غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٦

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-679-9
الصفحات: ٤١٢

المسألة إجماع ولا أخبار مفصّلة متواترة ، فالتمسك بالقران حينئذٍ أولى ؛ لأنّه مسافر بلا خلاف ، ومخاطب بخطاب المسافرين من تقصير صلاة وغير ذلك (١).

واعلم أنّ العلامة في المختلف بعد ما رجّح قول المفيد استقرب في آخر كلامه القول بالتخيير بين الإفطار وعدمه إذا خرج بعد الزوال.

وجنح صاحب المدارك إلى التخيير مطلقاً (٢).

احتجّ المحقّق في المعتبر بقوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (٣) قال : وهو على إطلاقه ، ولا يلزم ذلك علينا ؛ لأنّ مع نيته من الليل يكون صوماً مشروطاً في نيته ، ولأنّه إذا عزم من الليل لم ينو الصوم ، فلا يكون صوماً تاماً ، ولو قيل : يلزم على ذلك لو لم يخرج أن يقضيه التزمنا ذلك ، فإنّه صيام من غير نية ، إلا أن يكون جدّد نيته قبل الزوال (٤) ، انتهى.

يعني : أنّ قوله تعالى يدلّ بإطلاقه على وجوب إتمام الصوم وإن خرج قبل الزوال ، وهو باقٍ على إطلاقه.

وقوله : «ولا يلزم ذلك علينا» يعني : ليس لأحد أن يقلب ذلك علينا ويقول : إنّ إطلاق الآية يدلّ على وجوب إتمام الصوم وإن بيّت نية السفر وخرج قبل الزوال ؛ لأنّ المراد من الصيام في قوله تعالى الصوم المطلق ، لا الصوم المشروط ، فإنّ من نوى السفر في الليل إطلاق الصائم عليه مشروط بنيته ، يعني أنّه صائم إن جدّد النية قبل الزوال ، فلا يندرج تحت الآية.

أو المراد أنّ إطلاق الصوم عليه إنّما يتمّ بشرط طروء المانع عن السفر ، يعني : ينوي الصوم في الليل إن طرأ المانع عن السفر ، وهو غير صحيح ؛ للزوم الجزم في النية ،

__________________

(١) السرائر ١ : ٣٩٢.

(٢) المدارك ٦ : ٢٨٧.

(٣) البقرة : ١٨٣.

(٤) المعتبر ٢ : ٧١٥.

١٢١

ولا يصح الشرط والتعليق.

ثمّ ترقّى عن ذلك ، وقال عطفاً على قوله «لأنّ مع نيته» إلى أخره : «ولأنّه إذا عزم من الليل» إلى أخره ، يعني : أنّه لا تتصوّر هناك نية أصلاً ، لا مطلقاً ، ولا مشروطاً ؛ لأنّ نية السفر مضادة لنية الصوم ، وإرادة الضدين ممتنعة ، فلا يتصوّر هناك صوم حتى يندرج في قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).

قوله : «فلا يكون صوماً تاماً» إشارة إلى أنّ قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) من باب ضيّق فم الركية ؛ لأنّه لا معنى للصوم قبل الفجر ، فالأمر بإتمام الصوم بعد قوله تعالى (حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) بلا فاصلة ، وعدم تحقّق صوم حتى يصح القول بوجوب إتمامه ، قرينة على إرادة صوموا صوماً تاماً انتهاؤه الليل ، لا ائتوا ببقية الصوم حتّى يتمّ.

والحاصل : أنّ صوم مبيّت السفر ليس صوماً تاماً على الوجهين المتقدّمين ، إما لأنّه ليس هناك صوم أصلاً بناءً على استحالة اجتماع الإرادتين كما بيّناه في الدليل الأخر وآخر وجهي الدليل الأوّل ، أو لأنّه صوم مشروط في نيته ، ولم يحصل شرطه كما بيّناه في أوّل وجهي الدليل الأوّل.

ثمّ لمّا كان لازم هذا الكلام لو يبيّت نيّة السفر ولم يخرج أصلاً فساد صومه ، بمعنى وجوب قضائه وإن وجب عليه الإمساك من جهة سائر الأدلّة.

نبّه على ذلك وقال : «ولو قيل» إلى أخره.

ثمّ إنّه لما كان لازم ما ذكره أن يجب عليه القضاء في صورة عدم الخروج وإن جدّد نيّة الصوم قبل الزوال ، استدركه بقوله : «إلا أن يكون جدّد نيته قبل الزوال» فإنّ ذلك مخرج بالدليل ، وإن كان مقتضى ما أصّله لزوم القضاء عليه حينئذٍ أيضاً ؛ لأنّه لم يصم صوماً تاماً.

قال في المدارك : واستدلّ المحقّق في المعتبر على هذا القول أيضاً بأنّ من عزم على السفر من الليل لم ينوِ الصومَ إلى آخر ما نقلنا عنه ، ثم قال : وهو استدلال ضعيف ،

١٢٢

فإنّا نمنع منافاة العزم على السفر لنيّة الصوم ، كما لا ينافيه احتمال طروء المسقط من الحيض ونحوه ؛ إذ الّذي ينوي الواجب من الصوم وغيره ، فإنّما ينويه مع بقائه على شرائط التكليف ، وقبل تحقق السفر الموجب للقصر يجب الصوم قطعاً ؛ إذ من الممكن عدم السفر وإن حصل العزم عليه ، فيجب بنية على هذا الوجه كما هو واضح (١).

أقول : عمدة مقصود المحقّق من الاستدلال بالآية هو إبطال مذهب الخصوم ، حيث أطلقوا وجوب الإفطار مع الخروج قبل الزوال أو مطلقاً ، وأمّا ما ذكره في رفع الإلزام فمَداره على مقدّمات ثلاث على ما فسّرنا به كلامه.

أحدها : عدم إمكان التعليق في نية العبادات ولزوم الجزم.

والثانية : عدم إمكان اجتماع إرادة السفر مع إرادة الصوم.

والثالثة : صحّة الصوم مع تجديد النيّة قبل الزوال.

وأمّا المقدّمة الثالثة فمسلّمة مدلول عليها بالأخبار.

