تفسير المراغي - ج ٢٢

أحمد مصطفى المراغي

وهذا أسلوب من الكلام المنصف تستعمله العرب في محاورتها لإرخاء العنان للمخاطب حتى إذا سمعه الموافق أو المخالف قال لمن خوطب به لقد أنصفك صاحبك.

ألا ترى الرجل يقول لصاحبه : قد علم الله الصادق منى ومنك ، وإن أحدنا لكاذب ، وعليه قول حسان يخاطب أبا سفيان بن حرب وكان قد هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلّم :

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

وفي ذكر هذا بعد ما تقدمه من الحجج الظاهرة على التوحيد ، دلاله واضحة على تمييز المهتدى من الضالّ ، والإيماء أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينى.

ثم زاد في إنصافهم في المخاصمة ، فأسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل للمخاطبين فقال :

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي قل لهؤلاء المشركين : أنتم لا تسألون عما اكتسبنا من الآثام وارتكبنا من الذنوب ، ونحن لا نسأل عما تعملون من عمل ـ خيرا كان أو شرا.

ونحو الآية قوله : «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ».

ثم حذرهم وأنذرهم عاقبة أمرهم إذ أمر رسوله أن يقول لهم :

(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) أي قل لهم : إن ربنا يوم القيامة يجمع بيننا حين الحشر والحساب ثم يقضى بيننا بالعدل بعد ظهور حال كل منا ومنكم ، وهو الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور ، وهنالك يجزى كل عامل بما عمل ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية كما قال : «ويوم تقوم السّاعة يومئذ يتفرّقون.

٨١

فأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فهم في روضة يحبرون. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ)».

ثم استفسر عن شبهتهم بعد إلزامهم الحجة تبكيتا لهم فقال :

(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أي قل لهم : ما الذي عراكم ودخل فى أذهانكم من الشبه حتى جعلتم هؤلاء أندادا لله وشركاء ، وبأى صفة ألحقتموهم به فى استحقاق العبادة؟

ثم نبه إلى فاحش غلطهم ، وعظيم خطئهم بقوله :

(كَلَّا ، بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي ليس الأمر كما وصفتم ، فلا نظير له تعالى ولا ندّ ، بل هو الله الواحد الأحد ذو العزة التي بها قهر كل شىء ، وهو الحكيم فى أفعاله وأقواله ، وفيما شرع لهم من الدين الحق الذي يسعد من اعتنقه في حياتيه الأولى والآخرة.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠))

المعنى الجملي

بعد أن أقام الأدلة على التوحيد ، وضرب لذلك الأمثال ، حتى لم يبق بعدها زيادة لمستزيد ـ شرع يذكر الرسالة ويبين أنها عامة للناس جميعا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، فيحملهم ذلك على مخالفتك ، ثم ذكر سؤال منكرى البعث عن الساعة استهزاء بها ، ثم أعقب ذلك بالتهديد والوعيد لما يكون لهم فيها من شديد الأهوال.

٨٢

الإيضاح

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي وما أرسلناك إلى قومك خاصة ؛ بل أرسلناك إلى الخلق جميعا عربهم وعجمهم ، أسودهم وأحمرهم ، مبشرا من أطاعنى بالثواب العظيم ، ومنذرا من عصانى بالعذاب الأليم.

ونحو الآية قوله : «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» وقوله : «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً».

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم فيه من الغى والضلال.

ونحو الآية قوله : «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» وقوله : «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون استهزاء لفرط تعنتهم وجهلهم : متى هذا الذي توعدوننا به مبشرين ومنذرين إن كنتم أيها الرسول والمؤمنين صادقين فيما تقولون.

ونحو الآية قوله : «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ».

ثم أمر رسوله أن يجيبهم عن سؤالهم فقال :

(قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) أي قل لهم أيها الرسول : إن لكم ميعاد يوم هو آتيكم لا محالة ، لا تستأخرون عنه ساعة إذا جاء فتنظروا للتوبة والإنابة ، ولا تستقدمون قبله للعذاب ، لأن الله جعل لكم أجلا لا تعدونه.

