تفسير المراغي - ج ٢٢

أحمد مصطفى المراغي

ونحو الآية قوله : «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» وقوله : «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» وقوله : «أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ».

وفي هذا تهديد للمستعجلين المستهزئين ، وتبكيت للمتعنتين والممتحنين.

ثم بين حال السائلين عنها ، المنكرين لها ، بقوله :

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي إن الله أبعد الكافرين به من كل خير ، وأقصاهم من كل رحمة ، وأعد لهم في الآخرة نارا تتقد وتتسعر ليصليهموها ، ماكثين فيها أبدا إلى غير نهاية.

ثم أيأسهم من وجود ما يدفع عنهم العذاب من الولىّ والنصير بقوله :

(لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي لا يجدون حينئذ من يستنقذهم من السعير ، وينجيهم من عذاب الله ، بشفاعة أو نصرة كما هى الحال في الدنيا لدى الظلمة ، إذ ربما وجد النصير والشفيع الذي يخلّص فيها من الورطات ، ويدفع المصايب والنكبات.

(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) أي لا يجدون وليا ولا نصيرا حين تصرّف وجوههم فيها من جهة إلى أخرى كاللحم يشوى في النار أو يطبخ في القدر ، فيدور به الغليان من جهة إلى أخرى ، ويقولون إذ ذاك على طريق التمني : ليتنا أطعنا الله في الدنيا ، وأطعنا رسوله فيما جاءنا به من أمر ونهى ، فما كنا نبتلى بهذا العذاب ، بل كنا مع أهل الجنة في الجنة ـ فيالها من حسرة وندامة ، ما أعظمها وأجلها.

ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

ونحو الآية قوله : «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً» وقوله : «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ».

ثم ذكر بعض معاذيرهم بإلقائهم التبعة على من أضلّوهم من كبرائهم وسادتهم بقوله :

٤١

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي وقال الكافرون يومئذ وهم في جهنم : ربنا إنا أطعنا أئمتنا في الضلالة وكبراءنا في الشرك فأضلونا السبيل ، وأزالونا عن محجة الحق وطريق الهدى من الإيمان بك والإقرار بوحدانيتك والإخلاص لطاعتك في الدنيا.

وفي هذا إحالة الذنب على غيرهم كما هى عادة المذنب يفعل ذلك وهو يعلم أنه لا يجديه نفعا.

ثم ذكر أنهم يدعون ربهم على طريق التشفي ممن أوردهم هذا المورد الوخيم ، أن يضاعف لهم العذاب ، إذ كانوا سبب ضلالهم ، ووقوعهم في بلواهم ، وإن كانوا يعلمون أن ذلك لا يخلّصهم مما هم فيه ، فقالوا :

(رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أي ربنا عذّبهم مثلى عذابنا الذي تعذبنا به : مثلا على ضلالهم ، ومثلا على إضلالهم إيانا ، واخزهم خزيا عظيما واطردهم من رحمتك.

روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال : يا رسول الله علّمنى دعاء أدعو به في صلاتى ، قال : «قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمني ، إنك أنت الغفور الرّحيم».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩))

تفسير المفردات

الوجيه : هو ذو الجاه والمنزلة ، ومن يكون له من خصال الخير ما به يعرف ولا ينكر.

٤٢

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف أن من يؤذى الله ورسوله يلعنه الله في الدنيا والآخرة ، ولا شك أن هذا في الإيذاء الذي يؤدى إلى الكفر ، وقد حصره الله في النفاق ومرض القلب والإرجاف على المسلمين ـ أعقب ذلك بإيذاء دون ذلك لا يورث الكفر كعدم الرضا بقسمة النبي صلّى الله عليه وسلم للفىء ، ونهى الناس عنه أيضا ، وذكر أن بنى إسرائيل قد آذوا موسى ونسبوا إليه ما ليس فيه ، فبرأه الله منه ، لأنه ذو كرامة ومنزلة لديه ، فلا يلصق به ما هو نقص فيه

الإيضاح

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، لا تؤذوا الرسول بقول يكرهه ، ولا بفعل لا يحبه ، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبى الله فرموه بالعيب كذبا وباطلا ، فبرأه الله مما قالوه من الكذب والزور ، بما أظهر من الأدلة على كذبهم ، وقد كان موسى ذا وجاهة وكرامة عند ربه ، لا يسأله شيئا إلا أعطاه إياه.

