غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-679-9
الصفحات: ٤١٢

بملاحظة توسّط عطف الاغتسال المندوب ، تهافت وتساقط.

وفي إطلاق الحاجة من دون تقييدها بالضروريات ، وجعل الاغتسال بمعنى الغسل الواجب من باب عطف الخاص على العام تناقض.

والأولى أن يحمل كلام المحقّق على أنّ مراده من قضاء الحاجة هو التخلّي ، وهو مثال للأُمور الضرورية ، ويكون ما بعده عطفاً على الأُمور الضرورية ، لأعلى قضاء الحاجة ، والمراد بالاغتسال وما بعده فعل الطاعة ، وإن كان بعضها قد يصير من الأُمور الضروريّة.

ولقد أحسنَ الشهيد في اللمعة حيث قال : إلا لضرورة أو طاعة كعيادة مريض ، أو شهادة ، أو تشييع مؤمن (١).

بقي الكلام في ذكر الدليل :

فنقول : أما الدليل على الأمر الضروري فبعدَ لزوم العسر والحرج هو ما ورد في الروايات من استثناء الحاجة الّتي لا بدّ منها ، وأمّا على مطلق فعل الطاعة فيمكن التمسّك فيه باستقراء ما ورد في الأخبار من الرخصة في العيادة ، والتشييع ، ومطلق الشهادة ، والجمعة ، وغير ذلك (٢) ، وبظاهر فتاويهم ، فإنّه يظهر من كلماتهم أنّ الخروج للطاعة غير مضرّ ، كما حكي عن المبسوط ، والتبصرة ، وصرّح به في اللمعة والنافع (٣).

وقال السيد رحمه‌الله في الانتصار : ومما ظنّ انفراد الإمامية به القول : بأنّ للمعتكف أن يَعود المريض ، ويشيّع الجنازة ، إلى أن قال : والحجّة للإماميّة الإجماع المتقدّم.

وأيضاً قال : تشييع الجنازة والصلاة على الميّت من فروض الكفايات ، وعيادة

__________________

(١) اللمعة (الروضة البهيّة) ٢ : ١٥٠.

(٢) الوسائل ٧ : ٤٠٩ أبواب الاعتكاف ب ٧.

(٣) المبسوط ١ : ٢٩٣ ، التبصرة : ٥٨ ، اللمعة (الروضة البهيّة) ٢ : ١٥١ ، النافع : ٧٤.

٢٢١

المرضى من السنن المؤكّدة المفضّلة ، والاعتكاف لا يمنع من العبادات (١).

وقال في التذكرة : يجوز للمعتكف أن يخرج في حاجة أخيه المؤمن ؛ لأنّه طاعة ، فلا يمنع الاعتكاف منه (٢) ، واستدلّ قبل ذلك لجواز عيادة المرضى ، وتشييع الجنائز أيضاً ، بأنّه مؤكّد الاستحباب ، والاعتكاف للعبادة ، فلا يناسب منعها من مؤكّداتها (٣).

وقال في المعتبر : قال الأصحاب : يجوز الخروج لتشييع الجنازة ، وعيادة المريض ، وزيارة الوالدين ، ولا يبطل اعتكافه ، وخالف الجمهور في ذلك ، لنا : أنّ ذلك مستحبّ مؤكّد ، والاعتكاف لبث للعبادة ، فلا يكون مانعاً من العبادة المؤكّدة (٤).

وقد عرفتَ إطلاق عبارة اللمعة ، وتَقرب منه عبارة النافع (٥).

وعن المنتهي : يجوز الخروج لزيارة الوالدين ؛ لأنّها طاعة ، فلا يكون منافياً للاعتكاف (٦).

نعم حصَرَ ابن حمزة المستثنيات في تسعة : البول ، والغائط ، وحضور الجنازة ، وعيادة المؤمن ، وتشييع الأخ في الله ، وإقامة الشهادة ، وتحمّلها إذا تعيّنا عليه ، والمرض ، والخوف على النفس ، أو المال (٧).

وقال المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله في شرح الإرشاد بعد نقل العبارة عن المنتهي : وفيه تأمّل ؛ للمنع في الأخبار ، ولا يقتضيه كونه عبادة ، وإلا لآلَ إلى عدمه ؛ إذ زيارة الإخوان وسائر الأقارب وإجابة المؤمن وغير ذلك عبادة ، فلو كان لهم فيها نصّ أو إجماع فبها ، وإلا فالظاهر المنع (٨) ، انتهى.

__________________

(١) الانتصار : ٧٤.

(٢) التذكرة ٦ : ٢٩٤.

(٣) التذكرة ٦ : ٢٩١.

(٤) المعتبر ٢ : ٧٣٤.

(٥) اللمعة (الروضة البهيّة) ٢ : ١٥١ ، المختصر النافع : ٧٣.

(٦) المنتهي ٢ : ٦٣٥.

(٧) الوسيلة : ١٥٣.

(٨) مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ٣٧٩.

٢٢٢

أقول : ويظهر من التذكرة في أواخر المطلب الخامس من باب الاعتكاف ، جواز الخروج لكلّ القُرُبات عندنا (١) ، وهو مشعر بدعوى الإجماع.

وفي رواية ميمون السابقة إشارة إلى أنّ كلّ ما كان ثوابه عظيماً أو أعظم من الاعتكاف جاز الخروج له (٢) ، والرواية وإن كانت ضعيفة (٣) ، ولكن ورودها في الفقيه وعمل الأصحاب على مقتضاها يؤيّد العمل بها.

مع أنّ لنا أن نقول : إنّ النسبة بين ما دلّ على المنع عن الخروج ، وما دلّ على رجحان تلك الطاعات والعبادات وإن كانت مستلزمة للخروج عن المقام عموم من وجه ، ولم يثبت كون أخبار المنع أخصّ مطلقاً حتّى يلزم تقديمه ؛ لاحتمال أن يكون المراد من المذكورات في الاستثناء المثال ، لا الخصوصية ، غاية الأمر حصول الاحتمال في المخصص من أجل هذا الاحتمال ، ولا حجية في العام المخصص بالمجمل.

ولكن ذلك يحتاج إلى التدرّب واستقراء كلماتهم ، وملاحظة فتاويهم في إخراج ما ليس بداخل في المستثنى.

