» قلت له : أمنها أيّام التشريق؟ قال : «لا» (١).

والظاهر أنّه سقط من السند الثاني سليمان بن خالد ، فإن ابن مسكان يروي كتاب سليمان بن خالد ، ويؤيّده أنّ الكشي روى عن يونس أنّ عبد الله بن مسكان لم يسمع من أبي عبد الله عليه‌السلام إلا حديث من أدرك المشعر فقد أدرك الحج (٢) ، وكيف كان فالسند معتبر.

وعن ابن الجنيد أنّه قال : فإن دخل يوم عرفة أو فاته صوم ثلاثة أيّام في الحج ، صام فيما بينه وبين آخر ذي الحجة ، وكان مباحاً صيام أيّام التشريق ، وفي السفر وفي أهله إذا لم يمكنه غير ذلك (٣).

ولعلّ دليله رواية إسحاق بن عمار وفي طريقها غياث بن كلوب عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام : «أنّ عليّاً عليه‌السلام كان يقول : من فاته صيام الثلاثة الأيّام التي في الحج فليصمها أيّام التشريق ، فإنّ ذلك جائز له» (٤).

ورواية عبد الله بن ميمون القداح وفي سنده جعفر بن محمد ، الذي ليس في حقه توثيق ، وقال في الفهرست : له كتاب (٥) عنه ، عن أبيه عليه‌السلام : «أنّ علياً عليه‌السلام كان يقول : من فاته الصيام الثلاثة الأيّام في الحجّ وهي قبل التروية بيوم ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، فليصُم أيّام التشريق ، فقد اذن له» (٦).

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٢٩ ح ٧٧٥ ، الاستبصار ٢ : ٢٧٧ ح ٩٨٤ ، الوسائل ١٠ : ١٦٤ أبواب الذبح ب ٥١ ح ٤.

(٢) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) ٢ : ٦٨٠ رقم ٧١٦.

(٣) حكاه عنه في المختلف ٤ : ٢٧٣.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٢٩ ح ٧٧٧ ، الاستبصار ٢ : ٢٧٧ ح ٩٨٦ ، الوسائل ١٠ : ١٦٥ أبواب الذبح ب ٥١ ح ٦.

(٥) الفهرست : ٤٤.

(٦) التهذيب ٥ : ٢٢٩ ح ٧٧٨ ، الاستبصار ٢ : ٢٧٧ ح ٩٨٧ ، الوسائل ١٠ : ١٦٥ أبواب الذبح ب ٥١ ح ٦.

٤٦

وهما مع ضعفهما شاذّتان مخالفتان لسائر الأخبار ، كما حكم به الشيخ في التهذيب ، وردّهما (١) ، فلا يعارض بهما ما قدّمناه من الأخبار المعمول عليها ، المدعى على مقتضاها الإجماع.

وقال الصدوق في الفقيه : روي عن الأئمة «: «أنّ المتمتع إذا وجد الهدي ولم يجد الثمن ، صام ثلاثة أيّام في الحج ، يوماً قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة ، وسبعة أيّام إذا رجع إلى أهله ، تلك عشرة كاملة لجزاء الهدي ، فإن فاته صوم هذه الثلاثة الأيّام تسحّر ليلة الحصبة وهي ليلة النفر وأصبح صائماً ، وصام يومين من بعد» (٢).

وظاهر هذا جواز الصيام في ثالث أيّام التشريق ، وكذلك يظهر ذلك من النهاية والمبسوط والسرائر (٣) ، كما حكي عنهم ؛ وعن عليّ بن بابويه (٤) ، [على] أنّه حكي عنهم أنّهم لا يجوّزون صوم هذه الثلاثة في أيّام التشريق (٥).

وربّما يوجّه : بأنّهم إنّما منعوا صوم الثلاثة بأجمعها في أيّام التشريق ، وجوّزوا الشروع فيه في اليوم الثالث.

ولعلّ دليلهم صحيحة صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : قلت له : ذكر ابن السرّاج أنّه كتب إليك يسألك عن متمتع لم يكن له هدي ، فأجبته في كتابك : يصوم ثلاثة أيّام بمنى ، فإن فاته ذلك صام صبيحة الحصبة ويومين بعد ذلك ، قال : «أمّا أيّام منى فإنها أيّام أكل وشرب ، لا صيام ، وسبعة أيّام إذا رجع إلى أهله» (٦) ، بتقريب اقتصاره على إنكار أيّام منى ، فإنّه يشعر بإقراره عليه‌السلام بصبيحة الحصبة ويومين بعدها.

وأُجيب عنه : بأنّ المتبادر من صَبيحة الحصبة اليوم بعدها ، وهو رابع العيد ،

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٣٠.

