غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-679-9
الصفحات: ٤١٢

وهو لا يجري في ما صرّح بجوازه في النهار ، مثل ما رواه في القوي بعثمان بن عيسى ، عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقدم من سفر بعد العصر في شهر رمضان ، فيصيب امرأته حين طهرت من الحيض ، أيواقعها؟ قال : «لا بأس به» ، وحملها الشيخ على صورة الضرورة (١).

وكيف كان فهذا الجمع لم يقم عليه دليل بعد ثبوت رجحان أدلّة المختار ، وظهور حمل معارضها على الاستحباب.

السابع : المشهور جواز السفر في شهر رمضان على كراهة حتى يمضي من الشهر ثلاثة وعشرون يوماً ، فتزول الكراهة ، إلا في حال الضرورة كالحج ، والجهاد ، وتلف المال بدونه ، وهلاك أخيه ، ونحو ذلك ، فلا كراهة رأساً.

ونقل في المختلف عن أبي الصلاح : أنّه إذا دخل الشهر على حاضر لم يحلّ له السفر مختاراً (٢).

وقال الشيخ في التهذيب : ولا ينبغي للإنسان أن يخرج إلى السفر في شهر رمضان ، إلا لضرورة تدعوه إلى ذلك ، ويكون سفره في ذلك طاعة أو مباحاً ، فأما ماله عنه مندوحة ، فلا يجوز الخروج فيه (٣).

لنا : عموم الآية (٤) والأخبار المستفيضة جدّاً الصحيح كثير منها ، الدالّة على أنّ من سافر قصّر وأفطر عموماً ، وعلى الأمر بالإفطار إذا سافر في شهر رمضان خصوصاً ، وعلى النهي عن الصوم فيه والتأكيد في ذلك ؛ لا حاجة إلى ذكرها ، وقد مرّ كثير منها في الأبواب السابقة.

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٤٢ ح ٧١٠ ، وص ٢٥٤ ح ٧٥٣ ، الاستبصار ٢ : ١٠٦ ح ٣٤٧ ، وص ١١٣ ح ٣٧٠ ، الوسائل ٧ : ١٤٨ أبواب من يصح منه الصوم ب ١٣ ح ١٠.

(٢) الكافي في الفقه : ١٨٢.

(٣) التهذيب ٤ : ٣١٦.

(٤) البقرة : ١٨٤.

١٦١

وأما الدليل على أنّ الإقامة أفضل ، فهو صحيحة الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يدخل شهر رمضان وهو مُقيم لا يريد بَراحاً ، ثمّ يبدو له بعد ما يدخل شهر رمضان أن يسافر ، فسكت ، فسألته غير مرّة ، فقال : «يقيم أفضل ، إلا أن تكون له حاجة لا بدّ له من الخروج فيها ، أو يتخوّف على ماله» (١).

وما رواه الشيخ ، عن أبي بصير في باب زيادات الصوم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال ، قلت له : جُعلت فداك يدخل عليّ شهر رمضان فأصوم بعضه ، فتحضرني نيّة في زيارة قبر أبي عبد الله عليه‌السلام ، فأزوره وأفطر ذاهباً وجائياً ، أو أُقيم حتى أفطر وأزوره بعد ما أفطر بيوم أو يومين؟ فقال : «أقم حتى تفطر» قال له : جعلت فداك ، فهو أفضل؟ قال : «نعم ، أما تقرأ في كتاب الله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٢)» (٣).

وأما انتفاء الكراهة بعد مضيّ ثلاثة وعشرين يوماً من الشهر ، فيدلّ عليه ما رواه الشيخ ، عن عليّ بن أسباط ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا دخل شهر رمضان ، فلله فيه شرط ، قال الله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، فليس للرجل إذا دخل شهر رمضان أن يخرج ، إلا في حج أو عمرة ، أو مال يخاف تلفه ، أو أخٍ يخاف هلاكه ، وليس له أن يخرج في إتلاف مال أخيه ، فإذا مضَت ليلة ثلاث وعشرين فليخرج حيثُ شاء» (٤).

وهذه الرواية تدلّ على كفاية مضيّ الليلة ، وضعف الرواية منجبر بعمل الأصحاب ، سيّما في أدلّة السنن والمكروهات.

واستدلّ الشيخ بهذه الرواية على ما نقلنا عنه سابقاً ، ولعلّها دليل أبي الصلاح ، مضافاً إلى ما رواه المشايخ الثلاثة عن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخروج إذا دخل شهر رمضان ، فقال : «لا ، إلا فيما أُخبرك به : خروج إلى مكة ،

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٢٦ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ٨٩ ح ٣٩٩ ، الوسائل ٧ : ١٢٨ أبواب من يصح منه الصوم ب ٣ ح ١.

(٢) البقرة : ١٨٤.

(٣) التهذيب ٤ : ٣١٦ ح ٩٦١ ، الوسائل ٧ : ١٣٠ أبواب من يصح منه الصوم ب ٣ ح ٧.

(٤) التهذيب ٤ : ٢١٦ ح ٦٢٦ ، الوسائل ٧ : ١٢٩ أبواب من يصح منه الصوم ب ٣ ح ٦.

١٦٢

أو غزو في سبيل الله ، أو مال تخاف تلفه ، أو أخ تخاف هلاكه ، وأنّه ليس أخاً من الأب والأُم» (١).

وربّما يُستأنس له بالآية ، فإنّها تدلّ على وجوب الصوم على الحاضر ، ووجوب القضاء على من كان على سفر ، فإن كلمة «على» تدلّ على الاستيلاء والاستعلاء ، فلا بد من اعتبار الإفطار في حال كونه مسافراً ، يعني إذا دخل الشهر على المسافر يفطره ، لأعلى المقيم إذا سافر ، وهو مشكل.