وأما المقدّمتان الأوّلتان ؛ ومعيارهما إرادة مطلق العزم على السفر ، المجامع للعزم المشروط على الصوم ، كما هو مفاد الدليل الأوّل ، وإرادة العزم المطلق على السفر الذي لا يجامع العزم على الصوم مطلقاً.

فنقول : أمّا المقدّمة الثانية فتمام ؛ لأنّ فرض تحقّق العزم المطلق البات القاطع إنما يتمّ مع عدم التفطّن لضدّه ، ومع عدم التفطّن له لم يتحقّق القصد إلى الضدّ أصلاً ؛ لعدم اجتماع إرادتي الضدّين مع النية بالبديهة ، وإنكاره مكابرة.

ومع تفطّنه لإرادة الصوم ؛ فإما يجزم على عدمه ، فتمتنع إرادته ، أو يقصد فعله لو طرأ مانع ، وحينئذٍ فيلزمه التردّد في العزم على السفر.

وهذا خلف مثاله أنه من عزم على سفر شرعي لرفع ظلم عن مظلوم بعنوان الجزم من دون أن يتفطّن لأنّه إذا بلغ خبر الخلاص في أثناء الطريق قبل البلوغ إلى المسافة

__________________

(١) المدارك ٦ : ٢٩٠.

١٢٣

الموجبة للقصر يرجع جزماً ، ثمّ بلغ الخبر في أثناء الطريق ، فيجب عليه التقصير قبل بلوغ المسافة ما لم يبلغ إليه الخبر ، مع أنّه كان سفره في نفس الأمر معلقاً على عدم البداء لو تفطّن ، فهو عازم في أوّل السفر على التقصير ، ولا يمكنه إرادة الإتمام جزماً.

وأما لو تفطّن في أوّل الأمر لذلك ، فلا يجوز له التقصير إلا إذا قطع المسافة الشرعية ، فحينئذٍ يطرأ له حكم القصر.

وفيما نحن فيه إذا عزم السفر قطعاً بحيث لم يتفطّن لاحتمال طروء المانع حتى يعزم على الصوم بشرط حصول المانع من السفر أيضاً ، فحكم هذا عدم نية الصوم وعدم اجتماع النيتين ، فيصدق عليه أنه لم ينو الصيام ، فإذا لم يتفطّن حتى زالت الشمس فلم ينوِ الصوم ولم يتحقّق هناك صوم حتى يندرج تحت قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ).

وأما المقدّمة الأُولى فلا تتم ؛ لأنّ مع التفطّن لاحتمال طروء المانع عن السفر فيمكنه العزم على الصيام المشروط ، إنّما الكلام في كفاية هذه النية وعدمها.

فنقول : الأظهر نعم ، وما يشعر كلامه من أنّ الصوم المشروط في نيّته ليس بصوم ؛ ممنوع.

فإن قال : إنّ العبادة لا بدّ لها من نية ، وهي عبارة عن القصد الجازم إلى الفعل.

قلنا : لا دليل على ذلك.

فإن قال : إنّ النية من قبيل الإنشاء ، وهو لا يقبل التعليق ؛ إذ هو إثبات الحكم في حال النطق ، وهو لا يتمّ مع تقييده بما سيأتي.

قلنا : هو منقوض بالنذر المشروط زجراً أو شكراً ، وبالتدبير ، وغير ذلك ، بل يجري ذلك في كثير من العقود أيضاً ، مثل : بعتك هذه الفرس على أنّها حامل ، وأنكحت المرأة على أنّها باكرة ، أو من القبيلة الفلانية.

وما يتوهّم «أنّ صيغ العقود من الأسباب الشرعية ، وشأن السبب وجود المسبب بوجوده ، وانتفاؤه بانتفائه» فمدفوع بأنّ السبب هنا الصيغة مع الشرط.

١٢٤

وما ذكروه في بطلان البيع إذا علّق البيع على شرط مثل أن يقول : بعتك هذا إن جاء الفلاني ، فهو من دليل آخر.

وما ذكروه في عقد الوكالة من اشتراط التخيير فإنّ دليله هو الإجماع المنقول ، وإلا فهو أيضاً أوّل كلام ، ولذلك استشكل فيه المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله (١) وصاحب الكفاية (٢).

مع أنّ مرادهم من عدم صحّته في مثل «بعتك إن جاء فلان» هو أنّه لا يقع من الأصل ؛ لأنّ المراد تعليق تأثير العقد على مجي‌ء الفلاني ، وهو غلط ، بخلاف النكاح المشروط بالبكارة ، فإنّ السبب هنا تام ، غايته الخيار لو ظهر خلافه ، وفي مثال البيع المشروط أصل التأثير مشروط ، وهو ينافي السببية.

والحاصل أنّ الإنشاء ينافي التردّد ، ولا فرق بين صيغة البيع والنكاح وغيرهما ، بل ومثل النذر والتدبير أيضاً ، فما ذكروه من عدم جواز تعليقه على الشرط هو تعليق الإيقاع المستلزم للتردد ، فقولنا : بعت إن جاء زيد بالأمس مثلاً ، مقتضاه التوقّف والتردّد في الإيقاع ، وكذلك إن جاء غداً.

وكذلك الكلام في قولك : وكّلت فلاناً ؛ فتخصيص الوكالة باعتبار التخيير ، والإشكال من الفاضلين المتقدّمين إنّما هو ناظر إلى فعل الموكّل فيه ، لأنفس إنشاء التوكيل ، فإنّه لا إشكال في عدم جواز التعليق والتردّد فيه.

والكلام في «أنكحت» مثل ما ذكر ، فالمفروض في المثال المذكور البتّ والجزم بإيقاع النكاح ، وهو غير منافٍ لاشتراطه بالبكارة ، فمعنى النكاح بشرط البكارة هو الجزم بإيقاع النكاح باعتقاد البكارة ، وعلى فرض البكارة ، وهو لا ينافي احتمال عدم البكارة ، فلو فرض أن يكون المراد أوقعت النكاح إن كانت باكرة فهو أيضاً باطل.

والفرق واضح بين قولنا : بعت إن جاء زيد ، وبعت الفرس بشرط الحمل.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٩ : ٥٣٣.

(٢) كفاية الأحكام : ١٢٨.

١٢٥

وبهذا يندفع ما قد يستشكل في صحّة عقد النكاح مع تكرارها بالصيغ المختلفة ، بتقريب أنّه غير جازم في صحّة العقد بكلّ منهما ، فلم يتحقق إنشاء صحيح ، فيبطل الكل.

