تفسير المراغي - ج ٢٢

أحمد مصطفى المراغي

المعدود ، وعدّة المرأة : الأيام التي بانقضائها يحل بها التزوج ، فمتعوهن : أي أعطوهن المتعة ، وهى قميص وخمار (ما تغطى به المرأة رأسها) وملحفة (ما تلتحف به من قرنها إلى قدمها ـ ملاية) سرحوهن : أي أخرجوهن من منازلكم ، سراحا جميلا : أي إخراجا مشتملا على ليّن الكلام خاليا من الأذى.

المعنى الجملي

أدب الله نبيه بمكارم الأخلاق بقوله : يا أيها النبي اتق الله ، وثنى بتذكيره بحسن معاملة أزواجه بقوله : يا أيها النبي قل لأزواجك ، وثلث بذكر معاملته لأمته بقوله :

يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ، وكان كلما ذكر للنبى مكرمة ، وعلمه أدبا ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، فأرشد المؤمنين فيما يتعلق بجانبه تعالى بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) ، وفيما يتعلق بما تحت أيديهم من الزوجات بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) ، وفيما يتعلق بمعاملتهم لنبيهم بقوله (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) إلخ ، وقوله :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

الإيضاح

أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات وتزوجتموهن ثم طلقتموهن من قبل المسيس ، فلا عدّة لكم عليهن بأيام يتربصن بها تستوفون عددها ، ولكن اكسوهن كسوة تليق بحالهن إذا خرجن وانتقلن من بيت إلى آخر ، ويختلف ذلك باختلاف البيئة والبلد الذي تعيش فيه المرأة ، وأخرجوهن إخراجا جميلا ، فهيئوا لهن من المركب والزاد وجميل المعاملة ما تقرّ به أعينهن ويسرّ به أهلوهن ، ليكون فى ذلك بعض السلوة مما لحقهن من أذى بقطع العشرة التي كنّ ينتظرن دوامها ، ومن الخروج من بيوت كن يرجون أن تكون هى المقام إلى أن يلاقين ربهن أو تموت عنهن بعولتهن.

روى البخاري عن سهل بن سعد وأبى أسيد رضى الله عنهما قالا : «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل ، فلما أن دخلت عليه بسط يده إليها ،

٢١

فكأنها كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزّها ويكسوها ثوبين رازقيين (ضرب من الثياب مشهور فى ذلك الحين).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠))

تفسير المفردات

الأجور هنا : المهور ، وما ملكت يمينك : أي ما أخذته من المغانم ، خالصة لك : أي هى خاصة بك ، حرج : أي ضيق ومشقة

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) أي يا أيها النبي إنا أحللنا لك الأزواج اللاتي أعطيتهن مهورهن ، وقد كان مهره عليه الصلاة والسلام لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصفا أي خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبى سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله أربعمائة دينار.

(وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) أي وأحللنا لك الإماء اللواتى سبيتهن فملكتهن بالسباء ، وصرن لك من الفيء بفتح الله عليك ، وقد ملك صفية بنت حيى ابن أخطب فى سبى خيبر ، ثم أعتقها ، وجعل صداقها عتقها ، وجويرية بنت الحارث

٢٢

من بنى المصطلق أعتقها ، ثم تزوجها ، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ، ومارية أم إبراهيم ، وكانتا من السراري.

(وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) أي وأحللنا لك بنات عمك وبنات عماتك ، وبنات خالك وبنات خالاتك المهاجرات معك دون من لم يهاجرن.

روى السّدّى عن أبى صالح عن أم هانئ قالت : «خطبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعتذرت إليه ، فعذرنى ؛ ثم أنزل الله تعالى : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) ـ إلى قوله ـ (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) قالت : فلم أكن أحل له ، ولم أكن ممن هاجر معه ، كنت من الطلقاء».

(وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وأحللنا لك التمتع بالمرأة المؤمنة التي تهب نفسها لك بلا مهر إن أردت ذلك.

وهذه الإباحة خاصة لك من دون المؤمنين ، فلو وهبت امرأة نفسها لرجل وجب عليه لها مهر مثلها ، كما حكم بذلك رسول الله فى بروع بنت واشق لما فوضت نفسها ومات عنها زوجها فحكم لها بصداق مثلها.

