تفسير المراغي - ج ٢٢

أحمد مصطفى المراغي

(وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي وأخذوا حين الفزع من الموقف إلى النار ولم يمكّنوا أن يمعنوا في الهرب.

(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وقالوا حينئذ : آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وأنّى لهم ذلك وقد صاروا بعيدين عن قبول الإيمان؟ إذ هذه الدار ليست أهلا لقبول التكاليف من الإيمان بالله والعمل الصالح.

ونحو الآية قوله : «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ».

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي وكيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل؟.

(وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وهم قد كانوا يرجمون بظنون لا مستند لهم فيها ، فيتكلمون في الرسول بمطاعن ليس لها ما يؤيدها ، فتارة يقولون إنه شاعر ، وأخرى إنه كاهن ، وثالثة إنه ساحر ، إلى نحو ذلك من الأقوال الباطلة ، ويكذبون بالبعث والنشور والحساب والجزاء.

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) أي وحيل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا ليعلموا صالحا كما قال : «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا».

ثم بين أن هذه سنة الله في أمثالهم ممن كذبوا الرسل من قبلهم فقال :

(كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي فعلنا بهم كما فعلنا بالأمم الماضية التي كذبت رسلها فتمنّوا حين رأوا بأس الله أن لو آمنوا ولكن لم يقبل منهم.

ثم علل عدم قبول إيمانهم ووصولهم إلى بغيتهم حينئذ بقوله :

(إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) أي لأنهم كانوا في الدار الأولى شاكين فيما أخبرت به الرسل من البعث والجزاء ، وقد تغلغل الشك في قلوبهم حتى صاروا لا يطمئنون إلى شىء مما جاءوا به.

١٠١

ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام

(١) حمد الله والثناء عليه بما هو أهله.

(٢) مقال المشركين في إنكار البعث والرد عليهم بأنه آت لا شك فيه.

(٣) الاستهزاء بالرسول وحكمهم عليه بأنه إما مفتر وإما مجنون.

(٤) النعم التي آتاها سبحانه داود وسليمان عليهما السلام.

(٥) ما كان لسبأ من النعم ثم زوالها لكفرانهم بها واتباعهم وسوسة الشيطان.

(٦) النعي على المشركين لعبادتهم الأوثان والأصنام مع بيان أنها لا تفيدهم يوم القيامة شيئا (٧) الحجاج والجدل بين الأتباع والمتبوعين من الكافرين يوم القيامة وإلقاء كل منهما التبعة على الآخر.

(٨) بيان أن المترفين في كل أمة هم أعداء الرسل ، لا عتزازهم بأموالهم وأولادهم ، واعتقادهم أنهم ما آتاهم ربهم ذلك إلا لرضاه عنهم ثم رده سبحانه عليهم.

(٩) سؤال الملائكة أمام المشركين بأنهم هل طلبوا منهم عبادتهم؟ ليكون فى ردهم ما يكفى في تبكيتهم.

(١٠) مقال المشركين عند سماع القرآن وادعاؤهم أنه ليس بوحي من عند الله بل الداعي مفتر ليصدّ الناس عن دين الآباء والأجداد.

(١١) عظتهم بما حل بمن قبلهم من الأمم.

(١٢) أمرهم بالتأمل والتدبر في الأدلة التي أمامهم لعلهم يرعوون عن غيهم.

(١٣) إثبات أن الرسول نذير مبين ، لا مفتر ولا مجنون.

(١٤) الرسول لا يطلب أجرا على دعوته ، بل أجره على الله.

(١٥) طلب المشركين يوم القيامة أن يرجعوا إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسول ويعملوا صالح الأعمال ، ثم الرد عليهم بأن ذلك قد فات أوانه وأن لا سبيل إلى تحقيقه.

١٠٢

سورة فاطر ـ سورة الملائكة

هى مكية نزلت بعد سورة الفرقان وآيها خمس وأربعون.