وكيف كان فالروايتان مع ضعفهما محمولتان على الكراهة ؛ لعدم مقاومتهما لما مرّ.

وروى الصدوق في الصحيح ، عن الوشاء ، عن حماد بن عثمان قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل من أصحابي قد جاءني خبره من الأعراض (٢) ، وذلك في شهر رمضان ، أتلقّاه؟ قال : «نعم» قلت : أتلقّاه وأفطر؟ قال : «نعم» قلت : أتلقاه وأفطر ، أو أقيم وأصوم؟ قال : «تلقّاه وأفطر» (٣).

قال : وسألت الصادق عليه‌السلام ، عن الرجل يخرج يشيّع أخاه مسيرة يومين أو ثلاثة ، فقال : «إن كان في شهر رمضان فليفطر» فسئل : فأيهما أفضل يقيم ويصوم ، أو يشيّعه؟ قال : «يشيّعه ، إنّ الله عزوجل وضع الصوم عنه إذا شيّعه» (٤).

وروى ذلك الكليني في الصحيح ، عن محمّد بن مسلم (٥) ، وكذلك في القويّ عن زرارة (٦) ، وكذا الأوّل عن الوشّاء (٧) ، عن حماد بن عثمان ، وفي سنده معلّى بن محمّد ،

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٢٦ ح ١ ، الفقيه ٢ : ٨٩ ح ٣٩٨ ، التهذيب ٤ : ٣٢٧ ح ١٠١٨ ، الوسائل ٧ : ١٢٩ أبواب من يصح منه الصوم ب ٣ ح ٣ ، بتفاوت.

(٢) في الوسائل : الأعوص ، والأعراض قرى بين الحجاز واليمن ، معجم البلدان ١ : ٢٢٠.

(٣) الفقيه ٢ : ٩٠ ح ٤٠٢ ، الوسائل ٥ : ٥١٣ أبواب صلاة المسافر ب ١٠ ح ٢.

(٤) الفقيه ٢ : ٩٠ ح ٤٠١ ، الوسائل ٥ : ٥١٣ أبواب صلاة المسافر ب ١٠ ح ٣.

(٥) الكافي ٤ : ١٢٩ ح ٥ ، الوسائل ٥ : ٥١٣ أبواب صلاة المسافر ب ١٠ ذ. ح ٣ عن أحدهما» : في رجل يشيّع أخاه مسيرة يوم أو يومين أو ثلاثة؟ قال : إن كان في شهر رمضان فليفطر.

(٦) التهذيب ٣ : ٢١٨ ح ٥٤٠ ، الوسائل ٥ : ٥١٣ أبواب صلاة المسافر ب ١٠ ح ٤ عن أبي جعفر عليه‌السلام قلت له : الرجل يشيّع أخاه اليوم واليومين في شهر رمضان ، قال : يفطر ويقصّر ، فإنّ ذلك حقّ عليه.

(٧) الكافي ٤ : ١٢٩ ح ٦ ، الفقيه ٢ : ٩٠ ح ٤٠٢ ، الوسائل ٥ : ٥١٣ أبواب صلاة المسافر ب ١٠ ح ٢.

١٦٣

وظاهر الصدوق العمل بمقتضاهما ، وتلزمه أفضلية تلقّي أخيه من السفر أو تشييعه من الصيام.

ويمكن أن يحمل على ما بعد الثالث والعشرين ؛ لعدم المقاومة ، سيّما مع معارضتها بما مرّ من ترجيح الصوم على زيارة سيد الشهداء عليه‌السلام.

وقال في التذكرة : وروى ابن بابويه «أنّ تشييع المؤمن أفضل من المقام» وسكت (١) ، وكأنّه متوقّف في ذلك.

ويمكن أن يقال : مراد القوم كراهة السفر المباح دون الراجح ، ولكنّه ينافي إطلاقهم الكراهة في غير حال الضرورة ، واستدلالهم برواية أبي بصير في حكاية الزيارة (٢).

إلا أن يقال بتخصيص صحيحة الحلبي (٣) بالتلقّي والتشييع ؛ للروايتين المعتبرتين ، ولكن الزيارة ليست بأقلّ فضلاً منهما.

ويمكن دفعه : بأنّ الروايتين أقوى سنداً من رواية أبي بصير ، سيّما بملاحظة ما ورد في فضل إدخال السرور في قلب المؤمن من الأخبار القريبة من التواتر ، بل هي متواترة (٤) ، وهي أعمّ من صحيحة الحلبي وما في معناها من وجه ، لا مطلقاً ، والله الموفّق للخيرات.

__________________

(١) التذكرة ٦ : ٢٢٧.

(٢) التهذيب ٤ : ٣١٦ ح ٩٦١ ، الوسائل ٧ : ١٣٠ أبواب من يصح منه الصوم ب ٣ ح ٧. قلت له : يدخل عليّ شهر رمضان فأصوم بعضه فتحضرني نيّة زيارة أبي عبد الله عليه‌السلام فأزوره وأفطر ذاهباً وجائياً ، أو أُقيم حتّى أفطر وأزوره بعد ما أفطر بيوم أو يومين؟ فقال : أقم حتّى تفطر.

(٣) الكافي ٤ : ١٢٦ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ٨٩ ح ٣٩٩ ، الوسائل ٧ : ١٢٨ أبواب من يصح منه الصوم ب ٣ ح ١ ، عن الرجل يدخل شهر رمضان وهو مقيم لا يريد براحاً ، فقال : يقيم أفضل ، إلا أن يكون له حاجة لا بدّ له من الخروج فيها أو يتخوّف على ماله.

