غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-679-9
الصفحات: ٤١٢

وجوباً مع قصده تثليث أذكار ركوعها وسجودها ، والقنوت استحباباً ، غاية الأمر أنّ النيّة في الصلاة بتيّة وفي الاعتكاف تعليقية ، يعني أنّ الصلاة هيئة مركّبة من الواجب بالأصالة ، والندب بالأصالة ، بوضع الشارع بتة ، بخلاف الاعتكاف ، فإنّه ليس هيئة مركبة من ثلاثة أيّام ثالثها واجب بتة ، بل ثالثها واجب بعنوان التعليق على مضيّ يومين مثلاً ، فينوي : إنّي أعتكف اعتكافاً مندوباً من شأنه صيرورة الثالث منه واجباً بمضي يومين منه ، فيقصد في أوّل الأمر وجوبه لو أدركه.

مع أنا نقول : لا تعليق هنا أيضاً ؛ إذ مهيّة الاعتكاف أيضاً مركّبة من ثلاثة أيّام ثالثها واجب جزماً على هذا القول ، فالثالث مثل القنوت.

وأما تعليق وجوبه في نفس الأمر على إدراكه فهو مشترك الإلزام ، فإنّه لو عاق المكلّف عائق عن الركعة الثانية أو عن القنوت يرتفع استحبابه ، فاستحبابه أيضاً معلّق بهذا المعنى.

على أنا نقول : الشروع في العمل غير نفس العمل وإتمامه ، فالذي يمكن اعتباره بالنسبة إلى المجموع إن لم يكتف بالتوزيع على ما قرره الشارع ، هو قصد الندب للشروع في المجموع ، وهو لا ينافي قصد الوجوب لليوم الثالث ، كما في الحج المندوب.

وأمّا ما أجاب به في المسالك عن هذا الإشكال «بأنّ الأصل في الاعتكاف الندب ، والوجوب لا يتعلّق به إلا بأمر عارض ، وهو إمّا دخول ثالث ، أو نذر وشبهه ، فعند إرادة الاعتكاف حمله وخلوّه من العارض المقتضي للوجوب ينوي ما هو مقتضى الأصل أي الندب ، فإذا عرض له ما يقتضي الوجوب جدّد نيته ، ولا بُعد فيه» فهو بعيد ، مع أنّه لا يندفع به الاشكال ؛ إذ النية من باب الإذعان التصديقي ، لا محض التصوّر ، ولا ريب أنّ نية المجموع الذي من بعض أجزائه الثالث الواجب كيف يكتفى فيه بنية ندب المجموع ، ومحض تصوّر ندب المجموع مع أنّه خلاف الواقع لا ينفع مع إذعانه بوجوب الثالث لو بلغه.

والحاصل : أنّ الكلام في نيّة الجملة ، لا اليومين الأوّلين ، أو الجزء الأوّل منه.

١٨١

ثمّ قال في المسالك : ولو نوى اعتكاف يومين خاصّة من غير أن ينفي الثّالث ، فإذا أكملهما وحكم عليه بوجوب الثالث نواه واجباً وهكذا ، سلم من الإشكال ، وأوقع الاعتكاف خالياً عن الخلاف بسبب نية الوجه (١).

ويظهر ما فيه مما مرّ ؛ إذ لا معنى لنيّة الاعتكاف إلا على وجه قرّره الشارع ، ولا تحقق ماهيّته إلا بقصد الثلاثة ، وعدم نفي الثّالث لا يكفي في ذلك ، بل يجب قصد الثالث حتّى تتحقّق نية العبادة ، ومحض تصوّر (ذلك) (٢) لا ينفع في شي‌ء كما عرفت.

وفهم صاحب المدارك من كلام المحقق أنّه أيضاً أراد ذلك الذي ذكره في المسالك أخيراً (٣) ، وهو غير واضح.

وكيف كان فالتحقيق ما ذكرنا.

وأما ما أورد على تجديد النيّة «بأنّ أقلّ ما يتحقّق به الاعتكاف هو الثلاثة ، وهي متصلة شرعاً ، ومن شأن العبادة المتصلة أن لا تفرّق نيتها على أجزائها ، بل تقع بنية واحدة» ففيه ما مرّ في مباحث نية الصوم ، وأنّ الأصحّ جوازه ، فراجعه.

وهذا الإشكال والجواب الذي أورده في المسالك ، ليس في بعض النسخ ، ولعله لما وجده غير تمام أسقطه ولم يطّلع عليه النساخ ، أو لعلّه زاد ذلك بعد انتشار نسخة الأصل ، فلم يطلع عليه من تقدّم عليه.

والأوّل أنسب بهذا الخبر المحقّق ، ولكن يظهر من المدارك أنّه من الزيادات الصحيحة عنده ، فإنّ صاحب البيت أدرى بما فيه.

ثمّ إنّا إذا بنينا على لزوم تجديد النية ، فقال في المسالك : وقته غروب اليوم الثاني ، فتكون النيّة بعد الغروب ؛ لأنّه وقت المخاطبة به ؛ إذ لا وجوب قبله حتّى ينوي (٤).

__________________

(١) المسالك ٢ : ٦٨.

(٢) بدل ما بين القوسين في نسخة : الثالث.

(٣) المدارك ٦ : ٣١٠.

(٤) المسالك ٢ : ٩٣.

١٨٢

ويحتمل كونها قبل الغروب بلحظة ؛ لِتُقدّم على الفعل الواجب كما هو شأنها ، ولئلا يخلو جزء منه بغير نية.

ويرد عليه على ما حقّقه من أنّ الأصل في الاعتكاف الندب فتكفي نية الندب أوّلاً : أنّه لا يلزم خلوّ جزء من العبادة عن النيّة ، فالنية الاولى مستمرّة الحكم إلى مضي هذا الجزء.

وأمّا نية وجوبه ، فهي أيضاً ممكنة ؛ لأنا لو سلّمنا لزوم تجديد النية ، فيتحقق ذلك عرفاً بتجديده في أوّل جزء من الثالث ؛ لأنه يصدق عليه عرفاً أنّه قصد اعتكاف الثالث وجوباً ، فإنّ اليوم الثالث وإن كان حقيقة في جميع أجزائه ، ولكن اعتكاف الثالث قد يصدق مع خروج جزء منه ، فإنّ للإضافة مدخلية في المعنى يختلف بها العرف ، كما حقّقناه في مسألة التراوح على البئر وإقامة العشرة ، من أنّ اليوم وإن قلنا : إنّه حقيقة فيما بين طلوع الفجر إلى الغروب ، ولكن تراوح اليوم وإقامة اليوم يصدق بالشروع فيه بقليل بعد الفجر ، بل إلى طلوع الشمس في العرف والعادة ، كما في إجارة يوم ، ومقام ليلة ، ونوم ليلة ، وغير ذلك.