ولم يعين لنا الكتاب الكريم ما قالوا في موسى ، ومن الخير ألا نعيّنه حتى لا يكون ذلك رجما بالغيب دون أن يقوم عليه دليل ، وقد اختلفوا فيه أهو عيب في بدنه كبرص ونحوه ، أم هو عيب في خلقه؟ فقد رووا أن قارون حرّض بغيّا على قذفه بنفسها ، فعصمه الله من كذبها ، وقيل إنهم اتهموه بقتل هارون لما خرج معه إلى الطور ومات هناك ، ثم استبان لهم بعد أنه مات حتف أنفه.

روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال : «قسم رسول الله ذات يوم قسما فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فاحمرّ وجهه ثم قال : رحمة الله على موسى فقد أوذى بأكثر من هذا فصبر».

وروى أحمد عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه «لا يبلّغنّى أحد عن أحد من أصحابى شيئا ، فإنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر».

٤٣

وعنه أيضا أنه قال : «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مال فقسمه ، قال فمررت برجلين ؛ وأحدهما يقول لصاحبه : والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة.

قال فثبت حتى سمعت ما قالا ، ثم أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إنك قلت لنا : لا يبلغنى أحد عن أصحابى شيئا وإنى مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا ، فاحمرّ وجه رسول الله وشق عليه ثم قال : دعنا منك لقد أوذى موسى بأكثر من هذا فصبر».

ومن هذا يتبين أن إيذاء موسى كان بالقدح في أعماله وتصرفاته ، لا بالعيب فى بدنه كما روى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١))

تفسير المفردات

القول السديد : القول الصدق الذي يراد به الوصول إلى الحق ، من قولهم : سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمىّ ولم يعدل به عن سمته.

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه عن إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقول أو فعل ، أرشدهم إلى ما ينبغى أن يصدر منهم من الأقوال والأفعال التي تكون سببا في الفوز النجاة في الدار الآخرة ، والقرب من الله سبحانه والحظوة إليه.

٤٤

الإيضاح

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أن تعصوه فتستحقوا بذلك عقوبته ، وقولوا في رسوله والمؤمنين قولا قاصدا غير جائر ، حقا غير باطل ، يوفقكم لصالح الأعمال ، ويغفر لكم ذنوبكم فلا يعاقبكم عليها.

ومن يطع الله ورسوله فيعمل بما أمره به وينته عما نهاه عنه ويقل السديد من القول فقد ظفر بالمثوبة العظمى والكرامة يوم العرض الأكبر.

والخلاصة ـ إنه سبحانه أمر المؤمنين بشيئين : الصدق في الأقوال ، والخير فى الأفعال ، وبذلك يكونون قد اتقوا الله وخافوا عقابه ، ثم وعدهم على ذلك بأمرين :

(١) إصلاح الأعمال إذ بتقواه يصلح العمل ، والعمل يرفع صاحبه إلى أعلى عليين ويجعله يتمتع بالنعيم المقيم في الجنة خالدا فيها أبدا.

(٢) مغفرة الذنوب وستر العيوب والنجاة من العذاب العظيم.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

تفسير المفردات

العرض هنا : النظر إلى استعداد السموات والأرض ، والأمانة كل ما يؤتمن عليه المرء من أمر ونهى في شئون الدين والدنيا ، والمراد بها هنا التكاليف الدينية ، وسميت أمانة من قبل أنها حقوق أوجبها الله على المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بالطاعة والانقياد وأمرهم بالمحافظة عليها وأدائها دون الإخلال بشىء منها ،

٤٥

فأبيّن : أي كنّ غير مستعدات لها ، وحملها الإنسان : أي كان مستعدا لها ، إنه كان ظلوما : أي كثير الظلم لما غلب عليه من القوة الغضبية ، جهولا : أي كثير الجهل لعواقب الأمور ، لما غلب عليه من القوة الشهوية.

المعنى الجملي

بعد أن بين عز اسمه عظم شأن طاعة الله ورسوله ، وأن من يراعيها فله الفوز العظيم ، وأن من يتركها يستحق العذاب ـ أردف ذلك عظم شأن ما تنال به تلك الطاعة من فعل التكاليف الشرعية وأن حصولها عزيز شاقّ على النفوس ، ثم بيان أن ما يصدر منهم من الطاعة أو يكون منهم من إباء بعدم القبول والالتزام إنما يكون بلا جبر ولا إلزام.