فكلّما ثبتت أفضليته من الاعتكاف ، فهو مرجح للخروج له ، وما لم تثبت أفضليته ، فما ثبتت مرجوحيّته بالنسبة إلى الاعتكاف فيرجح المنع ، وما تساوى فيه الأمران فيقع الإشكال من جهة أصالة البراءة ، وأصالة عدم تحقّق الاعتكاف المطلوب ، ولعلّ ترجيح أصل البراءة أولى ، ما لم يخرج الاعتكاف عن هيئته بحيث يصحّ سلب اسم الاعتكاف عنه.

وهذه قاعدة كلية ، فيكون كلّ ما ذكره الأصحاب على سبيل التنصيص ، إما من قبيل المثال ، أو لعدم ثبوت أفضلية غيرها عندهم ، أو لأجل ورودها بالخصوص في النصوص ، ونحن أيضاً نقتفي أثرهم في ذكرها مفصّلاً.

__________________

(١) التذكرة ٦ : ٣١٠.

(٢) الفقيه ٢ : ١٢٣ ح ٥٣٨ ، الوسائل ٧ : ٤٠٩ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٤.

(٣) بالإرسال وجهالة الراوي وضعف الطريق ، راجع معجم رجال الحديث ١٩ : ١١٤ الرقم ١٢٩٤٤.

٢٢٣

فمنها : ما قدّمناه.

ومنها : الاغتسال ، وقيّده في الروضة بالواجب (١) ، وهو الموافق لما حكي عن المبسوط والغنية (٢).

وقيده في التذكرة والتحرير ، بالغسل للاحتلام (٣) ، وأطلق الاغتسال في الشرائع والقواعد والإرشاد (٤).

وقال في المسالك : وقيّده في التذكرة بكونه للاحتلام ، فلا يجوز الخروج للغسل المندوب ، وهو أولى ، وفي حكم الاحتلام غسل المرأة للاستحاضة ، فإنّه يجوز لها الاعتكاف ، وتخرج للغسل ، ولو أمكنهما الغسل في المسجد على وجه لا يوجب تلويثه بالنجاسة جاز ، وفي تعيّنه نظر (٥) ، انتهى.

ولا يلزمه الغسل في المسجد وإن أمكن.

وقال في المدارك بعد ما ذكر مثل ما في المسالك إلى قوله للاستحاضة : ولو أمكن الغسل في المسجد على وجه لا تتعدّى إليه النجاسة ، فقد أطلق جماعة المنع من ذلك ؛ لما فيه من الامتهان المنافي لاحترام المسجد ، ويحتمل الجواز كما في الوضوء والغسل المندوب (٦).

ومنها : شهادة الجنازة ، وقد أسنده في المعتبر إلى الأصحاب كما مرّ (٧) ، وادّعى في التذكرة الإجماع عليه (٨).

والمراد حضورها لأجل التشييع والصلاة والدفن وغير ذلك ؛ لعموم كونه طاعة

__________________

(١) الروضة البهيّة ٢ : ١٥٠.

(٢) المبسوط ١ : ٢٩٢ ، الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٣.

(٣) التذكرة ٦ : ٣٨٨ ، التحرير ١ : ٨٧.

(٤) الشرائع ١ : ١٩٤ ، القواعد ١ : ٣٩٠.

(٥) المسالك ٢ : ١٠٣.

(٦) المدارك ٦ : ٣٣٣.

(٧) المعتبر ٢ : ٧٣٤.

(٨) التذكرة ٦ : ٢٩١.

٢٢٤

راجحة أو واجبة ، ولخصوص صحيحتي عبد الله بن سنان والحلبي المتقدّمتين (١) ، وإطلاقهما يقتضي عدم الفرق بين واجبات أحكامها ومستحباتها ، وبين من تعيّن عليه أو لم يتعيّن.

قال العلامة في التذكرة : يجوز للمعتكف أن يخرج لعيادة المرضى ، وشهادة الجنائز ، عند علمائنا أجمع ، ثمّ استدلّ عليه بتأكد الاستحباب ، كما أشرنا إليه سابقاً.

ثمّ قال في المسألة التي بعدها بلا فاصلة : لو تعيّنت عليه صلاة الجنازة وأمكنه فعلها في المسجد لم يجز له الخروج إليها ، فإن لم يمكنه ذلك ، فله الخروج إليها ، وإن تعيّن عليه دفن الميت أو تغسيله ، جاز له الخروج لأجله ؛ لأنّه واجب متعيّن ، فيقدم على الاعتكاف كصلاة الجمعة (٢).

ووجه الجمع بين كلاميه : أنّ الثاني محمول على أنّه لا يريد إدراك فضيلة تشييع الجنازة ، أما لكسل وضعف ، وإما لكون الميت عدوا له أو من المخالفين ، لكن وجب عليه الصلاة عليه ، ويريد محض أداء الواجب ، فإذا لم يتوقّف أداء الواجب على الخروج ؛ لإمكان فعله في المسجد ، لكونه حاضراً عنده ، أو كان إحضاره سهلاً ، أو كان أهله يريدون وقوع الصلاة في المسجد ، فلا مرجح حينئذٍ للخروج ، فلا يجوز له الخروج.

مع أنّ المتبادر من الجنازة المستثناة في الخبرين ، ما احتاجت إلى الخروج لشهودها ، فإن كان لمحض إدراك الفضيلة في التشييع ، فالموجب لرخصة الشهود إما إدراك الفضيلة بفعل المندوب أو الواجب ، أو توقّف الواجب عليه ، على سبيل منع الخلو ، ولا يتبادر من الصحيحين إلا الأوّل ، ودليل الثاني هو كونه من الضروريات ، ولذلك استدلّ على وجوب الخروج للدفن والتغسيل في صورة التعين عليه بتوقّف الواجب عليه ،

__________________

(١) الاولى في الكافي ٤ : ١٧٨ ح ١ ، والوسائل ٧ : ٤٠٩ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٦ ، والثانية في الكافي ٤ : ١٧٨ ح ٣ ، والفقيه ٢ : ١٢٢ ح ٥٢٩ ، والوسائل ٧ : ٤٠٨ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٢.

(٢) التذكرة ٦ : ٢٩١ المسألة ٢١٢ و ٢١٣.

٢٢٥

لا بالروايات.