ووجه الدفع : أنّ التردد إنما هو في الوقوع بهذه الصيغة وهذه ، لا في الإيقاع.

فنقول : إنّ النيّة إذا كانت من قبيل الإنشاء ، فالذي يُنافيه إنّما هو التردّد في الإيقاع والقصد ، لا بالتردّد في الوقوع ، بل ولا ينافي الترديد ، مثل أن يعطي فقيراً شيئاً مردّداً بين الزكاة والصدقة لمن احتمل اشتغال ذمّته بزكاة واجبة. وكذلك من يردّد بين القضاء والأداء في صلاة الصبح إذا ضاق وقتها وخاف فوت الوقت بسبب الاستعلام ، فهو جازم بالإنشاء والإثبات مع الترديد.

والحاصل : أنّ التردّد في الوقوع واللاوقوع إن كان مضرّاً في النية للزم عدم صحّة صلاة أحد ؛ لاحتمال طروء المبطل في الأثناء غالباً.

ولا حاجة إلى تأويل نيّة الصلاة بإرادة الشروع فيها ؛ بتقريب أنّ الشروع فيها واجب ، والاستمرار عليها واجب آخر ، والإتيان بمجموعها واجب آخر ؛ إذ يكفي الجزم بإيقاع الجميع في أوّل العبادة ، نظراً إلى الظاهر من ظنّ البقاء.

فنقول : فيما نحن فيه إذا كان في الليل جازماً بالسفر ، فهو وإن كان ينافي الجزم بالصوم ؛ لكنه إنما ينافي الجزم بالصوم البات المقطوع ، ولا ينافي الجزم بالصوم المشروط ، فكما أنّه لا ينافي طروء المانع من السفر بسبب مرض أو مانع آخر وإن كان حصول البداء لنفسه للجزم فكذلك لا ينافي الجزم بالصوم إذا حصل المانع من السفر لجزم السفر ، فهناك يصحّ أن ينوي الصوم غداً جزماً إن حصل المانع عن السفر المجزوم به ، كما يصحّ ثمّة أن ينوي السفر غداً جزماً إن لم يحصل مانع.

فإذا صحّ هذا القصد ، فنقول : إنّ مقتضى الأصل والعمومات وجوب الصوم على من شهد الشهر ، وهو مندرج فيه ، والذي ينافيه الجزم إنّما هو فعليّة السفر ، وخروجه إلى السفر ، لا مجرد قصده ، فيجب عليه الصوم وإتمامه.

١٢٦

إذا تحقّق لك ما قلنا ، ظهر لك أنّ إيراد صاحب المدارك (١) على إطلاقه غير صحيح ، فإنّه لم ينزّل كلام المحقّق على ما رامه (٢).

فالأحسن التفصيل وتسليم ما ذكره فيما سلّمناه ، والردّ عليه فيما رددناه.

نعم يَرد على ما ذكره المحقق ثانياً ، أعني قوله : وإذا عزم من الليل لم ينوِ الصوم ، أنّ حاصله أنّ من عزم من الليل فهو غير ناوٍ للصوم ؛ لمنافاة نيّة الصوم مع نيّة السفر ، وليس ذلك إلا لمنافاة السفر مع الصوم ، فكما أنّ نفس السفر منافٍ لنفس الصوم ، فنيّته أيضاً منافية لنيّته.

وحينئذٍ فنقول : إن أراد أنّ مطلق السفر منافٍ لمطلق الصوم ، فهو لا يقول به ، بل يقول : إنّ السفر المنوي من الليل إنّما هو منافٍ له لا غير ، والخصم أيضاً لا يسلّمه إذا كان بعد الزوال.

وإن أراد أنّ السفر المنوي من الليل ينافيه ، فإنّه وإن كان يسلّمه الخصم إذا كان قبل الزوال ، ولكن لا يسلّمه إذا كان بعد الزوال ، ومذهب المحقّق التعميم.

والاعتماد على الأخبار الاتية لو تمّ ، فهو خروج عن هذا الاستدلال ؛ إذ هو نمط آخر ، إلا أن يكون مراده بيان نية السفر قبل الزوال فقط ، فيكون دليله أخصّ من المدّعى.

ومع ذلك ففيه توهم دور ؛ وتقريره : أنّ قولنا نيّة السفر قبل الزوال المسبوق بنيته ليلاً في الليل منافية لنيّة الصوم في الليل ؛ مستلزم لتقدّم نيّته ليلاً على نيّته في الليل.

ويمكن دفعه : بأنّ الدور معي لا توقّفي ، وتقريره : أنّ مع العزم على السفر قبل الزوال يصدق عليه أنّه عزم على السفر قبل الزوال الذي هو مسبوق بالتبييت ، لا مطلق السفر قبل الزوال ، وإن كانت صيرورته سفراً قبل الزوال مع سبق التبييت بهذا العزم ، وكونه منافياً للصوم مسلّم له ولخصمه.

فظهر مما ذكرنا : أنّه لا بدّ للمحقق أيضاً أن يقول : إنّ تبييت نيّة السفر إنّما يضرّ إذا

__________________

(١) المدارك ٦ : ٢٩٠.

(٢) المعتبر ٢ : ٧١٥.

١٢٧

كان قصده الخروج قبل الزوال وإن أفاد كلامه الإطلاق ، اللهم إلا أن يتمسك بالأخبار ، وقد عرفت أنّه خروج عن هذا النمط من الاستدلال ، وسيجي‌ء الكلام على استدلاله بالأخبار.

ويدلّ على هذا القول أيضاً الإجماع المنقول في الخلاف.

وما رواه الشيخ في الكتابين في الصحيح ، عن صفوان بن يحيى ، عمن رواه ، عن أبي بصير ، قال : «إذا خرجت بعد طلوع الفجر ولم تنوِ السفر من الليل فأتمّ الصوم واعتد به من شهر رمضان» (١).

وبالإسناد السابق عن صفوان ، عن سماعة وابن مسكان ، عن رجل ، عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إذا أردت السفر في شهر رمضان فنويت الخروج من الليل ، فإن خرجت قبل الفجر أو بعده فأنت مفطر وعليك قضاء ذلك اليوم» (٢).