الإيضاح

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) أي إنا لم نخلق السموات والأرض على عظم أجرامها وقوة أسرها مستعدة لحمل التكاليف بتلقى الأوامر والنواهي والتبصر فى شئون الدين والدنيا ، ولكن خلقنا الإنسان على ضعف منّته وصغر جرمه مستعدا لتلقيها والقيام بأعبائها ، وهو مع ذلك قد غلبت عليه الانفعالات النفسية الداعية إلى الغضب فكان ظلوما لغيره ، وركّب فيه حب الشهوات والميل إلى عدم التدبر فى عواقب الأمور ، ومن ثم كلفناه بتلك التكاليف لتكسر سورة تلك القوى وتخفف من سلطانها عليه وتكبت من جماحها حتى لا توقعه في مواقع الردى.

ثم بين عاقبة تلك التكاليف فقال :

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي وكان عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة أن يعذب من خانها وأبى الطاعة

٤٦

والانقياد لها من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات إذا رجعوا إليه وأنابوا ، لتلافيهم ما فرط منهم من الجهل وعدم التبصر فى العواقب وتداركهم ذلك بالتوبة.

ثم علل قبوله لتوبتهم بقوله :

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان الله ستارا لذنوب عباده كثير الرحمة بهم ، ومن ثم قبل توبة من أناب إليه ، ورجع إلى حظيرة قدسه ، وأخلص له العمل ، وتلافى ما فرط منه من الزلات ، وأثابه على طاعته بالفوز العظيم.

نسألك اللهم أن تتوب علينا ، وتغفر لنا ما فرط منا من الزلات ، وتثيبنا بالفوز العظيم في الجنات ، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

تنبيه

ذكر سبحانه في هذه السورة الكثير من الشئون الزوجية وكيف تعامل الزوجات ، وقد رأينا أن نذكر هنا مسألتين كثر الخوض فيهما من أرباب الأديان الأخرى ومن نابتة المسلمين الذين تعلموا في مدارسهم وسمعوا كلام المبشرين ، ظنا منهم أنهم وجدوا مغمزا في الإسلام وأصابوا هدفا يصمى الدين ، ويجعل معتنقيه مضغة في أفواه السامعين وأنى لهم ذلك ، وليتهم فكروا وتأملوا ، قبل أن يتكلموا.

أرى العنقاء تكبر أن تصادا

فعاند من تطيق له عنادا

(١) تعدد زوجاته صلّى الله عليه وسلم وكثرتهن بينما لم يبح مثل ذلك لأمته.

(٢) إباحة تعدد الزوجات لعامة المسلمين.

ومن ثم وجب علينا أن نميط اللثام عن الأسباب التي دعت إلى كل منهما.

أسباب تعدد زوجاته صلّى الله عليه وسلم

قبل أن ندخل في تفاصيل البحث نذكر لك أن النبي صلّى الله عليه وسلم عاش مع خديجة خمسا وعشرين سنة لم يتزوج سواها ، وكانت سنه إذ ذاك ناهزت الخمسين ،

٤٧

وكان قد تزوجها في شرخ شبابه ، إذ كانت سنه وقتئذ خمسا وعشرين سنة وكانت سنها أربعين وعاشا معا عيشا هنيا شعاره الإخلاص والوفاء ، وكانت من أكبر أنصاره على الكفار الذين سخروا منه وألحقوا به ضروبا شتى من الأذى ، ولم يشأ أن يتزوج غيرها مع ما كان يبيحه له عرف قومه ، بل ظل وفيّا لها حتى توفّيت ، فحزن عليها حزنا شديدا وسمى عام وفاتها عام الحزن ، ولم ينقطع عن ذكراها طوال حياته.

والآن حق علينا أن نذكر لك الأسباب التي حدت النبي صلّى الله عليه وسلم إلى التعدد ، وهى قسمان : أسباب عامة وأسباب خاصة :

الأسباب العامة

(١) إن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم عامة للرجال والنساء ، ومن التشريع ما هو مشترك بين الرجل والمرأة وما هو خاص بأحدهما ، وكلّ يحتاج في تلقينه إلى عدد ليس بالقليل لتفرق المرسل إليهم وكثرهم وقصر زمن حياة الرسول ، وكثرة الأحكام ، وإلا لم يحصل التبليغ على الوجه الأتم.

