غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-679-9
الصفحات: ٤١٢

لو سلّم مجاز ، مع أنّ إطلاق الأخبار إنّما ينصرف إلى غيرها ، وجواز صلاة الاعتكاف في الدور لا يستلزم جواز الاعتكاف فيها.

ثمّ إنّ الأصحاب اختلفوا في المسجد ، فالمشهور بينهم اعتبار التعيين ، ويظهر من ابن أبي عقيل الإطلاق ، فإنّه قال : الاعتكاف عند آل الرسول «لا يكون إلا في المساجد ، وأفضل الاعتكاف في المسجد الحرام ، ومسجد الرسول ، ومسجد الكوفة ، وسائر الأمصار في مساجد الجماعات (١).

ووجه الظهور : اعتبار الاعتكاف في مساجد الجماعات في سائر الأمصار في أقسام الأفضل ، ويلزمه الجواز في غيرها ، ويمكن أن يكون «وسائر الأمصار» كلاماً مستأنفاً ، ويلزمه التقييد والتعيين.

ثمّ إنّ جلّ الأصحاب المعتبرين للتعيين اختلفوا ، فعن الأكثر انحصار جواز ذلك في مسجدٍ صلّى فيه النبي ، أو أحد من الأئمّة «(٢).

وفي عبارة بعضهم كالشرائع واللمعة : نبيّ أو وصيّ (٣) ، ولعلّه مسامحة ؛ تبعاً لإطلاق الرواية ، فإنّ إطلاق إمام عدل يفيده.

والأولى حمله على إمام عدل ملتنا.

والمفيد (٤) والمحقّق (٥) والشهيدان (٦) وكثير ممن تأخّر عنهم (٧) اشترطوا كونه في مطلق المسجد الجامع.

ثمّ إنّ أكثر الأكثرين حصروا المورد في المسجد الحرام ، ومسجد النبيّ ،

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف ٣ : ٥٧٨.

(٢) الفقيه ٢ : ١٢٠ ، الانتصار : ٧٢ ، النهاية : ١٧١ ، المبسوط ١ : ٢٨٩ ، الخلاف ١ : ٤٠٣ ، الكافي في الفقه : ١٨٦ ، السرائر : ٩٧ ، المختلف ٣ : ٢٥١.

(٣) الشرائع ١ : ١٩٣ ، اللمعة (الروضة البهيّة) ٢ : ١٥٠.

(٤) المقنعة : ٣٦٣.

(٥) الشرائع ١ : ١٩٣.

(٦) اللمعة (الروضة البهيّة) ٢ : ١٥٠.

(٧) الفاضل المقداد في التنقيح الرائع ١ : ٤٠١ ، وصاحب المدارك ٦ : ٣٢٣.

٢٠١

والمسجد الجامع بالكوفة ، والمسجد الجامع بالبصرة.

وعن عليّ بن بابويه تبديل البصرة بالمدائن (١) ، وعن ولده في المقنع اعتبار الخمسة (٢)

حجّة المفيد وأتباعه : الأصل ، وإطلاق الآية (٣) ، والأخبار المعتبرة المستفيضة جدّاً ، مثل ما رواه الصدوق في الصحيح ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه قال : «لا اعتكاف إلا بصوم في المسجد الجامع» (٤).

وفي الصحيح عن داود بن سرحان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا أرى الاعتكاف إلا في المسجد الحرام» (٥) إلى آخر ما سنرويه عن الكليني ، عنه ، عن أبي عبد الله ، عن عليّ عليه‌السلام.

والكليني في الحسن لإبراهيم بن هاشم ، عن الحلبي ، عنه عليه‌السلام ، قال : «لا يصلح الاعتكاف إلا في المسجد الحرام ، أو مسجد الرسولُ ، أو مسجد الكوفة ، أو مسجد جماعة ، وتصوم ما دُمت مُعتكفاً» (٦).

وعن داود بن سرحان ، عنه عليه‌السلام ، قال : «إنّ عليّاً عليه‌السلام كان يقول : لا أرى الاعتكاف إلا في المسجد الحرام ، أو مسجد الرسول ، أو مسجد جامع ، ولا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد ، إلا لحاجة لا بد منها ، ثمّ لا يجلس حتّى يرجع ، والمرأة مثل ذلك» (٧).

والشيخ في الموثق ، عن أبي الصباح الكناني ، عنه عليه‌السلام كان يقول : «لا أرى الاعتكاف إلا في المسجد الحرام ، أو مسجد الرسول ، أو في مسجد جامع» (٨).

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف ٣ : ٥٧٧.

(٢) المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ١٦.

(٣) البقرة : ١٨٧.

(٤) الفقيه ٢ : ١١٩ ح ٥١٦ ، الوسائل ٧ : ٤٠٠ أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ١.

(٥) الفقيه ٢ : ١٢٠ ح ٥٢١ ، التهذيب ٤ : ٢٩٠ ح ٨٨٤ ، الاستبصار ٢ : ١٢٦ ح ٤١١ ، الوسائل ٧ : ٤٠٢ أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ١٠.

(٦) الكافي ٤ : ١٧٦ ح ٣ ، الوسائل ٧ : ٤٠١ أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ٧.

(٧) الكافي ٤ : ١٧٦ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٠ ح ٥٢١ ، التهذيب ٤ : ٢٩٠ ح ٨٨٤ ، الاستبصار ٢ : ١٢٦ ح ٤١١ ، الوسائل ٧ : ٤٠٢ أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ١٠.

(٨) التهذيب ٤ : ٢٩١ ح ٨٨٥ ، الاستبصار ٢ : ١٢٧ ح ٤١٢ ، الوسائل ٧ : ٤٠١ أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ٥.

٢٠٢

وعن يحيى بن العلاء الرازي ، عنه عليه‌السلام ، قال : «لا يكون الاعتكاف إلا في مسجد جماعة» (١).

وعن عليّ بن عمران ، عنه عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام ، قال : «المعتكف يعتكف في المسجد الجامع» (٢).

وروى المحقّق في المعتبر عن جامع البزنطي ، عن داود بن الحصين ، عنه عليه‌السلام ، قال : «لا اعتكاف إلا بصوم ، وفي مسجد المصر الذي أنت فيه» (٣).

وحملُه على مِصر بلد السائل ، وهو الكوفة ، أو مصر الإمام عليه‌السلام ، وهو المدينة بعيد ، مع أنّه يستلزم عدم جوازه في غيرهما ، وهو خلاف الإجماع.