ومناسبتها لما قبلها :

إنه لما ذكر سبحانه في آخر سابقتها هلاك المشركين وإنزالهم منازل العذاب ـ لزم المؤمنين حمده تعالى وشكره كما جاء في قوله : «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١))

تفسير المفردات

فطر الشيء : أوجده على غير مثال سابق ، رسلا : أي وسائط بينه وبين أنبيائه يبلغون عنه رسالاته ، مثنى وثلاث ورباع : أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة.

الإيضاح

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له سبحانه الشكر ، فقد أبدع خلق السموات والأرض وما بينهما على غير مثال سابق وأحكم تدبيرهما على أتم نظام ، كما قيل : ليس في الإمكان أبدع مما كان.

(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه يبلغون إليهم رسالاته ـ ذوى أجنحة إما اثنين اثنين ، وإما ثلاثة ثلاثة ، وإما أربعة أربعة.

١٠٣

والأجنحة في العالم المادي تساعد على الطيران ، وكثرتها تومئ إلى السرعة ، وهى فى عالم الأرواح ترشد إلى القدرة على السرعة في تنفيذ أوامر الله وتبليغ رسالات ربهم إلى أنبيائه.

وفي هذا إيماء إلى أن الملائكة تتفاوت أقدارهم وقواهم عند الله تعالى بحسب استعدادهم الروحي. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح» وفي هذا رمز إلى قوة استعداده الروحي وقربه من الملأ الأعلى وسرعة تنفيذه ما يؤمر به.

(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أي يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء ، كما يزيد في أرجل الحيوان ما يشاء حتى لقد تبلغ فوق العشرين أحيانا ، وهكذا يزيد في تفاوت العقول والنفوس والقوى المادية والمعنوية كما قيل :

والناس ألف منهم كواحد

وواحد كالألف إن أمر عنا

ثم ذكر ما هو كالدليل لما سبق بقوله :

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيزيد كل ما هو أهل للزيادة وما هو مستعد لها ، حسية كانت أو معنوية ، فلا يمتنع عليه فعل شىء أراده ، لما له من القدرة والسلطان على كل شىء.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢))

تفسير المفردات

يفتح : يعطى ، ورحمة : أي نعمة حسية كانت أو معنوية ، كرزق وصحة وأمن وعلم وحكمة ، إلى نحو ذلك مما لا يحاط به.

١٠٤

المعنى الجملي

بعد أن وصف سبحانه نفسه بالقدرة الكاملة والإرادة النافذة ـ أيد ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من الضيق حينا والسعة حينا آخر ، مع العجز عن دفع البؤس إن وجد ، وجلب النعمة لو أراد.

الإيضاح

مفاتيح الخير ومغاليقه كلها بيده سبحانه ، فما يعط من خير فلا يستطيع أحد منه ولا إمساكه ، وأي خير يمسكه فلا يبسطه ولا يفتحه لهم فاتح ، لأن الأمور كلها بيده ، ومنه البذل والعطاء ، والمنع والإمساك.

وهو الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي منها الفتح والإمساك ، وهو الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

وفي الآية عظة للناس بالإقبال إلى ربهم والتوجه إليه في قضاء حاجهم ، والتوكل عليه في جميع مآربهم ، والإعراض عما سواه من جميع خلقه.

ونحو الآية قوله : «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ».

روى أحمد عن المغيرة بن شعبة أنه قال : «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ».

وروى مسلم عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال : «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء والأرض ، وملء ما شئت من شىء بعد ، اللهم أهل الثناء والمجد ،

١٠٥

أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد : اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ».

وأخرج ابن المنذر عن عامر بن عبد قيس قال : أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن فما أبالى ما أصبح عليه وأمسى : (١) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده. (٢) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله. (٣) سيجعل الله بعد عسر يسرا. (٤) وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣))

تفسير المفردات

أنى تؤفكون : أي كيف تصرفون عن توحيد الخالق ، مع الاعتراف بأنه وحده هو الرازق. وتشركون المنحوت : بمن له الملك والملكوت.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه أنه وحده هو المنعم بما يشاهده كل أحد في نفسه ـ أمر بذكر نعمه بالاعتراف بها والشكر عليها.