(٤) الكافي ٢ : ١٨٨.

١٦٤

كتاب الاعتكاف

وفيه مباحث

١٦٥
١٦٦

المبحث الأوّل

في ماهيّته ، ومشروعيّته ، واستحبابه ، ومن يصحّ منه

أمّا ماهيّته : فهو في اللغة : الاحتباس ، قال في الصحاح (١) : عكفه ، أي حَبَسَهُ ووقفه ، يعكُفه ويعكِفه عكفاً ، ومنه قوله تعالى (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) (٢) يقال : ما عكفك عن كذا ، ومنه الاعتكاف في المسجد ، وهو الاحتباس ، وعكف على الشي‌ء يعكُف ويعكِف عكوفاً ، أي أقبل عليه مواظباً ، يقال : فلان عاكف على فرج حرام ، وقال الله تعالى (عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) (٣).

وفي الشرع : عبارة عن احتباسٍ خاص.

وعرّفه المحقّق : بأنّه اللبث المتطاول للعبادة (٤).

وأُورد عليه : بأنّه أعمّ منه ؛ لأنّه يشمل ما لو نوى فيه ذلك أم غيره ، صائماً كان أم لا ، في مسجدٍ كان أو في غيره.

__________________

(١) الصحاح ٤ : ١٤٠٦ ، وانظر القاموس المحيط ٣ : ١٨٣.

(٢) الفتح : ٢٥.

(٣) الأعراف : ١٣٨.

(٤) الشرائع ١ : ١٩٢.

١٦٧

والعلامة : بأنّه لبث مخصوص للعبادة (١).

ورُدّ : بأنّه وإن خلص مما مرّ ، لكنّه مجمل.

والشهيد : بأنّه اللبث في مسجد جامع ثلاثة أيّام فصاعداً صائماً للعبادة (٢).

ورُدّ : بأنه يوجب خروج الليالي عنه ، فإن اللبث فيها ليس بلبث حال الصوم ، إلا أن يقال : اليوم شامل لليلة ، وهو خلاف التحقيق ، وخلاف مختاره.

وبأنّه لا يمنع عن دخول ما وقع ذلك لأجل غير الاعتكاف ، كطلب العلم وقراءة القرآن.

قال في المدارك : والأجود أن يقال : إنّه لبث في مسجد جامع مشروط بالصوم ابتداء (٣).

وقيد «الابتداء» لإخراج ما لو نذر اللبث ثلاثة أيّام صائماً ؛ لطلب العلم والقراءة ، فإن اشتراط الصوم فيه وجوب بجعل المكلف ، لا ابتداء في وضع الشارع.

وهو أحسن من سائر الحدود ، لكنه خالٍ عن قيد «من يصحّ منه» إلا أن يجعل حدّا للأعمّ من الصحيح.

وكيف كان فالأمر في ذلك سهل.

وأمّا مشروعيّته واستحبابه : فثابتان بالإجماع والكتاب والسنة.

أمّا الإجماع : فمن فقهاء الإسلام كما حكي عن المنتهي (٤). وفي التذكرة : قد أجمع المسلمون على استحبابه (٥).

قال الله تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) (٦) وقال عزوجل :

__________________

(١) التذكرة ٦ : ٢٣٩.

(٢) الدروس ١ : ٢٩٨.

(٣) المدارك ٦ : ٣٠٨.

(٤) المنتهي ٢ : ٦٢٨.

(٥) التذكرة ٦ : ٢٤٠.

(٦) البقرة : ١٨٧.

١٦٨

(أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (١).

وفي الثانية إشكال ؛ لاحتمال إرادة المقيمين بمكة من العاكفين ، كما أنّ المراد من الطائفين المتردّدون.

ويؤيّده قوله تعالى (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٢) فإنه فسّر بالمقيمين (٣) ، وقد يفسّر بأنّهم القائمون في الصلاة.

وأما السنّة ؛ فكثيرة ، منها : ما رواه الصدوق في الصحيح ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «لا اعتكاف إلا بصوم في مسجد الجامع ، قال : وكان رسول اللهُ إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد ، وضُربت له قُبة من شعر ، وشمّر المئزر ، وطوى فراشه» وقال : بعضهم : واعتزل النساء ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أما اعتزال النساء فلا» (٤).

قال الصدوق : معنى قوله عليه‌السلام «أما اعتزال النساء فلا» هو أنّه لم يمنعهن من خدمته ، والجلوس معه ، فأما المجامعة فإنّه امتنع منها كما مَنع ، ومعلوم من معنى قوله «وطوى فراشه» ترك المجامعة (٥).

ورواه الكليني أيضاً في الحسن لإبراهيم بن هاشم ، عن الحلبي ، عنه عليه‌السلام من قوله قال : «كان رسول اللهُ» (٦) إلى أخره.

وروى أيضاً في الحسن لإبراهيم ، عن الحلبي ، عنه عليه‌السلام ، قال : «كانت بدر في شهر رمضان ، فلم يعتكف رسول اللهُ ، فلما أن كان من قابل اعتكف عشرين ، عشراً لعامه ، وعشراً قضاءً لما فاته» (٧).

__________________

(١) البقرة : ١٢٥.

(٢) الحجّ : ٢٦.

(٣) تفسير التبيان ٧ : ٣٠٩.