وأما دليل المشهور من الاقتصار على المساجد الأربعة ، مع كون الرابع هو مسجد البصرة دون المدائن ، فهو الإجماع ، كما عن الخلاف والتبيان والغنية وظاهر مجمع البيان (٤) ، وهو لازم كلام ابن إدريس (٥) كما سنشير إليه ، وصريح كلام المرتضى في الانتصار أيضاً ، كما سننقله (٦) ، وعن الخلاف دعوى تواتر الأخبار.

واحتجّوا أيضاً : بأنّه عبادة شرعيّة يقف العمل فيها على موضع الوفاق ، وبأنّهم «لم يعتكفوا في غيرها.

وبصحيحة عمر بن يزيد رواها في الفقيه ، قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها؟ قال : «لا تعتكف إلا في مسجد جماعة قد صلّى فيه إمام عدل جماعة ، ولا بأس بأن يعتكف في مسجد الكوفة والبصرة ، ومسجد

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٩٠ ح ٨٨١ ، الاستبصار ٢ : ١٢٧ ح ٤١٤ ، الوسائل ٧ : ٤٠١ أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ٦.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٩٠ ح ٨٨٠ ، وفي الاستبصار ٢ : ١٢٧ ح ٤١٣ ابن غراب بدل ابن عمران ، الوسائل ٧ : ٤٠١ أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ٤.

(٣) المعتبر ٢ : ٧٣٣ ، الوسائل ٧ : ٤٠٢ أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ١١.

(٤) الخلاف ١ : ٤٠٣ ، التبيان ٢ : ١٣٥ ، الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٣ ، مجمع البيان ١ : ٢٨١.

(٥) السرائر ١ : ٤٢١.

(٦) الانتصار : ٧٢.

٢٠٣

المدينة ، ومسجد مكة» (١).

ورواها الكليني أيضاً ، وكذا الشيخ عنه ، وزاد فيها لفظ «فيها صلاة» قبل جماعة ، وقال الصدوق بعدها : وقد روي في مسجد المدائن.

ويرد على الأوّل : منع الإجماع ، قال في المعتبر : واحتجاج الشيخ بإجماع الفرقة لا نعرفه ، ويلزم ذلك من عَرفَ إجماعهم عليه ، وكيف يكون إجماعاً والأخبار على خلافه ، وأعيان فضلاء الأصحاب قائلون بضدّه (٢).

وكذا الشهيد في غاية المراد ، قال : والمرتضى رحمه‌الله والشيخ في الخلاف ادعيا الإجماع ، وأعظم به من دليل لولا صريح الخلاف (٣).

وعلى الثاني : أنّ الاقتصار على موضع الوفاق ، إنّما يتمّ إذا لم يثبت له الدليل ، وقد عرفت الأدلّة.

وعلى الثالث : أنّ عدم اعتكافهم في غيرها لا يدلّ على عدم الجواز ، مع أنّهم اعتبروا تجميع المعصوم ، لا اعتكافه.

وعلى الرابع : أنّ «إمام عدل» يشمل غير المعصوم.

والإنصاف أنّها ظاهرة في المعصوم ؛ لأنّ ظاهرها الإضافة ، كإمام الهدى في مقابل إمام الضلال وإمام الجور ، فإنّ أئمّة الجور وإن كانوا أئمّة لكنهم يهدون إلى النار ، وفهم قدماء الأصحاب أيضاً شاهد عليه ، وليس من قبيل التوصيف ، كالشاهد العدل ، كما فهمه صاحب المدارك (٤).

وعلى هذا فيشكل ترجيح قول المفيد وأتباعه ؛ لأنّ هذه الرواية الصحيحة ظاهرة الدلالة ، مع اعتضادها بالإجماعات المنقولة ، ودعوى الشيخ تواتر الأخبار والشهرة

__________________

(١) الفقيه ٢ : ١٢٠ ح ٥١٩ ، الكافي ٤ : ١٧٦ ح ١ ، التهذيب ٤ : ٢٩٠ ح ٨٨٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٦ ح ٤٠٩ ، الوسائل ٧ : ٤٠١ أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ٨.

(٢) المعتبر ٢ : ٧٣٢ ، وحكى الخلاف عن ابن أبي عقيل والمفيد في المختلف ٣ : ٥٧٧.

(٣) غاية المراد ١ : ٣٥١.

(٤) المدارك ٦ : ٣٢٥.

٢٠٤

بين الأصحاب ، سيّما القدماء منهم ، حتّى أنّ العلامة في المختلف بعد اختياره قول الأكثر استدلّ بأنّه أشهر بين الأصحاب ، وبالصحيحة المذكورة ، فجعل الشهرة دليلاً لا يقصر عن أدلّتهم ، بل تغلب عليها (١).

وردّ استدلال العلامة بالشهرة الشهيد في غاية المراد ، بأنّ الشهرة لو سلّمت ليست حجّة ، فربّ مشهور مرجوح ، بل كم من مشهور باطل (٢) ، ولعلّه يريد شهرة يكون في مقابلها دليل ، وإلّا فهو قائل بحجية الشهرة ، كما يظهر من الذكرى (٣).

والحاصل : أنّ الإجماعات بمنزلة أخبار صحيحة ، وإذا أُضيف إليها صحيحة عمر بن يزيد ، واعتضد المجموع بالشهرة ، يترجح قول الأكثر ، مع أنّ فيه جمعاً بين الروايات ، بحمل مطلقاتها على المقيد.

فلم يبقَ في الطرف الأخر إلّا كثرة الأخبار ، وموافقة الكتاب ، وفيه : مع أنّ سندَ كثيرٍ منها ضعيف ، لا يقاوم ما ذكرنا.

وأما الكتاب ؛ فمع تسليم العموم أيضاً يخصّص بتلك الأدلّة ، ويمكن أن يُراد بلام المساجد العهد ، وإن كان الجمع المحلّى باللام ظاهراً في العموم ، أو يُراد جنس الجمع كما في قولهم : الحكم هو خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين ، بقرينة المقام.

فالأحوط بل الأظهر : أن لا يفعل في غير المساجد المعهودة إلا بقصد الاحتياط قربة إلى الله ، فينوي : أنّي أعتكف إن كان يصحّ فيها ، وإلّا فيكون لبثاً في المسجد لأجل العبادة ، ويترك محظورات الاعتكاف قربة إلى الله.