الإيضاح

أيها الناس راعوا نعم الله ، واحفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها ، وخصوا خالقها بالعبادة والطاعة فهو الذي بيده أرزاقكم وأقواتكم ، فإلى أىّ وجه تصرفون عنه بعد أن استبان الحق ، ووضح السبيل.

١٠٦

والخلاصة ـ احفظوا نعم الله وأدوا حقها ، ولا تشركوا به سواه من الأصنام والأوثان ، بعد وضوح الدليل وسطوع البرهان.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الأصل الأول وهو التوحيد ـ ثنى بذكر الأصل الثاني وهو الرسالة وسلى رسوله على تكذيب قومه له بأنه ليس ببدع بين الرسل فقد كذّب كثير منهم قبله ، فعليه أن يتأسى بهم ويصبر على أذاهم ، ثم ذكر الأصل الثالث وهو البعث والنشور مع بيان أنه حق لا شك فيه ، وأنه لا ينبغى أن يقبلوا فيه وساوس الشيطان ، فإنه عدو لبنى آدم ولا يرشدهم إلا إلى الذنوب والآثام التي توصلهم إلى عذاب النار ، وبئس القرار.

الإيضاح

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي وإن استمر قومك على تكذيبك فيما بلّغته إليهم من الحق المبين ، بعد أن أقمت لهم الحجج وضربت الأمثال ، فتأسّ بمن سبقك من الرسل فقد صبروا على ما أوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلماتنا.

وإلى الله مرجع أمرك وأمرهم فيجازيك وإياهم على الصبر والتكذيب.

ثم ذكر أن البعث آت لا ريب فيه فقال :

١٠٧

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي إن وعد الله بالحشر والجزاء حق لا شك فيه ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فيذهلنّكم التمتع بمتاعها ، ولا يلهينّكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد اتباعا لوساوس الشيطان.

والخلاصة ـ إنكم لا تغتروا بالحياة الدنيا ، وتتركوا فعل ما أمرتم به ، وتفعلوا ما نهيتم عنه.

ثم ذكر العلة في عدم الاغترار بالشيطان فقال :

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي إن الشيطان معلن عداوته لكم بوسوسته ، فعادوه أنتم أشد العداوة ، وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به.

ثم ذكر أعماله ودعوته أتباعه إلى الغواية والضلالة فقال :

(إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي ما غرضه من دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى لذات الدنيا إلا إضلالهم وإلقاؤهم في العذاب الدائم من حيث لا يشعرون.

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨))

تفسير المفردات

الحسرات : واحدها حسرة ، وهى الغم على مافات والندم عليه.

١٠٨

المعنى الجملي

بعد أن أبان أن الشيطان يضل أتباعه ويدعوهم إلى النار ـ ذكر هنا أن حزب الشيطان له العذاب الشديد ، وأن حزب الله له المغفرة والأجر الكبير ، ثم بين أن الضلال والهداية بيد الله بحسب ما يعلم من الاستعداد وصفاء النفوس وقبول الهداية ، أو تدسيتها وارتكابها الإجرام والمعاصي ، فلا تحزن على ما ترى من ضلال قومك وإتباعهم لوساوس الشيطان ، والله عليم بحالهم وسيجازيهم بما يستحقون.

أخرج جويبر عن الضحاك أن الآية نزلت في عمر رضى الله عنه وأبى جهل حيث هدى الله عمر وأضل أبا جهل.

الإيضاح

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي الذين كفروا بالله ورسوله لهم عذاب شديد في النار ، من جراء كفرهم وإجابتهم دعوة الشيطان واتباعهم خطواته.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي والذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه ـ لهم مغفرة من الله لذنوبهم وأجر كبير كفاء ما ملئوا به قلوبهم من عامر الإيمان ، وأخبتوا لربهم بصالح الأعمال.