ومما ذكرنا يظهر : أنّ ما نسبه في المسالك إلى التذكرة «أنّه شرطَ في شهادة الجنازة تعيّن ذلك عليه ، فلا يجوز الخروج بدونه» ليس كما ينبغي.

ومنها : عيادة المريض ، ونقل عليه الإجماع في التذكرة والانتصار (١) ، وهو ظاهر المعتبر كما عرفت (٢) ، وقد حكي عن الخلاف والغنية وظاهر المنتهي أيضاً (٣).

ويدلّ عليه مضافاً إلى الإجماع وكونه طاعة والأخبار الدالة على فضله خصوص صحيحة الحلبي المتقدّمة ، وإطلاقها وإطلاق الأكثرين يقتضي التعميم ، ولكن ابن حمزة قيّده بالمؤمن كما عرفت (٤) ، وهو المتبادر من الرواية أيضاً ، ولا ريب أنّه أحوط.

ولا يثبت زائداً على العادة ، ويختلف باختلاف العائدين والمعودين في القرابة والمؤانسة وغيرهما.

ومنها : تشييع المؤمن وتوديعه حين إرادة السفر ، ذكره كثير من الأصحاب ، ولم نقف فيه على نصّ خاصّ.

وقال في المسالك بعد عبارة المحقّق «وعود المرضى وتشييع المؤمن» لم يقيّد المرضى بالإيمان كما صنع في التشييع ؛ تبعاً للنصوص الدالة عليه ، وكذا وردت في قضاء الحاجة مقيدة به ، وفي بعضها حاجة المسلم ، فيمكن حمل المطلق على المقيّد ، بخلاف المريض ، فإنّه لم يوجد فيه تقييد يوجب حمل ما أطلق عليه (٥).

وكذلك في الروضة قال : وقيّده بالمؤمن تبعاً للنصّ ، بخلاف المريض لإطلاقه (٦).

__________________

(١) التذكرة ٦ : ٢٩١ ، الانتصار : ٧٤.

(٢) المعتبر ٢ : ٧٣٤.

(٣) الخلاف ٢ : ٢٣٥ ، الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٣ ، المنتهي ٢ : ٦٣٥.

(٤) الوسيلة : ١٥٤.

(٥) المسالك ٢ : ١٠٤.

(٦) الروضة البهيّة ٢ : ١٥١.

٢٢٦

ولعلّه رحمه‌الله وقف على نصّ ، أو أراد بالنص ما ورد في مطلق التشييع.

وكيف كان ، فيمكن إثباته بنحو ما ذكرنا سابقاً من الإشارات ، ويُنبّه عليه ما دلّ على جواز الخروج لشهادة الجنازة ، فإنّ احترام حيّ المؤمن أولى من احترام ميته ، مع إشكال في ذلك.

ومنها : إقامة الشهادة وتحمّلها ، إن توقفتا على الخروج ، بلا خلاف ظاهر في صورة التعين.

ويدلّ عليه ما دلّ على الخروج للحاجة الضرورية ، وعموم قضاء حاجة المؤمن ، وكونه طاعة ، وغير ذلك.

وأما في صورة عدم التعيّن ففيه خلاف :

للمجوّز : عموم قوله تعالى (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) (١) وعمومات قضاء حاجة المؤمن (٢) ، وهو مختار التذكرة والمعتبر والدروس (٣) ، وقبلهم الشيخ في الخلاف (٤).

وللمانع : عموم منع المعتكف ، وعدم التعيّن عليه ، وهو مختار ابن حمزة (٥) ، وصاحب المدارك (٦) ، والمحكي عن المنتهي والمبسوط (٧).

والجواب : ترجيح عموم الآية ، مع أنّ النسبة بينهما وأدلّة المنع عموم من وجه ، بالتقريب الذي هو أنّ المراد من ذكر المستثنيات مطلق القربة ، أو التي كانت أفضل ، بل المساوية أيضاً.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

(٢) مثل رواية ميمون بن مهران الواردة في الفقيه ٢ : ١٢٣ ح ٥٣٨.

(٣) التذكرة ٦ : ٢٩٣ ، المعتبر ٢ : ٧٣٥ ، الدروس ١ : ٢٩٩.

(٤) الخلاف ٢ : ٢٣٥.

(٥) الوسيلة : ١٥٤.

(٦) المدارك ٦ : ٣٣٤.

(٧) المنتهي ٢ : ٦٣٥ ، المبسوط ١ : ٢٩٤.

٢٢٧

ومنها : الخروج للجمعة إن قلنا بجوازه في غير مسجد الجمعة ، أو تعدّد مسجد الجمعة ، أو حصول مانع عن إقامتها في مسجد الجمعة.

والظاهر أنّه إجماعي كما يظهر من التذكرة (١) ، وتدلّ عليه صحيحة ابن سنان المتقدّمة (٢) ، وأنّه من الحاجات الضروريّة.

والظاهر الجواز ، وإن لم نقل بوجوبها عينياً ، ويظهر وجهه مما مرّ.

ويتمّ المقام بذكر أُمور :

الأوّل : أنّه إذا خرج لشي‌ء من ذلك ، فيقدّر بقدر الضرورة ، فإذا زالت رجع لأنّ الضرورة مقدّرة بقدرها ، ولصحيحة الحلبي (٣) ، وصحيحة داود بن سرحان (٤) المتقدّمتين ، فيبطل لو توانى في الرجوع.

ويتفرّع عليه : لزوم اختيار أقرب المنزلين ، إذا كان له منزلان واضطر إلى خروجه إلى أحدهما.

ويحرم عليه الجلوس ، إلا إذا اضطر إليه ، وتدلّ عليه صحيحة الحلبي.

والمشي تحت الظلال ، كما ذهب إليه جماعة من الأصحاب ، منهم الشيخ في غير المبسوط (٥) ، والمرتضى رحمه‌الله ، ولكنه عبّر عن ذلك بالاستظلال بسقف (٦) ، وكلامه أعمّ من أن يحصل معه اللبث أم لا ، بقرينة سائر الألفاظ ، وإن كان قد يُوهم الاستظلال بسقف تضمّنه اللبث.

وخالفهم الشيخان في المقنعة والمبسوط والعلامة في المختلف ، وهو مختار المسالك

__________________

(١) التذكرة ٦ : ٢٩٠.

(٢) الكافي ٤ : ١٧٨ ح ١ ، الوسائل ٧ : ٤٠٩ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٦.