وفي الموثّق عن عليّ بن يقطين ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام : في الرجل يسافر في شهر رمضان ، أيفطر في منزله؟ قال : «إذا حدّث نفسه في الليل بالسفر أفطر إذا خرج من منزله ، وإن لم يحدّث نفسه من الليل ، ثمّ بدا له في السفر من يومه أتمّ صومه» (٣).

وفي الموثّق بالحسن بن عليّ بن فضّال وهو الأظهر ، أو الحسن بالحسن بن عليّ بن إلياس الوشاء كما فسّره به المحدّث الحر العاملي رحمه‌الله وليس ببعيد أيضاً ؛ لأنّهما من أصحاب الرضا عليه‌السلام ، عن رفاعة والظاهر أنّه النخّاس الثقة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان حين يصبح ، قال : «يتمّ صومه ذلك» (٤) الحديث.

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٢٨ ح ٦٧٠ ، الاستبصار ٢ : ٩٨ ح ٣٢٠ ، الوسائل ٧ : ١٣٣ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١٢.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٢٩ ح ٦٧٣ ، الاستبصار ٢ : ٩٩ ح ٣٢٣ ، الوسائل ٧ : ١٣٣ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١٣.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٢٨ ح ٦٦٩ ، الاستبصار ٢ : ٩٨ ح ٣١٩ ، الوسائل ٧ : ١٣٣ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١٠.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٢٨ ح ٦٦٨ ، الاستبصار ٢ : ٩٨ ح ٣١٨ ، الوسائل ٧ : ١٣٢ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٥ ، وانظر معجم رجال الحديث رقم ١٥٥٣٦ ، ١٥٠٤١.

١٢٨

وعن الصفّار ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن رجل ، عن صفوان ، قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل خرج من بغداد يريد أن يلحق رجلاً على رأس ميل ، إلى أن قال : «ولو أنّه خرج من منزله يريد النهروان ذاهباً وجائياً ، لكان عليه أن ينوي من الليل سفراً والإفطار ، فإن هو أصبح ولم ينو السفر ، فبدا له من بعد أن أصبح في السفر ، قصّر ولم يفطر يومه ذلك» (١).

حجّة المفيد (٢) ومن تبعه (٣) : ما رواه الكليني والشيخ في الحسن لإبراهيم بن هاشم ، والصدوق في الصحيح ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّه سئل عن الرجل يخرج من بيته يريد السفر وهو صائم ، فقال : «إن خرج قبل الزوال فليفطر وليقض ذلك اليوم ، وإن خرج بعد الزوال فليتم يومه» (٤).

وما رواه الكليني في الحسن بإبراهيم أيضاً ، عن عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل يسافر في شهر رمضان ، يصوم أو يفطر؟ قال : «إن خرج قبل الزوال فليفطر ، وإن خرج بعد الزوال فليصم ، قال : ويعرف ذلك بقول عليّ عليه‌السلام : أصوم وأفطر ، حتى إذا زالت الشمس عزم عليّ ، يعني الصيام» (٥).

والكليني والشيخ والصدوق في الصحيح ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا سافر الرجل في شهر رمضان فخرج بعد نصف النهار فعليه صيام ذلك اليوم ، ويعتدّ به من شهر رمضان» (٦) الحديث.

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٢٥ ح ٦٦٢ ، الاستبصار ٢ : ٢٢٧ ح ٨٠٦ ، الوسائل ٧ : ١٣٣ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١١ ، وج ٥ : ٥٠٣ أبواب صلاة المسافر ب ٤ ح ١.

(٢) المقنعة : ٣٥٠.

(٣) كأبي الصلاح في الكافي في الفقه : ١٨٢.

(٤) الكافي ٤ : ١٣١ ح ١ ، الفقيه ٢ : ٩٢ ح ٤١٢ ، التهذيب ٤ : ٢٢٨ ح ٦٧١ ، الاستبصار ٢ : ٩٩ ح ٣٢١ ، الوسائل ٧ : ١٣١ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٢.

(٥) الكافي ٤ : ١٣١ ح ٣ ، الوسائل ٧ : ١٣٢ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٣.

(٦) الكافي ٤ : ١٣١ ح ٤ ، التهذيب ٤ : ٢٢٩ ح ٦٧٢ ، الاستبصار ٢ : ٩٩ ح ٣٢٢ ، الفقيه ٢ : ٩٢ ح ٤١٣ ، الوسائل ٧ : ١٣١ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١.

١٢٩

والكليني في الموثّق ، عن عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا خرج الرجل في شهر رمضان بعد الزوال أتمّ الصيام ، وإذا خرج قبل الزوال أفطر» (١).

حجّة عليّ بن بابويه ومن تبعه (٢) : قوله تعالى (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (٣).

وعموم صحيحة معاوية بن عمار : «متى قصّرت أفطرت» (٤).

وخصوص ما رواه الشيخ ، عن عبد الأعلى مولى آل سام : في الرجل يريد السفر في شهر رمضان ، قال : «يفطر ، وإن خرج قبل أن تغيب الشمس» (٥).

حجّة ما استقربه في المختلف أخيراً (٦) : ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن رفاعة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يريد السفر في رمضان ، قال : «إذا أصبح في بلده ثمّ خرج ، فإن شاء صام ، وإن شاء أفطر» (٧).

وحجّة ما مال إليه في المدارك (٨) إطلاق هذه الصحيحة ؛ لعدم تقييدها بما بعد الزوال.

إذا تقرّر ذلك فنقول : أما حجّة عليّ بن بابويه ومن تبعه فمندفعة بمنع عموم الآية ، حتى أنّ بعض المفسّرين قال : في العدول من قوله : «مسافرين» إلى قوله : «على سفر» إيماء إلى أنّ من سافر في بعض اليوم لم يفطر ؛ لأنّ لفظ على يدلّ على الاستعلاء والاستيلاء ، فيكون المراد : إن كنتم على سفر يعتدّ به ويعدّ سفراً (٩).

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٣١ ح ٢ ، الوسائل ٧ : ١٣٢ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٤.

(٢) كالسيّد في الجمل (رسائل الشريف المرتضى) : ٩١.

(٣) البقرة : ١٨٥.