ثم بيّن البعد ما بين الفريقين ، واختلاف حال الفئتين فقال :

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) أي أفمن حسّن له الشيطان سيىء الأعمال من معاصى الله والكفر به وعبادة مادونه من الآلهة والأوثان ، فحسب سيىء ذلك حسنا ، وظن قبيحه جميلا ، ألك فيه حيلة؟

ثم ذكر السبب في اتجاه كل من الفريقين إلى ما اتجه إليه فقال :

(فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي فإن ذلك الإضلال بمشيئة الله تعالى التابعة لعلمه باستعداد النفوس للخير وللشر ، وقد تقدم ذلك غير مرة ، فلا حاجة إلى الإطناب فيه.

١٠٩

ثم أتى بما هو كالنتيجة لما سلف فقال :

(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي فلا تأسف على عدم إيمانهم وعدم إجابتهم دعوتك ، فإن الله حكيم في قدره ، فهو يضل من يضل من عباده ويهدى من يشاء لما له في ذلك من الحجة البالغة ، والعلم التام باستعداد النفوس ، إما بإخباتها لربها ، وإنابتها إليه ، وميلها إلى صالح العمل ، وإما بتدسيتها وحبها لاجتراح السيئات ، وارتكاب الموبقات.

ونحو الآية قوله : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً».

ثم هدد الكافرين على قبيح أعمالهم فقال :

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي إن الله عليم بما يصنعون من القبائح ، فيجازيهم عليه بما يستحقون ، وفي هذا وعيد تهد منه الجبال وتدك منه الأرض دكا.

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١))

تفسير المفردات

أرسل : أي أطلق وأوجد من العدم ، تثير أي تحرك ، ميت وميّت بمعنى قاله محمد بن يزيد وأنشد :

١١٠

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميّت الأحياء

إنما الميت من يعيش كئيبا

كاسفا باله قليل الرجاء

ويرى بعضهم أن الميت بالتخفيف هو الذي مات ، والميت بالتشديد ، والمائت هو الذي لم يمت بعد وأنشد :

ومن يك ذا روح فذلك ميّت

وما الميت إلا من إلى القبر يحمل

والمراد أنه لا نبات فيه ، والنشور : إحياء الأموات يقال نشر الله الميت وأنشره ، أي أحياه ، العزة : أي الشرف والمنعة من قولهم أرض عزاز : أي صلبة ، والكلم الطيب : هو التوحيد أو الذكر أو قراءة القرآن ، وصعوده إلى الله : قبوله ، والعمل الصالح : هو ما كان بإخلاص ، يرفعه : أي يقبله ، يمكرون : أي يعملون على وجه المكر والخديعة ، والسيئات : المكرات السيئات كأن يراءوا المؤمنين في أعمالهم يوهمونهم أنهم في طاعة الله ، يبور : أي يفسد من البوار وهو الهلاك ، أزواجا : أي أصنافا ذكرانا وإناثا ، يعمر من معمر : أي يمدّ في عمر أحد ، فى كتاب : أي في صحيفة المرء.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه أن الكافرين لهم عذاب شديد يوم القيامة ، وأن الذين يعملون الصالحات لهم أجر كبير عند ربهم في ذلك اليوم ـ أردف ذلك بيان أن هذا اليوم لا ريب فيه ، وضرب المثل الذي يدل على تحققه لا محالة ، ثم ذكر أن من يريد العزة فليطع الله ورسوله ، ولا يتعزز بعبادة الأصنام والأوثان كما أخبر الله عنهم «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» وأن العمل الطيب يرفع إلى الله ويحفظ لديه ويجازى. عليه ، ثم أعقب ذلك بأن من يمكر بالمؤمنين ويريد خداعهم فالله يفسد عليه تدبيره ويجازيه بما عمل شر الجزاء ، وبعد أن ذكر دليل البعث بما يشاهد فى الآفاق من دلائل القدرة ، ذكر دليلا عليه بما يرى في الأنفس من اختلاف

١١١

أطوارها ، فقد كانت ترابا ثم نطفة ثم وضعت في الأرحام إلى أن صارت بشرا سويا ، ومنها ما يمد في عمرها ، ومنها ما يخترم قبل ذلك ، كما تدل عليه المشاهدة ، وكل ذلك يسير على الله.

