غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-679-9
الصفحات: ٤١٢

وفيه أوّلاً : أنّ موسى بن بكر واقفيّ ولا توثيق له (١) إلا أنّه يمكن أن يقال : إنّ أصله المنقول منه معتمد كما صرّحوا به ، والراوي عنه هنا فضالة ، وذكر الشيخ في الفهرست أنّه ممن يروي عنه ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى (٢) ، وله مؤيّدات أُخر.

وثانياً : أنّها حكاية حال لا عموم فيها ، بل لعلّه كان في صورة شرط التتابع كما هو الظاهر ، وتوهّم «جريان ترك الاستفصال لو كان جواباً عن سؤال ، مع أنّه لم يظهر كونه جواباً عن سؤال» يدفعه أنّ الظاهر من سؤال السائل هو صورة الاشتراط ، فإنه المحتاج إليه ، ومحل الإشكال غالباً.

ولا ينافي ذلك ما قدّمناه من منع تبادر التتابع ؛ إذ ما تدّعيه من الظهور هنا ليس من مَحض لفظ الشهر حتى ينافيه.

وثالثاً : أنّ مقتضاهما الاستئناف لو لم يبلغ النصف في صورة العُذر أيضاً ، وهو مخالف لمذهبهم.

وعن المفيد (٣) والسيد (٤) وسلار (٥) إيجاب التتابع في جزاء الصيد ، وإن كان نعامة ووجب الستّون يوماً. ولم نَقف على مُستندهم ، فلا يخرج عن إطلاق الآية وغيرها من غير دليل.

وعن المفيد (٦) وابن أبي عقيل (٧) وابن زهرة (٨) وأبي الصلاح (٩) : إيجاب المتابعة في السبعة بدل الهدي ؛ لدلالة الأمر على الفور ، وخصوص رواية عليّ بن جعفر ، عن

__________________

(١) انظر معجم رجال الحديث ٩ : ٣١ رقم ١٢٧٣٩.

(٢) فهرست الشيخ : ١٦٢.

(٣) المقنعة : ٤٣٥.

(٤) الانتصار : ١٠١.

(٥) المراسم : ١١٩.

(٦) المقنعة : ٥٧١.

(٧) نقله عنه في المختلف ٣ : ٣٧٣.

(٨) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٢.

(٩) الكافي في الفقه : ١٨٨.

٢١

أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن صوم ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة ، أيصومها متوالياً ، أو يفرّق بينها؟ قال : «يصوم الثلاثة ولا يفرّق بينها ، والسبعة لا يفرّق بينها ، ولا يجمع السبعة والثلاثة جميعاً» (١).

ورواية الحسين بن يزيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «السبعة الأيّام والثلاثة الأيّام في الحج لا تفرّق ، إنّما هي بمنزلة الثلاثة الأيّام في اليمين» (٢).

وربما يقدح في سند الروايتين ، وهو في رواية عليّ بن جعفر مشكل ؛ لأنّ محمد بن أحمد العلوي الذي في سندها ، وإن كان غير منصوص على توثيقه في الرجال ، إلا أنّ العلامة وصف الرواية بالحسنة في المختلف (٣) ، وكذا الشهيدان في الدروس والروضة (٤) ، وفي كتاب الحج من التذكرة بالصحّة (٥) ، وهو بمنزلة التوثيق.

وفي دلالة الأُولى ؛ لاحتمال أن يكون مراد السائل استعلام حكم التتابع ، والتفريق بين الثلاثة والسبعة ، لا آحاد كلّ منهما ، فأُجيب كما ذكر تفضّلاً ، فلعلّه بيان لجواز المتابعة ، لا الوجوب في السبعة ولزوم التفريق بين نفسهما.

وكيف كان ، فالأظهر مختار الأشهر ؛ لإطلاق الآية والأخبار ، ونُدرة العامل وشذوذه ، مع أنّ الشيخ روى عن إسحاق بن عمار قال ، قلت لأبي الحسن موسى ابن جعفر عليه‌السلام : إنّي قدمت الكوفة ولم أصُم السبعة الأيّام حتى فرغت في حاجة إلى بغداد ، قال : «صُمها ببغداد» قلت : أُفرّقها؟ قال : «نعم» (٦).

وأما صوم القضاء :

فقد مرّ الكلام في قضاء رمضان ، فإنّ المذهب فيه عدم وجوب التوالي ، خلافاً

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٣١٥ ح ٩٥٧ ، الاستبصار ٢ : ٢٨١ ح ٩٩٩ ، الوسائل ١٠ : ١٧٠ أبواب الذبح ب ٥٥ ح ٢.

(٢) الكافي ٤ : ١٤٠ ح ٣ ، الوسائل ٧ : ٢٨٠ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ١٠ ح ٢.

(٣) المختلف ٣ : ٣٧٣.

(٤) الدروس ١ : ٢٩٦ ، الروضة البهيّة ٢ : ١٣١.

(٥) التذكرة (الطبعة الحجريّة) ١ : ٣٨٣.

(٦) التهذيب ٥ : ٢٣٣ ح ٧٨٧ ، الاستبصار ٢ : ٢٨١ ح ٩٩٨ ، الوسائل ١٠ : ١٧٠ أبواب الذبح ب ٥٥ ح ١.

٢٢

لظاهر أبي الصلاح (١) ؛ وفاقاً لظاهر الكتاب.

وأما قضاء النذر المعيّن فالأقوى فيه أيضاً ذلك ؛ للأصل ، وعدم الدليل ، وكون القضاء فرضاً جديداً تابعاً للدليل المثبت ، وقياسه على الأصل باطل.

واستقرب الوجوب في الدروس (٢) ، وليس له ما يُعتمد عليه إلا قياسه بالأصل ، وأنّ الواجب عليه شيئان : الصوم ، وتتابعه ، فكما يجب تحصيل الصوم ، يجب تحصيل تتابعه.

وفيه : أنّه لأقوام للجنس بعد انتفاء الفصل ، وينحلّ النذر بانتفاء متعلّقه ، وهو الصوم في الوقت الخاص ، ولو لم يكن أمر بالقضاء لما أوجبناه أيضاً.

الثانية : قالوا كلّما يُشترط فيه التتابع إذا أفطر في أثنائه لعُذر يبني عليه بعد زوال العُذر واستثنى منه جماعة من الأصحاب كلّ ثلاثة يجب فيها التتابع وإن كان الإفطار بعذر.