(٤) الفقيه ١ : ٢٨٠ ح ١٢٧٠ ، الوسائل ٧ : ١٣٠ أبواب من يصح منه الصوم ب ٤ ح ١.

(٥) التهذيب ٤ : ٢٢٩ ح ٦٧٤ ، الاستبصار ٩٩٢ ح ٣٢٤ ، الوسائل ٧ : ١٣٤ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١٤.

(٦) المختلف ٣ : ٤٧٥.

(٧) التهذيب ٤ : ٣٢٧ ح ١٠١٩ ، الوسائل ٧ : ١٣٢ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٧.

(٨) المدارك ٦ : ٢٩٠.

(٩) تفسير البيضاوي ١ : ١٦٩.

١٣٠

ولو سلّم فهو مخصوص بالأخبار المستفيضة جدّاً ، والإجماع المنقول على عدم جواز الإفطار بعد الزوال ، كما سننقله عن الشيخ (١).

وكذلك الجواب عن الصحيحة بمنع العموم أولاً ، ثمّ بالتخصيص ؛ لأنّها مطلقة ، والأخبار الواردة في الباب مفصّلة ، والمفصّل حاكم على المطلق.

وأما الرواية فضعيفة مقطوعة لا يمكن الاعتماد عليها ، ومع ذلك فمعارضة بما يدلّ على التمام عموماً وخصوصاً كما مرّ وسيجي‌ء.

وأما حجّة العلامة في المختلف (٢) ؛ فمع أنّه لم يوجد قائل به إلى زمانه لا يعارض بها الأخبار المستفيضة جدّاً ، فإنّ التفصيلات المذكورة في الأخبار تنافي التخيير ، سيّما مع تقييدها بما بعد الزوال ؛ إذ ليس في الرواية منها عين ولا أثر. مع أنّ التخيير إنّما يتمّ مع المكافأة ، وهي منتفية كثرة وعملاً واعتضاداً ، ومع ترجيح أحد الطرفين فترجيح المرجوح قبيح.

ومنه يظهر ضعف ما اختاره في المدارك أيضاً (٣) ، خصوصاً مع دعوى الشيخ الإجماع على عدم جواز الإفطار بعد الزوال.

بقي الكلام في القولين الأوّلين وحجّتهما ، وهما أقوى الأقوال.

فنقول : إنّ النسبة بين أخبار الطرفين عموم من وجه ، فإنّ مقتضى اشتراط تبييت نيّة السفر وجوب الصوم بدونه سواء خرج قبل الزوال أو بعده ، ومقتضى ما دلّ على اشتراط الإفطار بالخروج قبل الزوال الإفطار قبله سواء تُبيّت نيّة السفر أم لا ، ولا بدّ للترجيح من مرجّح.

ويمكن ترجيح الاولى بأكثريتها وأوفقيتها بالأخبار الدالّة على التمام مطلقاً ، مثل موثقة سماعة على الظاهر ، قال : سألته عن الرجل ، كيف يصنع إذا أراد السفر؟ قال :

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٢٠٤.

(٢) المختلف ٣ : ٤٧٥.

(٣) المدارك ٦ : ٢٩٠.

١٣١

«إذا طلع الفجر ولم يشخص فعليه صيام ذلك اليوم ، وإن خرج من أهله قبل طلوع الفجر فليفطر ولا صيام عليه» (١).

وروايته الأُخرى القويّة بعثمان بن عيسى ، قال ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من أراد السفر في رمضان فطلع الفجر وهو في أهله فعليه صيام ذلك اليوم ، وإذا سافر لا ينبغي أن يفطر اليوم وحده ، وليس يفرق التقصير والإفطار ، ومن قصّر فليفطر» (٢).

ورواية سليمان بن جعفر الجعفري ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الرجل ينوي السفر في شهر رمضان فيخرج من أهله بعد ما يصبح ، قال : «إذا أصبح في أهله فقد وجب عليه صيام ذلك اليوم ، إلا أن يدلج دلجة» (٣).

وظاهرها اشتراط الدلجة في السفر ، وهو الخروج آخر الليل ، فإنّ ظاهر الروايات الثلاث أنّ من لم يخرج قبل الصبح يجب عليه التمام إذا سافر سواء بيّت أو لم يبيت.

ولم نقف على قائل بإطلاقها ، وادعاء ظهورها فيمن لم يبيت أيضاً مشكل ، والأولى حملها مع القدح في إسنادها على التقية ، فإنّ مذهب الشافعي ومالك والأوزاعي ومكحول والزهري ويحيى الأنصاري وأصحاب الرأي وأحمد في إحدى الروايتين عدم إباحة الإفطار في اليوم الذي يسافر فيه وحده على ما نقل عنهم في التذكرة (٤).

وعلى هذا فيمكن تنزيل موثّقة رفاعة المتقدّمة (٥) على مقتضى هذه الأخبار ، ومقتضى الكل التفصيل بالخروج قبل الصبح وبعده ، فيفطر في الأوّل دون الثاني ، لا ملاحظة تبييت نية السفر وعدمه.

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٣٢٧ ح ١٠٢٠ ، الوسائل ٧ : ١٣٢ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٨.

(٢) التهذيب ٤ : ٣٢٨ ح ١٠٢١ ، الوسائل ٧ : ١٣٣ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٩.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٢٧ ح ٦٦٧ ، الاستبصار ٢ : ٩٨ ح ٣١٧ ، الوسائل ٧ : ١٣٢ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٦.

(٤) المغني ٣ : ٣٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢ ، التذكرة ٦ : ١٥٩.

(٥) التهذيب ٤ : ٣٢٧ ح ١٠١٩ ، الوسائل ٧ : ١٣٢ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٧.

١٣٢

ويمكن تنزيل رواية أبي بصير الأُولى (١) أيضاً على ذلك ؛ بإرادة نية السفر من الليل مع خروجه فيه.

ومن ذلك يظهر الضعف في دلالات سائر الروايات أيضاً.

ومع ذلك فلا يبقى وجه للترجيح من جهة الأكثرية أيضاً.

وقد يتوهّم الترجيح لها من جهة كونها بمنزلة الخاص المطلق ؛ لعدم وضوح دلالتها على حكم ما بعد الزوال صريحاً ، وظهورها فيما قبل الزوال ، سيّما مع ملاحظة الإجماع الذي سننقله عن الشيخ على عدم جواز الإفطار بعد الزوال.