والموت والدخول سواء فى تقرير مهر المثل ، وثبوت مهر المثل فى المفوّضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم ، فأما هو فلا يجب عليه للمفوّضة شىء لو دخل بها ، لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولىّ ولا شهود ، كما فى قصة زينب بنت جحش رضى الله عنها.

(قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي قد علم الله ما ينبغى فرضه على المؤمنين فى أزواجهم من شروط العقد ، وأنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة ، وبدون شهود ، وفى الإماء بشراء أو غيره أن تكون ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف الوثنية والمجوسية ـ وهذه الجملة معترضة بين ما سلف وما سيأتى :

٢٣

ثم ذكر العلة فى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بما تقدم من الأحكام بقوله :

(لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أي أحللنا لك ذلك حتى لا يكون عليك حرج وضيق فى نكاح من نكحت من الأصناف السالفة (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان ربك غفورا لك ، ولأهل الإيمان بك ، رحيما بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب صدر منهم بعد توبتهم.

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١))

تفسير المفردات

ترجى : أي تؤخر من الإرجاء وهو التأخير ، وقرىء ، ترجىء وتؤرى : أي تضم وتضاجع ، ابتغيت : أي طلبت ، عزلت : أي تجنبت ، أدنى : أي أقرب ، تقرّ. أي تسرّ.

الإيضاح

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي تؤخر مضاجعة من تشاء من نسائك ، وتضاجع من تشاء ، ولا يجب عليك قسم بينهن ، بل الأمر فى ذلك إليك ، على أنه كان يقسم بينهن.

(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) أي ومن دعوت إلى فراشك ، وطلبت صحبتها ممن عزلت عن نفسك بالطلاق ، فلا ضيق عليك فى ذلك.

والخلاصة : إنه لا ضير عليه إذا أراد إرجاع من طلقها من قبل.

٢٤

روى ابن جرير عن أبى رزين قال : «لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن ، فقلن : يا رسول الله اجعل لنا من مالك ، ومن نفسك ما شئت ، ودعنا كما نحن ؛ فنزلت هذه الآية ، فأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن ، وآوى إليه بعضهن وكان ممن آوى إليه عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، وكان يقسم بينهن سواء ، وأرجأ منهن خمسا : أم حبيبة ، وميمونة ، وسودة ، وصفية ، وجويرية ، فكان لا يقسم بينهن ما شاء».

ثم بين السبب فى الإيواء والإرجاء ، وأنه كان ذلك فى مصلحتهن ، فقال :

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) أي إنهن إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج فى القسم ، فإن شئت قسمت ، وإن شئت لم تقسم لا جناح عليك فى أىّ ذلك فعلت ، وأنت مع هذا تقسم لهن اختيارا منك لا وجوبا عليك ـ فرحن بذلك ، واستبشرن به ، واعترفن بمنتك عليهن فى قسمك لهن ، وتسويتك بينهن ، وإنصافك لهن ، وعدلك بينهن.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه ، ومن الرضا بما دبر له فى حقهن من تفويض الأمر إليه صلى الله عليه وسلم.

روى أحمد عن عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت : كان رسول الله يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : «اللهم هذا فعلى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك» يعنى القلب ، وزيادة الحب لبعض دون بعض.

وفى هذا حث على تحسين ما فى القلوب ، ووعيد لمن لم يرض منهن بما دبر الله له من ذلك ، وفوضه إلى مشيئته ، وبعث على تواطؤ قلوبهن ، والتصافي بينهن ، والتوافق على رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) أي وكان الله عليما بالسرائر ، حليما فلا يعاجل أهل الذنوب بالعقوبة ، ليتوب منهم من شاء له أن يتوب ، وينيب من ذنوبه من ينيب.

٢٥

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنه لم يوجب على نبيه القسم لنسائه ، وأمره بتخييرهن فاخترن الله ورسوله ـ أردف ذلك ذكر ما جازاهم به من تحريم غيرهن عليه ومنعه من طلاقهن بقوله :

(وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ).

الإيضاح

تتضمن الآية الكريمة حكمين : ألا يتزوج عليه السلام غيرهن ، ولا أن يستبدل بهن غيرهن ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(١) (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي فى عصمتك اليوم كفاء اختيارهن الله ورسوله وحسن صنيعهن فى ذلك.