أما الأوّل ؛ فإن كان في الشهرين والشهر الواحد ، فلا خلاف فيه بينهم ظاهراً ، إلا ما سننقل عن نهاية الشيخ في الشهر المتتابع الواجب بالنذر.

وأما فيما دون الشهر إلى ثلاثة فهو أيضاً مقتضى إطلاقهم.

والذي يدلّ عليه في الشهر من صحيحة رفاعة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل عليه صيام شهرين متتابعين فصام شهراً ومرض ، قال : «بنى عليه ، الله حبسه» قلت : امرأة كان عليها صيام شهرين متتابعين فصامت وأفطرت أيّام حيضها ، قال : «تقضيها» قلت : فإنها قضتها ثمّ يئست من المحيض ، قال : «لا تُعيدها ، أجزأها ذلك» (٣) فإنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام «تقضيها» بَنَت عليها ، بقرينة ما بعدها.

ومثلها صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام (٤).

__________________

(١) الكافي في الفقه : ١٨٤.

(٢) الدروس ١ : ٢٩٦.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٨٤ ح ٨٥٩ ، الاستبصار ٢ : ١٢٤ ح ٤٠٢ ، الوسائل ٧ : ٢٧٤ أبواب بقية الصوم الواجب ب ٣ ح ١٠.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٨٤ ح ٨٦٠ ، الاستبصار ٢ : ١٢٤ ح ٤٠٣ ، الوسائل ٧ : ٢٧٤ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٣ ح ١١.

٢٣

وقويّة سليمان بن خالد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كان عليه صيام شهرين متتابعين ، فصام خمسة وعشرين يوماً ثمّ مرض ، وإذا برأ يبني على صومه أم يعيد صومه كلّه؟ قال : «بل يبني على ما كان صام» ثمّ قال : «هذا مما غلبَ الله عزوجل عليه ، وليس على ما غلبَ الله عزوجل عليه شي‌ء» (١).

ويمكن استفادة حكم ما دون الشهرين والشهر من العلّة المنصوصة في هذه الروايات.

وما يعارضها من الروايات ، مثل صحيحة جميل ومحمّد بن حمران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل الحرّ يلزمه صوم شهرين متتابعين في ظهار ، فيصوم شهراً ثمّ يمرض ، قال : «يستقبل ، فإن زاد على الشهر الأخر يوماً أو يومين بنى على ما بقي» (٢).

ورواية أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قطع صوم كفّارة اليمين وكفّارة الظهار وكفّارة الدم فقال : «إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين فأفطر أو مرض في الشهر الأوّل ، كان عليه أن يعيد الصيام ، وإن كان الشهر الأوّل وصام من الشهر الثاني شيئاً ثمّ عرضَ له ما فيه العُذر ؛ فإنما عليه أن يقضي» (٣) فحملها الشيخ على الاستحباب ، أو ما إذا كان المرض مما لا يمنع من الصوم (٤) ، وكذلك الجواب عن كلّ ما ساوقهما من الروايات.

ويظهر منه الجواب عن مثل روايتي موسى بن بكر المتقدّمتين.

وأما ما وعدناك من ذكر مخالفة الشيخ في النهاية ، فهو أنّه قال : ومن نذر أن يصوم شهراً متتابعاً فصام خمسة عشر يوماً وعرض له ما يفطر فيه ، وجب عليه صيام ما بقي من الشهر ، وإن كان صومه أقلّ من خمسة عشر يوماً ، كان عليه الاستئناف (٥) ، فإنّ

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٨٤ ح ٨٥٨ ، الاستبصار ٢ : ١٢٤ ح ٤٠١ ، الوسائل ٧ : ٢٧٤ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٣ ح ١٢.

(٢) الكافي ٤ : ١٣٨ ح ١ ، التهذيب ٤ : ٢٨٤ ح ٨٦١ ، الاستبصار ٢ : ١٢٤ ح ٤٠٤ ، الوسائل ٧ : ٢٧٢ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٣ ح ٣.

(٣) الكافي ٤ : ١٣٩ ح ٧ ، وفي التهذيب ٤ : ٢٨٥ ح ٨٦٢ ، والاستبصار ٢ : ١٢٥ ح ٤٠٥ بتفاوت ، الوسائل ٧ : ٢٧٢ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٣ ح ٦.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٨٥ ذ. ح ٨٦٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٥ ذ. ح ٤٠٥.

(٥) النهاية : ١٦٧.

٢٤

ظاهره وجوب الاستئناف مع العُذر.

ولعلّ دليله روايتا موسى بن بكر (١) ، وأنّه بدون المتابعة يخرج عمّا تعلّق به النذر ، فلا يحصل الامتثال وإن لم يكن إثماً للعُذر.

وفيه : أنّ الخبرين لا يقاومان أدلّة المشهور لما عرفت.

وأما الاستدلال بعدم حصول الامتثال فيحتاج إلى تمهيد مقدّمة نافعة في المقام ، بل نفعها عام في كثير من المهام ، وهو أنّ التتابع الحاصل في أيّام الصيام إما من باب ما حصل قسراً وبالتبع من دون قصد إليه ، لا من جعل الله تعالى ، ولا من جعل العبد ، وإما يحصل بفعل الله تعالى وجعله ، وإما يحصل بجعل العبد.

فالأوّل كالتتابع في أيّام شهر رمضان ، فإنّ كون الواجب مضيّقاً منطبقاً على وقته من دون زيادة ونقصان يستتبع لزوم تتابعه ، ولا يوجب ذلك مدخليّة التتابع في مهيّة العبادة ، بل كلّ واحد من الأيّام عبادة مستقلّة لا يوجب الإخلال ببعضها الإخلال بالباقي.

ومن ثمراته فيما نحن فيه : أنّ الإخلال بالتتابع فيه لا يوجب القضاء لجميعه بسبب عدم الإتيان بالجميع على هيئة الاجتماع.

ومن ذلك المشرب تشرب المسألة الماضية في الصلاة في باب ترتيب قضاء الفوائت ، وقد حقّقنا ثمّة عدم الدليل على وجوب الترتيب في غير ما كان الترتيب من جعل الله ، مثل الظهرين في اليوم الواحد ، والعشاءين في الليلة الواحدة.

وأما تقدّم الصبح على الظهرين ، وهما على العشاءين ، واليوم السابق على الاتي ، والشهر السابق على الاتي ، فليس من جعل الشارع ، بل إنما هو من لوازم تعاقب الأوقات في نفس الأمر.

ومن قبيل التتابع في رمضان التتابع في قضائه إذا ضاق وقته بين رمضانين.