وإن أبيت فحينئذٍ تعارضها مع أخبار المفيد فيما قبل الزوال ، ومقتضى أخبار المفيد وجوب الإفطار قبل الزوال مطلقاً ، ومقتضى تلك جوازه قبل الزوال إذا بيّت نيّة السفر.

وفيه : أنّ أوضح تلك الأخبار دلالة هي موثّقة عليّ بن يقطين ، وما ينفعهم في الاستدلال هي الشرطيّة الأخيرة التي هي بعينها مفهوم الشرطية الأُولى ، يعني أنّه مع عدم التبييت لا يفطر ، وهذا عام لما بعد الزوال ، وإذا سقطت حجيتها فيما بعد الزوال للإجماع أو غيره بقي مقتضى حكمها قبل الزوال ، وهو لا ينافي مقتضى دلالتها ؛ إذ كون المدار في الترجيحات من حيث الدلالة غير ثبوت المدلول وعدمه ، فلو فرضنا عاما وخاصاً انحصرت أفراد العام في ذلك الخاص ، فيرجح الخاص على العام ؛ لأن الخاص من حيث إنّه خاصّ مقدّم على العام من حيث هو ، وإن لم يوجد في الخارج فرد آخر لذلك العام. وانحصار حجيّة العام في بعض الأفراد لا ينفي عموم دلالته ، ولا يجعله خاصاً.

نعم لو فرض التنصيص على عدم جواز الإفطار قبل الزوال لو لم يبيت النية ، لكان خاصاً بالنسبة إلى ما دلّ على وجوب الإفطار قبل الزوال ، وليس هنا تنصيص ،

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٢٨ ح ٦٧٠ ، الاستبصار ٢ : ٩٨ ح ٣٢٠ ، الوسائل ٧ : ١٣٣ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١٢.

١٣٣

فالدلالة باقية على حالها عامة ، ودلالته على عدم جواز الإفطار بدون التبييت في حال قبل الزوال ليس دلالة على ذلك بشرط قبل الزوال.

هذا مع أنّ النسبة بين الإجماع المنقول وأخبار التبييت أيضاً عموم من وجه كما لا يخفى ؛ إذ مقتضاه عدم جواز الإفطار بعد الزوال بيّت النية أم لا ، ومقتضاها عدم جواز الإفطار مع عدم التبييت سواء كان قبل الزوال أو بعده.

وأما ما يمكن أن يرجّح به أدلة المفيد وتابعيه ، فهي أنّها أوضح سنداً ؛ لصحة أكثرها ، وكون بعضها بمنزلة الصحيح ، ولم يوجد في الطرف الأخر ما يخلو سنده عن شي‌ء ، وإن كان أكثرها لا يخلو عن قوّة ، وأيضاً فهي مكررة في الاصول ، سيما الكافي والفقيه ، بخلاف الأخبار الأوّلة ، وذلك من أعظم المرجّحات ، وأيضاً فدلالتها أوضح كما لا يخفى.

ويمكن أن يقال : اشتراط التبييت مبنيّ على الغالب ، فإنّ الغالب في المسافرين أنهم قاصدون في الليل ، ولكنه لا يجري في مثل موثّقة عليّ بن يقطين ، حيث استوى على ذكر القيد نفياً وإثباتاً.

وأيضاً اندراج هذا المضمون تحت قوله تعالى (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) أوضح من اندراجه تحت قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (١) فيكون أوفق بالكتاب والسنة ، سيّما مثل قوله عليه‌السلام : «إذا قصّرت أفطرت» (٢).

وأيضاً فهو أوفق بالملّة السمحة السهلة ، ووضع القصر وتسنينه ، ونفي العسر والحرج ، وإرادة اليسر مما دلّ عليه الكتاب والسنة.

وأيضاً فحكم ما بعد الزوال في هذه الأخبار واضح لا غبار فيه ، بخلاف تلك الأخبار ، ولذلك اضطرب أصحاب تلك الأخبار فيها ، بخلاف هذه.

وأيضاً هذه الأخبار أوفق بطريق الإماميّة من التزام التقصير في السفر ، بخلاف

__________________

(١) البقرة : ١٨٥ ، ١٨٧.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٣ ، الوسائل ٧ : ١٢٨ أبواب من يصح منه الصوم ب ٢ ح ٤.

١٣٤

تلك ، فإنّها أوفق بطريقة العامة كما مرّ ، فهي أولى بالإعراض من هذه.

وبهذا يندفع ما يتوهّم من ترجيح تلك من جهة أنّ العمل عليها لا يوجب سقوط هذه ، بخلاف العكس.

وبالجملة فالأظهر العمل على هذه الأخبار ، وإن كان الأحوط أن لا يسافر قبل الزوال إلا مع تبييت نيّة السفر ، فإذا لم يبيّت وخرج قبل الزوال صام وقضى.

وتتميم المقام يحتاج إلى ذكر أُمور :

الأوّل : اختلف القائلون باعتبار التبييت في حكم الخروج بعد الزوال فذهب الشيخ في النهاية والجمل والاقتصاد إلى لزوم الإمساك والقضاء معاً (١) ، وهو المنقول عن صريح أبي الصلاح (٢) وابن البراج (٣) ، وهو لازم كلام المعتبر (٤).

ونقل عن ابن حمزة وجوب الصوم والقضاء جميعاً ، ولكن كلامه أعمّ من صورة التبييت (٥).

وقال في المبسوط : من سافر من بلده في شهر رمضان ، وكان خروجه قبل الزوال ، فإن كان بيّت نيّة السفر أفطر وعليه القضاء ، وإن كان بعد الزوال لم يفطر ، وسكت عن القضاء (٦).

وعبارته هذه تحتمل صحّة الصوم ، فلا يجب عليه القضاء ، بأن يحمل على النهي عن الإفطار ، كما هو الظاهر من المنع عن الإفطار.

بل نقول : إنّ التعبير بكلمة «لم» يفيد أن الخروج حينئذٍ غير مفطر ، بخلاف الخروج

__________________

(١) النهاية : ١٦١ ، الجمل والعقود (الرسائل العشر) : ٢٢١ ، الاقتصاد : ٢٩٥.

(٢) الكافي في الفقه : ١٨٢.

(٣) المهذّب ١ : ١٩٤.