(٣) الكافي ٤ : ١٧٨ ح ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ ح ٥٢٩ ، الوسائل ٧ : ٤٠٨ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٢.

(٤) الكافي ٤ : ١٧٨ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ ح ٥٢٨ ، التهذيب ٤ : ٢٨٧ ح ٨٧٠ ، الوسائل ٧ : ٤٠٧ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٣.

(٥) المبسوط ١ : ٢٩٤.

(٦) الانتصار : ٧٤.

٢٢٨

والمدارك (١) ؛ لعدم النصّ على ذلك ، بل إنّما ورد النصّ في الجلوس كما في صحيحة داود بن سرحان ، ويظهر من الفاضلين التوقّف في المعتبر والمنتهى (٢).

أقول : والدليل على الحرمة هو الإجماع الذي حكاه في الانتصار على الحرمة ، وظاهره البطلان.

وأما الجلوس تحت الظلال ، المستفاد من صحيحة داود بن سرحان (٣) ، مع المنع عن مطلق الجلوس في صحيحة الحلبي (٤) ، فتظهر فائدته فيما لو اضطر إلى الجلوس ، وتمكّن من الجلوس في غير الظلال ، وإلا فلا مُنافاة تُوجب حمل المطلق على المقيّد ، هذا كلّه في حال الاختيار ، وأمّا لو اضطر إليه فلا بأس.

ويتفرّع على قول الجماعة كما هو الأظهر لزوم اختيار ما لأظلّ فيه من المساكن إن تعددت ، وإن كان أبعد ، إلا أن يوجب خروجه عن مسمّى الاعتكاف.

ولو اشتملا على الظل اختار أقلّهما ظلا ، ولو تساويا فيه فيختار أقربهما ، كما أشار إليه في الروضة (٥).

وربّما يُستشكل بمعارضة وجوب تحرّي أقرب الطرق ، وجوب التجنّب عن الظلال من غير مرجّح ، ويمكن ترجيح الأوّل ، فإنّ الخروج معرّض للاعتكاف للبطلان ، بخلاف الظل.

أقول : والإجماع المنقول في الانتصار (٦) أيضاً ظاهر في أنّ الاستظلال معرّض للبطلان ، وبعد ما ثبت جواز الخروج برخصة الشارع ، فالمنع عن الاستظلال المستفاد من الإجماع أخصّ منه مطلقاً ، فهو أولى بالتقديم.

__________________

(١) المقنعة : ٣٦٣ ، المبسوط ١ : ٢٩٤ ، المختلف ٣ : ٥٩٨ ، المسالك ٢ : ١٠٥ ، المدارك ٦ : ٣٣٤.

(٢) المعتبر ٢ : ٧٣٥ ، المنتهي ٢ : ٦٣٥.

(٣) الكافي ٤ : ١٧٨ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ ح ٥٢٨ ، التهذيب ٤ : ٢٨٧ ح ٨٧٠ ، الوسائل ٧ : ٤٠٨ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٣.

(٤) الكافي ٤ : ١٧٨ ح ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ ح ٥٢٩ ، الوسائل ٧ : ٤٠٧ أبواب الاعتكاف ب ٧ ح ٢.

(٥) الروضة البهيّة ٢ : ١٥١.

(٦) الانتصار : ٧٤.

٢٢٩

وعلى القول الأخر : أنّه لو تعارض المشي في الظل بطريق قصير وفي غيره بطويل ، قدّم القصير. وأولى منه لو اتفقا في الاشتمال على الظل ، وكان القصير أطولهما ظلا.

الثاني : أنّه إذا خرجَ ، وطالَ زمان الخروج حتّى خرج عن كونه مُعتكفاً ، بَطلَ اعتكافه ، وإن كان أصل الخروج مرخّصاً فيه كما صرّح به جماعة من الأصحاب (١) ، وقد نبهناك سابقاً على وجهه.

ويدلّ عليه أيضاً : ما رواه الكليني في الصحيح على الأظهر ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا مرض المعتكف أو طمثت المرأة المعتكفة ، فإنّه يأتي بيته ، ثمّ يعيد إذا برئ ويصوم» (٢).

ثمّ قال : وفي رواية أُخرى عنه عليه‌السلام : «ليس على المريض ذلك» (٣) ورواها الصدوق أيضاً في الحسن لإبراهيم بن هاشم (٤).

وفي الصحيح عن أبي أيوب ، عن أبي بصير ، عنه عليه‌السلام : في المعتكفة إذا طمثت ، قال : «ترجع إلى بيتها ، وإذا طهرت رجعت فقضت ما عليها» (٥).

واعلم أنّ البطلان إنّما هو إذا لم يكمل الثلاثة ، أو ما وجب عليه متتابعاً بنذرٍ وشبهه ، وإلا فلا وجه لبطلان ما تحقّق قبل الخروج.

وعن الشيخ في المبسوط : أنّه إذا كان الاعتكاف زائداً على ثلاثة أيّام فيبطل بذلك إذا لم يمض نصفه ، وإذا مضى نصفه فلا يبطل ، سواء كان الاعتكاف واجباً أو مندوباً ، وسواء كان مع الشرط أو عدمه ، وأما في الثلاثة أيّام فحكم باستئنافه إذا خرج ، وإذا مضى منه يومان منه (٦).

__________________

(١) التذكرة ٦ : ٢٩٧.

(٢) الكافي ٤ : ١٧٩ ح ١ ، الوسائل ٧ : ٤١٢ أبواب الاعتكاف ب ١١ ذ. ح ١.

(٣) الكافي ٤ : ١٧٩ ذ. ح ١ ، الوسائل ٧ : ٤١٢ أبواب الاعتكاف ب ١١ ح ٢.

(٤) الفقيه ٢ : ١٢٢ ح ٥٣٠ ، الوسائل ٧ : ٤١٢ أبواب الاعتكاف ب ١١ ح ١.

(٥) الكافي ٤ : ١٧٩ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٣ ح ٥٣٦ ، الوسائل ٧ : ٤١٢ أبواب الاعتكاف ١١ ح ٣.

(٦) المبسوط ١ : ٢٩٣.

٢٣٠

والظاهر أنّ مراده من الخروج : هو الخروج المتطاول ، وإلا فلا شبهة في جواز الخروج للضرورة.

