تفسير المراغي - ج ٢٢

أحمد مصطفى المراغي

به نفسه من اجتراح المعاصي وفاسد المعتقدات ـ أردف ذلك ذكر مقال للكافرين ذكروه تهكما واستهزاء ، ثم ذكر الدليل على صحة البعث بخلق السموات والأرض ، ثم توعدهم على تكذيبهم بأشد الوعيد ، لعلهم يرجعون عن عنادهم ، ويثوبون إلى رشادهم.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي وقال قريش بعضهم لبعض ، تعجبا واستهزاء ، وتهكما وإنكارا : هل سمعتم برجل يقول : إنا إذا تقطعت أوصالنا ، وتفرقت أبداننا ، وبليت عظامنا ، نرجع كرة أخرى أحياء كما كنا ، ونحاسب على أعمالنا ، ثم نثاب على الإحسان إحسانا ، ويجزى على اجتراح الآثام آلاما ، بنار تلظى تشوى الوجوه والأجسام.

وخلاصة ذلك ـ إنه يقول : إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتا وعظاما ، وقطعتكم السباع والطير ، ستحيون وتبعثون ، ثم تحاسبون على ما فرط منكم من صالح العمل وسيئه ؛ ثم قال إن مقالا كهذا لا يصدر إلا من أحد رجلين.

(أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟) أي إن قوله هذا دائر بين أمرين : إما أن يكون قد تعمد الافتراء على الله أنه أوحى إليه ذلك ، أو أنه لبّس عليه كما يلبّس على المعتوه والمجنون.

وإجمال ذلك ـ إنه إما أن يكون مفتريا على الله وإما أن يكون مجنونا.

فرد الله عليهم مقالهم وأثبت لهم ما هو أشد وأنكى فقال :

(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه ، بل إن محمدا هو البرّ الرشيد الذي جاء بالحق ، وإنهم هم الكذبة الجهلة الأغبياء الذين بلغوا الغاية في اختلال العقل وأوغلوا في الضلال ، وبعدوا

٦١

عن الإدراك والفهم ، وليس هذا إلا الجنون بعينه ، وسيؤدى ذلك بهم إلى العذاب ، إذ هم قد أنكروا حكمة الله في خلق العالم وكذبوه في وعده ووعيده ، وتعرضوا لسخطه.

ثم ذكّرهم بما يعاينون مما يدل على كمال قدرته ، وفيه تنبيه لهم إلى ما يحتمل أن يقع لهم من القوارع التي تهلكهم ، وتهديد على ما اجترحوا من السيئات فقال :

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالمعاد ، الجاحدون للبعث بعد الممات فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضى وسمائى محيطة بهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، فيرتدعوا عن جهلهم ، ويزدجروا عن تكذيبهم ، حذر أن نأمر الأرض فتخسف بهم أو نأمر السماء فتسقط عليهم كسفا ، فإنا إن نشأ أن نفعل ذلك بهم فعلنا ، لكنا نؤخره لحلمنا وعفونا.

وإجمال ذلك ـ إنه تعالى ذكّرهم بأظهر شىء لديهم يعاينونه حيثما وجدوا ، ولا يغيب عن أبصارهم حيثما ذهبوا ، وفيه الدليل على قدرته على البعث والإحياء ، فإن من قدر على خلق تلك الأجرام العظام لا تعجزه إعادة الأجسام ، فهى إذا قيست بها كانت كأنها لا شىء كما قال : «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ».

وفي هذا ما لا يخفى من التنبيه إلى مزيد جهلهم المشار إليه بالضلال البعيد.

ثم ذكر ما هو كالعلة في الحث على الاستدلال بذلك ، ليزيح إنكارهم بالبعث فقال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض ، لدلالة لكل عبد فطن منيب إلى ربه على كمال قدرتنا على بعث الأجساد ووقوع المعاد ، لأن من قدر على خلق هذه السموات على ارتفاعها واتساعها ، وعلى هذه الأرض على انخفاضها وطولها وعرضها ـ قادر على إعادة الأجسام ، ونشر الرميم

٦٢

من العظام ، كما قال «لخلق السّموات والأرض أكبر من خلق النّاس ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون».

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١))

تفسير المفردات

فضلا : أي نعمة وإحسانا ، أوّبى معه : أي رجّعى معه التسبيح وردّديه ، وألنا له الحديد : أي جعلناه في يده كالشمع والعجين يصرّفه كما يشاء من غير نار ولا طرق ، وسابغات من السبوغ وهو التمام والكمال : أي دروعا كاملات ، قدّر : أي اقتصد ، والسرد : النسج : أي اجعل النسج على قدر الحاجة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن في خلق السموات والأرض آية لكل من أناب إلى الله ورجع إليه ـ أردف ذلك ذكر بعض من أنابوا إلى ربهم فأنعم عليهم بما آتاهم من الفضل المبين ، ومن جملتهم داود عليه السلام فقد جمع الله له النبوة والملك والجنود ذوى العدد والعدد ومنحه الصوت الرخيم ، فكان إذا سبح تسبح معه الجبال الراسيات ، وتقف له الطيور السارحات ، وعلمه سرد الدروع لتكون عدّة للمقاتلين وردءا للمجاهدين.