ومن الأحكام المتعلقة بالنساء ما تستحيى المرأة أن تعرفه من الرجل ، ويستحيى الرجل من تبليغه للمرأة ، ألا ترى إلى ما روى عن عائشة رضى الله عنها أن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت للنبى صلّى الله عليه وسلم : كيف أغتسل من الحيض؟ قال : خذى فرصة ممسّكة (قطعة قطن) فتوضئ ـ قالها ثلاثا وهو في كل ذلك يقول : سبحان الله عند إعادتها السؤال ، ثم أعرض عنها بوجهه استحياء ، فأخذتها عائشة وأخبرتها بما يريد النبي صلّى الله عليه وسلم.

ومن ثم وجب أن يتلقى الأحكام الخاصة بالنساء من الرسول صلّى الله عليه وسلم عدد كثير منهن ، وهن يبلغن ذلك إلى النساء ، ولا يصلح للتلقى عنه إلا أزواجه ، لأنهن لهن خصائص تمكنهن من معرفة أغراض النبي دون تأفف ولا استحياء ،

٤٨

يرشد إلى ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» يريد عائشة رضى الله عنها ، والعرب تقول امرأة حمراء أي بيضاء.

(٢) إن المصاهرة من أقوى عوامل التآلف والتناصر كما هو مشاهد معروف ، والدعوة في أول أمرها كانت في حاجة ماسة إلى الإكثار من ذلك ، لا جتذاب القبائل إليه ومؤازرتهم له ، لذود عوادى الضالين ، وكف أذاهم عنه ، ومن ثم كان أكثر زوجاته من قريش سيدة العرب.

(٣) إن المؤمنين كانوا يرون أن أعظم شرف وأمتن قربة إلى الله تعالى مصاهرتهم لنبيه وقربهم منه ، فمن ظفر بالمصاهرة فقد أدرك ما يرجو. ألا ترى أن عمر رضى الله عنه أسف جد الأسف حين فارق رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابنته وقال : لا يعبأ بعدها بعمر ، ولم ينكشف عنه الهم حتى روجعت ، وأن عليا كرم الله وجهه على اتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق النسب وشرف اقترانه بالزهراء رغب في أن يزوجه أخته أم هانىء بنت أبى طالب ليتضاعف شرفه ولم يمنعها من ذلك إلا خوفها أن تقصّر فى القيام بحقوق الرسول مع خدمة أبنائها.

الأسباب الخاصة بزواج كل واحدة من أمهات المؤمنين

(١) تزوج النبي صلّى الله عليه وسلم بعد خديجة سودة بنت زمعة أرملة السكران ابن عمرو الذي أسلم واضطرّ إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة هربا من اضطهاد المشركين ومات هناك وأصبحت امرأته بلا معين ، وهى أرمل رجل مات في سبيل الدفاع عن الحق ، فتزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم وفاء لرجل غادر الأهل والأوطان احتفاظا بعقيدته ، وقد شاركته هذه الزوجة في أهوال التغريب والنفي ، وحماية لها من أهلها أن يفتنوها ، لأنها هاجرت مع زوجها على غير رغبتهم.

(٢) تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية وعمرها زهاء خمسين عاما ، وكان زواجه منها سببا في دخول خالد بن الوليد في دين الله ، وهو المجاهد الكبير والبطل العظيم ،

٤٩

وهو الذي غلب الروم على أمرهم فيما بعد ، وله في الإسلام أيام غرّ محجلة ـ إلى أن زواجها بالنبي صلّى الله عليه وسلم يسّر لذوى قرباها وسيلة للعيش فطعموا من جوع وأمنوا من مخوف وأثروا بعد فاقة.