الشرط الثاني : الصوم فلا يصحّ إلا في زمان يصحّ فيه الصوم ، ممن يصحّ منه الصوم.

فلا يصحّ في العيدين مثلاً ، وكذا من مثل الحائض ، والنفساء.

واشتراطه إجماع أصحابنا ، كما صرّح به الفاضلان (١) ، وخالف فيه الشافعي وأحمد (٢).

ويدلّ عليه : مضافاً إلى الإجماع ، الأخبار المستفيضة.

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٩٢ ، التذكرة ٦ : ٢٤٨.

(٢) المهذّب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٨٥ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٤ ، حلية العلماء ٢ : ٢١٨ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٥.

١٨٣

منها : صحيحة محمّد بن مسلم القائلة : «لا اعتكاف إلا بصوم» (١) ؛ ، ومثلها حسنة الحلبي (٢) ، وغيرها (٣).

ولا يُعتبر إيقاعه لأجل الاعتكاف ، بل يكفي وقوعه بأيّ وجه اتفق ، كما صرّح به الفاضلان وغيرهما من غير نقل خلاف (٤) ، بل يكفي وقوعه في حال الصوم المندوب ؛ وإن كان الاعتكاف واجباً ، كما صرّح به في التحرير والتذكرة (٥).

بل ظاهر المعتبر إجماع الأصحاب ، حيث قال : الشرط الثاني الصوم ، أيّ صوم اتفق ، واجباً كان أو ندباً ، رمضان أو غيره ، وعليه فتوى علمائنا ، ويدلّ عليه ما ورد في فضيلة الاعتكاف في شهر رمضان ، فلو نذر اعتكافاً لا يجب عليه الصوم لأجل الاعتكاف ، وإن وجب عليه إيقاعه في حال الصوم (٦).

وقال في المسالك : نعم لا يصحّ صوم الاعتكاف المنذور مندوباً ؛ للتنافي بين وجوب المضيّ على الاعتكاف الواجب ، وجواز قطع الصوم المندوب (٧).

ويظهر من صاحب المدارك الفرق بين النذر المطلق فيجوز ، والمعيّن فلا يجوز (٨).

أقول : والتحقيق صحّته مطلقاً في الصوم المندوب ، حتّى في النذر المعيّن ، فلو نذر اعتكاف أيّام البيض من رجب وأراد أن يصومها مستحبةً جاز.

وما يُتراءى من أنّ نذر الاعتكاف مستلزم لوجوب الصوم له بهذا النذر من باب مقدّمة الواجب ، كما لو نذر أحد مَسّ كتابة القرآن ، فيجب عليه الوضوء لاشتراطه به ، فهو ليس كذلك على الإطلاق ، بل إنّما هو إذا لم تحصل الطهارة ، ولم يرد طهارة

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٧٦ ح ٢ ، الوسائل ٧ : ٣٩٩ أبواب الاعتكاف ب ٢ ح ٦.

(٢) الكافي ٤ : ١٧٦ ح ٣ ، الوسائل ٧ : ٤٠٠ أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ١.

(٣) الوسائل ٧ : ٣٩٨ أبواب الاعتكاف ب ٢.

(٤) المعتبر ٢ : ٧٢٦ ، التذكرة ٦ : ٢٤٩ ، وكالشيخ في الخلاف ١ : ٤٠٣.

(٥) التحرير ١ : ٨٦ ، التذكرة ٦ : ٢٤٩.

(٦) المعتبر ٢ : ٧٢٦.

(٧) المسالك ٢ : ٩٣.

(٨) المدارك ٦ : ٣١٦.

١٨٤

مستحبة أو واجبة أُخرى أيضاً ؛ فلو فرض كونه متطهّراً ولو بطهارة مستحبة ، جاز له المسّ ، وكذا الصلاة المنذورة.

وكذا لو فرض كونه مريداً للطهارة واجبة أو مستحبة يجوز الإتيان بها ، ثمّ يأتي بالمس الواجب والصلاة الواجبة ، سيّما على المختار من جواز التطوّع وقت الفريضة ، إذا لم يكن مزاحماً لها ، كما حققناه في كتاب الصلاة (١).

وعلى ذلك تحمل عبارة التذكرة ، حيث قال : فلو نذر اعتكاف ثلاثة أيّام مثلاً وجب الصوم بالنذر ؛ لأنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (٢).

وكذا عبارته الأُخرى الاتية بعد ورقات في مسائل نذر الاعتكاف (٣).

وبذلك يجمع بين هذين الكلامين ، وما ذكره بُعيد الكلام الأوّل من قوله : «وكذا لو نذر اعتكافاً فأطلق فاعتكف في أيّام أراد صومها مستحباً جاز» وما ذكره قبل ذلك من قوله : «لا يشترط صوم يوم معيّن ، بل أيّ صوم اتفق صحّ الاعتكاف معه ، سواء كان الصوم واجباً أو ندباً» (٤). فلا منافاة بين عبارته الأُولى وما ذكره بعيدها ، كما ذكره في المدارك (٥).

بل نقول : يمكن أن يكون مراده من كلامه الأوّل وجوب الإتيان حال الصوم ؛ لأنّه ممّا لا يتمّ الواجب إلا به ، ويتمّ ذلك بإتيانه في حال الصوم المستحبّ ، فلا منافاة حينئذٍ أيضاً.

وأما ما ذكره في المسالك ، من التنافي بين وجوب المضي وجواز قطع الصوم المندوب ، ففيه أوّلاً : أنّه لا يستلزم كون الصوم مندوباً جواز قطعه مطلقاً ، بل إنّما يستلزمه من حيث إنّه مندوب ، فنحن نقول : بعدم جواز قطعه حينئذٍ من جهة إبقاء

__________________

(١) غنائم الأيّام ٢ : ١٩٥.

(٢) التذكرة ٦ : ٢٤٩.

(٣) التذكرة ٦ : ٢٦٨.

(٤) التذكرة ٦ : ٢٤٩.

(٥) المدارك ٦ : ٣١٥.

١٨٥

الاعتكاف ، وكون بقائه مقدمة له.

وثانياً : أن جواز القطع لا يستلزم وجوبه ، حتّى يستلزم منكراً.