(٢) الفقيه ٢ : ٣٠٢ ح ١٥٠٤.

(٣) النهاية : ٢٥٥ ، المبسوط ١ : ٣٧٠ ، السرائر ١ : ٥٩٢.

(٤) حكاه عنهم في المدارك ٨ : ٥١.

(٥) انظر المعتبر ٢ : ٧١٣ ، والمدارك ٦ : ١٣٧.

(٦) التهذيب ٥ : ٢٢٩ ح ٧٧٦ ، الاستبصار ٢ : ٢٧٨ ح ٩٨٨ ، الوسائل ١٠ : ١٦٤ أبواب الذبح ب ٥١ ح ٣.

٤٧

كما صرّحت به صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدّمة.

ويؤيّده ما نقل عن الخلاف قال : إنّهم قالوا يُصبح ليلة الحصبة صائماً ، وهي بعد انقضاء أيّام التشريق (١).

وعلى هذا فلا بدّ أن تُوجّه عبارة الفقيه بإرادة الليلة الاتية من قوله : «تسحّر ليلة الحصبة».

وكيف كان فلا يعارض بما ذُكر في استدلالهم ما قدّمناه من الأدلة ، فالعمل على ما قدّمناه.

ثمّ إن الظاهر وجوب المبادرة إلى إتمام الثلاثة بعد انقضاء أيّام التشريق ، ويظهر وجهه مما قدّمناه في مسألة التخلّف عن التتابع لعُذر في الشهرين والشهر.

واعلم أنّ الشهيد الثاني رحمه‌الله قال في المسالك في شرح كلام المحقّق في هذه المسألة : ظاهره أنّ التتابع لا يقطع بالعيد ، وإن كان يعلم أنّ العيد يأتي كذلك ، وإطلاق الرواية يدلّ عليه أيضاً ، ويظهر من بعض الأصحاب (٢) أنّ البناء مشروط بما لو ظهر العيد وكان ظنه يقتضي خلافه ، وإلا استأنف (٣).

وفي الروضة في شرح قَول المصنف «وفي ثلاثة المتعة بعد يومين ثالثهما العيد» قال : سواء علم ابتداء وقوعه بعدهما أم لا (٤) ، وقال : الفاضل في شرحه : لإطلاق النصّ والفتوى من الأصحاب خصوصاً ، وعدم العلم بالعيد بالنسبة إليه بعيد.

أقول : والظاهر أنّ مراده من بعض الأصحاب هو المحقّق الثاني في حاشية الشرائع هنا ، ولكنه في كتاب الحج ، قال : ظاهره إجزاء ذلك ، وإن علم أنّ الثالث العيد ، وإطلاق الرواية يقتضيه.

ويؤيد ما نقله عن بعض الأصحاب ، ما نقلناه عن الدروس في آخر المسألة الاتية ،

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٢٧٦.

(٢) الدروس ١ : ٢٩٦.

(٣) المسالك ١ : ٧٩.

(٤) الروضة ٢ : ١٣٢.

٤٨

إلا أنّ إطلاق الرواية فيما نحن فيه مما لا يقبل المنع ، بخلافه ثمة ، فالعمل هنا على الإطلاق.

الثالث : لا يَجوز لمن عليه صوم مُتتابع أن يبتدئ زماناً لا يسلَم فيه

فلا يجوز صوم شعبان منفرداً لمن عليه شهران متتابعان ، وإن انضم إليه رمضان ؛ لأنّه صوم تعلّق به التكليف بالأصالة ، فلا يتصف بكونه كفّارة.

قال الفاضلان وغيرهما : إلا أن يصوم قبله ، ولو يوماً من آخر رجب (١).

والظاهر عدم الخلاف في المسألة ، وإلا لتطرّق إليها سبيل المناقشة ؛ لما ذكرنا من أنّ الأخبار ظاهرة فيما لو طرأ الإفطار بعد ما كان الزمان قابلاً للشهرين ، لا بمثل أن يشرع من سلخ رجب.

ولم نقِف من الأخبار على ما يظهر منه حكم ذلك ، فإنّ أظهرها دلالة على ذلك إنما هو آخر صحيحة جميل بن دراج ومحمد بن حمران المتقدّمة ، وهو أيضاً يقبل المنع بملاحظة أوّلها.

ويمكن الاستدلال بآخر صحيحة منصور بن حازم المتقدّمة ، فإنّه بإطلاقه شامل لما نحن فيه ، وكيف كان فالعُمدة عدم ظهور الخلاف.

قال في الشرائع تفريعاً على المسألة : ولا يجوز صوم شوال مع يوم من ذي القعدة ، ويقتصر ، وكذا الحكم في ذي الحجة مع يوم من آخر (٢).