والخلاصة ـ دعوا السؤال عن وقت مجىء الساعة ، فإنه كائن لا محالة ، وسلوا عن أحوال أنفسكم حين تكونون مبهوتين متحيرين من هول ما تشاهدون فهذا أليق بكم.

٨٣

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣))

المعنى الجملي

لما ذكر الأصول الثلاثة وهى التوحيد والرسالة والحشر وكانوا كافرين بها جميعا ـ ذكر شأن جماعة من المشركين جاهروا بإنكار القرآن وبكل كتاب سبقه من الكتب السماوية السالفة ، ويستتبع ذلك أنهم لا يؤمنون بما جاء فيها من البعث والحشر والحساب والجزاء ، ثم ذكر ما سيكون من الحوار بين الضالين ومضليهم من الكفار وما يسرّونه من الحسرة والندامة حين يرون العذاب ، ثم أعقبه بذكر ما سيحيق بهم من الإهانة بوضع الأغلال في الأعناق ، وأن هذا جزاء لهم على ما عملوا من سيىء الأعمال ، وما دسوا به أنفسهم من قبيح الخلال.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي وقال قوم من مشركى العرب : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب التي سبقته ، ولا بما اشتملت

٨٤

عليه من أمور الغيب التي تتصل بالآخرة من بعث وحساب وجزاء.

روى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن وصف الرسول صلّى الله عليه وسلم فأخبروهم أنهم يجدون صفته في كتبهم فأغضبهم ذلك وقالوا ما قالوا : ثم ذكر ما يكون من حوار بين ضاليهم ومضليهم حين الوقوف بين يدى الملك الديان للحساب والجزاء فقال :

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي ولو ترى أيها الرسول حال أولئك الكافرين وما هم فيه من مهانة وذلّة ، يحاور بعضهم بعضا ، ويتلاومون على ما كان بينهم من سوء الأعمال ، والسبب فيمن أوقعهم في هذا النكال والوبال ـ لرأيت العجب العاجب ، والمنظر المخزى الذي يستكين منه المرء خجلا ثم فصل ذلك الحوار فقال :

(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أي يقول الأتباع للذين استكبروا في الدنيا واستتبعوهم في الغى والضلال ، لو لا أنتم أيها السادة صدد نمونا عن الهدى لكنا مؤمنين بما جاء به الرسول.

ثم حكى سبحانه رد الرؤساء عليهم بقوله :

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا : أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي قال الذين استكبروا في الدنيا وصاروا رؤساء في الكفر والضلالة للذين استضعفوا فكانوا أتباعا لأهل الضلال منهم : أنحن منعناكم من اتباع الحق بعد أن جاءكم من عند الله؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها بإجرامكم وإيثاركم الكفر على الإيمان.

والخلاصة ـ إننا لم نحل بينكم وبين الإيمان لو صممتم على الدخول فيه ، بل كنتم مجرمين ، فمنعكم إيثاركم الكفر على الإيمان من اتباع الهدى.

ثم حكى رد المستضعفين على قول المستكبرين بقوله :

٨٥

(وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي وقال الأتباع للرؤساء في الضلال : صدنا مكركم بنا وخداعكم فى الليل والنهار حين كنتم تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أمثالا وأشباها في العبادة وإجمال ذلك ـ ما صدنا إلا مكركم أيها الرؤساء بالليل والنهار حتى أزلتمونا عن عبادة الله ، فأنتم كنتم تغروننا وتمنوننا وتخبروننا أننا على الهدى وأنّا على شىء ، وكل ذلك باطل وكذب.

ثم ذكر مآل أمرهم وسوء عاقبتهم فقال :

(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي وأضمر كل من الفريقين المستكبرين والمستضعفين ـ الندم على ما فرط منهم في الدنيا حين رأوا العذاب ، إذ هم بهتوا مما عاينوا ، فلم يستطيعوا أن ينطقوا ببنت شفة.

والخلاصة ـ إنهم ندموا على ما فرّطوا من طاعة الله في الدنيا حين شاهدوا عذابه الذي أعده لهم.

(وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وجعلنا أغلال الحديد في أعناق هؤلاء في النار.

ثم ذكر أنه لا جزاء لأمثالهم إلا هذا فقال :

(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي وما يفعل ذلك بهم إلا جزاء لما اجترحوا من الكفر والآثام «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» وقد قالوا في أمثالهم : إنك لا تجنى من الشوك العنب :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

٨٦

لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قول المشركين لرسوله لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه بعد أن طال به الأمد في دعوتهم حتى لحقه من ذلك الغم الكثير كما قال : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» ـ سلاه على ما ابتلى به من مخالفة مترفى قومه له وعداوتهم إياه بالتأسى بمن قبله من الرسل ، فهو ليس بدعا من بينهم ، فما من نبى بعث في قرية إلا كذّبه مترفوها واتبعه ضعفاؤها كما قال : «وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها» ثم ذكر حجتهم بأنهم لا حاجة لهم إلى الإيمان به ، فما هم فيه من مال وولد برهان ماطع على محبة الله إياهم ، فرد عليهم بأن بسط الرزق وتقنيره كما يكون للبر يكون للفاجر ، لأن ذلك مرتبط بسنن طبيعية وأسباب قدرها سبحانه في هذه الحياة ، فمن أحسن استعمالها استفاد منها ، ثم ذكر أن المتقين يمتّعون إذ ذاك بغرف الجنان وهم في أمن ودعة ، وأن الذين يصدون عن سبيل الله في نار جهنم يصلونها أبدا ، ثم وعد المنفقين فى سبيل الله بالإخلاف ، وأوعد الممسكين بالإتلاف.

الإيضاح

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي وما بعثنا إلى أهل قرية نذيرا ينذرهم بأسنا أن ينزل بهم على معصيتهم إيانا إلا قال

٨٧

كبراؤها وأولو النعمة والثروة فيها : إنا لا نؤمن بما بعثتم به من التوحيد والبراءة من الآلهة والأنداد.

وليس في ذلك من عجب ، فإن المنغمسين في الشهوات يحملهم التكبر والتفاخر بزينة الحياة الدنيا على النفور من الكمال الروحي ، ومن تثقيف النفوس بالإيمان والحكمة ، فالضدان لا يجتمعان : انغماس في الشهوة وعلم وحكمة ، ثروة مادية وثروة روحية.

ثم ذكر تفاخرهم بما هم فيه من بسطة العيش ، وكثرة الولد وأن ذلك سيكون سبب نجاتهم من العذاب في الآخرة بقوله :

(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي وقال المستكبرون فى كل قرية أرسلنا فيها نذيرا : إنا ذوو عدد عديد من الأولاد وكثرة في الأموال ، فنحن لا نعذب ، لأن ذلك دليل على محبة الله لنا ، وعنايته بنا ، وأنه ما كان ليعطينا ما أعطانا ثم يعذبنا في الآخرة.

هيهات هيهات ، إنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا ، وأخطأوا القياس «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ».

وخلاصة آرائهم ـ نحن في نعمة لا تشوبها نقمة ، وذلك دليل على كرامتنا عند الله ورضاه عنا ، إذ لو كان ما نحن فيه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفا لما يرضيه ـ لما كنا فيما نحن فيه من نعمة وبسطة في العيش وكثرة الأولاد.

فرد الله عليهم مقالتهم آمرا رسوله أن يبين لهم خطأهم بقوله :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي قل لهم أيها الرسول : إن ربى يبسط الرزق من معاش ورياش في الدنيا لمن يشاء من خلقه ويضيّق على من يشاء ، لا لمحبة فيمن بسط له ذلك ، ولا لخير فيه ولا زلفى استحق بها ذلك ، ولا لبغض منه لمن قدر عليه ولا لمقت منه له ، ولكنه يفعل ذلك لسنن وضعها

٨٨

لكسب المال في هذه الحياة ، فمن سلك سبيلها وصل إلى ما يبغى. ومن أخطأها وضل لم ينل شيئا من حظوظها ، ولا رابطة بين الثراء ومحبة الله ، ألا ترى أنه ربما وسع سبحانه على العاصي وضيق على المطيع ، وربما عكس الأمر ، وقد يوسع على المطيع والعاصي تارة ويضيق عليهما أخرى ـ يفعل كل ذلك بحسب ما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي قد نعلمها وربما خفى علينا أمرها ، ولو كان البسط دليل الإكرام والرضا لا ختصّ به المطيع ، ولو كان التضييق دليل الإهانة لا ختص به العاصي ، ومن ثم جاء قوله صلّى الله عليه وسلم «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما أعطى الكافر منها شيئا».