والثاني كالتتابع الواجب في شهري الكفّارات ونحوهما ، وذلك أيضاً يتصوّر

__________________

(١) يراد بهما روايتا ابني أعين المتقدّمتان.

٢٥

على وجهين :

الأوّل : أن يكون مقصوده تعالى جعل المجموع عبادة واحدة مركبة.

الثاني : أن يكون مقصوده التكليف بواجبين أحدهما وصف للاخر ، فالصيام واجب ، وتتابعه واجب آخر.

وتظهر الثمرة في بطلان الكلّ ببطلان الجزء ، فيبطل على الأوّل دون الثاني ، ويتفرّع عليه أنّ الإخلال بالتتابع موجب للبطلان والاستئناف ، سواء كان لعُذر أم لا ، ولا يستلزم ذلك حصول الإثم ، وقد يبطل ولا إثم كما في صورة العُذر على الأوّل ، وقد يأثم ولا يحصل البطلان على الثاني.

وحينئذٍ فالأصل على الأوّل وجوب الاستئناف مطلقاً إلا ما خرج بالدليل ، كما في صورة الإفطار مع العُذر.

وحينئذٍ فمعنى التعليل بأنّه مما حبسه الله وغلب عليه : أنّه بدل عن الواجب ، يعني البناء بعد الإفطار ليس نفس الإتيان بالمكلّف به ، بل هو إتيان ببدله ، كالتيمم بدل الوضوء على الوجه الأخر ، فالأصل عدم البطلان وإن حصل الإثم ، فالحكم بالاستئناف إذا أفطر في الشهر الأوّل بلا عُذر ، إنّما هو من جهة دليل خارجي.

فالعمدة : تحقيق أنّ الأصل في أمثال ذلك أيّهما ، وأنّ التتابع الواجب في الشرع في أمثال ذلك من أيّهما ، حتى يجعل أصلاً وقاعدة.

ولا يبعد ترجيح الأخير ؛ لأنّ الأصل عدم التركيب.

وقد يفرّق بين ما ورد بلفظ «عليه صيام شهرين» مثلاً ، أو «كفّارته كذا» فإن الثاني ظاهر في المهية المتحدة ، والأوّل في تعدد الواجبات.

وأما مثل الاعتكاف ، فالظاهر أنّه مهية مركبة ، وليس قابلاً للوجهين ، فالأصل فيه وجوب الاستئناف ، والخروج عنه موقوف على الدليل.

وأما ما كان من جعل العبد ، فمثل ما لو نذر صيام أيّام متتابعات ، فإما أن يقصد الاجتماع يعني يعتبر كون المجموع من حيث المجموع مورد النذر أو يقصد كون كلّ

٢٦

واحد منها مورداً للنذر ، أو يطلق.

ويترتب على الأوّل انحلال النذر بمجرد التفريق ، بل وبمجرد الإخلال بشي‌ء منه ولو كان أوّلهما ، بخلاف الثاني.

ومن فروعه : نذر صوم كلّ خميس أو تهجّد كلّ ليلة ، فإن قصد مجموع الأيّام والليالي ، فينحل بالتخلّف في خميس أو ليلة ؛ لعدم بقاء متعلق النذر ، بخلاف ما لو حصل كلّ واحد منها مورداً لنذر ، فيحنث بكلّ واحد منها ، وتجب الكفّارة بكلّ منها ، ولا ينحلّ في الباقي.

والإشكال في صورة الإطلاق ، أما بفرض عدم تفطنه حين النذر لقصد أحد الأمرين ، بل يقول : «لله عليّ صوم كلّ خميس أو تهجد كلّ ليلة» أو في صورة فرض موت الناذر وإرادة الولي العمل على مقتضاه ، وحينئذٍ فالظاهر الحمل على كلّ واحد من الآحاد ؛ لظهور اللفظ في ذلك ، وكونه مقتضى الأصل ، فلا ينحلّ النذر.

وفيه : أنّ الأصل عدمه ، كما أنّه عدم اعتبار التركيب ، فالأصل عدم اعتبار استقلال كلّ منها في كونه مورداً للنذر ، وأيضاً فينحلّ ؛ لأنّ الإيجاب الكلّي يرتفع بالسلب الجزئي ، وهو ظاهر المشهور.

ويظهر من ذلك الكلام فيما لو جعل على نفسه لله صوم شهر متتابع.

ثمّ إنّه بعد البناء من جهة العُذر ، هل تجب المبادرة إلى الصوم بعد زواله أم لا؟ قولان ، أصحّهما وفاقاً للمسالك والمدارك (١) نعم ؛ لوجوب وفاء حقّ التتابع الواجب حسب المقدور ، ولا يُترك الميسور بالمعسور ، خلافاً للدروس حيث قال : ولا تجب الفورية بعد زوال العُذر (٢).

وأما استثناء جماعة من الأصحاب الثلاثة الأيّام الواجبة بالتتابع كالشهيدين

__________________

(١) المسالك ٢ : ٧١ ، حيث قال : ومتى جاز البناء مع العذر تجب المبادرة إليه بعد زواله ، المدارك ٦ : ٢٤٩ حيث قال : فالأصحّ وجوب المبادرة إلى الصوم بعد زوال العذر.

(٢) الدروس ١ : ٢٩٦.

٢٧

في الدروس والروضة (١) إلا في ثلاثة الهدي لمن صام يومين وكان الثالث يوم العيد.

واكتفى في المسالك باستثناء كفّارة اليمين ، وقضاء رمضان ، وثلاثة الاعتكاف (٢). وكذلك العلامة في القواعد (٣).

وأما حكاية استثناء ثلاثة الهدي عن هذا الاستثناء فهو المشهور بينهم كما سيأتي ، فحكموا بالاستئناف مطلقاً.

وقال المحقّق في الشرائع : وكلّما يشترط فيه التتابع إذا أفطر في أثنائه لعُذر يبني عند زواله ، ولم يفرّق بين الثلاثة وغيره ، إلا أنّه قال : إنّ صوم دم المتعة يبنى فيه إن كان الإفطار ليوم النحر وقد صام يومين ، وإلا بأن كان الفصل بغير يوم النحر أو لم يصم إلا يوماً استأنف (٤) ، وكذلك في النافع والمعتبر (٥) ، ومثله كلام العلامة في كثير من كتبه (٦).

وذهب ابن إدريس إلى جواز البناء في صوم كفّارة اليمين إذا أفطر لعُذر ، سواء تجاوز النصف أم لا ، ونصّ في ثلاثة المتعة على أنّه لا يجوز التفريق إلا إذا صام يومين ثالثها العيد (٧).