وردّ الأوّل في المدارك : بمنع التفرّع عليها (٣) ، ولعلّ نظره إلى وسعة الزمان فلا يقتصر.

أقول : ولعلّ المحقّق أراد البناء في أوّل الأمر مثل ما لو علم أنّ الركب يسافر إلى

__________________

(١) الشرائع ١ : ٢٠٦ ، القواعد ١ : ٣٨٦.

(٢) الشرائع ١ : ٢٠٦.

(٣) المدارك ٦ : ٢٥٤.

٤٩

الحج في ثاني ذي القعدة ، وهو مستطيع ، أو كان صومه منذوراً قبل ذلك.

والثاني في المسالك : بأنّ ظاهره كفاية ضم يومين ، وليس كذلك ، لتوسّط العيد ، فلم يسلم الشهر الأوّل حينئذٍ أيضاً (١).

ويمكن دفعه : بأنّ مراده التمثيل لسلامة الزمان للتكليف ، وعدم السلامة إما من جهة النقص كالأوّل على ما وجّهناه ، وإما من جهة التفريق في الشهر الأوّل ؛ كالثاني. نعم يبقى عليه إشكال الاكتفاء بيوم واحد.

ثمّ إنّ تفريع حكم ذي الحجة إنما يتم على المشهور ، فإنّ الشيخ ذهب في التهذيب إلى أنّ القاتل في أشهر الحرُم يصوم شهرين منها ، وإن دخل فيهما العيد وأيّام التشريق (٢) ؛ لما رواه الكليني رحمه‌الله والشيخ عن زرارة بطرق متعددة معتبرة.

منها : ما رواه الشيخ بِسَنده عن الحسن بن محبوب ، عن عليّ بن رئاب ، عن زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قتل رجلاً خطأً في أشهر الحرم ، قال : «الدّية وصوم شهرين متتابعين من أشهر الحرم» قال ، قلت : هذا يدخل فيه العيد وأيّام التشريق قال ، فقال : «يصوم ، فإنّه حق لازم» (٣).

ومقتضى قوله لزوم صوم ، العيد وأيّام التشريق ، ولكن الرواية ليست بصريحة في ذلك.

فكيف كان فلا يعارض بمثل هذه الرواية مع شذوذها وندرة القائل بها عموم الأحاديث المجمع عليها الدالة على حرمة صوم تلك الأيّام ، كما نبّه عليه في المعتبر (٤) ، وسيجي‌ء الكلام في ذلك.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٧٣.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٩٧ ذ. ح ٨٩٦.

(٣) الكافي ٤ : ١٣٩ ح ٨ ، التهذيب ٤ : ٣٩٧ ح ٨٩٦ ، الاستبصار ٢ : ١٣١ ح ٤٢٨ ، الوسائل ٧ : ٢٧٨ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٨ ح ١.

(٤) المعتبر ٢ : ٧١٣.

٥٠

الفصل الثاني : في الصوم المندوب

وفيه مباحث :

الأوّل : يُستحبّ الصوم في جميع أيّام السنة ، إلا الأيّام التي يَجب فيها الصوم كشهر رمضان ، أو يَحرُم ، كالعيدين ، وأيّام التشريق في منى ناسكاً.

وإن جُعل موضوع المسألة أعمّ مما يجب فيه بالعرَض ، كالأيّام المنذورة عيناً ، أو المحرمة للمرض ونحوه ، فالأمثلة كثيرة.

وأما الأيّام المكروهة ، فذكر الأصحاب أنّها داخلة في المندوب ؛ لجواز اجتماع النَّدب والكراهة ، واستحالة خلوّ العبادة عن الرجحان ، بخلاف الوجوب العيني مع الندب ، وكذا الحرام ؛ لأنّهم جعلوا الكراهة في العبادات بمعنى أنّه أقلّ ثواباً من غيره ، وربّما يعبّر عنه بخلاف الأولى.

والتحقيق : أنّ المكروه في العبادات يمكن تنزيله على المعنى المصطلح ، وهو لا ينافي لزوم الرجحان في العبادات ؛ إذ قد تغلب منقصة الفرد المتحقّقة فيه العبادة مصلحة المهية مع قطع النظر عنه ، فيصير فعله مرجوحاً ، أو ينقص عنه فيبقى الاستحباب ، أو يتساويان فيصير مباحاً.

والتحقيق : إمكان اجتماع الحكمين من الأحكام الخمسة مع تعدّد الجهة ، إنّما المحال

٥١

اجتماعهما من جهة واحدة ، وقد حقّقنا المقام وبسطنا الكلام في ذلك في القوانين المحكمة من أراده فليراجعه (١).