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الله يفعل ذلك بحسب السنن التي وضعها فى الكون ، بل يظنون أن ذلك لمحبة منه لمن بسط له ، ومقت منه لمن قدر عليه ، حتى تحير بعضهم واعترض على الله في البسط لأناس والتضييق منه على آخرين ، ومن ثمّ قال ابن الراوندي :

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة

وصيّر العالم التحرير زنديقا

ثم بين سبحانه لعباده أن الزلفى عنده ليست بكثرة المال والولد ، بل بالتقوى وصالح العمل ، فقال :

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) أي وما أموالكم التي تفتخرون بها على الناس ، ولا أولادكم الذين تتكبرون بهم بالتي تقربكم منا لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانهم وعملهم يقربانهم منى ، وأولئك أضاعف لهم ثواب أعمالهم ، فأجازيهم بالحسنة عشر أمثالها أو أكثر إلى سبعمائة ضعف ، وهم في غرفات الجنات آمنون من كل خوف وأذى ومن كل شر يحذر منه.

روى عن على كرم الله وجهه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم :

٨٩

«إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها ، فقال أعرابى لمن هى؟ قال لمن طيب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلّى بالليل والناس نيام».

ثم بين حال المسيء الذي يبعده ماله وولده من الله فقال :

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي والذين يصدّون عن آيات كتابنا بالطعن فيها يبتغون إبطالها ، ويريدون إطفاء أنوارها ظانين أنهم يفوتوننا وأننا لن نقدر عليهم ، فأولئك في عذاب جهنم يوم القيامة تحضرهم الزبانية إليها ولا يجدون عنها محيصا ، ولا يجديهم نفعا ما عوّلوا عليه من شفاعة الأصنام والأوثان.

ثم زهّد عباده في الدنيا وحضهم على التقرب إليه بالإنفاق فقال :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي قل لهم أيها الرسول : إن ربى يوسع الرزق على من يشاء من عباده حينا ، ويضيّقه عليه حينا آخر ، فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيله وتقرّبوا إليه بأموالكم لتنالكم نفحة من رحمته.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي وما أنفقتم من شىء فيما أمركم به ربكم وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم ويعوضكم بدلا منه في الدنيا مالا وفي الآخرة ثوابا ، كلّ خلف دونه ، وفي الحديث : «أنفق بلالا ، ولا تخش من ذى العرش إقلالا» وعن مجاهد أنه خصه بالآخرة إذ قال : إذا كان لأحدكم شىء فليقتصد ، ولا يتأول هذه الآية : «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ» فإن الرزق مقسوم ، ولعل ما قسم له منه قليل ، وهو ينفق نفقة الموسّع عليه.

(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فترزقون من حيث لا تحتسبون ولا رازق غيره روى الشيخان عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا».

٩٠

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن حال النبي صلّى الله عليه وسلم مع قومه ليس بدعا بين الرسل ، فحاله معهم كحال من تقدمه منهم مع أقوامهم ، فكلّهم كذّبوا وكلهم أوذوا في سبيل الله ؛ ثم أعقب ذلك بأن رد عليهم بأن كثرة الأموال والأولاد لا صلة لها بمحبة الله ، ولا سخطه ـ أردف ذلك ما يكون من حالهم يوم القيامة من التقريع والتأنيب بسؤال الملائكة لمعبوداتهم أمامهم : هل هؤلاء كانوا يعبدونكم؟ فيجيبون بأنهم كانوا يعبدون الشياطين بوسوستهم لهم ، ثم بين أنهم في ذلك اليوم لا يقع لهم نفع ممن كانوا يرجون من الأوثان والأصنام ، ويقال لهم على طريق التوبيخ والتهكم : ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون.