وحجّة ابن أبي عقيل (٤) : عموم الآية (٥) ، ورواية داود بن الحصين (٦) ، وقد ظهر

__________________

(١) المختلف ٣ : ٥٧٨.

(٢) غاية المراد ١ : ٣٥٠.

(٣) الذكرى : ٥.

(٤) ذكر احتجاجه في المختلف ٣ : ٥٧٩.

(٥) البقرة : ١٨٧.

(٦) المعتبر ٢ : ٧٣٣ ، الوسائل ٧ : ٤٠٢ أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ١١.

٢٠٥

لك الجواب عن الآية ، وكذا عن الرواية ، مع أنّه يمكن أن يقال : إضافة المسجد إلى المصر ، يُشعر بعدم الاكتفاء بمسجد القبيلة.

وأمّا توفيقها مع مذهب الأكثر ، فبإرادة مصر السائل أو المسئول عنه ، ويكون المراد التمثيل ، فلا يلزم عدم الجواز في غيرهما.

بقي الكلام في أنّ المعتبر هل هو فعل الجمعة ، أو مطلق الجماعة؟ فقد اختلف الأصحاب فيه ، قال في القواعد : والضابط ما جمع فيه النبي أو وصي له جماعة أو جمعة على رأي (١).

وقال المحقّق : وضابطه كلّ مسجد جمع فيه نبي أو وصي جماعة ، ومنهم من قال جمعة (٢).

ونسبَ في الإيضاح الأوّل إلى عليّ بن بابويه وابن الجنيد ، والثاني إلى المفيد والمرتضى وابن حمزة وابن إدريس (٣).

ونسبَ الأوّل الشهيد في غاية المراد إلى الصدوقين (٤) ؛ لأنّهما لم يصرّحا بالجمعة ، فإنّ الصدوق في المقنع بعد ما قال : لا يجوز الاعتكاف إلّا في خمسة مساجد ، في المسجد الحرام ، ومسجد الرسول ، ومسجد الكوفة ، ومسجد البصرة ، ومسجد المدائن قال : والعلّة في ذلك أنّه لا يعتكف إلا في مسجد جمع فيه إمام عدل ، وقد جمع النبي بمكة والمدينة ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه المساجد (٥).

وقال أبوه : لا يجوز الاعتكاف إلا في المسجد الحرام ، ومسجد الرسول ، ومسجد الكوفة ، ومسجد المدائن ، والعلّة في ذلك أنّه لا يعتكف إلا في مسجد جَمَعَ فيه إمام

__________________

(١) القواعد ١ : ٣٩٠.

(٢) الشرائع ١ : ١٩٣.

(٣) الإيضاح ١ : ٢٥٦ ، وانظر المختلف ٣ : ٥٨٠ ، والمقنعة : ٣٦٣ ، والانتصار : ٧٢ ، والوسيلة : ١٥٣ ، والسرائر ١ : ٤٢١.

(٤) غاية المراد ١ : ٣٤٨.

(٥) المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ١٦.

٢٠٦

عدل ، وقد جمع النبي بمكة ، وجَمَعَ أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه الثلاثة مساجد ، وروى في مسجد البصرة (١) ، وهو موافق لفقه الرضا عليه‌السلام (٢).

ولعلّ الشهيد رحمه‌الله نظر إلى أنّ التجميع يشمل مطلق الجماعة (٣).

ويؤيّده أنّ مستند هؤلاء صحيحة عمر بن يزيد ، وليس فيها لفظ التجميع كما عرفت.

وعن الراغب (٤) والمطرزي تفسيره بحضور الجماعة أو الجمعة ، وربّما احتمل كون لفظ «جمع» في كلامهما مخفّفاً ، يعني جمع الناس للصلاة فيعمّ ، ولكن المنقول عن أكثر اللغويين : أنّ التجميع هو حضور الجمعة (٥).

قال في المختلف : ولا أرى لهذا الخلاف كثير فائدة ، إلا أن يثبت مسجد صلّى فيه بعض الأئمة «جماعة لا جمعة (٦).

وفي الإيضاح : تظهر فائدة الخلاف في مسجد المدائن ، فإنّه روي أنّ الحسن عليه‌السلام صلّى فيه جماعة (٧) ، فإن ثبتت هذه الرواية ، صحّ فيه على قول عليّ ابن بابويه (٨).

وعن الشهيد الثاني في حاشية القواعد أيضاً : أنّه عليه‌السلام صلّى فيه جماعة ، وكذا النبي في مسجد قبا ، وفي مسجد بني سالم ، وأما صلاتهُ في المسجد الأقصى ليلة الإسراء فلم تقع جماعة ، وكيف كان فالعُمدة بيان الدليل إن لم يرد لفظ التجميع في الخبر حتّى ينفع الخلاف فيه ، فالذي تقتضيه الرواية كفاية مطلق الجماعة.

__________________

(١) نقله عنه في السرائر ١ : ٤٢١ ، والمختلف ٣ : ٥٧٧.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢١٣.

(٣) غاية المراد ١ : ٣٤٨.

(٤) مفردات الراغب : ٢٠٢.

(٥) العين ١ : ٢٤٠ ، مجمع البحرين ٤ : ٣١٥ ، المصباح المنير ١ : ١٠٩.

(٦) المختلف ٣ : ٥٨٠.

(٧) الفقيه ٢ : ١٢٠ ح ٥٢٠ إلا أنّ فيه : وقد روي في مسجد المدائن ، وعنه في الوسائل ٧ : ٤٠٢ أبواب الاعتكاف ب ٣ ح ٩.

(٨) الإيضاح ١ : ٢٥٦.

٢٠٧

ولكن الظاهر من الجماعة دعوى الإجماع على خصوص الجمعة ، فالمدّعون للإجماع بين مصرّح باشتراط الجمعة (١) وبين مكتفٍ بالمساجد الأربعة (٢).

فقال السيّد في الانتصار : ومما انفردت به الإمامية القول بأنّ الاعتكاف لا ينعقد إلا في مسجد صلى فيه إمام عدل بالناس الجمعة ، هي أربعة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، ومسجد الكوفة ، ومسجد البصرة ، ثمّ نقل أقوال المخالفين ، ثمّ قال : لنا مضافاً إلى الإجماع طريقة الاحتياط (٣).