والدليل على رجحان مطلقه : هو الإجماع ، والآية (٢) ، والأخبار ، وقد مرّ بعضها في صدر الكتاب.

منها : الخبر النبوي : «الصوم جُنّة من النار» (٣).

قال في الصحاح : الجُنّة بالضم ما استترت به من سلاح ، والجُنة السترة (٤).

قال في المسالك : المراد به مُوجب للمغفرة والعفو عن الذنب الموجب للنار زيادة على غيره من العبادات ، وإلا فكلّ واجب يقي من النار المستحَقّة بتركه ، وكلّ مندوب يُرجى به تكفير الصغائر الموجبة لها ، كما قال سبحانه (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٥) فقد ورد : «أنّ أعمال الخير من الصوم والصلاة وغيرها تكفّر الذنوب الصغائر» (٦) و (٧).

أقول : استعمال الجُنّة إنّما هو لدَفع سلاح الخَصم الحاصل بالفعل ، وهو في الواجبات على ما ذكره غير مناسب ؛ لأنّ قبل ترك الواجب لم تُخاصمه نار بالفعل ، وإنّما تُخاصمه لو ترك الواجب ، وحينئذ فلا تبقى جُنة تحفظه عن ناره المرتبة عليه.

مع أنّه لا مانع من كونِ فعل الواجب دافعاً للنار المهيأة له بالفعل بسبب آخر ، ومع ذلك فالعمل على إرادة كونه ساتراً عن النار زائداً عن غيره لا يخلو من بُعد.

ويمكن أن يكون المراد : أنّه جُنة من نار الشهوات المفضية إلى النار ، أو مع

__________________

(١) القوانين ١ : ١٤٠.

(٢) البقرة : ٤٥.

(٣) الكافي ٤ : ٦٢ ح ١ ، الفقيه ٢ : ٤٤ ح ١٩٦ ، الوسائل ٧ : ٢٨٩ أبواب الصوم المندوب ب ١ ح ١.

(٤) الصحاح ٥ : ٢٠٩٤.

(٥) هود : ١١٤.

(٦) مجمع البيان ٣ : ٢٠٠.

(٧) انتهى المنقول من المسالك ٢ : ٧٤.

٥٢

نار الغضب أيضاً ؛ للزوم ترك الأكل والشرب فيها ، واهتمام الشرع بترك مقتضى الجهالة والغضب والسفاهة فيها.

أو أنّ سائر العبادات كالأسلحة الدافعة لها ، بخلاف الصوم ، واستعمال الجنة أدرَأ وأدفَع من استعمال الأسلحة ، فمن جهة أنّ الإخلاص في الصوم أسهل في الحصول ، فهو أشبه بالجنة من سائر العبادات ؛ لأنّها تحتاج إلى الإعلان والإظهار ، كالسيف والسنان المحتاجين إلى الرفع والإعلان.

فعلى ما ذكرنا يكون استعارة مُحصلة بهذا القول.

وعلى ما ذكره يحتاج إلى قول آخر مُحصّل للاستعارة في جميع العبادات ، ثمّ جعل التنوين في اللفظة المذكورة في هذا الخبر للتعظيم من باب ذِكر العام وإرادة الخاص.

وفيه : مع أنّه لم يظهر تقدّم قول في ذلك في الأخبار يستلزم مجازين ، بخلاف ما ذكرنا.

الثاني : يُستحبّ مؤكّداً صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر والمشهور أنّه أوّل خميس منه ، وآخر خميس منه ، وأوّل أربعاء في الثلث الوسط.

وذهبَ ابن الجنيد إلى أنّه أربعاء بين خميسين في شهر ، ثم خميسين بين أربعاءين في الشهر الأخر ، وهكذا (١).

وعن أبي الصلاح : الصوم ثلاثة أيّام في كلّ شهر ، خميس في أوّله ، وأربعاء في وسَطه ، وخميس في أخره (٢). وظاهره الإطلاق في العشرات الثلاث من دون اعتبار الأوّل من كلّ من الأُوليين ، والآخر في الأخيرة.

ولا بأس بالعمل بالجميع ، ولكن الأفضل ما ذكره المشهور ، بل يمكن القول بتعيّنه ؛

__________________

(١) نقله عنه في المختلف ٣ : ٥١١.

(٢) الكافي في الفقه : ١٨٩.

٥٣

لأكثرية أخباره ، وأشهريته في الرواية والفتوى ، وأصحية سندها.