الإيضاح

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟) أي واذكر أيها الرسول لقومك : يوم يحشر ربك العابدين المستكبرين منهم والمستضعفين مع المعبودين من الملائكة وغيرهم ثم تسأل الملائكة أأنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟

وهذا سؤال وجه إلى الملائكة ظاهرا ، والمراد منه تقريع المشركين وتيئيسهم مما علّقوا عليه أطماعهم من شفاعتهم لهم فهو وارد على نهج قولهم : إياك أعنى واسمعي يا جاره ،

٩١

وعلى نهج قوله تعالى لعيسى «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ؟» وقد علم سبحانه أن الملائكة وعيسى برآء مما وجّه إليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير ، ولكن جاء ليقول ويقولوا ، ويسأل ويجيبوا ، فيكون توبيخهم أشد ، وتعييرهم أبلغ ، وخجلهم أعظم.

(قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أي قالت الملائكة : تعاليت ربنا وتقدست عن أن يكون معك إله ، نحن عبيدك نبرأ إليك من هؤلاء وأنت الذي نواليه دونهم ، فلا موالاة بيننا وبينهم.

والخلاصة ـ إننا برآء من عبادتهم والرضا بهم.

ثم بين أنهم ما عبدوهم على الحقيقة بقوله :

(بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي بل هم كانوا يعبدون الشياطين لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم ، وأكثر المشركين مؤمنون بالجن مصدقون لهم فيما يقولون ، إذ كانوا يعبدون غير الله بوسوستهم ويستغيثون بهم في قضاء حاجتهم كما هو مشهور لدى أرباب العزائم والسحرة.

ونحو الآية قوله : «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً : لَعَنَهُ اللهُ».

ولما أبطل تمسكهم بهم بعد تقريعهم وتأنيبهم زادهم أسى وحسرة فقال :

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي فاليوم لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه من الأوثان والأنداد الذين ادخرتم عبادتهم لشدائدكم وكروبكم ، لأن الأمر في ذلك اليوم لله الواحد القهار ، لا يملك أحد فيه منفعة لأحد ولا مضرة له.

(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي ونقول المشركين زجرا لهم وتأنيبا : ذوقوا عذاب النار التي كنتم تكذبون بها في دنياكم ،

٩٢

فهأنتم أولاء قد وردتموها وسمعتم شهيقها وزفيرها ، وليس الخبر كالخبر ، ولا السماع كالمعاينة ، فعضّوا بنان الندم أسى وحسرة على ما قدمتم في دنياكم ، فجنيتم صابه وعلقمه فى أخراكم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن المشركين هم أهل النار يوم القيامة وأنه يقال لهم يومئذ : ذوقوا عذابها الذي كنتم به تكذبون ـ أعقب ذلك بذكر ما لأجله استحقوا هذا العذاب

٩٣

وهو صدهم عن دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم بقولهم في القرآن : إنه إفك مفترى ، وإنه سحر واضح لا شك فيه ، وقد كان فيما حلّ بالأمم قبلهم مزدجر لهم لو أرادوا ، فقد بلغوا من القوة ما بلغوا ، وحين أرسل إليهم الرسل كذبوهم فأخذوا أخذ عزيز مقتدر ، ثم أنذرهم سوء عاقبة ما هم فيه وأوصاهم بأن يشمّروا عن ساعد الجدّ طلبا للحق متفرقين اثنين وواحدا واحدا ثم يتفكروا ليعلموا أن صاحبهم ليس بالمجنون ، بل هو نذير لهم يخوّفهم بأس الله وعذابه الشديد يوم القيامة ، وقد كان لهم من حاله ما يرغبهم فى دعوته ، فهو لا يطلب منهم أجرا ولا يريد منهم جزاء ، وإنما مثوبته عند ربه المطّلع على كل شىء ؛ ثم أبان لهم أن الحق قد وضح ، وجاءت أعلام الشريعة كفلق الصبح نورا وضياء ، ولا بقاء للباطل ولا قرار له إذا ظهر نور الحق «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ».