(٤) الفقيه ٢ : ١٢٠ ح ٥١٧ ، الكافي ٤ : ١٧٥ ح ١ ، الوسائل ٧ : ٣٩٧ أبواب الاعتكاف ب ١ ح ١ ، وب ٥ ح ٢.

(٥) الفقيه ٢ : ١٢٠.

(٦) الكافي ٤ : ١٧٥ ح ١.

(٧) الكافي ٤ : ١٧٥ ح ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٠ ح ٥١٨ ، الوسائل ٧ : ٣٩٧ أبواب الاعتكاف ب ١ ح ٢.

١٦٩

ورواه في الفقيه مرسلاً ، بعد صحيحة الحلبي الأُولى ، قال : وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كانت بدر» الحديث (١) ، فيحتمل أن يكون من تتمّة الصحيحة.

وقال الصدوق : وفي رواية السكوني بإسناده قال ، قال رسول اللهُ : «اعتكاف عشر في شهر رمضان ، يعدل حجّتين وعمرتين» (٢).

وروى بسنده ، عن داود بن الحصين ، عن أبي العباس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «اعتكف رسول اللهُ في شهر رمضان في العشر الاولى ، ثمّ اعتكف في الثانية في العشر الوسطى ، ثم اعتكف في الثالثة في العشر الأواخر ، ثمّ لم يزلُ يعتكف في العشر الأواخر» (٣).

ورواه الكليني أيضاً بسنده ، عن داود بن الحصين ، عن أبي العباس عنه عليه‌السلام (٤).

واستحبابه مؤكّد ، سيّما في العشر الأواخر من شهر رمضان ؛ فإنّ فيها ليلة القدر ، وللتأسّي ، وللأخبار المتقدّمة.

قال في التذكرة : فمن رغب في المحافظة على هذه السنّة ، فينبغي أن يدخل المسجد قبل غروب الشمس يو م العشرين ، حتّى لا يفوته شي‌ء من ليلة الحادي والعشرين ، ويخرج بعد غروب الشّمس قبل العيد ، وإن بات ليلة العيد فيه إلى أن يصلّي فيه العيد أو يخرج منه إلى المصلّى كان أولى (٥).

وأما من يصحّ منه : فهو المسلم ؛ لعدم إمكان نيّة القربة من الكافر ، ولحرمة المكث عليه في المسجد ، بل يُشترط الإيمان أيضاً كما مرّ.

وأما التكليف ، فالأظهر عدم الاشتراط بالنظر إلى الصبي المميز ؛ لكون عباداته شرعيّة على الأقوى ، كما مرّ مراراً.

__________________

(١) الفقيه ٢ : ١٢٠ ح ٥١٨.

(٢) الفقيه ٢ : ١٢٢ ح ٥٣١ ، الوسائل ٧ : ٣٩٧ أبواب الاعتكاف ب ١ ح ٣.

(٣) الفقيه ٢ : ١٢٣ ح ٥٣٥ ، الوسائل ٧ : ٣٩٧ أبواب الاعتكاف ب ١ ح ٤.

(٤) الكافي ٤ : ١٧٥ ح ٣.

(٥) التذكرة ٦ : ٢٤٠.

١٧٠

المبحث الثاني

في شروطه

وهي أُمور :

الأوّل : النيّة ولا ريب في اشتراطها ؛ لأنّه عبادة ، ولا يتمّ إلا بقصد الامتثال والتقرّب.

وأما اعتبار الوجه ، فقد مرّ فيه الكلام مراراً ، وأنّ الأقوى عدم وجوبه ، إلا إذا كان مميّزاً للعبادة عمّا سواها.

وعلى اعتباره ؛ فينوي الندب في المندوب ، وينوي الوجوب في المنذور ، وشبهه.

نعم هنا إشكال من جهة وجوب اليوم الثالث في المندوب على القول به ، وكيفيّة النيّة من جهة اجتماع نية الوجوب والندب ، فلنقدّم الكلام في وجوب اليوم الثالث وعدمه ، ثمّ لنتعرّض لكيفيّة النيّة.

فنقول : اختلف الأصحاب فيها ، فعن الشيخ في المبسوط وأبي الصلاح ، وابن زهرة مدّعياً عليه الإجماع أنّه يجب بالشروع ، سواء مضى اليومان أم لا (١) ، إلا أنّ

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٨٩ ، الكافي في الفقه : ١٨٦ ، الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٣.

١٧١

المحكيّ عن المبسوط أنّ له الرجوع متى شاء إذا شرط ما لم يمض يومان ، والوجوب بمحض الدخول إن لم يشترط.

وعن السيد وابن إدريس : أنّه لا يجب أصلاً ، بل له الرجوع متى شاء (١) ، وهو مختار المحقّق في المعتبر ، والعلامة في جملة من كتبه (٢).

وعن ابن الجنيد وابن البراج : أنّه لا يجب إلا أن يمضي يومان ، فيجب الثالث حينئذٍ (٣) ، وهو ظاهر الشيخ في النهاية ، ومختار المحقق في الشرائع (٤) ، وجماعة من المتأخّرين (٥) ، ونسبه في اللمعة إلى الأشهر (٦).

وهو الأظهر ؛ لما رواه الصدوق والكليني في الصحيح ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «إذا اعتكف يوماً ولم يكن اشترط ، فله أن يخرج ويفسخ اعتكافه ، وإن أقام يومين ولم يكن اشترط ، فليس له أن يخرج ويفسخ اعتكافه ، حتّى يمضي ثلاثة أيّام» (٧).

والمراد من قوله عليه‌السلام : «ولم يكن اشترط» الأوّل الإشارة إلى الفرد الخفيّ ، وإلا فلا إشكال في عدم الوجوب مع شرط الرجوع.