وقال ابن إدريس بعد ما حصر الاعتكاف في المساجد المذكورة : ولا ينعقد الاعتكاف في غير هذه المساجد ؛ لأنّ من شرط المسجد الذي ينعقد فيه الاعتكاف عند أصحابنا ، أن يكون قد صلّى فيه نبيّ أو إمام عادل جمعة بشرائطها ، وليست إلا هذه. وطعن على تبديل عليّ بن بابويه مسجد البصرة بمسجد المدائن ، وقال : إنّ الخبر الوارد به شاذ (٤).

ويمكن أن يؤيّد اشتراط الجمعة بالأخبار الكثيرة باشتراط المسجد الجامع ، وهو ما تجمّع فيه أهل البلد بالتشديد يعني بفعل الجمعة فيه ، كما نقل عن السجزي في المهذب ، والفيومي في المصباح ، والنووي في التحرير (٥) ، وبعضهم فسره بالمسجد الأعظم ، كما عن الفارابي في ديوان الأدب ، وعبّر به المفيد (٦).

والغالب أنّ الجمعة إنّما تقام في المسجد الأعظم ، وهو المتبادر منه في عرف زماننا ، والأصل عدم النقل ، وهو المعنى المناسب للاشتقاق ، فإنّ مسجد القبائل والمحلات إما لا يجمع فيها أصلاً لفقد إمام لهم أن يجمّع صلاتهم أهل القبيلة ، وهم في العرف

__________________

(١) الانتصار : ٧٢ ، السرائر ١ : ٤٢١.

(٢) الخلاف ٢ : ٢٢٧ ، الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٣.

(٣) الانتصار : ٧٢.

(٤) السرائر ١ : ٤٢١.

(٥) المهذّب ١ : ٦٥ ، المصباح المنير : ١٠٩ ، التحرير ١ : ٨٧.

(٦) المقنعة : ٣٦٣.

٢٠٨

مجتمعون لا متفرّقون حتّى يتحقّق الاجتماع.

وأمّا الجمعة فلما كانت لا تُقام في أقلّ من فرسخ من جمعة اخرى ، ولا تقع غالباً إلّا في البلد الأعظم ، فلا جَرَمَ يكون مسجدها جامع الشتات ، فحمل الجامع على ما يجمع فيه قبائل شتى أنسب بالاشتقاق.

ولم نقف على من فسّر المسجد الجامع بغير ما ذكرنا ، إلا ما ذكره في المسالك ، فقال : هو الذي يُجمع فيه في البلد جمعة أو جماعة.

فائدة :

مسجد البصرة في هذا الزمان واقع في البريّة ويُشكل الاعتكاف فيه ومسجد المدائن غير معلوم ، كما ذكره الفاضل المجلسي رحمه‌الله.

وقالوا : إنّ المراد بمسجد مكّة والمدينة ، ما كان مسجداً في زمان الرسولُ ، لا ما أُلحق بهما بعده.

واعلم أنّه على قول المفيد (١) وأتباعه (٢) ، إذا تعدّد المسجد الجامع ، يجوز الاعتكاف فيهما.

ولو اشترطنا في معنى المسجد الجامع انعقاد الجمعة فيتعيّن ، إلا أن يُقام فيهما الجمعة على التناوب ، بل يكفي فيه إقامة الجمعة في وقتٍ إذا كان وضعه لذلك ، وإن هُجرَ الحين.

ولو لم يشترط فيه إلا الجماعة فلا إشكال في الجواز فيهما ، ويُشكل الأمر في التعيين حينئذٍ إذا تعدّد مسجد الجماعة مع عدم تلقيبها بالمسجد الجامع.

فالأولى حينئذٍ اعتبار جماعة أهل المصر أو أغلبهم ، لا مطلق ما يصلّى فيه جماعة ، وإن كان كبيراً ويحصل فيه الاجتماع كثيراً ، أو اعتبار وضعه في ألسنتهم بالمسجد

__________________

(١) المقنعة : ٣٦٣.

(٢) المعتبر ٢ : ٧٣٢ ، النافع : ٧٣ ، اللمعة (الروضة البهيّة) ٢ : ١٥٠ ، الذخيرة : ٥٣٩.

٢٠٩

الجامع ، كما في الأخبار.

الشرط الخامس إذنُ مَن له ولاية عليه وهو في مثل الزوجة والعبد ظاهر ؛ لمنعه عن الحق اللازم عليهما ، من الخدمة ، والاستمتاع.

وأما في مثل الولد والضيف ونحوهما فلا دليل عليه ؛ إذ الذي دلّ عليه الدليل توقّف صومهم على الإذن ، لا اعتكافهم.

والاعتكاف لا يستلزم الصوم المبتدأ ، بل إنّما يستلزم وقوعه في حال الصوم ، فإذا اعتكفوا في شهر رمضان مثلاً ، فلا دليل على المنع.

والأقوى التفصيل بما لو أوقعه في صوم مندوب فيتوقّف ، وإلا فلا ، ولكن هذا مخرج للمسألة عن البحث في الاعتكاف بالذات.

بل المنع في الأولين أيضاً ليس من حيث هو.

فإطلاق توقّف الاعتكاف على إذن من له الولاية كما وقع في الشرائع فإنّه ذكر العبد والزوجة من باب المثال ليس بجيد.

إلّا أن يقال : إنّ مراده التمثيل لما يتوقّف جواز الاعتكاف على إذنه ، لا الصوم.

ومنها الأجير الخاص في عملٍ يُنافي الاعتكاف.

وأطلق في الدروس اشتراط إذن الأب من دون إشارة إلى خلاف ، وجعل توقّف الضيف والأجير على الاستئذان أقرب (١).

قال في المسالك : الحكم في الأجير واضح ، إذا كان خاصاً ، دون الضيف ، إلا أن يكون الاعتكاف متوقّفاً على صومٍ مَندوب ، فيبنى حكمه وحكم الولد والضيف أيضاً على ما تقدّم في الصوم ، إلّا أنّ هذا خروج عن توقّف الاعتكاف لذاته (٢).

أقول : ما ذكره من أنّ الحكم في الأجير واضح إذا كان خاصاً يعني أنّه لا إشكال

__________________

(١) الدروس ١ : ٢٩٨.

(٢) المسالك ٢ : ١٠٠.

٢١٠

في توقّفه لا يخلو عن إشكال إذا كان الأجير الخاص أجيراً فيما لا ينافي الاعتكاف كالصلاة وتلاوة القرآن ، فإنّ توقّفه حينئذٍ على الاستئذان محلّ إشكال.