ووجه الحكم الأخير ظاهر ؛ لعدم تحقّق الاعتكاف إلا بثلاثة أيّام ، فإذا خرج عن كونه مُعتكفاً بسبب الخروج فيبطل ، وتجب الإعادة.

وأما التفصيل الأوّل ؛ فلا يظهر له وجه إلا القياس على الشهرين المتتابعين ، وهو باطل ، وقد ردّ عليه الفاضلان في المنتهي والمعتبر بذلك (١).

ويظهر من ابن حمزة في آخر باب الاعتكاف التفصيل في الثلاثة ، فيبني على ما مضى إن ذهب الأكثر (٢) ، وعن ظاهر ابن إدريس إطلاق البناء على ما مضى (٣) ، ولم يظهر لهما وجه أيضاً.

وقال في المختلف بعد نقل قول المبسوط : والأجود أن نقول إن كان قد مضى ثلاثة أيّام صحّ اعتكافها ، ثمّ إن كانت الأيّام معينة ، فإن زال العارض وقد بقي بعضها ، وجب الرجوع إليه وإتمامها وقضاء ما فات منها ، إما عقيب الإتمام إن كان الباقي أقلّ من ثلاثة ، أو بعده إن كان الباقي ثلاثة فما زاد ، وإن لم تكن معينة ، فله أن يأتي بالباقي متى شاء ، وإن كان قد مضى أقلّ من ثلاثة استأنف (٤).

أقول : وقد بيّنا سابقاً ما يظهر منه وجه التفصيل المذكور ، وضعفناه وبينا جوابه.

الثالث : لو خرج ناسياً ، قبل إكمال الثلاثة أو ما أوجب على نفسه ، وطال زمان خروجه على الوجه المتقدم ، يبطل اعتكافه وإن لم يطل كذلك فلا يبطل ، ويرجع ويبني متى تذكّر ، فإن توانى وأخّر بلا ضرورة بطل.

وإطلاق جماعة من الأصحاب عدم البطلان بالخروج نسياناً (٥) ، لا بدّ أن يحمل

__________________

(١) المنتهي ١ : ٦٣٦ ، المعتبر ٢ : ٧٤٣.

(٢) الوسيلة : ١٥٤.

(٣) السرائر ١ : ٤٢١.

(٤) المختلف ٣ : ٥٩١ ، وانظر المبسوط ١ : ٢٩٣.

(٥) كالشيخ في المبسوط ١ : ٢٩٤ ، والمحقّق في المعتبر ٢ : ٧٣٦ ، والشهيد في اللمعة (الروضة البهيّة) ٢ : ١٥١.

٢٣١

على ما لم يطل بحيث يخرجه عن كونه معتكفاً ، وإلا فيبطل وإن لم يكن إثماً ، كما صرّح به في المسالك (١).

واحتجّوا على عدم البطلان حينئذٍ بحديث رفع النسيان عن هذه الأُمة (٢) ، وهو ضعيف.

والأولى التمسك بالأصل ، وعدم انصراف الخروج المنهي عنه في الأخبار إلى الناسي ، واستصحاب حال الصحّة ، ولزوم العسر والحرج.

وجريان هذه الأدلّة فيما لو كان الخروج مخرجاً معارض بعدم بقاء الحقيقة حتّى ترتّب عليها الصحّة.

الرابع : لا يجوز أن يصلّي المعتكف خارج المعتكف ، وإن كان خروجه لأمر مرخّصٍ فيه ، إلا في صلاة الجمعة كما قدّمناه. وإلا لضرورة ، كضيق الوقت عن الصلاة في المعتكف ، فيصلّي حيث أمكن وإن لم يكن مسجداً ، وإن كان في المسجد أفضل.

وإن كان فعل بدون ضرورة ، فيفسد الصلاة والاعتكاف كلاهما ؛ لدلالة النهي عليه.

واستثني من هذا الحكم مكّة ، فإنّه يصلّي إذا خرج لأمر مرخّص فيه ، حيث شاء من بيوتها ، أو غير المعتكف من المساجد.

ويدلّ على المجموع مضافاً إلى ما دلّ على النهي عن الخروج واللبث من غير ضرورة (٣) صحيحة منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «المعتكف بمكة يصلّي في أيّ بيوتها شاء ، والمعتكف في غيرها لا يصلّي ، إلا في المسجد الذي سمّاه» (٤).

وموثّقة عبد الله بن سنان ، عنه عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : «المعتكف بمكّة يصلّي في أي بيوتها شاء ، سواء عليه صلى في المسجد أو في بيوتها» وقال : «لا يصلح

__________________

(١) المسالك ٢ : ١٠٥.

(٢) الكافي ٢ : ٤٦٢ ، الخصال ٢ : ٤١٧ ، الوسائل ١١ : ٢٩٥ أبواب جهاد النفس ب ٥٦.

(٣) الوسائل ٧ : ٤٠٨ أبواب الاعتكاف ب ٧.

(٤) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٥ ، التهذيب ٤ : ٢٩٣ ح ٨٩٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ ح ٤١٧ ، الوسائل ٧ : ٤١٠ أبواب الاعتكاف ب ٨ ح ٢.

٢٣٢

العكوف في غيرها ، إلا أن يكون مسجد رسول اللهُ ، أو في مسجد من مساجد الجماعة ، ولا يصلّي المعتكف في غير المسجد الذي اعتكف فيه إلا بمكّة ، فإنّه يعتكف بمكّة حيث شاء ؛ لأنّها كلّها حرم الله ، ولا يخرج المعتكف من المسجد إلا لحاجة» (١).

أقول : والمراد بقوله : «يعتكف بمكة» يصلّي صلاة الاعتكاف بقرينة ما قبله ، كما صرّح به الشيخ في التهذيب (٢) ، وصحيحة عبد الله بن سنان عنه عليه‌السلام ، قال : «المعتكف بمكة يصلّي في أيّ بيوتها شاء» (٣).

المبحث الثالث : يجوز للمعتكف أن يشترط على ربّه في الاعتكاف الرجوع إن عرضه عارض.

والبحث في هذه المسألة يقع في مقامات :

الأوّل : في مشروعيّته ، بل واستحبابه وقد قطع به الأصحاب ، وغيرهم ، قال في التذكرة : يستحبّ للمعتكف أن يشترط على ربه في الاعتكاف أنه إذا عرضَ له عارض أن يخرج من الاعتكاف بإجماع العلماء ، إلا ما حكي عن مالك (٤).