وفي الصحيح عن أبي عبيدة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «ومن اعتكف ثلاثة أيّام ، فهو يوم الرابع بالخيار ، إن شاء زاد ثلاثة أيّام أُخر ، وإن شاء خرج من المسجد ، فإن أقام يومين بعد الثلاثة ، فلا يخرج من المسجد حتّى يتمّ ثلاثة أيّام أُخر» (٨).

__________________

(١) السيّد في المسائل الناصريّة (الجوامع الفقهيّة) : ٢٠٧ ، وابن إدريس في السرائر ١ : ٤٢٢.

(٢) المعتبر ٢ : ٧٣٧ ، المنتهي ٢ : ٦٣٧ ، المختلف ٣ : ٥٨٢.

(٣) حكاه عن ابن الجنيد في المختلف ٣ : ٥٨١ ، وانظر المهذّب لابن البراج ١ : ٢٠٤.

(٤) النهاية : ١٧١ ، السرائر ١ : ١٩٢.

(٥) كالعاملي في المدارك ٦ : ٣١٢.

(٦) اللمعة (الروضة البهيّة) ٢ : ١٥٣.

(٧) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢١ ح ٥٢٦ ، الوسائل ٧ : ٤٠٤ أبواب الاعتكاف ب ٤ ح ١.

(٨) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٤ ، الفقيه ٢ : ١٢١ ح ٥٢٧ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ ح ٨٧٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ ح ٤٢٠ ، الوسائل ٧ : ٤٠٤ أبواب الاعتكاف ب ٤ ح ٣.

١٧٢

ورواهما الشيخ أيضاً في الموثّق لعليّ بن فضال (١).

وتؤيّده عمومات ما دلّ على جواز إفطار النافلة (٢).

ومقتضى الرواية الأخيرة وجوب السّادس أيضاً ، ويلزم من ذلك وجوب كلّ ثالث ، كما هو ظاهر الرواية ؛ ولعدم القائل بالفصل ، كما صرّح به في المدارك ، وقبله جدّه في المسالك (٣).

حجّة السيد وأتباعه : أنّه عبادة مندوبة ، والأصل فيها أنها لا تجب بالشروع ؛ للأصل ، وظاهر السيد في المسائل الناصرية الاتفاق على ذلك (٤) ، يعني أنّ الأصل في النافلة جواز القطع ، خرج الحج والعمرة بدليل من الاتّفاق وغيره ، وبقي الباقي ، ولا يجوز قياسه بالحجّ.

وفيه : أنّ الدليل كما أوجب عدم جوازه فيهما أوجبه فيما نحن فيه ، وهو الخبران ، ولا وجه للقدح في سندهما ، كما وقع من العلامة وغيره من جهة عليّ بن فضال (٥) ؛ إذ قد عرفت أنّ السند في الفقيه والكافي صحيح ، وإنّما هو في سند الشيخ في الكتابين ، مع أنّ الموثّق أيضاً حجّة على الأقوى ، سيّما إذا اعتضد بعمل الجماعة ، سيّما الموثّق لمثل عليّ بن فضال ، فإن ثقته وجلالته مما شهد به النجاشي والشيخ والكشي على ما نقله عن أبي النضر محمّد بن مسعود (٦) ، وكذا العلامة في الخلاصة قال : أعتمد عليه ؛ لتوثيق هؤلاء ، وإن كان مذهبه فاسداً (٧).

وأما حجّة الشيخ في المبسوط وأتباعه فالّذي ذكره في المختلف أنّه استدلّ بأنّ

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٨٨ ح ٨٧٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ ح ٤٢٠.

(٢) الوسائل ٧ : ٨ أبواب وجوب الصوم ب ٤.

(٣) المدارك ٦ : ٣١٣ ، المسالك ٢ : ٩٥.

(٤) المسائل الناصريّة (الجوامع الفقهيّة) : ٢٠٧.

(٥) المنتهي ٢ : ٦٣٧ و ٦٣٨.

(٦) رجال النجاشي : ٢٥٧ / ٦٧٦ ، الفهرست : ٩٢ / ٣٩١ ، رجال الكشي ٢ : ٨١٢.

(٧) الخلاصة : ٩٣ / ١٥.

١٧٣

الاعتكاف لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام (١).

وهو غير مفهوم المراد ، ولعلّه أراد أنّ الاعتكاف لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام ، فالخروج عنه بعد الشروع يوجب نقض العبادة وإبطال العمل ، وهو منهيّ عنه ؛ لصريح الآية.

وفيه : منع حرمة إبطال العمل مطلقاً أوّلاً ، وعدم دلالة الآية على ذلك كما حقّقناه سابقاً في مبحث قضاء شهر رمضان ثانياً ، ومنع كون المجموع عملاً واحداً ثالثاً ، لم لا يكون مثل شهر رمضان ، بأن يكون كلّ يوم منها عبادة على حدة ، كما أشرنا إليه في مباحث نيّة الصوم.

وقال في المعتبر بعد ما نقل مذهب السيّد وقال إنّه أشبه بالمذهب : لأنّها عبادة مندوبة فلا تجب بالشروع ، ويمكن أن يستدلّ الشيخ على وجوبه بالشروع ، بإطلاق الكفّارة على المعتكف ، وقد روى ذلك من طرق منها رواية أبي ولاد الحنّاط ، ونقل الروايات ، وقال : ووجوب الكفّارة مطلقاً دليل على وجوبه مطلقاً.