والحاصل : أنّ الاعتكاف مشروط بكونه حال الصوم ، وبعدم إبطال الصوم ، ولا يتوقّف على كونه في ضمن صوم لا يجوز إبطاله.

والصوم المندوب إنّما يستلزم جواز إفطاره وإبطاله ، لأنفس الإبطال والإفطار حتماً ، نظير ما ذكره القائل بعدم وجوب مقدّمة الواجب في جواب المستدلّ على الوجوب ، حيث استدلّ بأنّه لو لم يجب لجاز تركها ، وبعد تركها فإمّا هو مكلّف بالفعل أو لا ، وعلى الأوّل يلزم التكليف بما لا يطاق ، وعلى الثاني خروج الواجب المطلق من الوجوب.

وأجاب المنكر : بأن جواز الترك لا يستلزم وجوبه ، ولا يخرج بسببه المقدور عن المقدورية ، وتكليف ما لا يطاق إنما يلزم إذا وجب الترك ، لا إذا جاز ، مع أنّ مقدّمة الواجب قد تكون مترددةً بين المقدورة ، وغير المقدورة ، كفعل الغير ، فكيف لا يجوز تردده بين الواجب والمستحب؟!

والحاصل : أنّ المقصود عدم ترك الواجب لا غير ، فالمنع عن الإفطار من حيث إنّه مفوّت للاعتكاف لا ينافي جوازه من حيث هو ، فلا إشكال هنا إلا من حيث اجتماع الضدّين ، وهو جواز إفطار الصوم ، وعدم جواز نقض الاعتكاف الذي هو لازم الإفطار ، المستلزم لعدم جواز الإفطار ، وهو لا يضرّ مع تعدّد الجهتين ، كما حقّقناه في الأُصول (١).

وهذا الكلام يجري في النذر المعيّن أيضاً ، فإنّ صوم أيّام البيض مستحب على الإطلاق ، ونذر الاعتكاف جائز على الإطلاق ، وجمعهما المكلّف باختياره في فرد خاص ، نظير الصلاة في الدار المغصوبة.

فلا يتمّ ما يظهر من المدارك من الفرق بين النذر المطلق والمعيّن (٢) ؛ إذ في المطلق

__________________

(١) القوانين : ١٤٠.

(٢) المدارك ٦ : ٣١٦.

١٨٦

جمع المكلف باختياره بين إيجاد المنذور المطلق في ضمن الصوم المستحب ، وفي المعين جمع بين نذر اعتكاف الأيّام المعينة الذي هو مُرخّص فيه على الإطلاق ، وبين الصيام المستحب المرخص فيه فيها على الإطلاق.

ومن أمثلة ما قد يجب إبقاء المستحب : أنّ من نذر إيقاع ركعتين في الساعة الثالثة من يوم الجمعة ، واتفق كونه متطهّراً قبل تلك الساعة بطهارة مستحبّة ، وفرض أنّه لو نقضها لا يقدر على الطهارة أصلاً لفقد الطهور أو غيره ، فيجب إبقاؤها ، مع أنها مستحبّة بالذات.

ولعلّ من ثمرات عدم وجوب الصوم بنذر الاعتكاف ، وعدم صيرورته منذوراً بذلك النذر : التفاوت في حال الكفارات ، فانظر لبيان ذلك في محلّه.

الشرط الثالث : أن لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام بينها ليلتان.

أما إنّه لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام ، فهو باتفاق علمائنا ، كما نصّ عليه جماعة من الأصحاب (١) ، خلافاً للجمهور (٢).

وتدلّ عليه الأخبار أيضاً :

مثل ما رواه الكليني في الصحيح ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا يكون الاعتكاف أقلّ من ثلاثة أيّام» (٣).

وعن داود بن سرحان ، قال : بدأني أبو عبد الله عليه‌السلام من غير أن أسأله فقال : «الاعتكاف ثلاثة أيّام ، يعني السنّة إن شاء الله تعالى» (٤).

وما رواه الشيخ ، عن عمر بن يزيد ، عنه عليه‌السلام ، قال : «إذا اعتكف العبد ، فليصم» ،

__________________

(١) كالمحقّق في المعتبر ٢ : ٧٢٨ ، والعلامة في التذكرة ٦ : ٢٤٢ ، وصاحب المدارك ٦ : ٣١٦.

(٢) انظر المهذّب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، والمجموع ٦ : ٤٩١ ، والوجيز ١ : ١٠٦ ، وفتح العزيز ٦ : ٤٨٠ ، وحلية العلماء ٣ : ٢٢٠ ، وبدائع الصنائع ٢ : ١١٠ ، وبداية المجتهد ١ : ٣١٤.

(٣) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٢ ، الوسائل ٧ : ٤٠٤ أبواب الاعتكاف ب ٤ ح ٢.

(٤) الكافي ٤ : ١٧٨ ح ٥ ، الوسائل ٧ : ٤٠٥ أبواب الاعتكاف ب ٤ ح ٤.

١٨٧

وقال : «لا يكون اعتكاف أقلّ من ثلاثة أيّام» (١).

وقد مرّ بعض الأخبار أيضاً.

ومن فروع المسألة : أنّه إذا نذر اعتكافاً مطلقاً ، انصرف إلى ثلاثة أيّام ؛ لأنّها أقلّ ما يمكن جعله اعتكافاً ، فلا يجب إلا ذلك ، لا أنّه لا يجوز اعتكاف الزائد ، فيجوز الأربعة والخمسة ، إلا أنّه إذا اعتكف الرابع والخامس يجب عليه السادس كما مرّ ، وهذا شي‌ء آخر.

واختلفوا في أنّ المراد من اليوم هنا هو النهار ، أو هو مع الليل ، فعلى الأوّل ، مبدأ الاعتكاف هو طلوع الفجر ، وعلى الثاني غروب الشمس.

والأظهر هو الأوّل ؛ لتبادر النهار من اليوم عرفاً ، ولنصّ أهل اللغة على ذلك (٢).

وأما دخول الليلتين الأخيرتين ؛ فإنّما هو من دليل خارج كما سنُشير إليه.

وأما الاستدلال بقوله تعالى (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيّامٍ) (٣) فهو ضعيف ، فإن غايته الاستعمال فيه مطابقاً للقضيّة الواقعة في نفس الأمر ، وهو لا يستلزم الانصراف إليه عند الإطلاق ، والاستعمال أعمّ من الحقيقة.