وعن يحيي بن سعيد أنّه قال : إن أفطر في كفّارة اليمين وشبهها استأنف بكلّ حال ، فإن كان مرجع الضمير الكفّارة فمذهبه الاستئناف فيما تشبهه كفّارة اليمين في كونها ثلاثة متتابعات ، وإن كان اليمين فيختص باليمين وما أشبهه من النذر والعهد (٨).

وظاهر السيد : عدم الفرق بين الثلاثة وغيرها ، وادّعى الإجماع على أنّ من أفطر

__________________

(١) الدروس ١ : ٢٩٦ ، الروضة البهيّة ٢ : ١٣٢.

(٢) المسالك ٢ : ٧١.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ٦٩.

(٤) الشرائع ١ : ١٨٦ ، وانظر المسالك ٢ : ٧١ ، والمدارك ٦ : ٢٤٧.

(٥) المختصر النافع : ٧٢ ، المعتبر ٢ : ٧٢٠.

(٦) القواعد ١ : ٦٩ ، التحرير ١ : ٨٥ ، المختلف ٣ : ٥٦٨.

(٧) السرائر ١ : ٤١٥.

(٨) الجامع للشرائع : ١٦٠.

٢٨

لمرض في صوم التتابع بنى على ما تقدّم ولا يلزمه الاستئناف (١) ، وهناك أقوال أُخر.

ويظهر من ابن حمزة أيضاً عدم الفرق بين الثلاثة وغيرها في أنّه لا يستأنف إذا كان لعُذر (٢).

والأولى البناء على المقدّمة التي مهدناها سابقاً ، ولكن العلّة المنصوصة في الأخبار من ملاحظة أنّ ما كان من جانب الله وغلبته على العبد فليس عليه شي‌ء مضافاً إلى أصل البراءة يؤيد ظاهر المشهور من عدم الفرق بين الثلاثة وغيرها. ويؤيده ظاهر دعوى الإجماع في الانتصار.

ولا يضرّه احتمال تحقّق المهيّة المركّبة في بعض أفرادها ، مع أنّ إثباتها في كثيرٍ منها بل في غير الاعتكاف في غاية الإشكال.

وأما ما رواه الشيخ في الصحيح في باب قضاء شهر رمضان ، عن الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «صيام كفّارة اليمين في الظهار شهران متتابعان ، والتتابع أن يصوم شهراً ويصوم من الأخر أيّاماً أو شيئاً منه ، فإن عرض له شي‌ء يفطر منه أفطر ثمّ قضى ما بقي عليه ، وإن صام شهراً ثمّ عرض له شي‌ء فأفطر قبل أن يصوم من الأخر شيئاً فلم يتابع فليعد الصوم كلّه ، وقال : الصيام ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين متتابعات ، ولا يفصل بينهن» (٣) فلا ينافي ما ذكرنا ؛ إذ لعلّ المراد أنّه ليس مثل كفّارة الظهار بحيث إذا جاوز النصف يبني عليه وإن لم يكن له عُذر ، ولا دلالة فيه على أنّ المعذور فيها يجب عليه الاستئناف.

وأما رواية سليمان بن جعفر الجعفري التي رواها في أوّل الباب وقد مرّت سابقاً وفي آخرها : «إنما الصيام الذي لا يفرّق كفّارة الظهار وكفّارة الدم وكفّارة اليمين» (٤)

__________________

(١) الانتصار : ١٦٧.

(٢) الوسيلة : ١٨٤.

(٣) الكافي ٤ : ١٣٨ ح ٢ ، التهذيب ٤ : ٢٨٣ ح ٨٥٦ ، الوسائل ٧ : ٢٧٣ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٣ ح ٩.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٨٤ ح ٨٦٠ ، الاستبصار ٢ : ١٢٤ ح ٤٠٣ ، الوسائل ٧ : ٢٧٤ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٣ ح ١٢.

٢٩

ففيها : مضافاً إلى ضعفها أنّ الحصر فيها إضافي ، فإنها في بيان أنّ قضاء رمضان لا يجب فيه التتابع.

وأما حسنة عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام : «كلّ صوم يفرّق ، إلا ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين» (١) ، فلعلّها دليل من استثنى الثلاثة مطلقاً ، بتقريب أنّ المراد بكفّارة اليمين كلّ ما هو مثلها في العدد ، ويكون المعنى : أنّ كلّ صوم يقبل التفريق ولو لعُذر إلا كفّارة اليمين ، فإنه لا يقبله أصلاً ، أو كلّ صوم يجوز فيه التفريق ولو كان ببلوغه النصف أو تجاوزه عنه فيجوز التفريق حينئذٍ إلا كفّارة اليمين فلا يجوز فيها ذلك ، وإن قبلت التفريق لعُذر ، ولكن لا بدّ حينئذٍ من تخصيصه بدم المتعة ، فإنّ الظاهر سقوط التتابع إذا كان الثالث يوم النحر ولو اختياراً.

ولكن يُشكل الاعتماد على مِثل ذلك ، فإنا لو حملنا قوله عليه‌السلام : «يفرّق» على أنّه يفرق وجوباً فلا معنى له ، ولو حملناه على أنّه يجوز التفريق فلا يصحّ إطلاقه بالنسبة إلى الشطر الأوّل مطلقاً ، وإلى الثاني اختياراً ، وإرادة الجواز في الجملة لا تليق بالحكم ، ومع احتماله يحصل الإجمال في حكم الثلاثة أيضاً ، فلا يمكن الاستدلال.

ولو حملناه على إرادة أنّه يقبل التفريق في الجملة ، وحينئذٍ فيصحّ الاستدلال بالمستثنى ؛ لأنّ معناه حينئذٍ : لا يقبل التفريق ، مطلقاً ، إلا أنّه تعارضه العلّة المنصوصة في الأخبار ، وظاهر الإجماع المنقول عن السيد الدالّ على أنّ المعذور يبني ، وكذلك ابن زهرة فإنه قال : ويجب التتابع في كلّ ذلك ، يعني صوم كفّارة الحلق وكفّارة اليمين ، فمن فرّق مختار استأنف ، ومن فرّق مضطراً يبني بدليل ما قدّمناه ، يعني الإجماع والاحتياط (٢).

ولعلّ الاعتماد على هذه المذكورات أولى من الاعتماد على الحسنة ، مضافاً إلى اعتضادها بالأصل.