وروى الكليني في الصحيح ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا يكون الاعتكاف أقلّ من ثلاثة أيّام ، ومن اعتكف صام ، وينبغي للمعتكف إذا اعتكف أن يشترط كما يشترط الذي يُحرم» (٥).

والشيخ عن عمر بن يزيد ، عنه عليه‌السلام ، قال : «إذا اعتكف العبد فليصم» وقال :

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٩٣ ح ٨٩١ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ ح ٤١٦ ، الوسائل ٧ : ٤١٠ أبواب الاعتكاف ب ٨ ح ٣.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٩٣ ح ٨٩١.

(٣) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٤ ، الفقيه ٢ : ١٢١ ح ٥٢٢ ، الوسائل ٧ : ٤١٠ أبواب الاعتكاف ب ٨ ح ١.

(٤) التذكرة ٦ : ٣٠٥ ، وانظر المدونة الكبرى ١ : ٢٢٨ ، والمنتقى للباجي ٢ : ٨٠ ، وتفسير القرطبي ٢ : ٣٣٥ ، والشرح الكبير ٣ : ١٤٩ ، وفتح العزيز ٦ : ٥٢٠.

(٥) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٢ ، الوسائل ٧ : ٤١١ أبواب الاعتكاف ب ٩ ح ١.

٢٣٣

«لا يكون الاعتكاف أقلّ من ثلاثة أيّام ، واشترط على ربك في اعتكافك ، كما تشترط عند إحرامك ، أن يُحلّك في اعتكافك عند عارض إن عرض لك ، من علة تنزل بك من أمر الله تعالى» (١).

وما رواه هو والصدوق في الصحيح عن أبي ولاد الحناط (٢) ، وكذلك ما روياه ، والكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم (٣) ، وقد تقدّما في أوائل المبحث الثاني.

ثمّ إنّهم لم يفرّقوا في ذلك بين الواجب والندب ، وإن اختلف الحكم في محله كما سيجي‌ء.

الثاني : في كيفيته وقد اختلفوا فيها ، فيظهر من الشرائع جواز اشتراط الرجوع متى شاء ، من دون تقييده بعروض عارض (٤) ، وكذلك من القواعد والإرشاد (٥) ، واختاره في الدروس ، وصرّح بأنّه يجوز للمُعتكف والحال هذه الرجوع متى شاء ، ولا يتقيد بالعارض (٦).

وعن الشيخ في النهاية (٧) وابن حمزة (٨) تقييده بعروض العارض ، وهو مختار الفاضلين في النافع والتذكرة والمنتهى (٩) ، والشهيدين في اللمعة وشرحها (١٠) ، وصاحب المدارك (١١).

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٨٩ ح ٨٧٨ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ ح ٤١٩ ، الوسائل ٧ : ٤١١ أبواب الاعتكاف ب ٩ ح ٢.

(٢) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ١ ، الفقيه ٢ : ١٢١ ح ٥٢٤ ، الوسائل ٧ : ٤٠٧ أبواب الاعتكاف ب ٦ ح ٦.

(٣) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢١ ح ٥٢٦ ، التهذيب ٤ : ٢٨٩ ح ٨٧٩ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ ح ٤٢١ ، الوسائل ٧ : ٤٠٤ أبواب الاعتكاف ب ٤ ح ١.

(٤) الشرائع ١ : ١٩٥.

(٥) القواعد ١ : ٣٨٨ ، الإرشاد ١ : ٣٠٦.

(٦) الدروس ١ : ٣٠١.

(٧) النهاية : ١٧١.

(٨) الوسيلة : ١٥٤.

(٩) النافع ١ : ٧٤ ، التذكرة ٦ : ٣٠٦ ، المنتهي ٢ : ٦٣٨.

(١٠) اللمعة (الروضة البهيّة) ٢ : ١٥٤.

(١١) المدارك ٦ : ٣٣٩.

٢٣٤

إلا أن المنقول عن المبسوط : أنه لا يجوز له الرجوع إلا قبل اليومين (١) ، وعن آخرين جوازه مطلقاً (٢) ؛ لصحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة.

ويظهر من المسالك تفصيل العذر بالضرورة المحوجة للخروج ، كالمرض والخوف ونحوهما ، قال : ولا يجوز اشتراط الخروج بالاختيار وإيقاع المنافي كذلك (٣).

حجّة الأوّلين : صحيحة محمّد بن مسلم الدالّة بإطلاق مفهومها على ذلك ، وخصوص صحيحة أبي ولاد المتقدّمة ، فإن شرط الخروج لمثل قدوم الزوج ليس من الأعذار الضرورية ، ولم يقيد الاشتراط به أيضاً ، فتفيد الرواية بإطلاقها جواز الرجوع مع الاشتراط ، سواء كان مع العارض أو بدونه.

وتضعفه رواية عمر بن يزيد ، وصحيحة أبي بصير ، فإنّ الشرط في الإحرام إنّما هو لعروض عارض من حصر أو صدّ.

وحجّة القول الثاني : الأخبار المتقدّمة الدالة على مشابهته لشرط الإحرام ، فإنّها تدلّ على بطلان القول الأوّل بظاهرها ، فإنّ الشرط المعتبر في إحرام الحج إنّما هو المعارض لا غير.

ولكن يَخدشه أنّ المعتبر في شرط الإحرام هو العذر الضروري المانع عن الحج لا غير ، فإن لوحظ عموم المشابهة فتكون تلك الأخبار أدلّة لما ذكره في المسالك (٤) ، وإن لوحظت المشابهة في الجملة ، فتكون أدلّة للقول الأوّل.

ومن ذلك تظهر حجّة ما يظهر من المسالك.

ولكن يرجح المشهور وهو القول الأوسط انتفاء الفائدة في الشرط إذا اعتبر كون العذر من الضروريات ؛ لأنّه مجوز للخروج سواء اشترط أم لا ، وضعف دلالة

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٨٩.

(٢) الدروس ١ : ٣٠١ ، القواعد ١ : ٣٨٨ ، الشرائع ١ : ١٩٥.

(٣) المسالك ٢ : ١٠٧.

(٤) المسالك ٢ : ١٠٧.