وأضعف منه : احتجاج الآخرين بدخول الليل في اليومين الآخرين ، وباستعماله شرعاً فيهما في بعض الموارد (٤) ، ويظهر ضعفه مما مرّ.

والأحوط : أن ينوي عند الغروب ، ويجدّدها عند الفجر أيضاً.

وأما لو نذر زماناً معيّناً ، كشعبان ، أو العشر الأخير من رمضان ، فالأظهر دخول الليلة الأُولى ؛ لأنّ الليلة جزء من المجموع ، سيّما في الأوّل بلا إشكال ، بخلاف اليوم ، فإنّ الإشكال فيه معروف ، وإن كان الأظهر عدم الدخول.

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٨٩ ح ٨٧٨ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ ح ٤١٩ ، الوسائل ٧ : ٣٩٩ أبواب الاعتكاف ب ٢ ح ٩.

(٢) لسان العرب ١٢ : ٦٤٩.

(٣) الحاقة : ٧.

(٤) كصاحب المسالك ٢ : ٩٤.

١٨٨

ومرادهم بوجوب الثلاثة لا غير ، إنّما هو بالأصالة ، وإلا فقد يجب إلحاق لحظة قبلها ، ولحظة بعدها ، من باب المقدّمات العادية ، وإن كان الوجوب شرطيّاً في اللحظة الاولى في المندوب.

ومن فروعها : ما لو وجبَ عليه اعتكاف يوم بسبب نذر يوم لم ينذر غيره ولم ينفه ، أو بسبب نذر أربعة إذا أخّر الرابع فيجب تتميمها ثلاثة ، أو بسبب لزوم قضاء عليه ، كما لو نذر العشر الأخير من رمضان وأبطل اعتكافه في العاشر ، أو على والده إن قلنا بوجوبه عليه ، وإن نذر قضاءه عنه ، فيجب عليه إلحاق يومين آخرين.

وكذا الكلام لو وجب عليه اعتكاف يومين بأحد هذه الوجوه ، فيضيف إليهما ثالثاً ؛ ليتمّ الاعتكاف ، ويتخيّر بين تقديم الزائد ، وتأخيره ، وتوسيطه.

قال في المسالك : فإذا كان الواجب يوماً فأخّر عنه اليومين نوى بهما الوجوب ، وكذا إن وسّطه بينهما ؛ لأن صحّة الواجب مقيّدة بفعلهما ، فيجبان لذلك ، ولو قدّمهما جاز أن ينوي بهما الوجوب أيضاً من باب مقدّمة الواجب ، وأن ينوي بهما الندب ؛ لعدم تعيّن الزمان لذلك ، والواجب يحصل مع الندب ؛ لأنّ الشرط تحقّق الثلاثة ، لكن يبقى فيه إشكال ، وهو أنّ اعتكاف اليومين المندوبين يوجب الثالث بهذا السبب ، فلا يجزي عن ذلك الواجب ؛ لأصالة عدم تداخل المسببات عند اختلاف الأسباب ، ولو نوى بالأوّل الندب وجعل ما في ذمّته وَسَطاً زال الإشكال ، ويبقى فيهما إشكال آخر ، وهو الصوم ندباً لمن في ذمّته واجب ، فإن فيه خلافاً ، وإنّما يصحّ الفرضان لو قلنا بجوازه ، والأصح العدم ؛ للنصوص الصحيحة الدالة عليه ، وحينئذٍ فينوي الوجوب فيهما ، سواء أقدّمهما ، أم أخّرهما ، أم وسّطه بينهما ، وسيأتي في ذلك بحث آخر (١) ، انتهى كلامه رحمه‌الله.

أقول : قوله «وأن ينوي بهما الندب» منافٍ لما قدّمه من عدم جواز الإتيان

__________________

(١) المسالك ٢ : ٩٥.

١٨٩

بالاعتكاف الواجب في الصوم المستحب ، ولم يقيّده ثمّة بالواجب المعيّن ، بل أطلق (١) ، فكما أنّ المضيّ في الاعتكاف الواجب بعنوان التوسعة والإطلاق ينافي كون الصوم مندوباً الموجب لجواز الإفطار ، فكذلك وجوب الإتيان بيوم من الاعتكاف الثابت في ذمّته ينافي جواز نقض اعتكاف اليومين المندوب اعتكافهما.

فنقول : هنا يجب عليه اعتكاف يومين من باب مقدّمة الاعتكاف بيوم هو في ذمّته ، فكيف تصحّ نيّة الندب فيهما؟!

والحقّ ثمّة جواز الاجتماع ؛ لأنّ الاعتكاف شرطه الوقوع في حال الصوم ، لا وجوب الصوم له ، ولا منافاة بين عدم جواز الإفطار والاستحباب حينئذٍ ؛ لتغاير الحيثيات ، وجواز اجتماع الضدين مع تغاير الجهتين ، كما حقّقناه في الأُصول (٢).

ويتمّ ذلك في المعيّن أيضاً ؛ لأنّ النسبة بين الحيثيتين فيه أيضاً عموم من وجه ، وأما ههنا فلا يصحّ ؛ إذ المفروض أنّ الإتيان باليومين إنّما هو لأجل الإتيان بالثالث ، وذلك لا يكون إلا بنية الوجوب لأجل المقدّمة.

لا يقال : إنّ مراده أنّه لو فرض إتيانه باليومين المستحبّين اللذين يجب ثالثهما قسراً وإن لم يقصد الإتيان بما في ذمته أصلاً ولم يخطر بباله قطعاً فذلك يكفي في الامتثال ؛ لأنّه يصدق عليه أنّه أتى باعتكاف يوم واجب ، فحصل الامتثال.

لأنّا نقول : أوّلاً : لا يصحّ هذا التوجيه بالنسبة إلى تفريعاته ، فإنّه فرض ذلك في بيان الإتيان بالواجب بتتميمه مع الزائد ، وتقديم الزائد على الواجب ، وتأخيره وتوسيطه لا يمكن إلا مع القصد إلى الإتيان بالواجب.

وثانياً : أنّه لا دليل على صدق الامتثال بمثل ذلك شرعاً وعرفاً ؛ إذ الامتثال فرع القصد والنية.

وثالثاً : أنّ هذا يتمّ على القول بعدم وجوب الثالث أيضاً ؛ لأنّه إذا لم يعتبر قصد

__________________

(١) المسالك ٢ : ٩٣.

(٢) القوانين ١ : ١٤٠.

١٩٠

خصوص ما في الذمّة ، فلا فرق بين الواجب والندب ، نظير ما ذكروه في الأغسال.