ثم قال : والجواب عنه أنّ هذه مطلقة فلا عموم لها ، ويصدق بالجزء والكل ، فيكفي في العمل بها تحققها في بعض الصور ، مع أنّها إخبار آحاد مختلف في العمل بها ، فلا تكون حجّة في الوجوب ، وربما نزّلناها على الاستحباب تخلّصاً من الخلاف (٢).

أقول : والظاهر أنّ مراده أنّ تلك الروايات يتحقّق مصداقها بثبوت الكفّارة فيما لو حصل الوقاع في اليوم الثالث ، وإن كان إطلاق الكلّ عليه أيضاً من باب التوسع ، والوجوب في الثالث لا يستلزم الوجوب فيما قبله.

ويرد عليه : أنّ أخفى الأخبار دلالة على العموم صحيحة أبي ولاد الحناط ، وهي مصرّحة بثبوت الكفّارة قبل مضيّ ثلاثة أيّام ، وهو يصدق في اليوم الأوّل أيضاً ، رواها الصدوق في الصحيح عنه ، قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : «عن امرأة كان زوجها غائباً ،

__________________

(١) المختلف ٣ : ٥٨٢.

(٢) المعتبر ٢ : ٧٣٧.

١٧٤

فقدم وهي معتكفة بإذن زوجها ، فخرجت حين بلغها قدومه من المسجد الذي هي فيه ، فتهيّأت لزوجها حتّى واقعها ، فقال عليه‌السلام : «إذا كانت خرجت قبل أن تمضي ثلاثة أيّام ، ولم تكن اشترطت في اعتكافها ، فإنّ عليها ما على المظاهر» (١) وسائر الأخبار أعمّ من ذلك.

وهو رحمه‌الله لا يقول بالوجوب بمجرد الدخول في الثالث ، إلا أن يقال : إنّ الجواب من باب الجدل.

والأولى أن يقال : بمنع اختصاص الكفّارة بالواجب ، لم لا تكون واجبةً في المستحب أيضاً في خصوص الوقاع ، كما هو مدلول الروايات ، أو مطلقاً كما دلّت عليه الإجماعات المنقولة بإطلاقها كما سيجي‌ء.

قال في التذكرة : لا استبعاد في وجوب الكفّارة في هتك الاعتكاف المستحب (٢) ، إلا أنّ غلبة كون الكفّارة في ترك الواجبات وفعل المحرمات وأصالة عدم تخصيص عمومات الأخبار الدالّة على الكفّارة في المعتكف بما كان واجباً بنذر وشبهه يرجح قول الشيخ ، ولكن تعارضه أصالة عدم صيرورة الندب واجباً بالشروع ؛ لضعف حرمة إبطال مطلق العمل والروايتان المعتبرتان ، وهذا أقوى.

تنبيهان :

الأوّل : ذكر جماعة أنّه لو تعدّى إلى الخمسة فيجب السادس (٣) بل نقل ابن زهرة الإجماع على ذلك (٤).

ولكن الشهيد الثاني رحمه‌الله قال في الروضة : وعلى الأشهر يعني الوجوب

__________________

(١) الفقيه ٢ : ١٢١ ح ٥٢٤ ، الكافي ٤ : ١٧٧ ح ١ ، التهذيب ٤ : ٢٨٩ ح ٨٧٧ ، الاستبصار ٢ : ١٣٠ ح ٤٢٢ ، الوسائل ٧ : ٤٠٧ أبواب الاعتكاف ب ٦ ح ٦ بتفاوت.

(٢) التذكرة ٦ : ٢٨٤.

(٣) المبسوط ١ : ٢٩٠ ، الكافي في الفقه : ١٨٦.

(٤) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٣.

١٧٥

في الثالث إذا مضى يومان يتعدّى أي الوجوب إلى كلّ ثالث على الأقوى ، كالسادس والتاسع لو اعتكف خمسة وثمانية (١). وكذا صاحب المدارك (٢). وهو الظاهر من الشهيد في اللمعة ، وصريحه في الدروس (٣).

والرواية وإن اقتصر فيها على ذكر السادس ، لكن الشهيد الثاني وصاحب المدارك ادعيا عدم القول بالفرق.

وربما يقدح فيه : بأن جماعة منهم سكتوا عن الزائد على السادس ، ولا وجه له مع عدم منافاته لما ادعياه ، ويمكن ادّعاء ظهور ذلك من صحيحة أبي عبيدة كما أشرنا سابقاً (٤).

والمراد من دعوى عدم القول بالفرق هو الفرق بين السادس وما زاد عليه ، وإلّا فهناك قول بالاقتصار على الثلاثة الأُول ، فلا يتعدّى إلى السادس أيضاً ، وهو مقابل الأقوى.

ونقل هذا القول في المسالك عن الشهيد رحمه‌الله أنّه نقل عن شيخه السيد عميد الدين الميل إلى عدم وجوب السادس ، معتذراً له بالوقوف على النص والتمسّك بالأصل (٥) ، وقد رأيت هذا النقل في الحواشي المنقولة عنه على الدروس.

قال في المسالك : ولعلّه أراد بالنص خبر محمّد بن مسلم ، فإنه مختص بالثالث ، وإلا فخبر أبي عبيدة مصرّح بوجوب السادس أيضاً (٦).

وأُورد على ما في الروضة : أنّ ذلك لا اختصاص له بالأشهر ، بل الشيخ في المبسوط

__________________

(١) الروضة البهيّة ٢ : ١٥٤.

(٢) المدارك ٦ : ٣١٣.

(٣) اللمعة (الروضة البهيّة) ٢ : ١٥٣ ، الدروس ١ : ٣٠١.