٢٣٥

صحيحتي محمد بن مسلم (١) وأبي ولاد (٢) على القول الأوّل ، بل وإشعار الأخيرة بأنه مع عروض عارض ، وإن كان من باب قدوم الزوج.

فالأصل وإطلاق الأخبار وعمل الأكثر وفهمهم مع عدم الفائدة في صورة الضرورة يرجح المشهور ، إلا أن تجعل الفائدة غير جواز الخروج مما سيجي‌ء ذكرها.

ويؤيّد المشهور : ما استدلّ به لأصل الاستحباب والمشروعية في التذكرة من أنّه عبادة في إنشائها الخيرة ، فله اشتراط الرجوع مع العارض كالحج ، ولأنّه عبادة تجب بعقده فكان الشرط إليه فيه كالوقف ، ولأنّ الاعتكاف لا يختص بقدر ، فإذا شرط الخروج فكأنّه نذر القدر الذي أقامه (٣). ومثله ذكر في المعتبر إلى قوله مع العارض (٤).

الثالث : في محلّه وهو في المندوب حين الشروع فيه

واحتمل المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله أن يكون عند نية اليوم الثالث ، قال : وتظهر فائدته في اليوم الثالث (٥).

ولعلّ نظره إلى عدم الفائدة في الأوّل ؛ لجواز الخروج قبل الثالث ، وهو إنّما يتمّ على المشهور ، دون من يقول بالوجوب بالشروع ، بل ولا يتمّ مطلقاً بالنظر إلى بعض الفوائد الاتية ، مع أنّه خلاف ظواهر النصوص ، مضافاً إلى عدم ظهور الخلاف في المسألة.

وأما الواجب مثل النذر وشبهه ، فمحلّه في عقد النذر على ما هو ظاهر الأصحاب ، فإنّ الفاضلين والشهيدين (٦) وغيرهم (٧) ، صرّحوا بذلك من غير نقل خلاف.

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢١ ح ٥٢٦ ، التهذيب ٤ : ٢٨٩ ح ٨٧٩ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ ح ٤٢١ ، الوسائل ٧ : ٤٠٤ أبواب الاعتكاف ب ٤ ح ١.

(٢) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ١ ، الفقيه ٢ : ١٢١ ح ١٢٤ ، الوسائل ٧ : ٤٠٧ أبواب الاعتكاف ب ٦ ح ٦.

(٣) التذكرة ٦ : ٣٠٥.

(٤) المعتبر ٢ : ٧٣٩.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ٣٥٩.

(٦) الدروس ١ : ٣٠١ ، المسالك ٢ : ١٠٧.

(٧) التنقيح الرائع ١ : ٤٠٦.

٢٣٦

قال في التذكرة : الاشتراط إنّما يصحّ في عقد النذر ، أما إذا أطلقه عن الاشتراط ، فلا يصحّ له الاشتراط عند إيقاع الاعتكاف ، فإذا لم يشترط ثمّ عرض ما يمنع الصوم أو الكون في المسجد ، فإنّه يخرج ويقضي الاعتكاف ، إن كان واجباً فواجباً ، وإن كان ندباً فندباً (١) ، ومثله قال في المنتهي (٢).

وقال في المعتبر : أما إذا أطلقه من الاشتراط على ربه ، فلا يصحّ له الاشتراط عند إيقاع الاعتكاف ، وإنّما يصحّ فيما يبتدئ به من الاعتكاف لا غير (٣).

ولعلّ وجه ما ذكروه مع كون الأخبار عامة شاملة للواجب وعدم ورود نصّ يدلّ على كون وقته في المنذور وشبهه حين النذر هو أنّ النذر وشبهه بإطلاقه موجب للّزوم ، وهو منافٍ للشرط ، سيّما مع تعيّن زمانه ، وعلى القول بوجوب المطلق منه أيضاً بمحض الشروع فيه ، كما هو المشهور المدّعى عليه الإجماع من المقداد (٤).

قال في المدارك بعد ما ذكر أنّه لم يقف على نصّ في الاشتراط حين النذر وأنّ النصوص العامة تقتضي أنّه حين الشروع ولو قيل بجواز اشتراطه في نيّة الاعتكاف المنذور إذا كان مطلقاً لم يكن بعيداً ، خصوصاً على ما أشرنا إليه سابقاً من مساواته للمندوب في عدم وجوب المضي فيه إلا بمضي اليومين ، ولو قلنا : إنّ اشتراط الخروج إنّما يسوغ عند العارض ، وفسّرناه بالأمر الضروري ، جاز اشتراطه في المنذور المعيّن أيضاً (٥).

أقول : ويمكن أن يكون نظرهم في ذلك إلى عموم ما دلّ على كون النذر تابعاً للشرط المشروع كالوقف (٦) ، ولا يضرّ عدم النصّ بالخصوص ، وعدم تجويزهم الشرط

__________________

(١) التذكرة ٦ : ٣٠٨.

(٢) المنتهي ٢ : ٦٣٨.

(٣) المعتبر ٢ : ٧٤٠.

(٤) التنقيح الرائع ١ : ٤٠٣.

(٥) المدارك ٦ : ٣٤٠.

(٦) الوسائل ١٦ : ٢٠٠ كتاب النذر والعهد ب ١٧.

٢٣٧

حين الاعتكاف مبنيّ على ما هو المشهور بينهم من جعل العارض أعمّ من الضروري ، أو اكتفائهم بالشرط الخالي عن قيد العارض مطلقاً ، فإن شرط الخروج بدون العارض الضروري أو بدون العارض مطلقاً منافٍ للّزوم المستفاد من إطلاق النذر.

نعم يصحّ القول بالجواز بناءً على مختاره من جواز الخروج قبل الثالث في النذر المطلق ، كما هو الأظهر ؛ لعدم الدليل على حرمة إبطال العمل على الإطلاق ، خصوصاً إذا لم يثبت كونه عبادة واحدة ، وبالنسبة إلى العارض من الضروري كما في الإحرام وإن كان معيناً ، وعدم الفائدة حينئذٍ ممنوعة ؛ لعدم انحصار الفائدة في جواز الخروج كما سنشير إليه.

واعلم أنّ الظاهر من الشرائع والقواعد (١) ومن وافقهما (٢) صحّة الاشتراط موكولاً على المشيئة من دون قيد.