فروى الصدوق في الصحيح ، عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «صامَ رسول اللهُ حتى قِيلَ : ما يفطر ، ثم أفطرَ حتى قِيلَ : ما يصوم ، ثمّ صام صوم داود عليه‌السلام يوماً ويوماً ، ثم قُبض عليه‌السلام على صيام ثلاثة أيّام في الشهر ، وقال : يعدلن صوم الدهر ، ويذهبن بوَحر الصدر» قال حمّاد : الوحر الوسوسة.

قال حماد ، فقلت : وأيّ الأيّام هي؟ قال : «أوّل خميس في الشهر ، وأوّل أربعاء بعد العشر منه ، وآخر خميس فيه».

فقلت : وكيفَ صارت هذه الأيّام التي تُصام؟ فقال : «لأنّ مَن قَبلنا من الأُمم كانوا إذا نزل على أحدهم العذاب نزل في هذه الأيّام ، فصام رسول اللهُ هذه الأيّام ؛ لأنّها الأيّام المخوفة» (١).

ورواها الكليني والشيخ أيضاً (٢) ، وفي الكافي «يوماً ، ويوماً لا» ولعلّ المراد من «يوماً ويوماً» أيضاً ذلك.

والوحر : هو الحقد والغَيظ والغِش ، كما عن القاموس (٣) ، وغشّه ووساوسه كما عن النهاية الأثيرية (٤) ، وعن الأزهري (٥).

ويقال : إنّ أصل هذا دويبة يقال لها : الوحرة ، وجمعها وحر ، شبّهت العداوة ولزوقها بالصدر بالتزاق الوحرة بالأرض (٦).

وفي المعتبر : أصلها من الوحرة وهي دويبة منتنة يكره العرب أكل ما تقع عليه (٧).

وعن القاموس : الوَحَرَة محرّكة وزغة كسام أبرص ، أو ضرب من العظاء لا تطأ

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٤٩ ح ٢١٠ ، الوسائل ٧ : ٣٠٣ أبواب الصوم المندوب ب ٧ ح ١.

(٢) الكافي ٤ : ٨٩ ح ١ ، التهذيب ٤ : ٣٠٢ ح ٩١٣.

(٣) القاموس المحيط ٢ : ١٥٩.

(٤) نهاية ابن الأثير ٥ : ١٦٠.

(٥) حكاه في لسان العرب ٥ : ٢٨١.

(٦) حكاه في لسان العرب ٥ : ٢٨١.

(٧) المعتبر ٢ : ٧٠٧.

٥٤

شيئاً إلا سمّته (١).

وعن الأزهري أنّه قال : رأيت الوحرة في البادية ، وخلقتها خلقة الوزغ ، إلا أنّها أشدّ بياضاً منها ، وهي منقّطة بنقط حمر ، وهي من أقذر الدواب عند العرب ، ولا يأكلها أحد (٢).

ويؤيّد تفسير حمّاد ما رواه الصدوق مرسلاً قال ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «صيام شهر الصبر ، وثلاثة أيّام من كلّ شهر يذهبن بلابل الصدر ، وصيام ثلاثة أيّام في كلّ شهر صيام الدهر ، إنّ الله عزوجل يقول (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٣)» (٤) فإنّ البلابل هي الهموم ، وبَلبلة الصدر وسوسته ، كما في القاموس ، وكذا في الصحاح ؛ (٥).

وروى أيضاً في الصحيح ، عن الحسن بن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن محمّد بن مروان ، قال : سمعتُ أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كان رسول اللهُ يصوم حتى يقال : لا يفطر ، ويفطر حتى يقال : لا يصوم ، ثمّ صام يوماً وأفطر يوماً ، ثمّ صام الاثنين والخميس ؛ ثمّ آلَ من ذلك إلى صيام ثلاثة أيّام في الشهر : الخميس في أوّل الشهر ، وأربعاء في وسط الشهر ، والخميس في آخر الشهر ، وكان عليه‌السلام يقول : ذلك يعدل صوم الدهر.

وقد كان أبي عليه‌السلام يقول : «ما من أحدٍ أبغضُ إلى الله تعالى من رجلٍ يقال له : كان رسول اللهُ يفعل كذا وكذا ، فيقول : لا يعذبني الله على أن أجتهد في الصلاة والصوم ، كأنّه يرى أنّ رسول اللهُ ترك شيئاً من الفضل عجزاً عنه» (٦) إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

__________________

(١) القاموس المحيط ٢ : ١٥٩.

(٢) نقله عنه في لسان العرب ٥ : ٢٨٠ ، وتاج العروس ١٤ : ٣٥٢.

(٣) الأنعام : ١٦٠.

(٤) الفقيه ٢ : ٥٠ ح ٢١٣ ، وانظر الكافي ٤ : ٩٢ ح ٦٠ ، والوسائل ٧ : ٣١٠ أبواب الصوم المندوب ب ٧ ح ١٩.