ثمّ إذا أذِنَ مَن له ولاية الإذن ، كان له المنع قبل الشروع ، ما لم يمضِ يومان في المندوب على المختار ، بخلاف مذهب الشيخ ، فلا يجوز له المنع بمحض التلبس (١).

وأمّا الاعتكاف الواجب بالنذر وشبهه ، فإن كان متعيناً ، فلا يجوز قبل الشروع ولا بعده ، وإن كان مُطلقاً ، فالأقرب جواز المنع أوّلاً ، وبعد التلبس على وجه قوّيناه ؛ لعدم الدليل على حرمة إبطال الواجب مطلقاً ما لم يمض يومان ، فإنّه يتعين حينئذٍ.

الشرط السادس : استدامة اللبث في المسجد ليلاً ونهاراً ، حتّى يتمّ اعتكافه باتفاق العلماء كافة ، كما ادعاه الفاضلان (٢) ، فيبطل بالخروج اختياراً إلا ما استثنوه ، وإن قصر زمانه ، والظاهر أنّه أيضاً إجماع العلماء ، كما يظهر من الفاضلين (٣).

وتدلّ عليه الأخبار من الطرفين ، روى في التذكرة عن عائشة : أنّ رسول اللهُ كان إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان (٤).

ومن طريق الخاصة : صحيحة داود بن سرحان ، قال : كنت بالمدينة في شهر رمضان ، فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي أُريد أن اعتكف ، فماذا أقول ، وما ذا أفرض على نفسي؟ فقال : «لا تخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها ، ولا تقعد تحت ضلال ، حتّى تعود إلى مجلسك» (٥) ، ورواها الكليني رحمه‌الله ، والشيخ أيضاً.

وصحيحة عبد الله بن سنان في الكافي ، عنه عليه‌السلام ، قال : «ليس على المعتكف إلا

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٩٠.

(٢) المعتبر ٢ : ٧٣٣ ، التذكرة ٦ : ٢٨٦.

(٣) المعتبر ٢ : ٧٣٤ ، التذكرة ٦ : ٢٨٩.

(٤) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٢ ح ٢٤٦٧ ، سنن الترمذي ٣ : ١٦٧ ح ٨٠٤ ، سنن البيهقي ٤ : ٣١٥ ، مسند أحمد ٦ : ١٨١.

(٥) الكافي ٤ : ١٧٨ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ ح ٥٢٨ ، التهذيب ٤ : ٢٨٧ ح ٨٧٠ ، الوسائل ٧ : ٤٠٨ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٣.

٢١١

أن يخرج إلا إلى الجمعة أو جنازة أو غائط» (١) ، وفي بعض النسخ «للمُعتكف» وهو أنسب.

وحسنة الحلبي لإبراهيم بن هاشم كما في الكافي ، عنه عليه‌السلام ، قال : «لا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها ، ثمّ لا يجلس حتّى يرجع ، ولا يخرج في شي‌ء إلا لجنازة ، أو يعود مريضاً ، ولا يجلس حتّى يرجع ، واعتكاف المرأة مثل ذلك» (٢).

ورواها الصدوق أيضاً عنه عليه‌السلام ، والظاهر أنّ سنده صحيح ، لكن في الدلالة تأمّل ، ولكنّه لا يضرّ ؛ لعدم الإشكال.

ويتحقّق الخروج بخروجه بجميع بدنه ، ولا يضرّ ببعضه ، كما صرّح به الفاضلان في المعتبر والتذكرة ، ولم ينقلا خلافاً عن الأصحاب (٣) ، ويدلّ عليه عدم صدق الخروج عليه ، وفعل النبيّ ، كما في رواية عائشة.

وقال في المسالك : يتحقّق الخروج من المسجد بخروج جزء من بدن المعتكف عنه (٤) ، وكذا الشهيد في الدروس ، ولكنه استثنى ما لو أخرج رأسه ليغسل تأسّياً بالنبي (٥) ، وهو بعيد.

وفي تحقّقه بصعود سطح المسجد من داخل قولان ، قال : في المسالك : وهما إتيان في صعوده للجنب من خارج ، واختار الشهيد عدم دخول السطح في مسمّاه ، واختلف كلام الفاضل رحمه‌الله (٦) ، انتهى ، ويظهر منه التوقّف.

أقول : وإن كان الأظهر عدم دخول السطح فيه ، سيّما إذا كان قبة لا يمكن الصلاة

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٧٨ ح ١ ، الوسائل ٧ : ٤٠٩ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٦.

(٢) الكافي ٤ : ١٧٨ ح ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ ح ٥٢٩ ، الوسائل ٧ : ٤٠٨ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٢.

(٣) المعتبر ٢ : ٧٣٤ ، التذكرة ٦ : ٢٨٧.

(٤) المسالك ٢ : ١٠١.

(٥) الدروس ١ : ٣٠٠.

(٦) المسالك ٢ : ١٠٢ ، وانظر الدروس ١ : ٣٠٠ ، والمنتهى ٢ : ٦٣٥ ، والتذكرة ٦ : ٢٨٧ ، والتحرير ١ : ٨٧.

٢١٢

عليها ، ولا يعهد الصلاة في نواحيها ، إلا أنّ صدق الخروج بذلك ، وتبادر مثله من الأخبار ممنوع ؛ إذ لا منافاة بين عدم مسجديته ، وعدم صدق الخروج من المسجد عرفاً.

ويشكل المقام إذا كان السطح سطحاً ، ووضع كذلك ليكون مسجداً ، من جهة صيرورتهما مسجدين ، فيضرّ ، أو يدخل في المعتكف ، فلا يضر ، هذا الكلام فيما لو خرج باختياره.

وأمّا المكره ؛ ففيه أقوال ثلاثة : فعن الشيخ في المبسوط والمنتهى وظاهر المعتبر ، عدم البطلان بسببه (١) ؛ لحديث رفع ما استكرهوا عليه (٢).

وهذه عبارة الشيخ على ما في المختلف : وإذا أخرجه السلطان ظُلماً ، لا يبطل اعتكافه ، وإنّما يقضي ما يفوته ، وإن أخرجه لإقامة حدّ عليه ، أو استيفائه دَين منه ، يقدر على قضائه ، بطلَ اعتكافه ؛ لأنّه أحوج إلى ذلك ، فكان مختاراً في خروجه (٣).