فإن قلت : إنّ مراده القصد إليهما جميعاً ، يعني ينوي اعتكافاً مندوباً لازمه وجوب ثالثه قسراً ؛ لتحصيل الواجب الّذي في ذمّته أيضاً ، وأشار إلى ذلك ، بقوله : «والواجب يحصل مع الندب» يعني : يحصل اليوم الّذي في ذمّته مع الندب ، يعني مع مجموع الاعتكاف المندوب ، لا خصوص اليومين الأوّلين.

أو يعني : أنّه ينوي اليومين مندوبين ، والواجب يحصل مع الندب ، يعني مقدّمة الواجب الّتي هي واجبة تحصل مع الندب ، والتعليل بقوله : «لأنّ الشرط تحقق الثلاثة» يجري على الوجهين.

قلت : يرد عليه حينئذٍ مضافاً إلى ما سبق من لزوم اجتماع المتنافيين ، أنّ هذا خلاف مقتضى كلامه ظاهراً ، فإن الظاهر من قوله : «جاز أن ينوي بهما الوجوب من باب المقدّمة» عدم نية الندب ، ومن قوله : «أن ينوي بهما الندب» عدم نيّة الوجوب ، مع أنّ قصد الندب مع كون المفروض أنّه في صدد الإتيان بما في ذمّته لا ينفكّ عن قصد وجوب المقدّمة أيضاً.

أمّا على الوجه الأوّل أعني القصد إلى اعتكاف مندوب بالأصالة فلأنّه إنّما قصده لأنّه مستلزم لوجوب ثالثه قسراً ، حتّى يصير قائماً مقام ما في ذمته ، فالقصد إلى جملة الاعتكاف حينئذٍ مقدّمة للواجب أيضاً.

أمّا على الوجه الثاني ؛ فلو فرض صحّة مثل هذا القصد ، فالأمر أظهر ، ولكن فرض صحته ممنوع.

فقد تحقق بما ذكرنا : أنّ غاية ما يمكن أن يقال : إنّ مراده أنّ المكلف يجب عليه إبراء ذمّته عن اليوم الواجب عليه ، وهو يحصل إما بإتيان نفس الواجب ، أو بإتيان ما هو مسقط عن الواجب ، فجواز نية الوجوب ونية الندب المذكورين في كلامه ناظران إلى الاحتمالين : الأوّل إلى الأوّل ، والثاني إلى الثاني.

فيخدشه بعد ما تقدّم من الأبحاث أنّ قصد الندب على الوجه المذكور أحد فردي

١٩١

الواجب التخييري من المقدّمة ؛ ليحصل أحد فردي الواجب وهو تحصيل المسقط ، فيكون الإتيان بمجموعه واجباً ، فكيف يكتفي بنية الندب لمعظم أجزائه ، وهو صوم اليومين الأوّلين؟! فتأمل جيداً.

قوله : لكن يبقى فيه إشكال ، وهو أنّ اعتكاف اليومين المندوبين ، إلى أخره.

أقول : كأنّه تفطن لبعض ما أوردنا عليه ، وأورد الإشكال ، وهو حسن بعد فرض تصحيح قصد الندب ، وإلا فأصل الفرض غير صحيح ، إلا على الوجه الذي ذكرنا أوّلاً ، من كون مقصود المكلّف هو إتيان اعتكاف مندوب برأسه ، من دون أن يخطر بباله الامتثال بما في ذمته ، ثمّ أراد أن يحسب الثالث منه عمّا في ذمّته ، وقد عرفت ما فيه.

قوله : ولو نوى بالأوّل الندب وجعل ما في ذمته وسطاً زال الإشكال.

أقول : لا يزول الإشكال بذلك أيضاً ؛ لأنّ الثالث حينئذٍ أيضاً واجب من حيث إنّه ثالث الثلاثة ، ومن حيث كونه مقدّمة للإتيان بما في ذمّته ، وكذلك يجي‌ء الإشكال في الأوّل أيضاً ؛ إذ الإتيان بالمندوب وبمقدمة الواجب أيضاً سببان مختلفان.

ويمكن أن يقال : إنّ امتناع تداخل المسببات إنّما هو إذا لم يكن دليل على التّداخل ، والدّليل هنا موجود ؛ لأنّ أمره بالإتيان بالواجب الموقوف على مقدّمة ، وهي إتيان يومين آخرين مستلزمين لوجوب الثالث قسراً بدليل آخر يستلزم الرخصة في الاكتفاء بسبب واحد عن مسبّبين اختلف سببهما بالنظر إلى ملاحظة الحيثيّتين ، فيزول الإشكال في صورة تقديم المندوبين أيضاً.

ومن صور اجتماع الواجبين : جعل متعلّق النذر أمراً واجباً ، فإنّه يصحّ على الأقوى.

وتظهر الثمرة في لزوم الكفّارة إذا تركه من حيث النذر.

ومن فروعه : وجوب الثالث في الاعتكاف الواجب بعد مضيّ يومين ، كما أشار إليه في الروضة حيث قال : ويجب الاعتكاف بمضي يومين ولو مندوبين (١) ، كما أشرنا

__________________

(١) الروضة ٢ : ١٥٣.

١٩٢

إليه سابقاً ، فاجتمع الوجوبان في مسبب واحد.

قوله : «ويبقى فيهما إشكال آخر» إلى أخره ، وحاصله : أنّ نية الندب للزائد في القسمين الآخرين إنّما تتمّ لو قلنا بجواز الصوم المندوب لمن عليه صوم واجب ، والأصحّ خلافه.

أقول : يرد عليه أوّلاً : ما قدّمناه من عدم انفكاك الزائد حينئذٍ عن الوجوب ؛ لكونه مقدّمة للواجب ، فالاحتمال منحصر في قصد الوجوب.

وثانياً : أنّ ثبوت الاعتكاف الواجب في ذمته لا يستلزم وجوب الصوم عليه حتّى لا يتمكن من الإتيان بالصوم المندوب ، فإنّ غاية ما يجب في الاعتكاف إيقاعه في حال صوم واجب ، وهو لا يقتضي وجوب الصوم له عليه حتّى لا يتمكن من الإتيان بالصوم المندوب ، فإنّ غاية ما يجب في الاعتكاف إيقاعه في حال صوم واجب ، وهذا هو البحث الذي أشار إليه أنّه سيأتي ، بل يجوز إيقاعه وإن كان واجباً في صوم مستحب كما قدّمناه.