(٥) القاموس المحيط ٣ : ٣٤٨ ، الصحاح ٤ : ١٦٤٠.

(٦) الفقيه ٢ : ٤٨ ح ٢٠٩ ، الوسائل ٧ : ٣٠٥ أبواب الصوم المندوب ب ٧ ح ٥.

٥٥

وفي بعضها التعليل : أنّ كلّ خميس تُعرض أعمال العباد على الله عزوجل ، فأحب أن يُعرض عملُ العبد على الله وهو صائم (١).

وتدلّ على قول ابن الجنيد : رواية أبي بصير ، قال : سألته عن صوم ثلاثة أيّام في الشهر ، فقال : «في كلّ عشرة أيّام ، يوم خميس وأربعاء وخميس ، والشهر الذي يليه أربعاء وخميس وأربعاء» (٢).

وتؤيده رواية إبراهيم بن إسماعيل بن داود ، قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن الصيام ، قال : «ثلاثة أيّام في الشهر : الأربعاء والخميس والجمعة» فقلت : إنّ أصحابنا يصومون أربعاء بين خميسين ، فقال : «لا بأس بذلك ، ولا بأس بخميسٍ بين أربعاءين» (٣).

ولا ريبَ أنّ الأخبار الأوّلة أرجح ؛ لشُهرتها وكثرتها وصحّتها ، وضعف الروايتين.

والشيخ خيّر في التهذيب بينهما (٤).

وأما حجة أبي الصلاح : فلعلّها موثقة زرارة رواها الصدوق ، قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : بما جَرَت السنة من الصوم؟ فقال : «ثلاثة أيّام من كلّ شهر : الخميس في العشر الأوّل ، والأربعاء في العشر الأوسط ، والخميس في العشر الأخر» قال ، قلت : هذا جميع ما جرت به السنة في الصوم؟ قال : «نعم» (٥).

وصحيحة عبد الله بن سنان ، عنه عليه‌السلام ، قال : «إنّ رسولَ اللهُ سُئل عن صوم خميسين بينهما الأربعاء ، فقال : أما الخميس فيوم تُعرض فيه الأعمال ، وأما الأربعاء فيوم خُلقت فيه النار ، وأما الصوم فجُنة» (٦).

والجواب عنها الحمل على المقيد.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣٠٤ أبواب الصوم المندوب ب ٧.

(٢) التهذيب ٤ : ٣٠٣ ح ٩١٧ ، الاستبصار ٣ : ١٣٧ ح ٤٤٧ ، الوسائل ٧ : ٣١٣ أبواب الصوم المندوب ب ٨ ح ٢.

(٣) التهذيب ٤ : ٣٠٤ ح ٩١٨ ، الاستبصار ٢ : ١٣٧ ح ٤٤٨ ، الوسائل ٧ : ٣١٣ أبواب الصوم المندوب ب ٨ ح ١.

(٤) التهذيب ٤ : ٣٠٤.

(٥) الفقيه ٢ : ٥١ ح ٢٢٠ ، الوسائل ٧ : ٣٠٥ أبواب الصوم المندوب ب ٧ ح ٦.

(٦) الفقيه ٢ : ٥٠ ح ٢١٤ ، الكافي ٤ : ٩٤ ح ١١ ، الوسائل ٧ : ٣٠٤ أبواب الصوم المندوب ب ٧ ح ٢.

٥٦

ثمّ إنّ الصدوق في الفقيه قال : وسئل العالم عليه‌السلام عن خميسين يتّفقان في آخر العشر ، فقال : «صُم الأوّل ، فلعلّك لا تلحق الثاني» (١).

وعن ابن أبي عقيل : مُطلق خميس في العشر الأوّل (٢).

وقال ابن إدريس : فإن اتفق خميسان ، فالخميس الأخر منهما هو المؤكد صيامه دون الأوّل ، فإن جاء الشهر ناقصاً فلا شي‌ء عليه (٣).

وهو المطابق للأخبار الكثيرة المتقدمة المطابقة لفتوى المشهور ، وصحيحة عبد الله ابن سنان في الفقيه قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا كان في أوّل الشهر خميسان فصم أولهما فإنّه أفضل ، وإذا كان في آخر الشهر خميسان فصم آخرهما ، فإنّه أفضل» (٤).

ولما ورد في علل الفضل بن شاذان (٥).

وربما قيل بحمل ما دلّ على تقديم الأوّل على من ظنّ الموت قبل إدراك الأخر ، هذا الكلام في الخميس.