الإيضاح

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) أي وإذا تتلى على المشركين آيات الكتاب الكريم دالة على التوحيد وبطلان الشرك ، قالوا إن هذا الرجل يريد أن يلفتكم عن الدين الحق دين الآباء والأجداد ، ليجعلكم من أتباعه دون أن يكون له حجة على ما يدّعى ، وبرهان يدل على صحة ما يسلك من سبيل.

ثم زادوا إنكارهم توكيدا وأيأسوا الرسول من الطمع في إيمانهم.

(وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) أي وقالوا إن القرآن الذي يدّعى محمد أنه وحي من عند ربه ـ كذب مختلق من عنده ، وقد نسبه إلى ربه ترويجا للدعوة ، واجتلابا لقلوب الكافة.

ثم شددوا في الإنكار فجعلوه سحرا بيّنا لا شك فيه عندهم كما حكى عنهم بقوله :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقال المشركون

٩٤

لما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلم من عند ربه مشتملا على الهدى والشرائع التي وجهتهم في حياتهم الاجتماعية ونظم المعيشة وجهة جديدة تكون بها سعادتهم في معاشهم ومعادهم وغيّرت الطريق التي ورثوها عن الآباء والأجداد ـ ما هذا إلا سحر بيّن لا خفاء فيه عندنا ، وقد أعمى أبصارنا وأضل أحلامنا فلم نستطع أن ندفعه بكل سبيل ، ولا يزال يلج القلوب ويقتحمها ويداخل النفوس ويستحوذ عليها ، ونحن في حيرة من أمره لا نجد طريقا للتغلب عليه بالوسائل التي نعرفها وهى بين أيدينا.

والخلاصة ـ إنهم نفوا أن يكون وحيا من عند ربه وجعلوه إما كلاما مفترى جاء به لترويج دعوته ، وإما سحرا فعله ليخلب به العقول ويصد الناس عن الدين الحق الذي ورثوه عن الآباء والأجداد.

فرد الله سبحانه عليهم منكرا دعواهم أن دينهم هو الدين الحق بقوله :

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي إن الدين الصحيح إنما يأتى بوحي من عند الله وبكتاب ينزل على الرسول ليبلغه للناس ويبين لهم فيه ما جاء به من الشرائع والآداب والفضائل التي تكون بها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم ، وهم أمة أميّة لم يأتهم كتاب قبل القرآن ، ولم يبعث إليهم رسول قبل محمد ، فمن أين أتاهم أن الدين الحق هو الذي يرشد إلى صحة الإشراك بالله ، وينفى توحيد الخالق حتى يكون لهم معذرة فيما يدّعون ، وحجة على صحة ما يعتقدون؟.

ولا يخفى ما في هذا من التهكم بهم والتجهيل لهم : ونحو الآية قوله : «أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» وقوله : «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ».

وبعد أن بشر وأنذر وأبان بالحجة والبرهان ما كان فيه المقنع لهم لو كانوا يعقلون ، سلك بهم سبيل التهديد والوعيد وضرب لهم المثل بالأمم التي كانت قبلهم وسلكت سبيلهم ولم تجدها الآيات والنذر ، فحل بها بأس الله وأتاها العذاب من حيث لا تحتسب فقال :

٩٥

(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ولقد كان لهم فيمن قبلهم من الأمم البائدة والقرون الخالية كقوم نوخ وعاد وثمود ، وقد بلغوا من القوة والبأس ما لم يبلغوا معشاره ، فكذبوا رسلى حين أرسلوا إليهم فخل بهم النكال والوبال ودمّروا تدميرا ، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ، وإنهم ليشاهدون آثارهم في حلهم وترحالهم ، فى غدوّهم ورواحهم كما قال في آية أخرى : «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك.

والخلاصة ـ إن فيما حل بمن قبلهم من المثلاث نكالا لهم على تكذيبهم رسلهم ـ لعبرة لهم لو كانوا يعقلون.