وقال المحقّق الشيخ علي في شرح القواعد : الأصحّ أنّ النذر لا ينعقد مع هذا الشرط ؛ لمنافاته لمقتضاه ، بل له اشتراط الرجوع متى عرض عارض (٣).

ودفعه ابنه على ما حكي عنه ، بأنّ التسلّط على الرجوع عند المشيئة لا ينافي الوجوب الذي هو أثر النذر ، فإنّ الواجب ما لا يجوز تركه مع بقاء صفة الوجوب ، لا عند سقوطه ، ولا يلزم هنا إلا جواز الترك عند سقوط الوجوب ، وهو عند المشيئة.

غاية الأمر مخالفة هذا الواجب لغيره في إسقاط المشيئة لوجوبه ، ولا محذور فيه ، كما أنّ فعل البعض يسقط الوجوب عن الواجب الكفائي.

وردّ : بأنّه لا معنى لوجوب الفعل مع جواز الترك متى شاء ، فإنّ الواجب هو الراجح الفعل ، الممنوع الترك ، ولا منع عن الترك هنا ، فإنّ الترك لا يتصوّر بلا مشيئة.

ويمكن توجيه الدفع : أمّا في النذر المطلق ، فبأنّه غاية ما حصل من الشرط هو جواز

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٩٥ ، القواعد ١ : ٣٨٨.

(٢) الدروس ١ : ٣٠١.

(٣) جامع المقاصد ٣ : ٩٥.

٢٣٨

ترك هذا الفرد ، وهو لا يوجب إسقاط الوجوب رأساً ، فيأتي بفرد آخر.

وأما في المعيّن ، فيمكن أن يكتفى في تحقّق معنى الوجوب بوجوب التلبّس به متعيناً وإن لم يتعيّن عليه الإتمام ، فالعقاب إنّما يحصل إذا تركه رأساً ، لا إذا شرع فيه وخرج عنه بسبب الشرط.

مع أنّ هذا الكلام يرد فيما لو اشترط الرجوع متى عرض عارض ، إذا لم يكن من الضروريات أو المنافيات للصوم والاعتكاف ، مثل اشتراط الخروج لأمر غير ضروري ، فما يجيب به عنه ، فهو الجواب عن اشتراط الرجوع بالمشيئة.

ويظهر من المسالك موافقة في ذلك ، حيث حكم ببطلان الشرط إذا كان منوطاً بالمشيئة ، بل وبطلان النذر أيضاً (١).

الرابع : في فائدته وهي على ما ذكره المحقّق الأردبيلي إما محض التعبّد واستحقاقه للثواب ، أو صيرورة الخروج عزيمة بعد ما كان رُخصة ، أو سقوط الكفّارة كما قيل في الإحرام ، أو سقوط القضاء ، أو لجواز الخروج فيما كان ممنوعاً (٢).

وتفصيل القول في ذلك : أما في المندوب على المشهور من عدم وجوبه بالشروع ووجوب الثالث بمضيّ يومين ، فسقوط الثالث وجواز الخروج منه ولو في الثالث إذا عرض العارض الغير الضروري إن اشترطناه ، أو مطلقاً متى شاء إذا اكتفينا بشرط الخروج متى شاء.

وإنّما قيّدنا العارض بغير الضروري لجواز الخروج في الضروري بدون شرط. نعم قد تحصل فيه فائدة أُخرى من الفوائد ، مثل الاستحباب تعبّداً ، أو سقوط القضاء المندوب عنه ، أو سقوط الكفّارة المندوبة.

وكذلك الكلام على القول بوجوب المندوب بمجرّد الشروع ، قد تكون الفائدة فيه

__________________

(١) المسالك ٢ : ١٠٧.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٥ : ٣٦٠.

٢٣٩

جواز الخروج مطلقاً ، أو أحد الثلاثة الأخيرة.

وأما على القَول بعدم وجوبه حتّى في اليوم الثالث ، فالفائدة أما انتفاء كراهة الخروج ، وإما سقوط الكفارة المندوبة ، وإما سقوط القضاء المندوب ، وإما الاستحباب تعبّداً.

وأما فائدته في الواجب ؛ فجواز الخروج متى شاء ، أو إذا عرضَ العارض ، وإن مضى يومان ، إلا في صورة عدم التعيّن ، مع عدم القول بحُرمة إبطال العمل مطلقاً ، أو بناءً على أنه ليس بعبادة واحدة ، فإنه لا تحصل حينئذٍ فائدة جواز الخروج قبل اليوم الثالث ؛ لجوازه بدون الشرط أيضاً.

وسقوط الكفارة ، كما تدلّ عليه صحيحة أبي ولاد الحنّاط المتقدّمة (١).

وعدم لزوم التربّص إلى أداء الكفارة لو لم تَسقط ، كما في الإحرام ، ويخصّ التعبّد استحباباً ، ولكن تُنافيه الصحيحة.

وسقوط القضاء في الواجب المعيّن ، والظاهر عدم الخلاف فيه ، بل ادّعي عليه الإجماع ، وأصالة البراءة أيضاً تقتضيه.

وناقش فيه صاحب المدارك لو قيل بوجوب القضاء بدون الشرط (٢).

أقول : الأصل معَ ظهور عدم الخلاف ، بل الإجماع المدّعى يكفي في ذلك.

وأما المطلق ، فالمشهور فيه أيضاً عدم وجوب القضاء ، أي الاستئناف ، فإنّ إطلاق القضاء عليه مَجاز.

وذهب جماعة إلى وجوبه (٣) ؛ لبقاء الوقت ، وعدم منافاة جواز الخروج مع الشرط ؛ لبقاء الواجب على وجوبه ، فإنّ النذر مثلاً أفادَ وجوبه مطلقاً ، والشرط أفادَ جواز الخروج عنه ، فلا يستلزم جواز الرجوع سقوط الوجوب.

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ١ ، الفقيه ٢ : ١٢١ ح ٥٢٤ ، التهذيب ٤ : ٢٨٩ ح ٨٧٧ ، الاستبصار ٢ : ١٣٠ ح ٤٢٢ ، الوسائل ٧ : ٤٠٧ أبواب الاعتكاف ب ٦ ح ٦.

(٢) المدارك : ٦ : ٣٤٣.

(٣) كالمحقّق في المعتبر ٢ : ٧٤٠ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ١٠٨ ، وصاحب المدارك : ٦ : ٣٤٣.

٢٤٠