وأما الأربعاء ؛ الأظهر هو اختيار الأربعاء الأوّل ، كما هو المشهور ، ودلّ عليه ما تقدّم من الأخبار (٦) ، وعن ابن أبي عقيل : الأربعاء الأخير في العشر الوسط (٧) ، ولم نقف على مستنده.

وينبغي التنبيه لأُمور :

الأوّل : تختص هذه الأيّام بالقضاء ويظهر من بعض العبارات كعبارة الشرائع بأنّ

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٥١ ح ٢٢٣ ، الوسائل ٧ : ٣٠٥ أبواب الصوم المندوب ب ٧ ح ٤.

(٢) كذا ، ونقل في المختلف ٣ : ٥١٠ قوله : الخميس الأوّل من العشر الأوّل ، والأربعاء الأخير من العشر الأوسط ، وخميس من العشر الأخير. أقول : المستفاد منه أنّ المطلق خميس العشر الأخير لا الأول.

(٣) السرائر ١ : ٤١٧.

(٤) الفقيه ٢ : ٥٠ ح ٢١٦ ، الوسائل ٧ : ٣٠٤ أبواب الصوم المندوب ب ٧ ح ٣.

(٥) علل الشرائع : ٣٨١ ح ١.

(٦) الوسائل ٧ : ٣٠٤ أبواب الصوم المندوب ب ٧.

(٧) نقله عنه في المختلف ٣ : ٥١٠.

٥٧

ذلك إذا أخّره (١) ، وعبارة المسالك والروضة تقتضي ثبوت القضاء لمن فاتته (٢).

وصرّح في المدارك : بأنّها لو فاتت لمرضٍ أو سفرٍ لم يُستحبّ قضاؤها (٣).

ويدلّ على مطلق القضاء : ما رواه الكليني ، عن عبد الله بن سنان وفي سنده سهل بن زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا يقضي شيئاً من التطوّع ، إلا الثلاثة الأيّام التي كان يصومها من كلّ شهر ، ولا يجعلها بمنزلة الواجب ، إلا أنّي أُحبّ لك أن تدوم على العمل الصالح» ذكره في باب «من جعل على نفسه صوماً معلوماً» (٤) ورواه الشيخ أيضاً قُبيل باب العاجز عن الصيام ، والظاهر أنّه موثق (٥).

واحتجّ في المدارك على عدم الاستحباب لو فاته لمرض أو سفر بما رواه الكليني في الصحيح ، عن سعد بن سعد الأشعري ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، قال : سألته عن صوم ثلاثة أيّام في الشهر هل فيه قضاء على المسافر؟ قال : «لا» (٦) واعتمد في نفيه عن المريض بالأولوية ؛ لأنّه أعذر.

وفيه : منع الدلالة ؛ إذ كلمة «على» ظاهرة في الوجوب ، ونفي الوجوب لا يستلزم نفي الاستحباب ، والأولوية أيضاً ممنوعة.

ثم ذكرَ ما رواه الكليني عن عذافر قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أصوم هذه الثلاثة الأيّام في الشهر ، فربّما سافرت ، وربما أصابتني علّة ، فيجب عليّ قضاؤها؟ ، قال ، فقال لي : «إنّما يجب الفرض ، فأما غير الفرض فأنت فيه بالخيار» قلت : بالخيار في السفر والمرض؟ قال ، فقال : «المرض قد وضعه الله عزوجل عنك ، والسفر إن شِئت

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٨٨.

(٢) المسالك ٢ : ٧٦ ، الروضة البهيّة ٢ : ١٣٤.

(٣) المدارك ٦ : ٢٦٠.

(٤) الكافي ٤ : ١٤٢ ح ٨ ، الوسائل ٧ : ١٥٩ أبواب من يصح منه الصوم ب ٢١ ح ٢.

(٥) التهذيب ٤ : ٢٣٣ ح ٦٨٥ ، الاستبصار ٢ : ١٠٠ ح ٣٢٧ ، وكونه موثقاً لوقوع عليّ بن الحسن بن فضال في طريقه فإنّه فطحي.

(٦) الكافي ٤ : ١٣٠ ح ٣ ، الوسائل ٧ : ١٥٩ أبواب من يصح منه الصوم ب ٢١ ح ٣.

٥٨

فاقضه ، وإن شِئت لم تقضه ، فلا جُناح عليك» (١) وضعّفه بجهالة الراوي ، وضعف أحمد بن هلال (٢).

أقول : وهذه الرواية أيضاً لا تنافي الاستحباب كما لا يخفى ، بل هي صريحة في استحبابه للمسافر ؛ لاستحالة كون العبادة مُباحة بالذات ، وتحمل في المرض على نفي تأكد الاستحباب ، كما تحمل الصحيحة أيضاً على نفي الوجوب ، أو نفي تأكد الاستحباب ، فالقضاء فيمن تركه بلا عذر مؤكد ، ودونه المسافر ، ودونه المريض.