ثم أطال لهم الحبل ومدّ لهم الباع وأنصفهم في الخصومة فقال :

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) أي قل لهم : إنى أرشدكم أيها القوم وأنصح لكم ألا تبادروا بالتكذيب عنادا واستكبارا ، بل اتئدوا وتفكروا مليا فيما دعوتكم إليه وجدّوا واجتهدوا في طلب الحق خالصا ، إما واحدا فواحدا ، وإما اثنين اثنين لعلكم تصلون إلى الحق وتهتدون إلى قصد السبيل ، وتكونون قد أنصفتم الحقيقة ، وأمطتم الحجب التي غشّت أبصاركم ، ورانت على قلوبكم ، فلم تجعل للحق منفذا.

وإنما طلب إليهم التفكر وهم متفرقون اثنين اثنين أو واحدا فواحدا ، لأن فى الازدحام تهويش الخاطر والمنع من إطالة التفكير وتخليط الكلام وقلة الإنصاف ، وفيما يشاهد كل يوم من الاضطراب وتبلبل الأفكار في الجماعات الكثيرة حين الجدل والخصومة ما يؤيد صدق هذا.

ثم أبان لهم أن نتيجة الفكر ستؤدى بهم إلى أن يعترفوا بما يرشد إليه النظر الصحيح

٩٦

(ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) إذا ما جاء به من ذلك الأمر العظيم الذي فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم لا يتصدى لادّعائه إلا أحد رجلين : إما مجنون لا يبالى بافتضاحه حين مطالبته بالبرهان وظهور عجزه ، وإما نبى مؤيد من عند الله بالمعجزات الدالة على صدقه.

وإنكم قد علمتم أن محمدا أرجح الناس عقلا ، وأصدق الناس قولا ، وأزكاهم نفسا ، وأجمعهم للكمال النفسي والعقلي ؛ فوجب عليكم أن تصدقوه في دعوته ، وقد قرنها بالمعجزات الدالة على ذلك.

وفي التعبير بصاحبكم إيماء إلى أنه معروف لهم مشهور لديهم ، فهو قد نشأ بين ظهرانيهم وعلموا ماله من صفات الفضل والنّبل وكرم الخلال مما لم يتهيأ لأحد من أترابه ولداته.

وإذ قد استبان بالدليل أنه ليس بالمجنون في كل ما يقول ويدعى ، اتضح أنه صادق كما قال :

(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي ما هذا الرسول بالكاذب ، بل هو نذير لكم بعقاب الله حين تقدمون عليه ، لكفركم به وعصيانكم أمره.

وإنما جعل إنذاره بين يدى العذاب ، لأن محمدا مبعوث قرب الساعة كما جاء فى الحديث «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقنى».

وروى البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : «صعد النبي صلّى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال : يا صباحاه ، فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك؟ فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسّيكم أما كنتم تصدقونى؟ قالوا بلى ، قال صلّى الله عليه وسلم : فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فقال أبو لهب : تبّا لك. ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ».

ولما نفى عن رسوله الجنون وأثبت له النبوة ـ ذكر وجها آخر يؤكد ذلك فقال :

٩٧

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي قل لهم : إنى لا أريد منكم أجرا ولا عطاء على أداء رسالة ربى إليكم ، ونصحى لكم وأمرى بعبادته ، إنما أطلب ثواب ذلك من الله ، وهو العليم بجميع الأشياء ، فيعلم صدقى وخلوص نيّتى.

وإذا علم أن الذي حمله على ركوب الصعاب واقتحام الأخطار ليس أمرا دنيويا ، ثبت أن الذي حفزه عليها هو أمر الله تعالى له وقد صدع به «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» وبهذا ثبت أنه نبىّ.

ولما استبان أنه ليس بالمجنون ولا هو بطالب الدنيا ـ علم أن الذي جاء به هبط إليه من السماء وقذف به الوحى إليه ، وأمره أن يبلغه إليهم كما أشار إلى ذلك بقوله :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) القذف الرمي بدفع شديد : أي قل لمن أنكر التوحيد ورسالة الأنبياء والبعث : إن ربى يلقى الوحى وينزله على قلب من يجتبيه من عباده ، وهو العليم بمن يصطفيهم كما قال سبحانه : «اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» وقال : «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ».