الإيضاح

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) أي أفلا تتدبرون وتعقلون فتعلموا أن من أوجد الرياح بعد أن لم تكن ، ثم جعلها تسيّر السحاب الثقال ، فتنزل منها الغيث إلى الأرض الجرز التي لا نبات بها ، فتحيا بعد أن كانت ميتة وتهتز وتربو وتنبت كل زوج بهيج ـ أفليس ذلك القادر الحكيم الذي أحيا ميت الأرض بقادر على أن يحيى الموتى بعد بلاها ، وبعد أن كانت عظاما نخرة؟ إنه على كل شىء قدير.

وعن أبى رزين قال : «قلت يا رسول الله كيف يحيى الله الموتى؟ وما آية ذلك فى خلقه؟ قال صلّى الله عليه وسلم يا أبا رزين أما مررت بوادي قومك ممحلا ، ثم مررت به يهتز خضرا؟ قلت بلى ، قال صلّى الله عليه وسلم فكذلك يحيى الله الموتى».

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي من كان يود أن يكون عزيزا فى الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى ، فإن بها تنال العزة إذ لله العزة فيهما جميعا.

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي إنه سبحانه يقبل طيب الكلام كالتوحيد والذكر وقراءة القرآن ، ومن الذكر : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.

(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) صلاح العمل بالإخلاص فيه ، وما كان كذلك قبله الله وأثاب عليه ، وما لا إخلاص فيه ، وما كان كذلك قبله الله وأثاب عليه ، وما لا إخلاص فيه فلا ثواب عليه بل عليه العقاب ، فالصلاة والزكاة وأعمال البر إذا فعلت مراءاة للناس لا يتقبلها الله كما قال سبحانه «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ».

وروى عن ابن عباس أنه قال : الكلام الطيب ذكر الله ، والعمل الصالح : أداء

١١٢

فرائضه. وعن الحسن وقتادة : لا يقبل الله قولا إلا بعمل ، من قال وأحسن قبل الله منه.

والخلاصة ـ إن القول إذا لم يصحبه عمل لا يقبل ، وأنشدوا :

لا ترض من رجل حلاوة قوله

حتى يزيّن ما يقول فعال

وإذا وزنت فعاله بمقاله

فتوازنا فإخاء ذاك جمال

وقال ابن المقفّع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر.

وبعد أن ذكر أن العمل الصالح يصعد إلى الله ، ذكر أن المرائين لا يتقبل منهم عمل ، ولهم عذاب شديد عند ربهم قال :

(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والذين يمكرون المكر السيّء بالمسلمين ، بأن يعملوا كل ما يكون سببا في ضعف الإسلام والحطّ من قدره حتى يمّحى أثره من الوجود ، كما فعلت قريش في دار الندوة ، إذ تدارست الرأى في شأن النبي صلى الله عليه وسلم يحبسه أو قتله أو إجلائه من مكة ـ لهم العذاب الشديد يوم القيامة.

(وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي ومكر هؤلاء المفسدين يظهر زيفه عن قريب لأولى البصائر ، فإنه ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، فالمرائى لا يروج أمره ولا يتفق إلا على غبىّ ، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم ، بل ينكشف عن قريب ، ويجازون عليه أشد الخزي والهوان.