وثالثاً : أن إيقاع اعتكاف اليومين الزائدين بنية الندب لا يستلزم ندبيّة صومهما ؛ لجواز إيقاعهما في الصوم الواجب كالاعتكاف المندوب في شهر رمضان ، فلا تستلزم نيّة الندب في اعتكاف اليومين ندبيّة صومهما.

فكان الأولى به رحمه‌الله أن لا يتعرّض للصوم ، بل كان عليه أن يجعل الكلام في نفس الاعتكاف ، كما هو موضوع المسألة ، فإن هذا البحث أعني عدم صحة التطوع في وقت الفريضة عام ، لا يختصّ بالصوم والصلاة ، فالإتيان باعتكاف اليومين بقصد الندب ، مع كون ذمّته مشغولة باعتكاف يوم واجب موجب لإتيان التطوّع في وقت الفريضة.

فالجواب حينئذٍ أوّلاً : المنع عن احتمال الندب الخالص ؛ لما قدّمنا من أنّ المفروض إتيانهما لأجل الامتثال بما في ذمّته ، فيكون مقدّمة للواجب ، فهو إتيان بالفريضة.

وثانياً : بمنع عموم المنع عن التطوّع وقت الفريضة ، بل إنّما نسلّمه إذا كان مفوّتاً

١٩٣

للفريضة لا غير ، كما بيّناه في كتاب الصلاة (١).

وثالثاً : على فرض تسليم الندبية ، دلّ الدليل على جوازه في وقت الفريضة ، كنافلة الظهرين ، والدليل على كونه مقدمة للواجب.

وأما دخول الليلتين فالظاهر أنّه أيضاً وفاقيّ ، كما يظهر من الفاضلين في المعتبر والمنتهى (٢) وغيرهما (٣).

ولكن يظهر من الشيخ في المبسوط وموضع من الخلاف كما نقل عنه ، أنه قال : لو نذر اعتكاف ثلاثة أيّام متتابعات يجب عليه إدخال الليلتين ، وإن أطلق صحّ أن يعتكف نهاراً ثلاثة أيّام من دون الليالي (٤).

وقال في الشرائع : لو نذر اعتكاف ثلاثة من دون لياليها قيل : يصحّ ، وقيل : لا (٥).

وقال في المسالك : إنّ القول بالصحة للشيخ رحمه‌الله وهو مبني على أنّ اللّيل لا يدخل في مسمّى اليوم ، فإذا نذر ثلاثة أيّام لم يدخل لياليها إلا مع ملاحظة إدخالها ، كأن يقول : العشر الأواخر ونحوه ، فتلزمه الليالي أيضاً ، وألحق بذلك ما لو قال : ثلاثة أيّام متتابعة ، فإنّه تلزمه الليلتان ليتحقّق التتابع ، وحيث لم تدخل الليالي في الإطلاق المذكور ، ويصحّ الاعتكاف بدونها عنده ، يصح أيضاً لو صرّح بإخراجها كما حكاه عنه المصنف بطريق أولى (٦).

أقول : ويظهر من كلام المسالك هذا أنّ الشيخ لا يقول بدخول الليلتين المتوسطتين في الاعتكاف ، فيكون مخالفاً للمشهور.

وربّما يوجّه كلام الشيخ ، ويجمع بينه وبين ما ذكره في موضع آخر من الخلاف

__________________

(١) غنائم الأيّام ٢ : ١٩٧.

(٢) المعتبر ٢ : ٧٢٨ ، المنتهي ٢ : ٦٣٠.

(٣) المسالك ٢ : ٩٤.

(٤) المبسوط ١ : ٢٨٩ ، الخلاف ٢ : ٢٣٩.

(٥) الشرائع ١ : ١٩٣.

(٦) المسالك ٢ : ٩٦.

١٩٤

موافقاً للمشهور (١) بأن مراده أنّ الليالي لا تدخل في الاعتكاف بسبب النذر إلا مع شرط التتابع ، وإن وجب إدخالهما من حيث إنّ الاعتكاف لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام بينها ليلتان ، فإذا نذر اعتكاف ثلاثة أيّام من غير تقييد بالتتابع جاز أن يبتدئ من أوّل نهار ثمّ يتبعه بليلتين ويومين من غير أن يجعل اليومين من الثلاثة المنذورة ، ثمّ يبتدئ من أوّل نهار آخر ويتبعه بيومين وليلتين هكذا إلى أن تتمّ التسعة ، وبتمامها يتمّ النذر.

وعلى هذا فيكون مراده ما ذكره العلامة في التذكرة ، قال : لو لم يقيّد بالتتابع جازَ لهُ التفريق ثلاثة ثلاثة ، وهل يجوز التفريق يوماً ويوماً ، بأن يعتكف يوماً عن نذره لم يضمّ إليه يومين مندوباً؟ الأقرب الجواز ، كما لو نذر أن يعتكف يوماً ويسكت عن الزيادة وعدمها ، فإنّه يجب عليه الإتيان بذلك اليوم ويضم إليه يومين آخرين ، فحينئذٍ إذا نذر أن يعتكف ثلاثة أيّام فاعتكف يوماً عن النذر وضم إليه آخرين لا عنه بل متبرّع بهما ، ثمّ اعتكف ثانياً عن النذر وضم إليه آخرين ، ثمّ اعتكف ثالثاً عن النذر وضمّ إليه آخرين جاز ، سواء تابع التسعة أو فرّقها (٢) ، ولكنه جزم في المنتهي بلزوم ثلاثة بينها ليلتان (٣).

وقال الشيخ في بعض كتبه : إن لم يشترط التتابع اعتكف نهاراً ثلاثة أيّام بغير ليال (٤) ، وليس بمعتمد.

أقول : وهذا توجيه حسن لكلام الشيخ لا بدّ منه ؛ لئلا يخالف ما هو المتبادر من ظواهر الأخبار وفتاوى الأصحاب ، سيّما فتوى نفسه في غير هذا الموضع ، بل في الكتاب الّذي اختار ذلك فيه ، وللإجماعات المنقولة.

ولا ينافي ذلك كون المختار في معنى اليوم هو النهار لغة (٥) وعرفاً.

وكيف كان ، فالمذهب دخول الليلتين في الاعتكاف ، لا لدخول الليل في اليوم ،

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٢٣٩.

(٢) التذكرة ٦ : ٢٧٧.

(٣) المنتهي ٢ : ٦٣٠.

(٤) الخلاف ٢ : ٢٣٩.

(٥) لسان العرب ١٢ : ٦٤٩.