وقد يكون المعنى كما روى عن ابن عباس : إن ربى يقذف الباطل بالحق ؛ أي يورده عليه حتى يبطله ويزيل آثاره ويشيع الحق في الآفاق.

ولا يخفى ما في هذا من عدة بإظهار الإسلام ونشره بين الناس وتبلج نوره فى الكون ، ونحوه «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ».

ثم أكد ما سلف بأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يخبر قومه بأن الإسلام سيعلو على سائر الأديان ، وأن غيره سيضمحل ويزول فقال :

(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي قل جاء الإسلام ، ورفعت رايته ، وعلا ذكره ، وذهب الباطل ، فلم تبق منه بقية تبدى شيئا أو تعيده.

٩٨

وأصله في هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء أي فعل أمر ابتداء ، ولا إعادة أي فعله ثانيا ، وأنشدوا لعبيد بن الأبرص :

أقفر من أهله عبيد

فاليوم لا يبدى ولا يعيد

روى البخاري ومسلم «أنه لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح ووجد الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ـ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ)».

ولما سد عليهم مسالك القول ، لم يبق إلا أن يقولوا عنادا : إنه قد عرض له ما أضله عن محجة الصواب ، فأمر رسوله أن يقول لهم :

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) أي قل أيها الرسول لقومك : إن ضللت عن الهدى وسلكت غير طريق الحق فإنما ضرّ ذلك على نفسى ، وإن استقمت على الحق فبوحى الله إلىّ وتوفيقه للاستقامة على محجة الحق وطريق الهدى ، إنه سميع لما أقول وتقولون ، ويجازى كلا بما يستحق ، قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه.

روى الشيخان عن أبى موسى الأشعري قال : «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا مجيبا».

والخلاصة ـ إن الخير كله من الله وفيما أنزله علىّ من الوحى والحق المبين.

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

٩٩

تفسير المفردات

الفزع : انقباض ونفار من الأمر المهول المخيف ، التناوش : التناول السهل لشىء قريب ؛ يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته ، ناشه ينوشه نوشا ، وأنشدوا لغيلان بن حريث في وصف الإبل :

فهى تنوش الحوض نوشا من علا

نوشا به تقطع أجواز الفلا

يريد أنها عالية الأجسام طويلة الأعناق ، يقذفون بالغيب : أي يرجمون بالظنون التي لا علم لهم بها ، والعرب تقول لكل من تكلم بما لا يستيقنه : هو يقذف بالغيب.

بأشياعهم : أي أشباههم ونظرائهم في الكفر جمع شيع ، وشيع جمع شيعة ؛ وشيعة الرجل : أتباعه وأنصاره ، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأى بعض فهم شيع ، مريب : أي موقع في الريبة والظّنة ، يقال أراب الرجل : أي صار ذا ريبة فهو مريب.

المعنى الجملي

بعد أن أبطل سبحانه شبههم وردّ عليهم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد ـ هددهم بشديد العقاب إن هم أصروا على عنادهم واستكبارهم ، ثم ذكر أنهم حين معاينة العذاب يقولون آمنا بالرسول ، وأنّى لهم ذلك وقد فات الأوان؟ وقد كان ذلك فى مكنتهم في دار الدنيا لو أرادوا ، أما الآن فإن ذلك لا يجديهم فتيلا ولا قطميرا من جراء ما كانوا فيه من شك مريب في الحياة الأولى ، وتلك سنة الله في أشباههم من قبل.

الإيضاح

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) أي ولو رأيت أيها الرسول هؤلاء المكذبين حين يفزعون مما رأوا من العذاب الشديد ـ لرأيت من الأمر ما يعجز القول عن وصفه ، فهم لا يمكّنون من الهرب ، ولا يفوتهم ذلك العذاب ولا يجدون ملجأ ولا مأوى يبتعدون فيه.

١٠٠