(٤) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٤ ، الفقيه ٢ : ١٢١ ح ٥٢٧ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ ح ٨٧٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ ح ٤٢٠ ، الوسائل ٧ : ٤٠٤ أبواب الاعتكاف ب ٤ ح ٣.

(٥) المسالك ٢ : ٩٦ ، ورد في حاشية المسالك : «ذكر ذلك في حاشيته على الدروس».

(٦) المسالك ٢ : ٩٦.

١٧٦

ومن تبعه أيضاً صرّحوا بوجوب السادس ، وإن لم يتعرّضوا لما فوق السادس (١).

أقول : مراد الشهيد الثاني أنّه يتعدّى الوجوب الثابت للثالث الأوّل بسبب مضيّ يومين إلى كلّ ثالث من السادس والتاسع وغيرهما ؛ نظراً إلى مجموع الروايتين بضميمة عدم القول بالفصل.

وأمّا الشيخ ومن تبعه ، فهم وإن صرّحوا بوجوب السادس بمعنى عدم وجوب الرابع والخامس كما هو مقتضى صحيحة أبي عبيدة الدالّة على ذلك ، ولكن لا يلزم القول بوجوب الثالث بمعنى عدم وجوب الأوّل والثاني ؛ لأنهم يقولون بالوجوب بمحض الشروع في الاعتكاف ، فلزوم وجوب الثالث عندهم ليس من حيث إنه ثالث ، بل لأنّه أحد الأيّام الثلاثة.

ومراد الشهيد الثاني : الثالث من حيث إنّه ثالث ، كما هو الأشهر ، ولا يوجبون الرابع والخامس لخصوص صحيحة أبي عبيدة (٢) ، فصحّ بناء القول بوجوب كل ثالث على الأشهر ، وصحّ ذكر قول السيد عميد الدين في مقابل الأقوى من جملة أفراد القول الأشهر ، فالشيخ وأتباعه عملوا بصحيحة أبي عبيدة ، لا بصحيحة محمَّد بن مسلم (٣) ، إلا الشيخ في مفهوم آخرها. والأشهر عملوا بكليهما ، مضافاً إلى عدم القول بالفصل. والسيد عميد الدين عمل برواية محمّد بن مسلم فقط ، مع حملها على ما بيّناه في وجه الاستدلال على المختار.

ومما ذكرنا يظهر : أنّا إذا بنينا على قول المبسوط وأتباعه ، فتخصيص الوجوب بمحض الشروع بالثلاثة الأُول أولى ؛ لأن صحيحة أبي عبيدة مصرّحة بجواز الخروج في الرابع والخامس ، وهم عملوا بها كما مرّ ، ولأنّ الدليل الذي ذكرناه لهم من حرمة إبطال العمل ، ومن وجوب الكفّارة على المعتكف المجامع الدالّ على وجوبه بمجرد

__________________

(١) الروضة البهيّة ٢ : ١٥٣ ، وانظر المبسوط ١ : ٢٨٩.

(٢) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٤ ، الفقيه ٢ : ١٢١ ح ٥٢٧ ، الوسائل ٧ : ٤٠٤ أبواب الاعتكاف ب ٤ ح ٣.

(٣) الكافي ٤ : ١٧٧ ح ٣ ، الوسائل ٧ : ٤٠٤ أبواب الاعتكاف ب ٤ ح ١.

١٧٧

الشروع للإطلاق إنّما يجريان في الثلاثة الأُول ؛ لأنّه أقلّ مرتبة الاعتكاف الذي يمكن أن يسلّم فيه أنّه عمل واحد يحرم إبطاله وإن أوردنا عليه الإشكال أيضاً والرابع والخامس منفصلان عنه ، ولا دليل على كونهما مبدأ اعتكاف آخر ، والنصّ مصرّح بجواز الخروج فيهما ، وعملوا به ، فلا يصح أن يقال : عموم وجوب الكفّارة يقتضي وجوبهما أيضاً.

ثمّ إن ههنا قولاً آخر نقله الشهيد الثاني في الروضة ، وهو أنّه يجب كل ثالث في المندوب ، دون ما لو نذر خمسة ، فلا يجب اليوم السادس.

قال : ومال إليه المصنف في بعض تحقيقاته (١).

ويستفاد أنّ به قائلاً من عبارة الدروس ، فإنّه قال بعد نقل القول الأشهر وقول المبسوط والسيد : ولو نذر خمسة فالأقرب وجوب السادس (٢).

وهذا يحتمل أن يكون للإحاطة بجميع أقسام الاعتكاف ، وإدراج هذا القسم أيضاً في الأشهر الّذي هو مختاره ، فيكون مراده من خلاف الأقرب قول السيد والمبسوط ، فلا يلزم منه وجود خلاف عند الأشهر.

ويحتمل أن يكون إشارة إلى خلافٍ بين الأشهر ، وأنّ بعضهم يقول بالفرق بين ما كان اليومان الأوّلان الرابع والخامس في المنذور خمسة ، أو الرابع والخامس في المندوب.

وإلى ذلك أشار في الحاشية المنقولة عنه على قوله : فالأقرب وجوب السادس.

وهذا لفظه : وجهه دخوله في مضمون الرواية والفتوى ، مع عدم تعقّل فرق بينه وبين المندوب ، بل إن كان فهو أولى بالوجوب ، ولم ينبّه بالأقرب على احتمال عدم الإلحاق بالمندوب ، بل على الخلاف المستقرّ في المسألة.