وذهب المحقّق في الشرائع إلى البطلان ، قال : فلو خرج لغير الأشياء المبيحة ، بطل اعتكافه ، طوعاً خرجَ أو كُرهاً ، فإن لم تمضِ ثلاثة بطل الاعتكاف ، فإن مضت فهي صحيحة إلى حين خروجه (٤).

واختاره العلامة في القواعد والإرشاد (٥). ودليله خروجه عن ماهية الاعتكاف ، وأنّ غاية الحديث الدلالة على رفع الإثم ، وهو لا ينافي البطلان.

وفصّل الشهيد الثاني تبعاً للعلامة في جملة من كُتبه بالبطلان مع طول الزمان ، وعدمه مع عدمه ؛ لأنّ الطويل مخرج عن الاعتكاف ماهيّة ، ومنافٍ لماهيته ، بخلاف القصير (٦).

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٩٤ ، المنتهي ٢ : ٦٣٤ ، المعتبر ٢ : ٧٣٦.

(٢) الكافي ٢ : ٤٦٢ ، الخصال ٢ : ٤١٧ ، الوسائل ١١ : ٢٩٥ أبواب جهاد النفس ب ٥٦.

(٣) انظر المختلف ٣ : ٥٩٦.

(٤) الشرائع ١ : ١٩٤.

(٥) القواعد ١ : ٣٩٠ ، الإرشاد ١ : ٣٠٦.

(٦) المسالك ٢ : ١٠٢ ، وانظر التحرير ١ : ٨٧ ، والتذكرة ٦ : ٣٠٤.

٢١٣

وأُورد عليه : بأنّ القصير إن لم يكن منافياً للماهية ، فلا يكون مبطلاً في المختار أيضاً ؛ إذ المفروض أنّ علّة البطلان هي المنافاة للماهية ، وإن كان مُنافياً : فيكون مُبطلاً في المكره أيضاً.

فإن قلت : إنّ الإكراه من جملة الضرورات المستثناة.

قلت : فحينئذٍ فلا بدّ في كلّ الضرورات من التفصيل بالطول والقصر ، فما وجه الفرق؟!

وردّ : بأنّ الإجماع هو الذي أثبت البطلان بالخروج مختاراً ، بدون ضرورة ، وإن قصرت المدة.

أقول : والتحقيق أن يقال : المتبادر من الأخبار المانعة عن الخروج (١) ، هو الخروج الاختياري ، لا ما حصل بسبب إخراج الغير إيّاه ، والمتبادر من المستثنيات التي ذكر فيها هو الضروريات المعدودة المحدودة بالعرف والعادة ، على مقتضى كلّ منها ، وإن تفاوت بعضها مع بعض ، كأفراد تشييع الجنازة ، وعيادة المريض ، وغيرها بتفاوت طول المسافة ، وعدم الماء المحتاج إلى تحصيله ، ونحو ذلك ، فيثبت أنّ ذلك الخروج غير مضرّ على حسب العادة ، فحكم الخروج المتولد من إخراج الغير إيّاه كرهاً ليس بداخل في تلك الأخبار ، والأصل عدم مدخليّته في بطلان الاعتكاف.

نعم إذا طالَ زمانه بحيث صار ماحياً لصورة الاعتكاف ، بحيث يصحّ سلب «المعتكف» عنه في عُرف المتشرّعة ، فهو مُبطل له ، ولذلك ، لا لأنّه من أفراد الخروج المنهي عنه ، نظير الفعل الكثير في الصلاة على ما حقّقناه في محلّه ، أنّ المعيار فيه إنّما هو محو صورة الصلاة ، وكذلك الموالاة المعتبرة في الوضوء ، على المعنى الذي ذكرناه في محلّه أيضاً.

فإن قلت : إنّ الماحي لصورة الاعتكاف مُبطل في المختار أيضاً ، فلم يذكروه هنا.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٤٠٨ أبواب الاعتكاف ب ٧

٢١٤

قلت : إنّ الأخبار دلّت على أنّ مُطلق الخروج مبطل فيه (١) ، فكيف لا تدلّ على إبطال الطويل منه ، فلا حاجة إلى ذكره.

فإن قلت : نعم ، ولكن مع استثناء المستثنيات ، فلا بدّ أن يذكروا أنّ ذلك بشرط عدم الطول الماحي.

قلت : إنّ الاستثناء بقدر المتعارف ، فالاستثناء محدود بالمتعارف لا يجوز التعدّي عنه ، وأما التعدّي عن العادة فهو داخل في الخروج الممنوع على سبيل الإطلاق.

مع أنّا نقول : مُبطلات العمل إما تعبديّة ، وإما عقلية ، فمثل أكلِ لقمة في الصلاة مُبطل ، وإن لم يكن ماحياً ، سيّما إذا كان يبلغ ما كان في فيه قبل الصلاة ، وذلك لأجل التعبّد ، وأما إبطال الفعل الكثير ، فلأجل عدم الامتثال عقلاً ، بغير ما هو على الوجه المأمور به بحسب الكم والكيف ، أو مع ترك نفس المأمور به ، فقد ذكروا في الصلاة أنّ الأكل مبطل والشرب مبطل مثلاً ، والفعل الكثير مبطل.

فالمحتاج إلى التعرّض في حكم المبطل بسبب الفعل الكثير في الخروج إنّما هو المكره ؛ لأنّه لم يتحقّق منه خروج ، أو لم يتحقّق الخروج المنهي عنه حتّى يتعرّض لحكمه ، بخلاف المختار ، فذكروا في المختار أنّ الخروج فيه مبطل ، والخروج للأفعال الضرورية على حسب المعتاد غير مبطل ، وذلك لا ينافي بطلانه مع الخروج عن المعتاد ، ومحو صورة الاعتكاف.

ويشهد بذلك ما ذكره في المسالك بعد ذلك في مسألة استثناء قضاء الحاجة قال : ولو خرج عن كونه معتكفاً لطول الحاجة بطل مطلقاً (٢) ، فلأجل توهّم دخول الخروج القَسري في أفراد الخروج المنهي عنه نبّهوا على أنّه غير مضرّ ، إلا إذا صار ماحياً لصورة الاعتكاف ، فهو حينئذٍ مُبطل لأجل أنّه ماحٍ ، لا لأجل أنّه خروج.

فظهر مما حقّقناه : أنّ نظر أرباب القول الثاني ، إلى أنّ الخروج منافٍ لمهيّة الاعتكاف

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٤٠٧ أبواب الاعتكاف ب ٧.

(٢) المسالك ٢ : ١٠٣.