(٤) المعتبر ٢ : ٧١٥.

(٥) الوسيلة : ١٤٩.

(٦) المبسوط ١ : ٢٨٤.

١٣٥

ما قبل الزوال.

وتحتمل إرادة لزوم الإمساك وإن وجب القضاء ، فيكون موافقاً للنهاية وغيرها.

والاحتمال الأوّل هو الظاهر من الخلاف ، فإنه قال فيه : إذا تلبّس بالصوم أوّل النهار ثمّ سافر آخر النهار ، لم يكن له الإفطار ، وبه قال جميع الفقهاء إلا أحمد فإنّه قال : يجوز أن يفطر ، دليلنا أنّ جواز ذلك يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه ، وأيضاً عليه إجماع الفرقة ، وأيضاً قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (١) وذلك يقتضي حرمة الإفطار بعد الدخول فيه.

وذهب في كتابي الأخبار إلى أنه مخيّر بين إتمام الصوم والإفطار والأفضل الإتمام ، ويظهر منه أنه يصح صومه لو لم يفطر ولا قضاء عليه (٢).

إذا عرفت هذه ، فاعلم أنّ موافقة هذه الأقوال كلّها محتملة ، بأن يريد كلّهم وجوب الإمساك والقضاء لا الصوم الحقيقي إلا كتابي الأخبار ، فإنّ الاستحباب ينافي الوجوب ، وكذلك التخيير ، بل احتمال إرادة الإمساك دون الصوم الحقيقي قائم فيه أيضاً.

وأما دليل هذه الأقوال ، فأما دليلهم على حرمة الإفطار فهو ظاهر موثّقة رفاعة (٣) وغيرها (٤) والإجماع المنقول في الخلاف ، ولكنهما ظاهران في أنّه صام بالصوم الحقيقي.

وتؤيّده أخبار مذهب المفيد الدالّة على وجوب الصيام على من خرج بعد الزوال بإطلاقها (٥) ؛ لثبوت الحقيقة الشرعية في الصوم الحقيقي ، مع أنّ صحيحة محمّد بن مسلم مصرّحة بالاعتداد به من شهر رمضان (٦).

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٢٠٤.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٢٨ ، الاستبصار ٢ : ٩٨.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٢٨ ح ٦٦٨ ، الاستبصار ٢ : ٩٨ ح ٣١٧ ، الوسائل ٧ : ١٣٢ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٥.

(٤) الوسائل ٧ : ١٣١ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥.

(٥) الوسائل ٧ : ١٣١ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥.

(٦) الكافي ٤ : ١٣١ ح ٤ ، الفقيه ٢ : ٩٢ ح ٤١٣ ، التهذيب ٤ : ٢٢٩ ح ٦٧٢ ، الاستبصار ٢ : ٩٩ ح ٣٢٢ ، الوسائل ٧ : ١٣١ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١.

١٣٦

وأما قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فيشكل الاستدلال به على إرادة الإمساك المجرد ، فلم يظهر دليل على حرمة الإفطار مع القول ببطلان الصوم إلا احتمال الإجماع المنقول ، لإرادة وجوب الإمساك تعبّداً ، لا لأنّه صوم ، وهو خلاف ظاهر عبارة الخلاف كما عرفت.

وأما دليل وجوب القضاء فلعلّه عمومات وجوب القضاء على المسافر ، سيما وقوله تعالى (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (١) ، لا تصريح فيه بالإفطار ، فإنّها شاملة لكلّ من لم يصم صوماً حقيقياً ، سواء أمسك بدون الصوم الحقيقي أو لم يمسك ، ومن أمسك بنية الصوم الحقيقي وإن كان باطلاً في نفسه ، فإنّ الظاهر منها أنّ المسافر يبطل صومه بنفس السفر ويجب عليه أيام أُخر ، لا أنّه إن كان شيئاً مثلاً فيجب عليه القضاء.

والجواب : منع العموم أوّلاً ، وتخصيصها بما ذكرنا ثانياً.

وبالجملة الحكم بوجوب الإمساك والقضاء معاً لا دليل عليه ، والأصل براءة الذمّة من زيادة التكليف.

وأما دليل الشيخ في كتابي الأخبار (٢) فهو محض الجمع بين رواية عبد الأعلى (٣) وما دلّ على عدم جواز الإفطار إذا خرج بعد الزوال عموماً (٤) ، وهو أيضاً مشكل ؛ لأنّه موقوف على المقاومة ، وليس مطلق الجمع بين الأخبار دليلاً يعتمد عليه.

وهذا كلّه مما يضعف القول باعتبار التبييت وعدمه ؛ إذ لا يكاد ينطبق هذا القول بتمامه على دليل يُعتمد عليه.

فأقوى الأقوال إذن قول المفيد (٥) أعني وجوب الإفطار إذا خرج قبل الزوال مطلقاً ،

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٢٨ ، الاستبصار ٢ : ٩٨.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٢٩ ح ٦٧٤ ، الاستبصار ٢ : ٩٩ ح ٣٢٤ ، الوسائل ٧ : ١٣٤ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١٤.

(٤) الوسائل ٧ : ١٣١ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥.

(٥) انظر المقنعة : ٣٥٤.

١٣٧

وصحّة الصوم ووجوب إتمامه إذا خرج بعده ، ولا يضرّ تبييت النية.

ولكن لا بد أن يقيد بعدم فقد نية الصوم وإن كان متردداً فيها ، فلو فرض عدمها مطلقاً ، بأن يقصد عدم الصوم لزعم منافاة نيته مع نية السفر ، أو لعدم تفطّنه له أصلاً كما حقّقناه سابقاً ، فلا يصحّ صومه حينئذٍ إذا خرج بعد الزوال ، وإن وجب عليه الإمساك ، كما في نظرائه.

وأما قبل الزوال فيجدّد النية لو تفطّن له ، أو ظهر له أنه كان واجباً عليه لو كان تفطّنه في الليل.

ولعلّ هذا أيضاً هو مراد المفيد ، فلا يلزم بذلك خرق الإجماع المركّب.