بقي الكلام في بيان الحكمة في الفرق بين المقامات ، والذي يخطر بالبال أنّ المريض والمسافر اللذين ليسا من أهل الصيام وكانا يتركانه لو لم يحصل لهما العذر أيضاً ، فهما في حكم التارك بلا عذر.

وأما إذا كان من شأنهما الصيام ، فهما قاصدان للصوم لو لم يعرضهما العارض ، ونيتهما تقوم مقام عملهما ، بل نية المؤمن خير من عمله ، بخلاف التارك بلا عذر.

وأيضاً فلكلّ من أيّام الدهر عدا المستثنيات وظيفة من الصوم المندوب كالصلاة المندوبة ، فتبديل وظيفتها بقضاء هذه الأيّام مفوّت لتلك الفضيلة.

إذا عرفت هذه المقدّمات الثلاث ؛ فعقوبة من تركه بلا عذر فوت تلك الفضيلة والاكتفاء بالقضاء ، وأما الآخران فكأنّهما صاما تلك الأيّام بنيتهما ، فيستحقان إدراك فضيلة الوظيفة المخصوصة لسائر الأيّام ، وإلا لأشكل الأمر في نفي التأكيد فيهما.

وأما الاستحباب في الجملة فلعلّه إما للتساوي فيكون أحد فردَي المستحب ، أو لكون قضاء تلك الأيّام مع حصول الفضيلة بالنية أيضاً أفضل من الإتيان بأصل وظيفة سائر الأيّام ، هذا إذا لم نقل بالتداخل ، وإلا فنفي الاستحباب أو تأكّده أضعف.

الثاني : قال في المسالك والروضة : لو قضاها في مثلها ، فتحصل له فضيلتهما (٣).

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٣٠ ح ٢ ، الوسائل ٧ : ١٥٩ أبواب من يصح منه الصوم ب ٢١ ح ٥.

(٢) المدارك ٦ : ٢٦١ ، وانظر خلاصة العلامة : ٢٠٢ ، ومعجم رجال الحديث رقم ١٠٠٥.

(٣) المسالك ٢ : ٧٦ ، الروضة البهيّة ٢ : ١٣٤.

٥٩

ولم نَقف على ذلك في كلام غيره ، ولا على وجهه ، ويخطر بالبال أن يكون وجهه أنّ كلّ يوم له وظيفة من الصوم المندوب ، وقضاء تلك الأيّام فيها مع إدراك فضيلة وظيفة الأيّام المقضي فيها لا يمكن إلا بتداخلها ، فإذا كان ذلك في مثلها من الأيّام يكون أولى.

فالظاهر أنّ مراده رحمه‌الله إحراز فضيلة زائدة على فضيلة نفس القضاء ، مع قطع النظر عن توافق القضاء والأداء في الأيّام ، وهي الموافقة لمقتضى العلّة الواردة في الأخبار من استدفاع العذاب وعرض الأعمال وهو صائم (١) ، وإلا فذلك الكلام يجري في كلّ يوم من الأيّام.

ويشكل ذلك بالنظر إلى شُبهة القول بأصالة عدم التداخل ؛ إذ الشبهة الحاصلة في ذلك توجب أن يكون تفويت فضيلة وظيفة سائر الأيّام أولى بالارتكاب لأجل إتيان القضاء كما هو مقتضى عدم التداخل من ارتكاب إدخال الشبهة في إدراك فضيلة الأيّام الموافقة للمقضي.

ولعلّ نظره إلى حال غالب المكلّفين الذين ينتهي جهدهم في العمل ، وهو الاكتفاء بالأيّام المخصوصة ، فيكون هذا تسهيلاً للأمر بتجويز التداخل فيما هو مقتضى جهده ، ولو لم يفعل كذلك لم يأتِ بالقضاء.

ثمّ إنّ هذا كلام يجري فيما لو وقعت تلك الأيّام في الشهر المنذور صومه أو صيام الكفّارة ، أو قضاء رمضان ، بل نفس رمضان ، فإنّ مقتضى العمومين تداخلهما ، سيّما إذا نواهما معاً.

ومن فروعه : صيام صلاة الاستسقاء في شهر رمضان ونظائره ، ولكن ذلك غير ما نحن فيه.

نعم قضاء تلك الأيّام في سائر الأيّام من هذا الباب ؛ إذ لم يظهر من الشارع أنّ من

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٣٠٣ أبواب الصوم المندوب ب ٧.

٦٠