(٣) تزوج جويرية وكان أبوها الحارث بن ضرار سيد بنى المصطلق بن خزاعة جمع قبل إسلامه جموعا كثيرة لمحاربة النبي صلّى الله عليه وسلم ، ولما التقى الجمعان عرض عليهم الرسول صلّى الله عليه وسلم الإسلام فأبوه فحاربهم حتى هزموا ووقعت جويرية فى سهم ثابت بن قيس ، فكاتبها على سبع أواق من الذهب فلم تر معينا لها غير النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت إليه وأدلت بنسبها وطلبت حريتها فتذكر النبي صلّى الله عليه وسلم ما كان لأهلها من العز والسؤدد وما صاروا إليه بسوء التدبير والعناد ، فأحسن إليها وإلى قومها بأداء ما عليها من نجوم ، ثم تزوجها فقال المسلمون بعد أن اقتسموا بنى المصطلق : إن أصهار رسول الله لا يسترقّون ، وأعتقوا من بأيديهم من سبيهم ، وعلى إثر ذلك أسلم بنو المصطلق شكرا لله على الحرية بعد ذل الكفر والأسر.

(٤) تزوج السيدة عائشة مكافأة لأبى بكر الصديق ، إذ كان شديد التمسك برسول الله صلّى الله عليه وسلم مولعا بالتقرب منه ، فكان ذلك قرة عين لها ولأبويها وفخرا لذوى قرباها ، وكان عبد الله بن الزبير (ابن أختها) يفاخر بنى هاشم بذلك.

(٥) تزوج أم المؤمنين حفصة بنت عمر مكافأة لزوجها الذي توفى مجروحا في موقعة بدر ؛ وفي تلك الحقبة كانت السيدة رقية بنت الرسول وزوج عثمان قد توفيت ، فعرض عمر ابنته على عثمان فأعرض عنها رغبة في أم كلثوم بضعة الرسول ليستديم له بذلك الشرف ، فعزّ هذا على عمر وأنفت نفسه فشكاه إلى أبى بكر فقال له لعلها تتزوج من هو خير منه ويتزوج من هى خير منها له (يريد زواج عثمان بأم كلثوم وزواج حفصة بالنبي صلّى الله عليه وسلم).

(٦) تزوج صفية بنت حيىّ بن أخطب سيد بنى النّضير ، وكانت قد وقعت

٥٠

فى السبي مع عشيرتها ، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلم أن يتزوجها رأفة بها إذ ذلت بعد عزة ، واسترقّت وهى السيدة الشريفة عند أهلها ، وتأليفا لقومها حتى يدخلوا في كنف الإسلام ، وينضووا تحت لوائه.

(٧) تزوج زينب بنت جحش الأسدية ، لإبطال عادة جاهلية كانت متأصلة عند العرب وهى التبني بتنزيل الدّعى منزلة الابن الحقيقي ، وإذا أراد الله إبطال هذه العادة جعل رسوله صلّى الله عليه وسلم أسوة حسنة في هذا ، فسعى في تزويج زيد مولاه بعد أن أعتقه بزينب ذات الحسب والمجد فأنفت هى وأخوها عبد الله ، وأبت أن تكون زوجا لدعىّ غير كفء ، فأنزل الله «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» فرضيا بقضاء الله ورسوله غير أنها كانت نافرة من هذا القرآن ، مترفعة عن زيد ، ضائقة به ذرعا ، فآثر فراقها ، فسأل الرسول الإذن في ذلك ، فقال له : أمسك عليك زوجك واتق الله ، وأخفى في نفسه ما الله مبديه من تزوجه منها بعد زيد ، وخشى أن يقول الناس : تزوج محمد من زيد ابنه.

ولما لم يبق لزيد فيها شىء من الرغبة طلقها ، فتزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم ، إبطالا لتلك العادة ، وهى إعطاء المتبنّى حكم لابن ، وقد تقدم تفصيل هذا في أثناء تفسير السورة بشىء من البسط والإيضاح.

ومما سلف يستبين لك أن ما يتقوله غير المنصفين من الغربيين من أن النبي صلّى الله عليه وسلم خوّل لنفسه ميزة لم يعطها لأحد من أتباعه ـ لا وجه له من الصحة فإن زواجه بأمهات المؤمنين كان لأغراض اجتماعية اقتضتها الدعوة ، ودعا إليها حب النصرة ، ولا سيما إذا علم أنه لم يتزوج بكرا قط إلا عائشة ، وأن من أمهات المؤمنين من كن في سن الكهولة أو جاوزنها.

٥١

أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإسلام

يجدر بذوي الحصافة في الرأى أن ينظروا إلى الأسباب التي دعت أن يبيح الإسلام تعدد الزوجات دون أن ينقموا عليه ذلك ، ويرموه بالقسوة ، فإن في بعضها ما هو موجب للتعدد لا مجيز له فحسب.