أخرج أبو داود فى ناسخه وابن مردويه والبيهقي فى سننه عن أنس قال : «لما خيّرهن فاخترن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قصره سبحانه عليهن».

وروى عن ابن عباس أنه قال فى الآية : (حبسه الله تعالى عليهن كما حبسهنّ عليه).

(٢) (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي ولا يحل لك أن تستبدل بهن أزواجا غيرهن ، بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى مهما كانت بارعة فى الحسب والجمال إلا ما ملكت يمينك منهن ، وقد ملك بعدهن مارية القبطية أهداها له المقوقس فتسرّاها وأولدها إبراهيم ومات رضيعا وفى الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد زواجها ، وقد روى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : «إذا خطب أحدكم المرأة ، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» وعن المغيرة بن شعبة قال : «خطبت امرأة فقال لى النبي

٢٦

صلّى الله عليه وسلم : هل نظرت إليها؟ قلت لا. قال : انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما».

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) أي وكان الله حافظا ومطلعا على كل شىء ، عليما بالسر والنجوى ، فاحذروا تجاوز حدوده ، وتخطى حلاله إلى حرامه.

آية الحجاب ، وما فيها من أحكام وآداب

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤))

تفسير المفردات

إناه : أي نضجه : يقال أنى الطعام يأنى أنى ؛ أي أدرك وحان نضجه ، وفيه لغات :

إنى بكسر الهمزة وأنى بفتحها مقصورا وممدودا قال الحطيئة :

وأخّرت العشاء إلى سهيل

أو الشّعرى فطال بي الأناء

فانتشروا : أي فتفرقوا ولا تلبثوا ، مستأنسين لحديث ، أي مستمعين له ، متاعا :

٢٧

أي شيئا تتمتعون به من ماعون وغيره ، أطهر لقلوبكم : أي أكثر تطهرا من الخواطر الشيطانية التي تخطر للرجال فى أمر النساء وللنساء فى شأن الرجال.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته بقوله : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» أردف ذلك بيان حال المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلم ؛ إرشادا لما يجب عليهم نحوه من الاحترام والتعظيم فى خلوته وفى الملإ ، فأبان أنه يجب عدم إزعاجه إذا كان فى الخلوة بقوله : «لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ» إلخ.

وأنه يجب إجلاله إذا كان فى الملإ بقوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً».

روى أن هذه الآية نزلت يوم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ؛فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال : «لما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ، ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقت فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بينى وبينه فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) الآية.

الإيضاح

أدب الله عباده بآداب ينبغى أن يتخلقوا بها ، لما فيها من الحكم الاجتماعية والمزايا العمرانية فقال :

(١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ

٢٨

ناظِرِينَ إِناهُ) أي أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت نبيه إلا أن تدعوا إلى طعام تطعمونه غير منتظرين إدراكه ونضجه.

وخلاصة ذلك ـ إنكم إذا دعيتم إلى وليمة فى بيت النبي صلى الله عليه وسلم فلا تدخلوا البيت إلا إذا علمتم أن الطعام قد تم نضجه ، وانتهى إعداده ، إذ قبل ذلك يكون أهل البيت فى شغل عنكم ، وقد يلبسن ثياب البذلة والعمل فلا يحسن أن تروهنّ وهنّ على هذه الحال ، إلى أنه ربما بدا من إحداهن ما لا يحل النظر إليه.

(٢) (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي ولكن إذا دعاكم الرسول صلى الله عليه وسلم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله ، فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم إلى أكله فتفرقوا واخرجوا ولا تمكثوا فيه لتتبادلوا ألوان الحديث وفنونه المختلفة.

أخرج عبد بن حميد عن الربيع عن أنس قال : كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.

وأخرج ابن أبى حاتم عن سليمان بن أرقم قال : نزلت هذه فى الثقلاء ومن ثم قيل هى آية الثقلاء ثم علل ذلك بقوله :

(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أي إن ذلك اللّبث والاستئناس والدخول على هذا الوجه كان يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان يمنعه من قضاء بعض حاجه ، إلى ما فيه من تضييق المنزل على أهله ، لكنه كان يستحيى من إخراجكم ومنعكم مما يؤذيه ، والله لم يترك الحق وأمركم بالخروج.