٢١٥

اللغوية ، أعني اللبث ، فإنّ الخروج منافٍ للّبث.

ونظر أرباب القول الثالث إلى أنّ الخروج المتطاول منافٍ للمهيّة العُرفية ، والقصير ليس بمنافٍ لها ؛ إذ لم تثبت الحقيقة الشرعية فيه كذلك كما لا يخفى.

فالمهم بيان الدليل على إبطال ما هو منافٍ للبث لغةً ، وقد عرفت أنّه لا دليل عليه.

فالأقوى القول بالتفصيل ؛ للأصل ، والإطلاق ، والاستصحاب ، وعدم الدليل ، والله يقول الحقّ ، وهو يهدي السبيل.

فرعان :

الأوّل : لو نذرَ أن يعتكف أيّاماً معيّنة ، كشهر رمضان ، أو العشر الأخر منه متتابعاً ، فعن الشيخ في المبسوط : أنّه تلزمه المتابعة فإن أخلّ بها استأنف (١) ، وتبعه الفاضلان في الشرائع والتذكرة (٢).

وعلله العلامة في المختلف والتذكرة بعدم الإتيان بالمنذور ، ومخالفة الشرط.

وقال في المختلف : ولقائل أن يقول لا يجب الاستئناف ، وإن وجب عليه الإتمام متتابعاً ، وكفّارة خلف النذر ؛ لأنّ الأيّام التي اعتكفها متتابعة ، وقعت على الوجه المأمور به ، فيخرج بها عن العهدة ، ولا يجب عليه استينافها ؛ لأنّ غيرها لم يتناوله النذر ، بخلاف ما إذا أطلق النذر ، وشرط التتابع ؛ فإنّه هنا يجب الاستيناف ؛ لأنّه أخل بصفة النذر ، فوجب عليه استئنافه من رأس ، بخلاف صورة النزاع ، والفرق بينهما تعيّن الزمان هناك ، وإطلاقه هنا ، وكلّ صوم مُتتابع في أيّ زمان كان مع الإطلاق يصحّ أن يجعله المنذور ، أما مع التعيّن فلا يمكنه البدل (٣) ، انتهى.

وارتضاه صاحب المدارك ، وجده رحمه‌الله في المسالك ، وزادا على ذلك : أنّ

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٩١.

(٢) الشرائع ١ : ١٩٤ ، التذكرة ٦ : ٣١٠.

(٣) المختلف ٣ : ٥٨٧.

٢١٦

عدم الاستئناف إنّما هو إذا كان ما أتى به ثلاثة فصاعداً ، وإلا فيستأنف الجميع (١) ، ولا إشكال في هذه الزيادة ، ولكن الإشكال فيما ذكروه من عدم لزوم الاستئناف.

وما ذكره العلامة في الفرق بين الأيّام المتتابعة بالذات ، المشروطة التتابع بالعرض ؛ ماله إلى أنّ الاستئناف في الثاني ليس من جهة كونه قضاءً ، بل لأنّه نفس الوفاء بالمنذور ؛ لإمكان تحقّقه في أي فرد من أفراد الأيّام القابلة للتتابع ، بخلاف الأيّام المتتابعة ، فإنّها لا يشملها النذر ، فالإتيان بها ثانياً لا يكون إلا من جهة كونها قضاءً ، والقضاء إنّما يجب فيما فات الأداء ، والمفروض أنّ الأيّام السابقة على الإخلال لم تفت ، فلا يجب قضاؤها.

وفيه : أنّ التتابع المشروط بالعرض ليس محض التأكيد للتتابع المعنوي حتّى يكون لغواً ، فكما أنّه يجوز نذر الصلاة الواجبة ، والصوم الواجب ، فيجوز نذر التتابع الواجب ، فقد فاتَ المنذور الموقّت الذي هو المجموع المركّب المتتابع ، وإن لم يفُت بعضها من حيث إنّه بعض المتتابع بحسب المعنى فقط ، فلا يتم إلا بقضاء الجميع متتابعاً.

نعم يخدش فيما ذكره الشيخ ، أنّه لا دليل على وجوب القضاء ؛ إذ هو بفرض جديد ، إلا أنّ الشيخ نفى الخلاف عن وجوب الاستئناف في المبسوط ، على ما حكي عنه (٢) ، فلعلّه هو الدليل.

ولذلك قال العلامة رحمه‌الله : ولقائلٍ أن يقول ويظهر من ذلك أيضاً عدم اطلاعه على مخالف للشيخ ، ويؤيّد ذلك ما سيجي‌ء في الفرع الثاني.

ثمّ إنّ لازم هذا القول أنّه لا يجب عليه إتمام الباقي ؛ لأنّه بسبب الإخلال يبطل المنذور رأساً ، وإذا قلنا بوجوب قضاء المجموع على التتابع ، فلا معنى لوجوب الباقي ثمّ قضاء المجموع.

وأما لو نذر التتابع معنىً ، كشهر رمضان ، مع عدم اشتراط التتابع لفظاً ، والظاهر

__________________

(١) المدارك ٦ : ٣٣٧ ، المسالك ٢ : ١٠٦.

(٢) المبسوط ١ : ٢٩٢.

٢١٧

أنّه لا إشكال في عدم وجوب الاستئناف إذا أتى بثلاثة فصاعداً ، بل إنّما يقضي ما أهمل ، ويأتي بما بقي ، وإن لم يتمّ ثلاثة فيقضي الجميع ، والظاهر عدم وجوب التتابع في القضاء.

الثاني : إذا نذر اعتكاف شهر معين ، ولم يعلم حتّى خرج ، كالمحبوس والناسي ، فالمقطوع به في كلام الأصحاب كما ذكره في المدارك أنّه يقضي.

قال : واستدلّ عليه في المنتهي : بأنّه نذر في طاعة أخلّ به ، فوجب عليه قضاؤه ، وهو إعادة للمدّعى ، وينبغي التوقّف في ذلك إلى أن يقوم على وجوب القضاء دليل يعتد به (١).

أقول : ولعلّ دليلهم الإجماع ، وكان ذلك في نظره من الواضحات ، فعبّر بما هو في صورة إعادة المدّعى ، ويؤيّده نفي الخلاف المنقول سابقاً عن المبسوط في الفرع الأوّل (٢).