وهاك أهم الأسباب :

(١) قد تصاب المرأة أحيانا بمرض مزمن أو مرض معد يجعلها غير قادرة على القيام بالواجبات الزوجية ، فيضطر الرجل إلى أن يقترف ما ينافي الشرف والمروءة ويغضب الله ورسوله إن لم يبح له أن يتزوج بأخرى.

(٢) دل الاستقراء على أن عدد النساء يربو على عدد الرجال ، لما يعانيه هؤلاء من الأعمال الشاقة التي تنهك القوى وتضوى الأجسام ، ولا سيما الحروب الطاحنة ، فإذا منع التعدد لا يجد بعض النساء أزواجا يحصنونهن ويقومون بشئونهن ، فيكثر الفساد ، ويلحق الأسر العار وتعضهن الحياة بأنيابها.

(٣) حضت الشريعة الإسلامية على كثرة النسل ، لتقوى شوكة الإسلام ، وتعلو سطوته ، وتنفذ كلمته ، حتى ترهبه الأعداء ، وتتقيه الأمم المناوئة له ، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بإباحة تعدد الزوجات ، لأن المنع مفض إلى تناقص النسل ، ولا أدل على ذلك من أن عقلاء الأمم في الغرب أشفقوا على أممهم لما اعتراها من نقص في النسل بسبب منع التعدد من ناحية ، وإحجام كثير من شبانهم عن الزواج ، والاجتزاء بالسفاح ، فرارا من الحقوق الزوجية ، وأعباء الأولاد من ناحية أخرى ، ومن ثم لجأ كثير من الدول الغربية إلى ارتباط بعضهم ببعض بالحلف والعهود والمواثيق ، طلبا لنيل فائدة التكاثر ، وبذلك تبقى لهم السيادة الدولية.

٥٢

(٤) دل الإحصاء في كثير من البلاد الغربية على أن حظر تعدد الزوجات أدى إلى كثرة الأولاد غير الشرعيين مما حدا بعض المفكرين إلى النظر في توريثهم.

(٥) كان من نتائج منع التعدد انتشار كثير من الأمراض الفتاكة التي أصابت الرجال والنساء والأطفال حتى عجز الطب عن مكافحتها وتغلغل الداء وعز الدواء ، مما جعل بعض البلاد تسن القوانين التي تمنع عقد الزواج إلا بعد إحضار صكّ رسمى بخلو الزوجين من الأمراض المعدية والأمراض التي تجعل النسل ضعيفا ضاويا لا يستطيع الكفاح في الحياة.

ما حوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد

(١) الأمر بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين.

(٢) وجوب اتباع ما ينزل به الوحى مع ضرب المثل لذلك.

(٣) إبطال العادة الجاهلية وهى إعطاء المتبنّى حكم الابن ، وبيان أن الدين منه براء.

(٤) إبطال التوريث بالحلف والتوريث بالهجرة ، وإرجاع التوريث إلى الرحم والقرابة.

(٥) ذكر النعمة التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد أن اشتد بهم الخطب.

(٦) تخيير النبي نساءه بين شيئين : الفراق إذا أردن زينة الحياة الدنيا والبقاء معه إذا أحببن الله ورسوله والدار الآخرة.

(٧) التشديد عليهن بمضاعفة العذاب إذا ارتكبن الفواحش ، ونهيهن عن الخضوع فى القول وأمرهن بالقرار في البيوت ، وتعليمهن كتاب الله وسنة رسوله ، ونهيهن عن التبرج.

(٨) قصة زينب بنت جحش وزيد مولى رسوله صلّى الله عليه وسلم.

٥٣

(٩) ما أحل لنبيه من النساء وتحريم الزواج عليه بعد ذلك.

(١٠) النهى عن إيذاء المؤمنين للنبى صلّى الله عليه وسلم إذا دخلوا بيته لطعام ونحوه (١١) الأمر بكلام أمهات المؤمنين من وراء حجاب إذا طلب منهن شىء إلا الآباء والأبناء والأرقاء.

(١٢) أمرهن بإرخاء الجلباب إذا خرجن لقضاء حاجة.

(١٣) تهديد المنافقين وضعاف الإيمان والمرجفين في المدينة.