ثم ذكر دليلا على صحة البعث بما يرى في الأنفس فقال :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي والله خلق الناس من النطفة ، والنطفة من الغذاء ، والغذاء ينتهى آخرا إلى الماء والتراب ، فهم من تراب صار نطفة ، ثم جعلهم أصنافا ذكرانا وإناثا بقدر معلوم بحيث يكاد الفريقان يستويان عددا ، ولو لم يكن كذلك لفنى الإنسان والحيوان ، إذ حفظ النوع لا يتم

١١٣

إلا بتلك المساواة على وجه التقريب ، ولا تكون المساواة إلا بتدبير وعلم ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي ولا تحمل الأنثى ولا تضع إلا وهو عليم بذلك لا يخفى عليه ، ولو لم يكن كذلك وكانت المصادفة العمياء هى صاحبة السلطان فى هذا العالم ، لم يتم التوازن في العدد بين الزوجين فيفنى الإنسان والحيوان.

ونحو الآية قوله : «اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ».

(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) أي لا أحد يقضى له بطول العمر إلا وهو بالغ ما قدّر له ، لا يزيد على ذلك ولا ينقص منه ، ولا أحد مقدّر له قصر العمر بزائد على ما قدّر له في الكتاب الذي كتب له ، وذلك لحفظ الموازين فى الأرض حتى ينتظم العمران ، ولو لم يكن على هذا النحو لاختلط الحابل بالنابل ، وساء حال الكون ، إذ يكثر الناس وتزدحم الأرض ويشتد الكرب ، ومن ثم تفاوتت الأعمار في جميع الأمصار وكانت بمقدار ، واعتدل النظام بالمرض والموت ، والوباء والحرب.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي إن ذلك النظام البديع للعالم ـ هيّن على الله لعلمه الشامل ، وعدم خفاء شىء عليه.

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ

١١٤

يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

تفسير المفردات

عذب : أي حلو لذيذ طعمه ، فرات : أي كاسر للعطش مزيل له ، سائغ : أي سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس ، أجاج : أي شديد الملوحة والحرارة ، حلية : أي لؤلؤا ومرجانا ، مواخر : أي شاقات للماء حين جريانها ، يولج : أي يدخل ، والقطمير : لفافة النبواة ، وهى القشرة البيضاء الرقيقة التي تكون بين التمرة والنواة ، يكفرون بشرككم : أي يجحدون بإشراككم إياهم وعبادتكم لهم ، ولا ينبئك مثل خبير : أي ولا يخبرك بالأمر مخبر مثل الخبير به.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الأدلة على إثبات البعث وضرب المثل لذلك بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الغيث عليها ـ أردف هذا ذكر البراهين المختلفة على وحدانيته وعظيم قدرته بخلقه الأشياء المتحدة في الجنس المختلفة في المنافع ، فهذا ماء عذب ذلال يجرى فى الأقاليم والأمصار ، والبراري والقفار ، يسقى منه الإنسان والحيوان وينبت النبات الذي فيه غذاء لهما ، وهذا ماء ملح أجاج تسير فيه السفن الكبار ويستخرج منه اللؤلؤ والمرجان ، ومن كل منهما نأكل لحما طريّا فيه لذة للآكلين ، وهذان ليل ونهار ، ضياء وظلام ، يدخل أحدهما في الآخر فيأخذ هذا من طول ذاك ، ويزيد هذا في قصر ذاك فيعتدلان ، ثم يتقارضان صيفا وشتاء ، وسخر الشمس والقمر والنجوم

١١٥

الثوابت والسيارات ، كل يجرى بمقدار معين وعلى نهج ثابت لا يتغير ، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم.

أما ما تدعون من دونه من الأصنام والأوثان فلا يملكون شروى نقير ، ولا يسمعون لكم دعاء ، ولا يستجيبون لدعوة ، ويوم القيامة يتبرءون منكم إذا دعوتموهم واستشفعتم بهم ، ولا ينبئك بهذا إلا الخبير وهو ربك العليم بما كان وما سيكون.