مع أنّه لا يبعد أن يقال : لا يجب السادس هنا على القولين ؛ لأن هذا الاعتكاف واجب محكوم بصحّته لا انفصال فيه ، بخلاف المندوب ، فإنّ الثلاثة لما فرغت صار

__________________

(١) الروضة البهيّة ٢ : ١٥٤.

(٢) الدروس ١ : ٣٠١.

١٧٨

اليومان اعتكافاً مستأنفاً ، فلا بد من إتمامه ، وكان شيخنا عميد الدين رحمه‌الله يومئ إلى عدم وجوب السادس وما بعده ، ولو قلنا بوجوب الثالث.

وفيه وقوف على مورد النصّ ، والتمسّك بالأصل ، واتّصال الاعتكاف بعضه ببعض ، وعلى هذا الوجه يقوى في الواجب عدم وجوب السادس ، انتهى.

بقي الكلام في تحقيق المسألة ، والأظهر عدم وجوب السادس حينئذٍ :

أمّا أولاً : فلأنّ الرواية ظاهرة في المندوب ، والأصل عدم الوجوب.

وأمّا ثانياً : فلظهور الفرق كما أشار إليه في الحاشية ، وتوضيحه : أنّ في المندوب قد تحقّق الاعتكاف بالثّلاثة الأُول ، وتمّ ، ولم يثبت من الشرع ما دلّ على اتّصال اليومين به ، فالرابع والخامس منفصلان عنه ، فيكون اعتكافاً آخر يجب بمضي اليومين.

وأمّا في المنذور ، فالخمسة اعتكاف واحد ، ولا انفصال بين الثلاثة والرابع والخامس ؛ لأنّ النذر جعلهما فعلاً واحداً متصلاً.

الثاني : قال الشهيد في اللمعة : ويجب الاعتكاف بالنّذر وشبهه ، وبمضي يومين.

وقال الشارح في الروضة : بعد قوله «يومين» ولو مندوبين (١).

وأُورد عليه : بأنّ الأولى حذف كلمة «ولو» لإيهامها وجوب الثالث بمضيّ يومين واجبين أيضاً ، وليس كذلك ؛ لوجوب الثالث في الواجب أوّلاً ، معيّناً كان وجوبه أو مطلقاً ، غاية الأمر أنّه ينوي في المطلق الواجب الموسّع.

أقول : لعلّ مراده رحمه‌الله إحاطة أقسام الوجوب بالنّسبة إلى أصل الاعتكاف والشروع فيه واستمراره ، فإن الاعتكاف في الأصل مستحب.

ومرادهم حيث يقولون : الاعتكاف مستحبّ تعاطيه والشروع فيه ممنوع ، يقولون : ويجب بالنّذر وشبهه وبمضي يومين ، والوجوب بالنذر إما يكون مطلقاً أو معيّناً بالنّسبة إلى المجموع في أوّل الأمر ، وأما بالنّسبة إلى الاستمرار فقد يكون مطلقاً ، كما في

__________________

(١) اللمعة (الروضة البهيّة) ٢ : ١٥٣.

١٧٩

اليومين الأوّلين من النّذر المطلق ، وإمّا يكون متعيّناً ، كما فيمضي يومين ، سواء كان اليومان واجبين أو مندوبين ، فالواجب المعيّن غير المطلق.

ومُراد الشارح : الإشارة إلى حصول الوجوب العيني بالنسبة إلى الواجب الموسع في الأثناء ، فالثالث واجب موسّع في المطلق في أوّل الأمر ، وواجب عيني فيه بعد مضيّ الثالث ، فصح طُران الوجوب على الوجوب.

والشّاهد على أنّ مرادهم في قولهم : ويجب بالنذر وشبهه إلى أخره ، هو القدر المشترك كون النذر أعم من المطلق والمعين ، وكذا الاستئجار ونحوه ، فإنّ المقسم لا بدّ من دخوله في الأقسام ، وسيجي‌ء ما يوضّح ذلك في الشرط الثالث.

إذا عرفت هذا ، فنرجع إلى بيان كيفيّة النية :

فنقول : أما على القول بعدم اعتبار نية الوجه كما هو المختار ، فلا إشكال ؛ إذ يقصد اعتكاف ما شاء من الأيّام ، تقرّباً إلى الله ، ويكون معنى وجوب الثّالث على القول به وكذا ما في معنى الثّالث ترتّب العقاب على تركه ، وحرمة تركه ، ونحو ذلك.

وأما على اعتبار الوجه ، فلو كان منذوراً وشبهه ، فينوي الوجوب أوّلاً.

وكذا لو كان مندوباً ولم نقل بوجوبه بالشروع ، ولا بمضيّ اليومين ، ينوي المندوب.

وأما لو قلنا بوجوبه بالشروع ، أو بمضيّ اليومين ، فينوي كذلك ، يعني يقصد في أوّل الأمر الإتيان بالجزء الأوّل أو اليومين ندباً والباقي وجوباً ، واستمرار النية الحكمية كافٍ لتمام العبادة ، فلا حاجة إلى التجديد ، سيّما على ما هو التحقيق من كون النية هي الدّاعي إلى الفعل ، لا المخطر بالبال.

وما استشكله في المسالك «من لزوم تقدّم النيّة الواجبة على محلّها ، وكذا نيّة الندب لما بعد الثالث من الجملة بطريق أولى» (١) ، فلا وقع له ؛ لأنّ محلّها أوّل الفعل.

ولا يضرّه وقوعه على وجهين مختلفين ، كما ينوي الصّلاة الواجبة في أوّل الأمر

__________________

(١) المسالك ٢ : ٩٣ ، وانظر المدارك ٦ : ٣١١.

١٨٠