(١٤) سؤال المشركين عن الساعة متى هى؟

(١٥) النهى عن إيذاء النبي حتى لا يكونوا كبنى إسرائيل الذين آذوا موسى.

٥٤

سورة سبأ

هى مكية إلا الآية السادسة مثها فمدنية ، وآيها أربع وخمسون نزلت بعد لقمان.

ووجه اتصالها بما قبلها :

(١) إن الصفات التي أجريت على الله في مفتتحها تشاكل الصفات التي نسبت إليه في مختتم السورة السالفة.

(٢) إنه في السورة السابقة ذكر سؤال الكفار عن الساعة استهزاء ، وهنا حكى عنهم إنكارها صريحا ، وطعنهم على من يقول بالبعث ، وقال هنا ما لم يقله هناك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢))

تفسير المفردات

الحمد : هو الثناء على الله بما هو أهله ، والحكيم : الذي أحكم أمر الدارين ودبره بحسب ما تقتضيه الحكمة ، والخيبر : هو الذي يعلم بواطن الأمور وخوافيها ، يلج فى الأرض : أي يدخل فيها ، ويعرج : أي يصعد.

الإيضاح

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الحمد الكامل للمعبود المالك لجميع ما في السموات وما في الأرض دون كل ما يعبدونه ودون كل شىء سواه ، إذ لا مالك لشىء من ذلك غيره.

٥٥

والخلاصة ـ إن له عز وجل جميع ما في السموات وما في الأرض ، خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة.

ولما بين اختصاصه بالحمد في الدنيا أعقبه ببيان أن له وحده الحمد في الآخرة فقال :

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) أي وله الحمد في الآخرة خالصا دون سواه على ما أنعم به فيها كما حكى عن أهلها من قولهم : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» وقولهم : «الحمد لله الّذى أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفور شكور. الّذى أحلّنا دار المقامة من فضله».

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) أي وهو المدبّر لشئون خلقه على ما تقتضيه الحكمة ، الخبير ببواطن الأمور ومكنوناتها.

ثم فصل بعض ما يحيط به علمه من الأمور التي نيطت بها مصالح عباده الدنيوية والأخروية فقال :

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي يعلم ما يدخل في الأرض كالغيث ينفذ في موضع وينبع في آخر ، وكالكنوز والدفائن والأموات ، وما يخرج منها كالحيوان والنبات والغازات وماء العيون والمعادن التي مضى عليها آلاف السنين ، ومخلّفات الأمم ومصنوعاتهم كمخلفات المصريين القدماء ونقوش آشور وبابل وعجائب أهل سبأ وصناعاتهم ، مما استخرجه علماء العاديات من الأوربيين في القرن الماضي والعصر الحاضر ، ولا يزالون كل يوم يكشفون جديدا يدل على أن الشرق كان ذا مدنية وحضارة لا يدانيها أعظم ما يوجد في الغرب الآن في أرقى ممالكه.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالملائكة والكتب والأرزاق والمطر والصواعق.

(وَما يَعْرُجُ فِيها) كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والدخان والطائرات والمطاود الجوية.

(وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) أي وهو مع كثرة نعمه وسبوغ فضله ، رحيم بعباده فلا يعاجل بعقوبة ، غفور لذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.

٥٦

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))

تفسير المفردات

لا يعزب عنه : أي لا يفوته علمه ، مثقال ذرة : أي مقدار أصغر نملة ، والكتاب المبين : اللوح المحفوظ ، رزق كريم : أي حسن لا تعب فيه ولا منّ عليه ، معاجزين : أي مسابقين يظنون أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم ، رجز : أي عذاب شديد ، العزيز : أي الذي يغلب ولا يغلب ، الحميد : أي المحمود في جميع شئونه ، وصراطه : هو التوحيد والتقوى.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه أن له الحمد في الآخرة على ما أسدى إلى عباده من النعم ، أردف ذلك بيان أن كثيرا منهم ينكرها أشد الإنكار ، ويستهزئ بمن يثبتها ويعتقد أنها ستكون ، وقد بلغ من تهكمهم أنهم يستعجلون مجيئها ظنا منهم أن هذه خيالات بل أضغاث أحلام ، وقد ذكر أن مجيئها ضربة لازب ، لتجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ، ثم أعقب هذا ببيان أن الناس فريقان : مؤمن بآيات ربه يرى أنها الحق

٥٧

وأنها تهدى إلى الصراط المستقيم ، ومعاند جاحد بها يسعى في إبطالها ، ومآل أمره العذاب الأليم على ما دسّى به نفسه من قبيح الخلال.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أي وقال الذين ستروا ما أرشدتهم إليه عقولهم من البراهين الدالة على قيام الساعة : إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا ولا بعث ولا حساب ، إن هى إلا أرحام تدفع ، وأرض تبلع ، وما نحن بمبعوثين.