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٤٠ ح ١ ، الوسائل ٧ : ٢٨٠ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ١٠ ح ١.

(٢) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٢.

٣٠

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال إذا كان الثالث يوم النحر في دم المتعة اضطراراً أنّه يبني ولا يعيد.

ثمّ إنّ العُذر الموجب للبناء هو المرض بلا إشكال ولا خلاف ظاهراً ، وعن الخلاف والانتصار الإجماع عليه (١).

وكذلك الحيض ، بل وربّما قيل : إنه أولى من المرض ؛ لأنّه أعم وجوداً منه ، وهما منصوصان في الأخبار أيضاً كما عرفت ، والعقل والعرف أيضاً يشهد بهما. ولعلّ من اكتفى بالمرض أراد المثال.

والنفاس مثل الحيض.

والظاهر أنّ الحامل والمرضع إذا خافتا على الولد حكمهما ذلك أيضاً ، وعن الخلاف أنّه إجماعي (٢).

وأما السفر ، فقد اختلف فيه كلام الأصحاب ، فيظهر من بعضهم العدم مطلقاً ، كابن إدريس فقال : إنّ السفر عندنا يقطع التتابع ، سواء كان مضطراً إليه أو مختاراً (٣).

وعن يحيى بن سعيد : أنّه يجب الاستئناف لغير المرض والحيض (٤).

وقال في المعتبر : ولو قيل إن كان السفر ضرورياً بنى ، وإن كان اختيارياً استأنف ، كان حسناً (٥) ، وقطع به العلامة رحمه‌الله (٦).

وقال في الدروس : وأما السفر الضروري فعُذر إذا حدث سببه بعد الشروع في الصوم (٧).

ويظهر من ذلك أنّه إذا علم أنّه يضطرّ إلى السفر في الأثناء فلا يشرع فيه ، وهو

__________________

(١) الخلاف ٤ : ٥٥٤ مسألة ٤٨ ، الانتصار : ١٦٧.

(٢) الخلاف ٤ : ٥٥٥ مسألة ٥٠.

(٣) السرائر ١ : ٤١١.

(٤) الجامع للشرائع : ١٦٠.

(٥) المعتبر ٢ : ٧٢٣.

(٦) المختلف ٣ : ٥٦٥.

(٧) الدروس ١ : ٢٩٦.

٣١

مخلّ بالتتابع.

وربّما يقال : إنه قد يكون عُذراً إذا تقدّم السبب كما لو ضاق الوقت.

وقد اختلفت فتاوى الشيخ ، فظاهر كلامه في النهاية أنّه غير مخلّ بالتتابع مطلقاً (١).

وعن الخلاف أنّه قال : إذا سافر في الشهر الأوّل فأفطر قطع التتابع ووجب عليه الاستئناف ، ثمّ قال : دليلنا قوله تعالى (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) (٢) وهذا ما تابع ، وأيضاً فالسفر باختياره فلا يجوز له الإفطار كالحضر (٣).

فأوّل كلامه يدلّ على أنّه ليس بعذر مطلقاً ، وأما آخر كلامه فكلام مُظلم مشتبه المقصود ، وأظهر احتمالاته أن يكون دفعاً للاستدلال بالعلّة المنصوصة المتوهّمة في الأخبار ، فأوّل الكلام استدلال بالآية على لزوم التتابع ، والمفروض عدم الحصول ، وما ذكره أخيراً دفع لما يتوهّم من استثناء السفر كالمرض والحيض ؛ لأنّه أيضاً رخصة من الله تعالى ، فهو أيضاً مغلوب ؛ لاختياره بأمر الله تعالى ، المستلزم للإفطار.

وتقرير الدفع : أنّه حصل باختياره ، بخلاف المرض والحيض ، فليس مغلوباً ؛ لإمكان تركه.

ويشكل حينئذٍ معنى قوله «فلا يجوز له الإفطار كالحضر» والظاهر أنّ مراده أنّه لا يجوز له الإفطار بأن يكتفي بذلك في امتثال الأمر بصيام الشهرين كالحضر ، يعني كما لو لم يسافر أصلاً وكان في الحضر لا يجوز أن يفطر في الأثناء مكتفياً به بانياً عليه ، فكذا في السفر.

وإنّما قيّدناه بذلك ؛ لأنّه دليل على حرمة الإفطار في غير شهر رمضان والنذر المعيّن وقضاء رمضان بعد الزوال كما مرّ ، وبينا ضعف قول أبي الصلاح وغيره.

__________________

(١) النهاية : ١٦٦.

(٢) النساء : ٩٢ ، المجادلة : ٤.

(٣) الخلاف ٤ : ٥٥٤ المسألة ٤٩.

٣٢

وأما ما ذهب إليه المفيد (١) وابن حمزة (٢) من جواز صوم شهرين متتابعين في السفر ، فهو ليس قولاً بوجوبه في السفر بمعنى عدم جواز إفطاره ، ولا مستلزماً له ، بل بمعنى أنّ السفر ليس بمانع عن صومهما ، كما لا يمنع عن صوم دم المتعة ، وصوم ثمانية عشر يوماً بدل البدنة للمفيض من عرفات قبل الغروب ، ونحو ذلك.

فيرد على كلامه هذا أوّلاً : أنّ ذلك لا يتمّ في الأسفار الواجبة.

وثانياً : أنّه على القول بجواز هذا الصوم في السفر لا دليل على حرمة إفطاره ، إلا إذا ضاق الوقت.

وأما حمله على الاختصاص بالسفر الاختياري ، وإرادة أنّه يجب عليه الصوم حينئذٍ ولا يجوز الإفطار لكون السفر معصية حينئذٍ كما قد يتوهّم فهو غفلة.

ولعلّ هذا المتوهم قاسه على السفر في شهر رمضان ، كما أشرنا إليه في مبحث قضاء الولي عن الميت إذا فاته بسبب السفر من توجيه بعضهم لكلام العلامة ، وهو مع فساد أصله باطل ؛ لظهور الفرق ، لثبوت وجوب الصوم ثمّة عيناً دون ما نحن فيه.

فأظهر الأقوال : مختار الفاضلين ؛ لعدم جواز تخصيص الآية إلا بدليل ، ولا نصّ هنا على المطلوب ، والعلّة المنصوصة مضافاً إلى نفي العسر والحرج إنما يفيد عدم ضرر السفر الاضطراري دون غيره.

ثمّ إنّ من الأعذار الإغماء بين الأيّام إن لم يكن بفعل نفسه ؛ لأنّه يصدق عليه أنّه مما غلب الله عليه وأنّه حبسه.