وفى هذا إيماء إلى أن اللبث يحرم على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان فى ذلك أذى لرب البيت ، ولو كان البيت غير بيت النبي صلى الله عليه وسلم فالتثقيل مذموم فى كل مكان ، محتقر لدى كل إنسان.

٢٩

وعن عائشة وابن عباس رضى الله عنهما «حسبك فى الثقلاء أن الله عز وجل لم يحتملهم».

وعلى الجملة فللدعوة إلى المآدب نظم وآداب خاصة أفردت بالتأليف ولا سيما فى العصر الحديث.

وجعلوا التحلل منها وترك اتباعها مما لا تسامح فيه.

(٣) (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتى لسن لكم بأزواج ، شيئا تتمتعون به من ماعون وغيره فاطلبوا منهن ذلك من وراء ستر بينكم وبينهن.

أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس رضى الله عنه قال : قال عمر ابن الخطاب رضى الله عنه : يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب فى صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش فى ذى القعدة سنة خمس من الهجرة ، وهى مما وافق تنزيلها قول عمر كما فى الصحيحين عنه قال : وافقت ربى عز وجل فى ثلاث ، قلت : يا رسول الله لو اتّخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله : «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» وقلت : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب ، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه فى الغيرة «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ» فنزلت كذلك.

ثم بين سبب ما تقدم بقوله :

(ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) أي ذلك الدخول بالإذن وعدم الاستئناس للأحاديث أطهر لقلوبكم وقلوبهن من وساوس الشيطان والريب ، لأن العين رسول القلب ، فإذا لم تر العين لم يشته القلب ، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر ، وعدم الفتنة

٣٠

حينئذ أظهر ، وجاء في الأثر «النظر سهم مسموم من سهام إبليس» وقال الشاعر :

والمرء مادام ذاعين يقلّبها

فى أعين العين موقوف على الخطر

يسرّ مقلته ما ساء مهجته

لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر

ولما ذكر ما ينبغى من الآداب حين دخول بيت الرسول أكده بما يحملهم على ملاطفته وحسن معاملته بقوله :

(وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أي وما كان ينبغى لكم أن تفعلوا فى حياته صلّى الله عليه وسلم فعلا يتأذى به ويكرهه كاللبث والاستئناس للحديث الذي كنتم تفعلونه ، فإن الرسول يسعى لخيركم ومنفعتكم في دنياكم وآخرتكم ، فعليكم أن تقابلوا بالحسنى كفاء جليل أعماله.

ولما كان صلّى الله عليه وسلم قد قصر عليهن قصرهن الله عليه بقوله :

(وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) أي ولا تنكحوا أزواجه أبدا من بعد مفارقتهن بموت أو طلاق ، زيادة في شرفه ، وإظهارا لعظمته وجلاله ، ولأنهن أمهات المؤمنين ، والمرء لا يتزوج أمه.

ثم بين السبب فيما تقدم بقوله :

(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) أي إن ذلك الإيذاء وزواج نسائه من بعده أمر عظيم ، وخطب جلل ، لا يقدر قدره غير الله تعالى.

ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد على هذا العمل ـ إلى ما فيه من تعظيم شأن الرسول وإيجاب حرمته حيا وميتا.

ثم بالغ في الوعيد وزاد في التهديد بقوله :

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي إن ما تكنّه ضمائركم ، وتنطوى عليه سرائركم ، فالله يعلمه ، إذ لا تخفى عليه خافية «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» ثم يجازيكم بما صدر منكم من المعاصي البادية والخافية.

والكلام وإن كان عاما بظاهره فالمقصود ما يتعلق بزوجاته عليه الصلاة والسلام.

٣١

وسبب نزول الآية أنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل : أنهى أن نكلّم بنات أعمامنا إلا من وراء حجاب؟ لئن مات محمد لنتزوجنّ نساءه.

وأخرج جويبر عن ابن عباس «أن رجلا أنى بعض أزواج النبي فكلمها وهو ابن عمها ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : لا تقومنّ هذا المقام بعد يومك هذا ، فقال يا رسول الله إنها ابنة عمى ، والله ما قلت منكرا ولا قالت لى ، قال النبي صلّى الله عليه وسلم : قد عرفت ذلك : إنه ليس أحد أغير من الله تعالى ، وإنه ليس أحد أغير منى ، فمضى ثم قال : ما يمنعنى من كلام ابنة عمى؟ لأتزوجنّها من بعده ، فأنزل الله الآية ، فأعتق الرجل رقبة ، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشيا لأجل كلمته».