ثمّ قال أيضاً : وأما الكفارة فلا ريب في سقوطها للعذر ، قال في الدروس : ولو اشتبه الشهر فالظاهر التخيير ، وكذا لو غمّت الشهور عليه ، ويمكن المناقشة في هذا الحكم أيضاً بأنّ الأصل عدم وجوب المنذور المعين إلا إذا علم دخول وقته ، وإلحاقه بصوم رمضان يحتاج إلى دليل ، وإن كان ما ذكره أحوط (٣) ، انتهى كلام المدارك.

بقي الكلام فيما استثنوه من الخروج اختياراً :

والضابط الكلّي فيه جواز الخروج إلى كلّ ما لا بدّ منه ، ولا يمكن فعله في المسجد بحسب حاله ، كالخروج لتحصيل المأكول والمشروب ، إذا لم يكن له من يتكفله.

وإذا كان له في الأكل في المسجد غضاضة ، جاز الخروج للأكل أيضاً ، كما ذكره

__________________

(١) المدارك ٦ : ٣٣٧ ، وانظر المنتهي ٢ : ٦٣١.

(٢) المبسوط ١ : ٢٩٢.

(٣) المدارك ٦ : ٣٣٧ ، وانظر الدروس ١ : ٣٠٣.

٢١٨

العلامة في التذكرة ، والشهيد الثاني في المسالك (١).

وأما الشرب ؛ فلا غضاضة فيه لأحد ، ولعلّ المعيار في مثله منافاة المروءة التي اعتبروها في العدالة.

ذكروا في أمثلة الضروريات أُموراً :

منها : ما ذكرنا.

ومنها : قضاء الحاجة ، وهو التخلّي ، ويدلّ عليه بعد إجماع العلماء كافة لعدم جوازه في المسجد ، صحيحة ابن سنان المتقدمة (٢).

ويجب تحرّي أقرب الطرق إليه وأسرعها حصولاً ، إلا أن يكون له في الأقرب غضاضة ، كما ذكره العلامة (٣) وغيره (٤).

وربّما فُسّر بمطلق قضاء الحاجة لنفسه أو لأخيه المؤمن كما قطع به العلامة من غير نقل خلاف (٥) ، واحتجّ عليه : بأنّه طاعة ، فلا يمنع منها الاعتكاف ، وما رواه ميمون بن مهران قال : كنت جالساً عند الحسن بن عليّ « ، فأتاه رجل فقال له : يا ابن رسول اللهُ ، إنّ فلاناً له عليّ مال ، ويريد أن يحبسني ، فقال : «والله ما عندي مال فأقضي عنك» قال : فكلّمه ، قال : فلبس عليه‌السلام نعله ، فقلت له : يا ابن رسول الله أنسيت اعتكافك؟ فقال : «لم أنس ، لكنّي سمعت أبي عليه‌السلام يحدّث عن رسول اللهُ أنّه قال : من سعى في حاجة أخيه المسلم ، فكأنّما عَبَدَ الله تسعة آلاف سنة ، صائماً نهاره ، قائماً ليله» (٦).

وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة (٧) ، ولكنها مع ظهور كون قضاء حاجة المؤمن من

__________________

(١) التذكرة ٦ : ٢٦٣ ، المسالك ٢ : ١٠٣.

(٢) الكافي ٤ : ١٧٨ ح ١ ، الوسائل ٧ : ٤٠٩ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٦.

(٣) التذكرة ٦ : ٢٦٣ ، المنتهي ٢ : ٦٣٤.

(٤) المسالك ٢ : ١٠٣.

(٥) المنتهي ٢ : ٦٣٤.

(٦) الفقيه ٢ : ١٢٣ ح ٥٣٨ ، الوسائل ٧ : ٤٠٩ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٤.

(٧) لعلّ ضعفها بالإرسال وجهالة الراوي وضعف الطريق ، انظر معجم رجال الحديث ١٩ : ١١٤ الرقم ١٢٩٤٤.

٢١٩

أفضل الطاعات ، واستثناؤهم الطاعة مع ملاحظة ما يعطيه استقراء تتبع الموارد ، وكون النسبة بين ما دلّ على رجحان قضاء حاجة المؤمن ، والمنع عن الخروج في الاعتكاف عموماً من وجه ، من دون مرجّح للأخير ، بل ثبوته للأوّل يرجّح الجواز.

وأما إذا كان قضاء حاجته من الأُمور اللازمة ، كحفظ نفسه وعرضه وماله ، فيدخل في عموم استثناء حاجة لا بدّ منها ، المذكورة في الأخبار.

ولكن يشكل حينئذٍ تعميم قضاء الحاجة في كلامهم لحاجات نفسه الغير الضرورية ، فإنّ المستفاد من الروايات إنّما هو الحاجة التي لا بد منها لا مطلقاً ، فانظر إلى المحقّق حيث قال : ويجوز الخروج للأُمور الضرورية ، كقضاء الحاجة ، والاغتسال ، وشهادة الجنازة ، وعود المرضى ، وتشييع المؤمن ، وإقامة الشهادة (١).

وقال في المسالك بعد تفسيره بالتخلّي : ويجوز أن يريد مطلق الحاجة ، ويكون الاغتسال من باب عطف الخاصّ على العام ، أو الاغتسال المندوب ، فإنّه غير محتاج إليه ، ولا فرق في الحاجة بالمعنى الثاني بين أن تكون له أو لغيره من المؤمنين (٢).

أقول : حمله على الاغتسال الواجب مبنيّ على جعله من أفراد قضاء الحاجة ، والمفروض أنّ قضاء الحاجة مثال للأُمور الضرورية ، ويرد عليه حينئذٍ ، أنّ تعميم قضاء الحاجة على ما ذكره أخيراً لا يناسب جعله مثالاً للأُمور الضرورية.

ثمّ إنّ احتمال إرادة الغسل المندوب كما ذكره يوجب عطف الاغتسال على الأُمور الضرورية ، لا على قضاء الحاجة ، وحينئذٍ فيلزم عطف ما بعده على الغسل المندوب الذي هو غير ضروري وغير محتاج إليه.

وفيه : أنّ شهادة الجنازة وإقامة الشهادة قد تكونان من الضروريات ، ففي جعل قضاء الحاجة بالمعنى الأعمّ مثالاً للأُمور الضرورية ، وتخصيص الحاجة بالضروريات ، ثمّ إفراد شهادة الجنازة وإقامة الشهادة الضروريتين من الحاجات الغير الضرورية ،

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٩٤.

(٢) المسالك ٢ : ١٠٣.

٢٢٠