وأما لو نسي نية الصوم في بعض أيّام الشهر حتى فات محلّها فيفسد صومه ، إنما الإشكال في أنّه يقطع التتابع أم لا ، قال في المدارك : قيل : نعم ؛ لأنّ فساد الصوم يقتضي عدم التتابع ، وقيل : لا ؛ لحديث رفع القلم ، وظاهر التعليل المستفاد من

__________________

(١) المقنعة : ٣٥٠ ، قال : ولا يجوز لأحدٍ أن يصوم في السفر تطوّعاً ولا فرضاً إلا صوم ثلاثة أيّام ، ومن كانت عليه كفّارة يخرج عنها بالصيام ، ونقله عنه في المعتبر ٢ : ٦٨٥ ، والمختلف ٣ : ٤٥٩.

(٢) الوسيلة : ١٤٨.

٣٣

قوله عليه‌السلام : «الله حبسه» وقوله عليه‌السلام : «وليس على ما غلب الله عزوجل عليه شي‌ء» وبه قطع الشارح قدس‌سره ، ولا يخلو من قوة (١) ، انتهى.

أقول : وهو جيد ، وإن كان يمكن المناقشة في تلك الأخبار ، بأنّ الظاهر من حديث رفع النسيان رفع المؤاخذة والعقوبة ؛ وأنّ مقدّمات النسيان غالباً اختياريّة كما أشرنا سابقاً ، ولكن ما ذكر معاضدته بالأصل ونفي العسر والحرج ، وأنّ النسيان قد يحصل بسبق مرض أو أمر من غير اختياره ولا قائل بالفصل ؛ يرجّح ما قوّاه.

ثمّ إن الشهيد قال في الدروس : ولا يُعذر بفجأة مثل رمضان أو العيد ، سواء علم أو لا ، بخلاف فجأة الحيض والنفاس (٢).

أقول : وما ذكره في صورة العلم جيّد ؛ لعدم حصول التتابع ، وليس ممن حبسه الله أو غلب عليه ، وكذلك التمكّن من تحصيل العلم ، أمّا في مثل الأسير والمحبوس فيشكل ؛ لصدق الغلبة والحبس الناشئين من الجهل الذي لم يقصّر فيه ، ولزوم العسر والحرج.

الثالثة : إذا أفطر في الأثناء لغير عُذر استأنف ، إلا في مواضع ثلاثة : في الشهرين المتتابعين بعد صوم شهر ويوم فصاعداً ، وفي الشهر بعد صوم خمسة عشر يوماً ، وفي الثلاثة لدم المتعة بعد صوم يومين ثالثهما العيد.

أما لزوم الاستئناف لو أفطر بلا عُذر : فيدلّ عليه أنّه لا يحصل الامتثال بالمأمور به بدون التتابع.

وقد عرفتَ الإشكال في هذا الاستدلال كلّيّة ، ولكن لا نَعرف مخالفاً في الكلّية ، بل صرّح بدعوى الإجماع في المعتبر والمنتهى والتذكرة والتحرير والسرائر في خصوص الشهرين (٣) بل في المنتهي والتذكرة إجماع فقهاء الإسلام ، وتدلّ عليه

__________________

(١) المدارك ٦ : ٢٤٩ ، وانظر المسالك ١٠ : ٨٨.

(٢) الدروس ١ : ٢٩٦.

(٣) المعتبر ٢ : ٧٢١ ، المنتهي ٢ : ٦٢١ ، التذكرة ٦ : ٢٢٣ ، التحرير ١ : ٨٥ ، السرائر ١ : ٤١١.

٣٤

أيضاً الأخبار كما مرّ ويجي‌ء.

وأما المواضع المستثنيات :

فأما الشهران المتتابعان إذا صام شهراً ويوماً من الثاني ، سواء وجبا بكفّارة أو بنذر أو بشبهه ، فلا خلاف فيه بين الأصحاب ، وعن الانتصار والخلاف والغنية والسرائر والتذكرة والمنتهى والمختلف الإجماع عليه (١).

ويدلّ عليه من الأخبار ما تقدّم من صحيحة الحلبي (٢) ، وصحيحة جميل ومحمد بن حمران (٣) ، ورواية أبي بصير (٤) ، وغيرها.

وصحيحة منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّه قال في رجل صام في ظهارٍ شعبان ثمّ أدركه شهر رمضان ، قال : «يصوم رمضان ويستأنف الصوم ، فإن صام في الظهار فزاد في النصف يوماً قضى بقيته» (٥).

ورواية سماعة بل موثّقته ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون عليه صوم شهرين متتابعين ، أيفرّق بين الأيّام؟ فقال : «إذا صام أكثر من شهر فوصله ثمّ عرض له أمر فأفطر فلا بأس ، وإن كان أقلّ من شهر أو شهراً فعليه أن يعيد الصيام» (٦).

وربّما يضاف إلى هذه الأدلّة صدق المتابعة ؛ لأنّها أعم من المتابعة بالكلّ أو بالبعض ، وبأنّ حكم أكثر الشي‌ء حكم كلّه غالباً ، ونفي العسر والحرج.

ولا حاجة إليها ، خصوصاً وفي بعضها نظر بيّن.

ثمّ إنّا قد ذكرنا أنّ الظاهر عدم الخلاف في المسألة ، ولكن العلامة في المختلف

__________________

(١) الانتصار : ١٦٧ ، الخلاف ٤ : ٥٥٢ مسألة ٤٤ ، الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٢ ، السرائر ١ : ٤١١ ، التذكرة ٦ : ٢٢٣ ، المنتهي ٢ : ٦٢١ ، المختلف ٣ : ٥٦٣.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٨٣ ح ٨٥٦ ، الوسائل ٧ : ٢٧٣ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٣ ح ٩.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٨٤ ح ٨٦١ ، الاستبصار ٢ : ١٢٤ ح ٤٠٤ ، الوسائل ٧ : ٢٧٢ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٣ ح ٣.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٨٥ ح ٨٦٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٥ ح ٤٠٥ ، الوسائل ٧ : ٢٧٢ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٣ ح ٦.

(٥) التهذيب ٤ : ٢٨٣ ح ٨٥٧ ، الوسائل ٧ : ٢٧٥ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٤ ح ١.

(٦) التهذيب ٤ : ٢٨٢ ح ٨٥٥ ، الوسائل ٧ : ٢٧٢ أبواب بقيّة الصوم الواجب ب ٣ ح ٥.