وروى أن بعض المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبى سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة : ما بال محمد يتزوج نساءنا؟ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت.

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن نساء النبي لا يكلّمن إلا من وراء حجاب ـ أردف ذلك استثناء بعض الأقارب ونساء المؤمنين والأرقاء ، لما في الاحتجاب عن هؤلاء من عظيم المشقة ، للحاجة إلى الاختلاط بهؤلاء كثيرا.

روى أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : أو نحن يا رسول الله نكلمهنّ من وراء حجاب؟ فنزلت.

٣٢

الإيضاح

لا إثم على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم في ترك الحجاب حين دخول آبائهن ، سواء أكان الأب أبا من النسب أم من الرضاع ، أو أبنائهن نسبا أو رضاعا ، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن ، أو النساء المسلمات القربى منهن والبعدى ، أو ما ملكت أيمانهن من العبيد ، لما في الاحتجاب عنهن من المشقة ، لأنهم يقومون بالخدمة عليهن.

واخشين الله في السر والعلن ؛ فإنه شهيد على كل شىء ، لا تخفى عليه خافية ، وهو يجازى على العمل خيرا أو شرا.

والخلاصة ـ إن الله شاهد عليكم عند اختلاء بعضكم ببعض ، فخلوتكم مثل ملئكم ، فاتقوه فيما تأتون وما تذرون.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر وجوب احترام النبي حال خلوته بقوله : «لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ» أردف ذلك بيان ماله من احترام في الملإ الأعلى بقوله : «إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» وفي الملإ الأدنى بقوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً».

الإيضاح

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) الصلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، فالمعنى كما قال ابن عباس : إن الله يرحم النبي ، والملائكة يدعون له ويطلبون له المغفرة.

٣٣

وقد أخبر الله سبحانه عباده بمنزلة عبده ونبيه في الملإ الأعلى ، بأنه يثنى عليه لدى ملائكته المقربين ، وأن ملائكته يصلون عليه طالبين له المغفرة من ربه.

وقد أمرنا بأن نصلى عليه بقوله :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي يا أيها الذين آمنوا ادعوا له بالرحمة ، وأظهروا شرفه بكل ما تصل إليه قدرتكم ، من حسن متابعته ، والانقياد لأمره ، فى كل ما يأمر به ، والصلاة والسلام عليه بألسنتكم.

روى البخاري بسنده عن كعب بن عجرة قال : «قيل يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفنا ، فكيف الصلاة؟ قال : قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد».

روى عبد الله بن أبى طلحة عن أبيه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه ، فقلنا إنا لنرى البشرى في وجهك ، فقال : جاءنى جبريل فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول : أما يرضيك أن لا يصلى عليك أحد من أمتك إلا صلّيت عليه عشرا ، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلّمت عليه عشرا» (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧))

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه باحترام نبيّه في بيته وفي الملإ ـ نهى عن إيذاء الله ، بمخالفة أوامره ، وارتكاب زواجره ، وإيذاء رسوله بإلصاق عيب أو نقص به.

٣٤

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) فيرتكبون ما حرمه من الكفر وسائر أنواع المعاصي ، ومنهم اليهود الذين قالوا «يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ» والنصارى الذين قالوا «الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ» والمشركون الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، والأصنام شركاؤه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

(وَرَسُولَهُ) كالذين قالوا هو شاعر ، هو كاهن ، هو مجنون إلى نحو ذلك من مقالاتهم ، فمن آذاه فقد آذى الله ، ومن أطاعه فقد أطاع الله.

(لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي طردهم من رحمته ، وأبعدهم من فضله في الدنيا ، فجعلهم يتمادون في غيهم ، ويدسّون أنفسهم ، ويستمرئون سبل الغواية والضلالة التي ترديهم في النار ، وبئس القرار ، وفي الآخرة حيث يصلون نارا تشوى الوجوه.

(وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) أي وهيأ لهم عذابا يؤلمهم ، ويجعلهم في مقام الزراية والاحتقار ، والخزي والهوان.