١٩٥

بل للإجماعات المنقولة ، ولأنّ المتبادر من الأخبار ذلك ، ولما ذكره المحقّق في مقام إبطال النذر مع إخراج الليالي من قوله : لأنّه يخرجه عن قيد الاعتكاف ، فيبطل اعتكاف ذلك اليوم (١).

قال في المسالك : وبيانه أنّ الليالي إذا لم تدخل في الاعتكاف يخرج منه بدخول الليل ، فيجوز الخروج عنه ، وفعل ما ينافيه ، فينقطع اعتكاف ذلك اليوم عن غيره ، ويصير منفرداً ، فلو صحّ ذلك ، يصحّ اعتكاف أقلّ من ثلاثة ، وهو باطل إجماعاً ، وذلك يستلزم بطلان اعتكاف ذلك اليوم ، والليل وإن لم يدخل في مسمّى اليوم ، لكنّه هنا يدخل تبعاً لتتحقّق الثلاثة المتوالية ، ومن ثمّ لا يوجب مخرج الليل إلا الليلتين المتوسّطتين (٢).

وتبعه في ذلك البيان صاحب المدارك (٣).

أقول : إنّ هذا البيان غير واضح.

قوله : «فلو صحّ ذلك لصحّ اعتكاف أقلّ من ثلاثة وهو باطل إجماعاً».

فيه : منع الملازمة ؛ إذ لا يلزم من فصل الأيّام صيرورة الاعتكاف أقلّ ، وإنّما يلزم ذلك لو ثبت اشتراط دخول الليالي واتصال المجموع ، وهو أوّل الدعوى.

فإن أراد أنّه باطل إجماعاً لو لم يعتكف اليومين الآخرين ، فهو مسلم ، ولا يضرّ الشيخ ؛ لأنّه قائل به.

وإن قال : إنّه باطل ولو اعتكف الآخرين ، فهو أوّل الدعوى ، والشيخ لا يسلّم الإجماع.

والتحقيق أن يقال : إنّ قولهم «: «لا يكون الاعتكاف أقلّ من ثلاثة أيّام» (٤) معناه

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٩٣.

(٢) المسالك ٢ : ٩٦.

(٣) المدارك ٦ : ٣٢٠.

(٤) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢١ ح ٥٢٥ ، التهذيب ٤ : ٢٨٩ ح ٨٧٦ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ ح ٤١٨ ، الوسائل ٧ : ٤٠٤ أبواب الاعتكاف ب ٤ ح ٢.

١٩٦

لا يكون زمان الاعتكاف أقلّ من ثلاثة أيّام ، يعني أقلّ زمان متتالي الآنات الذي يتحقّق فيه الاعتكاف هو ما يُشخّصه ويُعيّنه مرور ثلاثة أيّام ، لا أيّام الاعتكاف لا تكون أقلّ من ثلاثة ، والأوّل يستلزم دخول الليالي وعدم التفرّق ، دون الثاني.

وهذا معنى دقيق أشرنا إليه في مسائل الحيض ، في معنى قولهم «: «أقل الحيض ثلاثة أيّام ، وأكثره عشرة أيّام» (١).

وما ذكرنا ثمّة «من أنّه لا يصحّ الاستدلال بذلك على اعتبار تتالي الأيّام في أقلّ أيّام الحيض ؛ إذ كون أقلّ زمان يتحقّق الحيض في ثلاثة أيّام كما هو المتبادر من اللفظ لا يستلزم عدم تحقّق الأيّام الثلاثة في أكثر من هذا الزمان» لا يجري هنا ؛ لأنّ كون الأيّام من حيث إنّها أيّام معتبرة في أقلّ الحيض معلوم من الأخبار وفتوى الأصحاب ، بخلاف الاعتكاف ، فإنّه هو اللّبث المتطاول ، وهذا تحديد لزمان اللبث ، ولم يعلم كون الأيّام من حيث إنّها أيّام داخلةً في مهيته ، وإن استلزمه تحديد زمان اللبث بهذا المقدار من الزمان ، أي الكم المتصل المتتالي الآنات ، الذي هو من لوازم اللبث المعهود المشروط بعدم قطعه بما ينافيه.

ولعلّ مبنى كلام المحقّق على ما ذكرنا ، فرجع إلى دعوى التبادر ، كما ذكرنا ، ولا يكون دليلاً آخر. ويشكل تنزيل كلام المسالك على ما ذكرنا.

وأمّا ما اعترضه في المسالك بأنّ توالي الأيّام وتتابعها يحصل بتعاقبها ، كما في صيام ثلاثة أيّام.

وأجاب بالفرق بينهما : بأنّ الصوم لا يمكن تحقّقه في الليل ، بخلاف الاعتكاف ، والأصل في الموالاة متابعة الفعل بعضه لبعض بحسب الإمكان ، فلما أمكن ذلك في الاعتكاف نعتبره ، ولما لم يمكن في الصوم ، حملناه على أقرب أحوال المتابعة ، وهو متابعة النهار في جملة الأيّام (٢) ، فهو غريب ، فإنّا نعتبر التتابع في الأيّام ، لا الاعتكاف

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٥٥١ أبواب الحيض ب ١٠ ، وانظر الغنائم ١ : ٢٢٦.

(٢) المسالك ٢ : ٩٧.

١٩٧

والصوم حتّى يقال : إنّه في الاعتكاف ممكن ، وفي الصوم غير ممكن ، وأما الأيّام فعدم إمكان اتصالها مشترك الحصول فيهما.

تنبيهات :

الأوّل : نقلَ في المسالك أنّ العلامة وجماعة رجّحوا القول بأنّ المراد باليوم هنا هو المركب منه ومن الليل فتجب النية عند الغروب ، فيجب اعتكاف ثلاثة أيّام وثلاث ليالي (١)

ولم نَقِف على تصريحٍ بذلك في كلام العلامة وغيره ، ولا على دليل يعتدّ به ، وقد عرفت ضعف التمسك بدخول الليل في مفهوم اليوم.

وأضعف من هذا : القول بدخول الليلة المستقبلة في مفهوم اليوم ، فينتهي بانتهاء الليلة الرابعة ، نَقل صاحب المدارك عن بعض الأصحاب احتماله (٢) ، ولا نعرف له وجهاً.

الثاني : الأقوى أنّ اليوم حقيقة فيما بين طلوع الفجر وغروب الشمس ولا تبعد صحّة الاعتكاف بالشروع في أوّل طلوع الشمس ، كما أشرنا إلى ذلك في مواضع من هذا الكتاب ، ولا يعتبر الملفّق من نصف يومين.