٣٥

استشعرَ من كلام الشيخ في النهاية عدم الاكتفاء بذلك إلا مع العجز (١) ، حيث قال في النهاية : فمن وجب عليه شي‌ء من هذا الصيام ، وجب عليه أن يصومه مُتتابعاً ، فإن لم يتمكّن من صيامه متتابعاً ، صام الشهر الأوّل ، ومن الشهر الثاني شيئاً ، ثمّ فرّق ما بقي عليه (٢).

أقول : والظاهر من كلماتهم أنّ موضوع المسألة هنا بيان الإجزاء ، لا إثبات الجواز مطلقاً ، فيمكن حمل كلامه في النهاية على إرادة عدم جواز القطع إلا مع العُذر ، لا عدم الإجزاء بدونه أيضاً كما يظهر من ملاحظة كلامه بعد ذلك.

وأما مسألة الجواز فقد اختلفت كلماتهم ، قال في المختلف : من وجب عليه شهران متتابعان في كفّارة ظهار أو قتل الخطأ أو غيرهما ، فصام شهراً ومن الثاني شيئاً ولو يوماً ثمّ أفطر لغير عُذر ، جاز لهُ البناء إجماعاً ، وهل يكون مأثوماً؟ قولان ، وقال ابن الجنيد : لا يكون مأثوماً ، وهو ظاهر كلام ابن أبي عقيل ، وظاهر كلام الشيخ ، وقال المفيد : يكون مخطأً ، وكذا قال السيد المرتضى ، وهو يشعر بالإثم ، وصرّح أبو الصلاح وابن إدريس بالإثم ، والأقرب الأوّل ، لنا : الأصل براءة الذمة ، ولأنّ التتابع إما أن يحصل بذلك أو لا ، فإن حصل فقد امتثل المأمور به ، فيخرج عن العهدة فلا إثم ، وإن لم يحصل بذلك وجب عليه الاستئناف ؛ لأنّه لم يأتِ بما أُمر به على وجهه فلا يقع فعله مجزياً.

ثمّ استدلّ بصحيحة الحلبي ورواية سماعة المتقدمتين ، ثمّ قال : ولأنّ تتابع الشهرين يحصل بذلك ، ولا يجب في إتباع الشهر بالشهر تكميل الثاني ، ولأنه تابع بين الأكثر ، وحكم الأكثر حكم الجميع.

ثم احتج للآخرين : بأنّ تتابع الشهرين إنما يحصل بإكمالهما ، ولم يحصل ، فيتحقّق الإثم ، ولا استبعاد في الإجزاء مع الإثم.

__________________

(١) المختلف ٣ : ٥٦٣.

(٢) النهاية : ١٦٦.

٣٦

والجواب : المنع بأنّ التتابع إنما يحصل بإكمالهما (١) ، انتهى.

أقول : والقول بعدم الإثم فتوى العلامة في كثير من كتبه (٢) ، وجعله في الدروس أقرب (٣).

وفي الأدلّة من الطرفين مجال واسع للنظر.

والذي يمكن أن يُعتمد عليه من جانب القائلين بالإثم : أنّ التتابع واجب بنص الكتاب ، ومخالفته إثم ، ولا ينافي حصول الإثم الإجزاء كما دلّت عليه صحيحة منصور ، وما في معناها من أخبار الباب.

ومن جانب المجوّزين للتفريق : صحيحة الحلبي ، ورواية سماعة ، وما في معناهما ، وجوابهم عن ظاهر الكتاب إما بمنع انفهام التتابع في أيّام الشهرين ، بل المفهوم إنّما هو التتابع بينهما ، وهو قد يحصل بوصل آخر الأوّل بأوّل الثاني ، وإن كان أيّام كلّ منهما متفرقات ، ولزوم الاتصال بين الأيّام في الشهر الأوّل في غير صورة العُذر إنّما هو بالدليل الخارجي من إجماع أو غيره ، وإما بتسليم ذلك ، والقول بأنّ صحيحة الحلبي وما في معناها قرينة لإرادة تتابع نفس الشهرين مجازاً ، أو أنّ ذلك بدل عن الشهرين المتتابعين رضي الله به عنه في صورة إفطار المكلّف بلا عُذر ومسقط للتكليف. ولا استبعاد في تخصيص القرآن بخبر الواحد ، ولا في بيان مجملة به.

وحمل الصحيحة «على أنّ المراد منها بيان أنّ إجزاء المأمور به في الآية يحصل بذلك ، لا أنّ المطلوب ليس أزيد من ذلك» بعيد ، فالظاهر أنّها بيان للجواز والإجزاء معاً.

فالظاهر إذن ترجيح القول بعدم الإثم ، ولكن الأحوط أن لا يفرّق إلى آخر الشهرين ؛ طلباً للمغفرة بالمسارعة والمسابقة إلى الخير ، وتحرّزاً عن مخالفة جماعة من العلماء.

ثمّ يُشكل المقام بناءً على القول بانفهام التتابع في مجموع أيّام الشهرين وحصول

__________________

(١) المختلف ٢ : ٥٦١ ، وانظر المقنعة : ٢٦١ ، والجمل (رسائل الشريف المرتضى) ٣ : ٥٨ ، والكافي في الفقه : ١٨٩ ، والسرائر ١ : ٤١١.

(٢) المختلف ٣ : ٥٦١ ، التذكرة ٦ : ٢٢٣ ، التحرير ١ : ٨٥.

(٣) الدروس ١ : ٢٩٦.

٣٧

الإثم بالتفريق وإن أجزأ بما لو علم مفاجاة رمضان أو العيد في الأثناء.

فالشروع بذلك الصوم في محاق شهر رجب ، أو في ثامن ذي قعدة الحرام ، وجعله من باب التفريق اختياراً بلا عُذر ، لأنّه صوم شهر ويوم من آخر ؛ مشكل ، فإن الظاهر من الأخبار المفيدة للإجزاء أنّه إذا اتفق الإفطار بعد شهر ويوم بلا عُذر لا يضر مع كون الزمان قابلاً للصوم ، لا أنّه يجوز اختيار شهر ويوم لا يمكن بعدهما الصوم.

ولكن التصريح بخلافه موجود في كلامهم ، قال في القواعد : ولا يجوز لمن عليه شهران متتابعان صوم ما لا يسلم فيه التتابع ، كشعبان خاصة ، ولو أضاف إليه يوماً من رجب صحّ ، وكذا من وجب عليه شهر إذا ابتدأ بالسابع عشر من شعبان ، ولو كان السادس عشر وكان تاماً صحّ وإلا استأنف (١) ، وتقرب منها عبارات غيره.