ولما كان من أعظم أذى رسوله أذى من تابعه ، بين ذلك بقوله :

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨))

تفسير المفردات

بغير ما اكتسبوا : أي بغير جناية يستحقون بها الأذى ، والبهتان : الكذب الذي يبهت الشخص لفظاعته ، وإثما مبينا : أي ذنبا واضحا بينا.

الإيضاح

أي إن الذين ينسبون إلى المؤمنين والمؤمنات ما لم يعملوه ، وما هم منه براء ـ قد اجترحوا كذبا فظيعا ، وأتوا أمرا إدّا ، وذنبا ظاهرا ليس له ما يسوّغه أو يقوم مقام العذر له.

٣٥

روى الضحاك عن ابن عباس قال : أنزلت في عبد الله بن أبىّ وناس معه قذفوا عائشة رضى الله عنها ؛ فخطب النبي صلّى الله عليه وسلم وقال : «من يعذرنى من رجل يؤذينى ويجمع في بيته من يؤذينى؟».

وروى أبو هريرة «أنه قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال ذكرك أخاك بما يكره ، قيل أرأيت إن كان في أخى ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه».

وروى عن عائشة أنها قالت : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه : «أىّ الربا أربى عند الله؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم ، ثم قرأ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)».

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢))

تفسير المفردات

الجلابيب : واحدها جلباب وهى الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار ، يدنين : أي يرخين ويسدلن ؛ يقال للمرأة إذا زل الثوب عن وجهها أدنى ثوبك على وجهك ، أدنى : أي أقرب ، أن يعرفن : أي يميزن عن الإساءة ، مرض : أي ضعف إيمان

٣٦

بانتها كهم حرمات الدين ، والمرجفون : هم اليهود الذين كانوا يلفقون أخبار السوء وينشرونها عن سرايا المسلمين وجندهم ، وهو من الإرجاف وهو الزلزلة ؛ وصفت بها الأخبار الكاذبة لكونها مزلزلة غير ثابتة ، لنغرينك بهم : أي لنسلطنك عليهم ولنحرشنّك بهم ، ملعونين : أي مبعدين من رحمة الله ، ثقفوا : أي وجدوا ، خلوا : أي مضوا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن من يؤذى مؤمنا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ، زجرا لهم عن الإيذاء ـ أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يأمر بعض المتأذين بفعل ما يدفع الإيذاء عنهم في الجملة من التستر والتميز بالزي واللباس حتى يبتعدوا عن الأذى بقدر المستطاع.

روى أنه لما كانت الحرائر والإماء في المدينة يخرجن ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل بلا فارق بين الحرائر والإماء ، وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء وربما تعرضوا للحرائر ، فإذا كلّموا في ذلك قالوا حسبناهن إماء ـ فطلب من رسوله أن يأمر الحرائر أن يخالفن الإماء في الزي والتستر ، ليتما يزن ويهبن ، فلا يطمع فيهن طامع.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) طلب سبحانه من نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات ، وبخاصة أزواجه وبناته ، بأن يسدلن عليهن الجلابيب إذا خرجن من بيوتهن ليتميزن عن الإماء.

روى على بن طلحة عن ابن عباس قال : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطّين وجوههن من فوق رءوسهنّ بالجلابيب ويبدين عينا واحدة.

وعن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) خرج نساء الأنصار كأن رءوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها.

٣٧

وإجمال ذلك ـ إن على المسلمة إذا خرجت من بيتها لحاجة أن تسدل عليها ملابسها بحيث تغطى الجسم والرأس ولا تبدى شيئا من مواضع الفتنة كالرأس والصدر والذراعين ونحوها.

ثم علل ذلك بقوله :

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) أي ذلك التستر أقرب لمعرفتهن بالعفة فلا يتعرّض لهن ، ولا يلقين مكروها من أهل الريبة ، احتراما لهن منهم ، فإن المتبرجة مطموع فيها ، منظور إليها نظرة سخرية واستهزاء ، كما هو مشاهد في كل عصر ومصر ، ولا سيما في هذا العصر الذي انتشرت فيه الخلاعة ، وكثر الفسق والفجور.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وربك غفار لما عسى أن يكون قد صدر من الإخلال بالستر ، كثير الرحمة لمن امتثل أمره معهن ، فيثيبه عظيم الثواب ، ويجزيه الجزاء الأوفى.