الإيضاح

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي وما يعتدل البحران فيستويان : أحدهما عذب سائغ شرابه يجرى في الأنهار السارحة بين الناس من كبار وصغار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار. وثانيهما ملح ساكن تسير فيه السفن الكبار (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) أي ومن كل البحار تأكلون السمك الغض الطرىّ فضلا من الله ومنة.

(وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وتستخرجون الدر والمرجان من الملح الأجاج ومن العذب الفرات ، وتجرى السفن في كل منهما تشقه شقا بحيازيمها حين جريها ، مقبلة مدبرة حاملة أقواتكم من بلد إلى آخر ، فتدفع عنكم المخمصة وتسدّ العوز.

لعلكم تشكرونه سبحانه على تسخيرها لكم ، تتصرفون فيها كيف شئتم ، وتذهبون فيها إن أردتم.

ولما كان بين الفلك في البحر والشمس والقمر في مدارهما مناسبة ، فإن كلا منهما سارح في تلك العوالم الشاسعة ـ أردفه ذكر الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر فقال :

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل الليل في النهار فيكون

١١٦

النهار أطول من الليل ساعة فأكثر ، ويدخل النهار في الليل فيكون الليل أطول من النهار كذلك.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وأجرى لكم الشمس والقمر ، نعمة منه عليكم ورحمة بكم ، لتعلموا عدد السنين والحساب ، ولتسكنوا في الليل ، وتبتغوا فضلا منه في النهار ، ولا يزالان يجريان هكذا لأجل معلوم ، لا يقصران دونه ، ولا يتعديانه ، وهو يوم القيامة.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي ذلكم الذي يفعل هذه الأفعال هو معبودكم الذي لا تصلح العبادة إلا له ، وهو ربكم الذي له الملك التام والسلطان المطلق والقهر والجبروت ، وكل من في السموات والأرض فهو عبد له وتحت قبضته وبطشه.

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي والذين تعبدونهم من الأصنام والأوثان لا يملكون شيئا ولو كان حقيرا ، بل هم ملك لخالق القوى والقدر.

ثم أكد ما سلف مبينا حقارة شأنهم وعظيم ضعفهم بقوله :

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) أي وإن تدعوا هذه الآلهة من دون الله لا تسمع لكم دعاء ، لأنهم جماد لا أرواح لهم ، ولو سمعوا ما قدروا أن ينفعوكم ويستجيبوا لشىء مما تطلبون.

والخلاصة ـ كيف تعبدون من لا ينفع ولا يضر ، وتدعون من بيده النفع والضر ، وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون.

وبعد أن نفى المقتضى للعبادة ، وهو مجىء النفع والضر من قبلهم ، ذكر المانع من عبادتهم وهو كفرهم بهم يوم القيامة فقال :

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي وهم يوم القيامة يتبرءون منكم ويقولون : ما كنتم إيانا تعبدون ، بل كنتم تعبدون أهواءكم وشهواتكم وما زينته لكم شياطينكم ونحو الآية قوله : «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا : كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا».

١١٧

ثم أكد صدق ما حكاه عنهم من أحوالهم بقوله :

(وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي ولا يخبرك عن أمر هذه الآلهة وعن أمر عبدتها يوم القيامة إلا ذو خبرة بأمرها وأمرهم ، وهو الله الذي لا يخفى عليه شىء كان ، أو سيكون في مستأنف الأزمان.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨))

تفسير المفردات

ولا تزر : أي ولا تحمل ، وازرة : أي نفس آثمة ، وزر أخرى : أي إثم نفس أخرى ، والمثقلة : النفس التي أثقلتها الذنوب والأوزار ، ذا قربى : أي ذا قرابة من الداعي ، بالغيب : أي غائبا عنهم ، وتزكى : أي تطهر من دنس الأوزار والذنوب ، والمصير : المرجع والعاقبة