وقد أمر الله رسوله أن يرد عليهم مؤكدا لهم بطلان ما يدّعون.

(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي قل لهم إنها وربى لآتية لا ريب فيها.

وهذه الآية إحدى آيات ثلاث أمر الله فيها رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد حين أنكره من أنكره من أهل الشرك والعناد ، فإحداهن في سورة يونس «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» وثانيتها فى سورة التغابن «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ» وثالثتها ما هنا.

ثم وصف المولى نفسه بكامل العلم وعظيم الإحاطة بالموجودات مما يؤكد إمكان البعث فقال :

(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي إن وقت مجيئها لا يعلمه سوى علام الغيوب الذي لا يغيب عن علمه شىء في السموات ولا في الأرض من ذرة فما دونها ولا ما فوقها ، أين كانت وأين ذهبت ، فكل ذلك محفوظ في كتاب مبين ، فالعظام وإن تلاشت ، واللحوم وإن تفرقت وتمزقت ، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت ، فيعيدها كما بدأها أول مرة وهو بكل شىء عليم.

ثم بين الحكمة في إعادة الأجسام وقيام الساعة بقوله :

٥٨

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي ببعثهم من قبورهم يوم القيامة ، ليثيب الذين آمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه وأولئك لهم مغفرة لذنوبهم من لدنه ، وعيش هنىء في الجنة لا تعب فيه ولا منّ عليه ، والخلاصة ـ إن الحكمة تقتضى وجودها ، وليس هناك مانع منها ، فالعلم المحيط بالغيب موجود ، فقد وجد المقتضى لوجودها ، وارتفع المانع من إتيانها.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي وليجزى الذين سعوا في إبطال أدلتنا وحججنا عنادا منهم وكفرا ، وظنوا أنهم يسبقوننا بأنفسهم فلا نقدر عليهم بشديد العذاب في جهنم وبئس المهاد ، لما اجترحوا من السيئات ودسّوا به أنفسهم من قبيح الأعمال.

وإجمال ذلك ـ إن الساعة آتية لا محالة ، لينعم السعداء المؤمنون ، ويعذّب الأشقياء الكافرون.

ونحو الآية قوله : «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» وقوله : «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ».

ثم استشهد باعتراف أولى العلم ممن آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأضرابهما بصحة ما أنزل إليك ، ليردّ به على أولئك الجهلة الساعين في الآيات الذين أنكروا الساعة فقال :

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي وقال الجهلة المنكرون للبعث والحشر والحساب ـ إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا ؛ وقال العالمون من أهل الكتاب ومن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن يأتى من بعدهم من أمته : إن الذي أنزل إليك من ربك مثبتا لقيام الساعة ومجازاة كل عامل بما عمل من خير أو شر ـ هو الحق الذي لا شك فيه ، وأنه هو الذي

٥٩

يرشد من اتبعه وعمل به إلى سبيل الله الذي لا يغالب ولا يمانع ، وهو القاهر لكل شىء والغالب له ، وهو المحمود على جميع أقواله وأفعاله وما أنزله من شرع ودين.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

تفسير المفردات

تمزيق الشيء : تقطيع أوصاله وجعله قطعا قطعا ، يقال ثوب مزيق وممزوق ومتمزّق وممزّق ، ومنه قوله :

إذا كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلا فأدركنى ولما أمزّق

والافتراء : اختلاق الكذب ، والجنة : الجنون وزوال العقل ، كسفا : قطعا واحدها كسفة ، منيب : أي راجع إلى ربه مطيع له.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه أنهم أنكروا الساعة ورد عليهم ما قالوا وأكده كل التأكيد ، ثم ذكر ما يكون إذ ذاك من جزاء المؤمن بالثواب العظيم على ما عمل من صالح الأعمال ، وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب في الجحيم على ما دسّى

٦٠