ثمّ اعلم أنّ المراد من الشهر في أمثال المقام هو الشهر الهلالي ، فقد يكتفى في ذلك بثلاثين يوماً ، كما لو شَرَع في أوّل الهلال ورؤي الهلال في ليلة الثلاثين منه ، فبالثلاثين يحصل شهر ويوم ، وقد لا يحصل إلا بواحد وثلاثين ، كما لو كان الشهر الأوّل تاماً ، فالمعيار هو شهر ويوم ، لا ثلاثون ويوم.

وأما الشهر الواحد المتتابع ، فإن كان منذوراً فالمشهور أنّه يحصل التتابع بصوم خمسة عشر يوماً منه ، ولا يجب الاستئناف ، وادّعى عليه ابن إدريس الإجماع (٢) ، وتدلّ عليه روايتا موسى بن بكر المتقدّمتان.

إلا أنّ الاستدلال بهما على الإطلاق مشكل ؛ لتقييدهما بصورة عروض أمر.

والفرق بين الشهر والشهرين أنّ المتبادر من الشهر المتتابع هو تتابع الأيّام ، بخلاف الشهرين ، فإنّه يحتمله وتتابع الشهرين ، فلا مسرح للفرق بين النصفين في لزوم التتابع في الشهر إلا بدليل ، بخلاف الشهرين ، فإن لزوم التتابع في أيّام الثاني منهما ليس

__________________

(١) القواعد ١ : ٣٨٦.

(٢) السرائر ١ : ٤١٣.

٣٨

بمقطوع به ، فيكتفي بتتابع نفس الشهرين ، وهو لا يتمّ إلا بزيادة يوم ، وهو قد يحصل بشهر هلالي ناقص ويوم ، وقد لا يحصل إلا بثلاثين ويوم ، بخلاف الشهر المتتابع ، فإنه وإن كان قد يحصل بتسعة وعشرين يوماً ، كما لو بدأ في أوّل الشهر الناقص ، ولكن حصول العلم بتمام النصف الأوّل لا يمكن إلا بمضي خمسة عشر.

وكذلك لو شرع في السادس عشر من شهر بإرادة تتميمه بنصف الشهر التالي له ، واتفق كون الأوّل ناقصاً ، فإن حصول العلم بنصف ذينك النصفين لا يحصل إلا بإدخال يوم من الشهر الثاني في نصف الشهر الأوّل حتّى تتمّ الخمسة عشر التي يحصل بها العلم بنصف مجموع النصفين ، وإن كان زائداً على النصف بنصف يوم ؛ لعدم تبعّض الصوم.

ثمّ لو ظهرَ نقصان الشهر الثاني أيضاً تبعّض ولم يصُم بعد الباقي ، فيجب عليه خمسة عشر يوماً أُخر ؛ لعدم التبعّض ، ولو ظهر كونه تاماً فخمسة عشر يوماً أُخر بالأصالة.

وجعل ابن إدريس ذلك الفرق مقتضى التعبّد والنصّ ، حيث قال : ومن نذر أن يصوم شهراً متتابعاً ، فصام خمسة عشر يوماً وأفطر ، جاز له البناء وإن لم يكن زاد على النصف شيئاً آخر ، وفي الشهرين لا بد أن يكون قد زاد على النصف شيئاً آخر من الشهر الثاني ، وهذا فرق تواترت به الأخبار عن أئمّة آل محمّد الأطهار ، ولا يتعدّى إلى غير هذين الحكمين. وقد ذهب شيخنا أبو جعفر في جمله وعقوده إلى أنّ العبد إذا كانت كفّارته صيام شهر ، فصام نصفه ، جاز له التفريق في الثاني ، والبناء على ما مضى ؛ حملاً على الشهر المنذور ، أو خبر واحد قد ورد بذلك ، والأظهر ما أجمعنا عليه ، وترك التعرّض لما عداه ، ونعمل فيه على ما تقتضيه أُصول المذهب وعموم الآي والنصوص (١) ، انتهى.

__________________

(١) السرائر ١ : ٤١٣ ، وانظر الجمل والعقود (الرسائل العشر) : ٢١٧.

٣٩

وعن ابن زهرة : أنّه يستأنف في الشهر المنذور بشرط التتابع إذا أفطره مختاراً وإن جاوز النصف ، بخلاف المنذور المطلق ، فيستأنف في النصف الأوّل دون الثاني (١) ، ودليله روايتا موسى بن بكر المتقدّمتان ، حملاً لهما على المطلق.

وعن ابن حمزة : أنّه اشترط في الشهر أيضاً مجاوزة النصف كالشهرين (٢) ، ولم أقف على مستنده.

وأظهر الأقوال قول المشهور ؛ للأصل ، والإجماع المنقول عن ابن إدريس ، وروايتي موسى بن بكر ، بتقريب عدم الاستفصال ، فيشمل المقيد وما لو كان عروض الأمر من باب السفر الغير الضروري ، ولا يضرّه عدم عملهم بمقتضاهما في صورة الاضطرار إذا لم يبلغ النصف.

والظاهر عدم الفرق بين النذر والعهد واليمين ويشملهما الحديث.

وأما غير المنذور ؛ مثل كفّارة العبد في الظهار أو قتل الخطأ ، فألحقه الشيخ (٣) والعلامة (٤) بالمنذور في كثير من كتبهما ويحيى بن سعيد (٥) ، وابن حمزة على ما حكي عنهم ، إلا أنّ ابن حمزة اشترط مجاوزة النصف (٦).

وقد عرفت إنكار ابن إدريس إياه ، وقوّاه العلامة في المنتهي (٧).

ويظهر من المحقّق والشهيد التردد في الشرائع والدروس (٨).

ونفى عنه البأس في المسالك (٩).

__________________

(١) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٧٢.

(٢) الوسيلة : ١٤٦.

(٣) المبسوط ١ : ٢٨٠ ، الجمل والعقود (الرسائل العشر) : ٢١٧.

(٤) القواعد ١ : ٣٨٦ ، التذكرة ٦ : ٢٢٤ ، التحرير ١ : ٨٥.

(٥) الجامع للشرائع : ١٥٩.

(٦) الوسيلة : ١٨٤.

(٧) المنتهي ٢ : ٦٢٢.

(٨) الشرائع ١ : ٢٠٦ ، الدروس ١ : ٢٧٧.

(٩) المسالك ٢ : ٧٢.

٤٠