الثالث : إذا نَذَرَ اعتكاف ثلاثة أيّام ، لزم التتابع لعدم تحقّق الاعتكاف في أقلّ منها.

ولو نَذَرَ أزيدَ منها ، فإن قيّدها بالتتابع لفظاً ، كقوله : لله عليّ ستة متواليات ، أو معنىً ، مثل قوله : لله عليّ اعتكاف رجب. أو بكليهما ، كاعتكاف رجب متتابعاً ، وجب الإتيان كذلك.

ولو انتفيا معاً ، كقوله : لله عليّ اعتكاف ستّة أيّام أو سبعة ، يجوز تفريق الثلاثتين إجماعاً ، كما ادعاه فخر المحقّقين في الإيضاح.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٩٤ ، وانظر المختلف ٣ : ٥٨٤.

(٢) المدارك ٦ : ٣١٧ ، وانظر مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ٣٥٨.

١٩٨

ويجوز فصل ما زاد عن الثلاثتين عنهما ، ويجب إكماله ثلاثة.

وهل يجب جعل الثلاثة مجتمعاً من النذر ، أو يصحّ التفريق بين الثلاثة أيضاً؟ فالمشهور وجوب الاجتماع ، فلا يصحّ إلا ثلاثة ثلاثة فما زاد.

وذهب العلامة إلى جواز التفريق ، بأن يأتي بيوم من النذر ويومين آخرين من غيره ، كما أشرنا سابقاً (١).

واختاره فخر المحقّقين ، قال : وتصوير ذلك بأن ينذر مثلاً اعتكاف العشر الأُول من رجب والحادي عشر والثاني عشر منه ، وستة أيّام في باقي رجب ولم يعيّن داخل بالنذر الأوّل ، أو كان على أبيه اعتكاف ، وتمكن منه ولم يأت به ثمّ مات ، وقلنا بوجوب قضاء الاعتكاف ، أو نذر أن يقضيه عنه ، ونذر أيضاً أن يعتكف ستة أيّام ، أو على قول من يقول : إنّه يصحّ ممن عليه صوم واجب أن يصوم ندباً ، وهذا الوجه أضعفها.

ثمّ قال في وجه جواز التفريق : إنّه عدم وجوب التتابع بين الستة ، ووجوبه في الثلاثة ؛ لعدم صحّة انفراد اليوم ، فحينئذٍ يأتي بواحد من الستة ، واثنين من تدارك اثنى عشر ، وهكذا إلى أن يأتي بتمام الستة مع انضمام اثنى عشر.

ثمّ قال في وجه عدم جواز التفريق هكذا ما حاصله : إنّ كون الاعتكاف أقلّ من ثلاثة حتّى يدخل تحت النذر محال ، فالذي هو منذور هو الثلاثات ، فكل واحد من الأيّام الستة لا يصدق عليه أنّه اعتكاف منذور آخر أو غيره (٢).

أقول : ولا تخفى قوّة قول العلامة ، وضعف هذا الوجه بملاحظة ما ذكروه فيمن نذر يوماً لا بشرط نفي غيره ولا ثبوته أنّه يصحّ ويكمله باثنين ، وحينئذٍ فلا يختص هذا الكلام بنذر ما زاد على الثلاثة ، بل يجري في الثلاثة أيضاً إذا لم يشترط فيها التتابع لفظاً ومعنى ، كما أشار إليه في المسالك (٣).

__________________

(١) المنتهي ٢ : ٦٣٠ ، التذكرة ٦ : ٢٧٧.

(٢) الإيضاح ١ : ٢٥٨.

(٣) المسالك ٢ : ٩٨.

١٩٩

ويجوز ضمّ المندوبين إلى كلّ واحد من الأيّام ، ولا يشترط وجوب اليومين مطلقاً ، بل ولا ينحصر جواز ضمّ المندوبين في صورة القول بجواز الصوم المندوب لمن عليه صوم واجب ، بل يتم على القول بعدم جوازه أيضاً ؛ لأنّ نذر الاعتكاف يستلزم فعله في صوم واجب ، لا وجوب الصوم له ، كما أشار إليه في المسالك أيضاً (١).

أقول : بل إنّما يستلزم فعله في مطلق الصوم على ما حقّقناه ، لا وجوب الصوم له حتّى يمتنع المندوب.

الشرط الرابع : أن يكون في المسجد من غير فرق بين الرجل والمرأة بإجماع العلماء ، عدا شاذّ من العامة ، حيث جوّزه لها في مسجد بيتها (٢).

ويدلّ على التسوية بعض الأخبار الاتية ، وعلى أصل اشتراط المسجد أيضاً إجماع العلماء ، وتدلّ عليه الآية (٣) ؛ لأنّ المباشرة في حال الاعتكاف حرام مطلقاً ، فلو لم يكن المقصود بيان اشتراط المسجد ، لكان التقييد لغواً ، والأخبار الكثيرة جدّاً ، وسيأتي بعضها.

وأما ما نقل عن صاحب الفاخر من جوازه في بيوت مكة ، فلعلّه مبنيّ على مسجديّتها ، كما تُشعر به أية الإسراء (٤) مع كونه من بيت أُم هاني كما قيل ، ولما ورد في جواز الصلاة للمعتكف في دور مكة كما سيجي‌ء ، سيّما رواية عبد الله بن سنان (٥).

والأظهر ما هو الأشهر ؛ لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، فإطلاق المسجد عليها

__________________

(١) المسالك ٢ : ٩٨.

(٢) نُسب إلى أبي حنيفة والشافعي في القديم ، انظر بداية المجتهد ١ : ٢٦٦ ، وبدائع الصنائع ٢ : ١١٣ ، والمبسوط للسرخسي ٣ : ١١٩ ، والهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢ ، والمجموع ٦ : ٤٨٤ ، وفتح العزيز ٦ : ٥٠٣ ، وحلية العلماء ٣ : ٢١٨ ، والمغني ٣ : ١٢٩ ، والشرح الكبير ٣ : ١٣٢ ، ومقدمات ابن رشد : ١٩١.

(٣) البقرة : ١٨٧.

(٤) الإسراء : ١.

(٥) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٤ ، الفقيه ٢ : ١٢١ ح ٥٢٢ ، التهذيب ٤ : ٢٩٢ ح ٨٩٠ ، الاستبصار ٢ : ١٢٧ ح ٤١٥ ، الوسائل ١٠ : ٥٥١ أبواب الاعتكاف ب ٨ ح ١.

٢٠٠