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن ملك السموات والأرض له ، وأن ما يدعون من دونه من الأصنام والأوثان لا يملك شيئا ولا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا ـ أعقب هذا بما هو فذلكة لما تقدم وكالنتيجة له ، بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتكال إلا عليه ، فهو الذي تجب عبادته وحده ، لأن النفع والضر بيده لا شريك له ؛ ثم بين أنه يوم القيامة

١١٨

لا تجزى نفس عن نفس شيئا ، ولا تستطيع دفع ضر عنها ولو كانت ذات قرابة منها ، ثم أرشد إلى أن البشارة والإنذار إنما تجدى نفعا لدى من يخشى الله ويخاف عقابه ، وأن من يتزكى فنفع ذلك عائد إليه ، وإلى الله عاقبة الأمور كلها ومردّها إليه.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي أنتم أيها العباد أولو الحاجة والفقر إلى خالقكم ورازقكم ، فإياه فاعبدوا ، وإلى رضاه فسارعوا ، وهو الغنى عن عبادتكم وعن غيرها ، وهو المحمود على نعمه ، فكل نعمة بكم وبسواكم فهى منه ، فله الحمد والشكر على كل حال.

والخلاصة ـ أنتم في حاجة إليه وهو ذو الغنى وحده لا شريك له ، والمحمود فى جميع ما يقول ويفعل ويشرع لكم ولغيركم من الأحكام.

ثم أرشد إلى غناه وإلى قدرته الكاملة بقوله :

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي إن يشأ ربكم أن يهلككم أهلككم ، لأنه هو الذي أنشأكم من غير حاجة به إليكم ، ويأت بخلق سواكم يطيعونه ويأتمرون بأمره وينتهون عما نهاهم عنه ، وما ذلك بصعب على الله الخالق لجميع عباده ، بل هو يسير هيّن عليه.

وليس بخاف ما في هذا من تهديد ووعيد ، وزجر وتأنيب.

ثم أخبر عن أحوال يوم القيامة وأهوالها وشدائدها بقوله :

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى ، بل تحمل كل نفس وزرها فحسّب ، ولا تنافى بين هذا وما جاء في سورة العنكبوت من قوله سبحانه : «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ» فإن هذا في الضالين المضلين وهم يحملون إثم إضلالهم مع إثم ضلالهم ، وكل ذلك آثامهم لا آثام غيرهم.

١١٩

(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي وإن تسأل نفس ذات ثقل من الذنوب ، من يحمل عنها ذنوبها؟ لم تجد من يجيبها إلى ما تطلب ولو كان المدعو ذا قرابة لها كأب أو ابن ، إذ كلّ مشغول بنفسه ، ولكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ونحو الآية قوله : «لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً» وقوله : «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» قال عكرمة : إن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول يا بنىّ : أىّ والد كنت لك؟ فيثنى خيرا فيقول له يا بني إنى قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى ، فيقول له ولده : يا أبت ما أيسر ما طلبت ، ولكنى أتخوف مثل ما تتخوف ، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا ، ثم يتعلق بزوجته فيقول يا فلانة : أىّ زوج كنت لك؟ فنثنى خيرا فيقول لها إنى أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لى لعلى أنجو بها مما ترين ، فتقول ما أيسر ما طلبت. ولكنى لا أطيق أن أعطيك شيئا ، إنى أتخوف مثل الذي تتخوف ثم سلى رسوله صلّى الله عليه وسلم على عدم قبولهم دعوته وإصرارهم على عنادهم فقال :

(إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي إنما يجدى النصح والإنذار لدى من يخشون الله ويخافون شديد عقابه يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك ، بل لإيمانهم بما أتيت به وتصديقهم لك فيما أنبأت به عن ربك ، فهؤلاء هم الذين ينفعهم إنذارك ويتعظون بمواعظك ، لا من طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ـ إلى أنهم يؤدون الصلاة المفروضة عليهم ويقيمونها على ما رسمه الدين ،

١٢٠