والأحوط أن لا يسافر إلا مع التبييت ، وإن سافر وخرج قبل الزوال مع عدم تبييت النيّة أن يصوم ويقضي ، وكذا لو خرج بعد الزوال مع التبييت أن يمسك بقصد التقرّب ، مردّداً بين كونه صوماً ، كما هو المختار وأحد محتملي القائلين باعتبار التبييت ، أو إمساكاً تعبدياً كما هو المحتمل الأخر ، ثمّ يقضيه (١).

الثاني : الظاهر أنّ القول باعتبار التبييت وعدمه إنّما يتمّ على تقدير تسليمه إذا نوى في الليل الخروج قبل الزوال ، أو مطلق الخروج من دون التفات إلى ما قبل الزوال وما بعده ؛ لأنّ الذي يمكن تسليمه في إبطال الصوم على المشهور هو الخروج قبل الزوال ، كما هو صريح قول المفيد وأتباعه ، وظاهر أكثر القائلين بالتبييت ، ومحتمل جميعهم ، وعدم اجتماع نية السفر مع نية الصوم كما هو ظاهر المحقق أيضاً على فرض تسليمه إنما يسلم حينئذٍ.

الثالث : الظاهر عدم اشتراط تعيين وقت الخروج في التبييت مع الإشكال في صحّته إذا قصده بعد الزوال كما مرّ ، وكذا تكفي نيته في أيّ جزء من أجزاء الليل.

ولكن الظاهر اشتراط نيّة الخروج من البلد في ذلك اليوم إلى حدّ الترخص ؛ لأنّ

__________________

(١) المقنعة : ٣٥٤ ، المنتهي ٢ : ٥٩٩.

١٣٨

الظاهر أنّ المراد بالسفر هو السفر الشرعي الجامع لشرائط القصر ، وإن لم نقل بثبوت الحقيقة الشرعية فيه ، فلا يكفي قصد الخروج ما دونه ، وإن اتفق الخروج إلى ما فوقه.

وأما اعتبار الخروج إلى حدّ الترخّص على المذهب المختار فمشكل ، فلو زالت الشمس قبل بلوغه حدّ الترخص ففي جريان الحكم فيه إشكال ، من جهة الإطلاقات ، ومن جهة عدم صدق المسافر شرعاً ، ولعلّ الأخير أقوى ؛ وفاقاً للمسالك والروضة (١).

هذا كلّه بالنظر إلى تحقّق صيرورة ذلك اليوم محلا للإفطار ، وأما أصل الإفطار فلا ريب في اشتراطه مطلقاً.

الثاني : الحق وجوب الإفطار على كل من يجب عليه القصر ، وبالعكس لما رواه الصدوق والشيخ في الصحيح ، عن معاوية بن وهب ، عن الصادق عليه‌السلام : وفي آخرها : «إذا قصّرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصّرت» (٢).

وموثّقة سماعة المتقدّمة في المبحث السابق ، عنه عليه‌السلام ، قال : «ليس يفرق التقصير والإفطار ، ومن قصر فليفطر» (٣).

وما رواه الصدوق في الصحيح والكافي في سند ليس فيه إلا سهل ، عنه عليه‌السلام ، عن عمار بن مروان قال : سمعته يقول : «من سافر قصّر وأفطر ، إلا أن يكون رجلاً سفره إلى صيد ، أو في معصية الله ، أو رسولاً لمن يعصي الله ، أو في طلب شحناء ، أو سعاية ضرر على قوم مسلمين» (٤).

ويدلّ عليه : عموم ما دلّ على التقصير والإفطار في السفر ، فإن قوله تعالى :

__________________

(١) المسالك ٢ : ٨٣ ، الروضة البهيّة ٢ : ١٠١.

(٢) الفقيه ١ : ٢٨٠ ح ١٢٧٠ ، التهذيب ٣ : ٢٢٠ ح ٥٥١ ، الوسائل ٧ : ١٣٠ أبواب من يصح منه الصوم ب ٤ ح ١.

(٣) التهذيب ٤ : ٣٢٨ ح ١٠٢١ ، الوسائل ٧ : ١٣٣ أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ٩.

(٤) الكافي ٤ : ١٢٩ ح ٣ ، الفقيه ٢ : ٩٢ ح ٤٠٩ ، التهذيب ٤ : ٢١٩ ح ٦٤٠ ، الوسائل ٥ : ٥٠٩ أبواب صلاة المسافر ب ٨ ح ٣.

١٣٩

(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (١) يشمل ما لو وجب عليه قصر الصلاة أو لم يجب ، وكذلك (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا) ، غير ذلك من الأخبار الكثيرة ، سيما ما ورد بمضمون رواية عمار بن مروان.

ووقع الاختلاف في مواضع :

الأوّل : فيما إذا كان السفر للصيد للتجارة فذهب الشيخ في النهاية إلى وجوب الإفطار وإتمام الصلاة (٢) ، تبعاً للمفيد (٣).

وعن المبسوط : روى أصحابنا أنه يتم الصلاة ويفطر الصوم (٤) ، وإن نسب الفاضلان إليه العكس (٥) ، قيل : هو آتٍ من عثرات القلم.

وعن ابن إدريس : روى أصحابنا بأجمعهم أنّه يتمّ الصلاة ويفطر الصوم ، وكلّ سفر أوجب التقصير في الصوم أوجب التقصير في الصلاة إلا هذه المسألة فحسب ؛ للإجماع عليها (٦). وهذا القول منقول عن علي بن بابويه (٧) ، وابن حمزة (٨) وابن البراج (٩).

ويظهر من المحقق في مختصريه التردّد (١٠) ، وفي المعتبر بعد ما نقل القول عن الشيخ ، قال : وتابعه جماعة من الأصحاب ، ونحن نطالبه بدلالة الفرق ، ونقول : إن كان مباحاً قصّر فيهما ، وإن لم يكن أتمّ فيهما (١١).

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) النهاية : ١٢٢.

(٣) المقنعة : ٣٤٩.

(٤) المبسوط ١ : ١٣٦.

(٥) انظر المعتبر ٢ : ٤٧١ ، والمختلف ٣ : ٩٦.

(٦) السرائر ١ : ٣٢٧.

(٧) نقله عنه في المختلف ٣ : ٩٦.

(٨) الوسيلة : ١٠٩.

(٩) المهذّب ١ : ١٠٦.

(١٠) الشرائع ١ : ١٢٤ ، المختصر النافع : ٧١.

(١١) المعتبر ٢ : ٤٧١.

١٤٠