ولما كان الأذى إنما يحصل من أهل النفاق ومن على شاكلتهم حذّرهم بقوله :

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) أي لئن لم يكفّ أهل النفاق الذين يستسرّون الكفر ويظهرون الإيمان ، وأهل الرّيب الذين غلبتهم شهواتهم ، وركنوا إلى الخلاعة والفجور وأهل الإرجاف في المدينة الذين ينشرون الأخبار الملفّقة الكاذبة التي فيها إظهار عورات المؤمنين وإبراز ما استكنّ من خفاياهم كضعف جنودهم وقلة سلاحهم وكراعهم ونحو ذلك مما في إظهاره مصلحة للعدو وخضد لشوكة المسلمين ـ لنسلطنك عليهم ، وندعونّك إلى قتالهم وإجلائهم عن البلاد ، فلا يسكنون معك فيها إلا قليلا وتخلو المدينة منهم بالموت أو الإخراج.

والخلاصة ـ إن الله سبحانه قد توعد أصنافا ثلاثة من الناس بالقتال والقتل أو النفي من البلاد وهم :

٣٨

(١) المنافقون الذين يؤذون الله سرّا.

(٢) من في قلوبهم مرض فيؤذون المؤمنين باتباع نسائهم.

(٣) المرجفون الذين يؤذون النبي صلّى الله عليه وسلم بنحو قولهم : غلب محمد ، وسيخرج محمد من المدينة ، وسيؤخذ أسيرا إلى نحو ذلك مما يراد به إظهار ضعف المؤمنين ، وسخط الناس منهم.

ثم بين مآل أمرهم من خزى الدنيا وعذاب الآخرة فقال :

(مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) أي في ذلك الوقت القليل الذي يجاورونك فيه يكونون مطرودين من باب الله وبابك ، وإذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة ، ولا يجدون ملجأ ، بل أينما يكونوا يطلبوا ويؤخذوا ويقتّلوا تقتيلا.

ثم بين أن هذا الحكم عليهم وعلى أمثالهم بنحو هذا هو شرعة الله في أشباههم من قبل ، فهو ليس ببدع فيهم كما قال :

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي إن سنته تعالى فى المنافقين في كل زمان إذا استمروا في كفرهم وعنادهم ولم يرجعوا عما هم عليه أن يسلط عليهم أهل الإيمان فيذلوهم ويقهروهم ، وهذه السنة لا تغير ولا تبدل ، لابتنائها على الحكمة والمصلحة ، ولا يقدر غيره على تغييرها.

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))

٣٩

تفسير المفردات

الساعة : يوم القيامة ، وما يدريك : أي وأىّ شىء يعلمك وقت قيامها ، سعيرا : أي نارا مستعرة متقدة ، سادتنا : أي ملوكنا ، وكبراءنا : أي علماءنا ، ضعفين من العذاب : أي مثلى عذابنا ؛ لأنهم ضلوا وأضلوا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال هذه المئات الثلاث في الدنيا وأنهم يلعنون ويهانون ويقتلون ، عطف على ذلك ذكر حالهم في الآخرة ، فذكّرهم بيوم القيامة ، وبيّن ما يكون لهم فى هذا اليوم.

الإيضاح

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) أي يكثر الناس هذا السؤال ، متى تقوم الساعة؟ فالمشركون يسألون عن ذلك استعجالا لها على طريق التهكم والاستهزاء ؛ والمنافقون يسألون سؤال المتعنت العالم بما يجيب به الرسول ، واليهود يسألون سؤال امتحان واختبار ، ليعلموا أيجيب بمثل ما في التوراة من ردّ أمرها إلى الله أم يجيب بشىء آخر؟

فلقنه الله الجواب عن هذا بجعل ردّ ذلك إليه فقال :

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) الذي أحاط علمه بكل شىء ، ولم يطلع عليها ملكا مقرّبا ولا نبيا مرسلا.

ثم أكد نفى علمها عن أحد غيره بقوله :

(وَما يُدْرِيكَ) أي وأىّ شىء يعلمك وقت قيامها؟ أي لا يعلمك به أحد أبدا.

ثم أخبر عن قرب وقوعها بقوله :

(لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي لعلها توجد وتحقق بعد وقت قريب.

٤٠