٦٣

الإيضاح

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) أي ولقد أعطينا داود منا نعما ومننا فقلنا للجبال وللطير رجّعى معه التسبيح وردّ ديه إذا سبّح ، وذلك بأن تحمله عليه إذا تأمل عجائبها فهى له مذكّرات كما يذكّر المسبّح مسبحا آخر (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي وجعلنا الحديد في يده لينا يسهل تصويره وتصريفه كما يشاء ، فيعمل منه الدروع وآلات الحرب على أتم النظم وأحكم الأوضاع ، فيجعل حلقاتها على قدر الحاجة فلا هى بالضيقة فتضعف ولا تؤدى وظيفتها لدى الكر والفر والشد والجذب ، ولا هى بالواسعة التي ربما ينال صاحبها من خلالها الأذى ، وهذا تعليم من الله له في إجادة نسج الدروع.

قال قتادة : إن داود أول من عملها حلقا وكانت قبل ذلك صفائح فكانت ثقالا (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي واعمل يا داود أنت وآلك بطاعة الله فأجازيكم كفاء ما عملتم.

ثم علل هذا الأمر بقوله :

(إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنى مراقب لكم ، بصير بأعمالكم وأقوالكم ، لا يخفى على شىء منها.

وفي هذا ما لا يخفى من التنبيه والإغراء بإصلاح العمل والإخلاص فيه.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣))

٦٤

تفسير المفردات

غدوّها شهر : أي جريانها بالغداة مسيرة شهر ، ورواحها شهر : أي وجريانها بالعشي مسيرة شهر ، وأسلنا : أي أذبنا ، والقطر : النحاس المذاب ، ومن يزغ منهم عن أمرنا :

ى ومن يعدل عن طاعة سليمان ، عذاب السعير : أي العذاب الشديد في الدنيا ، والمحاريب واحدها محراب : وهو كل موضع مرتفع قال الشاعر :

وماذا عليه أن ذكرت أو أنسا

كغزلان رمل في محاريب أقيال

والتماثيل : الصور ، والجفان واحدها جفنة : وهى القصعة ، والجوابى واحدها جابية وهى الحوض الكبير ، وقدور : واحدها قدر ، وراسيات : أي ثابتات على أثافيها لا تتحرك ولا تنزل عن أماكنها لعظمها ، الشكور : الباذل وسعه في الشكر قد شغل قلبه ولسانه وجوارحه به اعترافا واعتقادا وعملا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما منّ به على داود من النبوة والملك ـ أردف ذلك ذكر ما تفضل به على ابنه سليمان من تسخير الريح ، فتجرى من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر ، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر ، وإذابة النحاس على نحو ما كان لداود من إلانة الحديد وتسخير الجن عملة بين يديه يعملون له شتى المصنوعات من قصور شامخات وصور من نحاس وجفان كبيرة كالأحواض وقدور لا تتحرك لعظمها.

إذ كل منهما أناب إلى ربه ، وجال بفكره في ملكوت السموات والأرض ، وكان من المؤمنين المخبتين الذين هم على ربهم يتوكلون.

٦٥

الإيضاح

عدّد سبحانه ما أنعم به على سليمان عليه السلام وهو أمور :

(١) (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي وسخرنا لسليمان الريح تجرى بالغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر ، وتجرى بالرواح من منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر قال قتادة تفسيرا للآية : كانت الريح تقطع به عليه السلام من الغدو إلى الزوال مسيرة شهر ومن الزوال إلى الغروب مسيرة شهر. وقال الحسن البصري : كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغذى بها ، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع ، وبين إصطخر وكابل شهر كذلك.

(٢) (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي وأذبنا له النحاس كما ألنا الحديد لداود ، فكان يعمل منه أعماله وهو بارد دون حاجة إلى نار ، وقد سال من معدنه فنبع نبوع الماء من الينبوع فلذلك سماه عينا.

(٣) (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي وسخرنا له من الجن من يبنى له الأبنية وغيرها بقدرة ربه وتسخيره ، ومن يخرج منهم عن طاعته يذقه عذابا أليما في الدنيا.

وإنا لنوقن بصدق ما جاء به القرآن من استخدام سليمان للجن ولا نعلم كيف كان يستخدمهم في أعماله ، ولكن نشاهد آثار استخدامه لهم من المبانى الشاهقة ، والقصور العظيمة ، والتماثيل البديعة التي فصلها سبحانه بقوله :

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي يعملون له ما يشاء من القصور الشامخة ، والصور المختلفة ، من النحاس والزجاج والرخام ونحوها ، والجفان الكبيرة التي تكفى لعشرات الناس ، قال الأعشى يمدح آل جفنة من الغساسنة بالشام.

٦٦

نفى الذمّ عن آل المحلّق جفنة

كجابية الشيخ العراقىّ تفهق

والقدور الثوابت في أماكنها التي لا تتحرك ولا تتحول لكبرها وعظمها.

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي وقلنا لهم : اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكرا له على نعمه التي أنعمها عليكم في الدين والدنيا روى أن النبي صلّى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال «ثلاث من أوتيهن فقد أوتى مثل ما أوتى آل داود ، فقلنا ما هن؟ فقال العدل في الرضا والغضب ، والقصد في الفقر والغنى ، وخشية الله فى السرّ والعلانية» أخرجه الترمذي.

والشكر كما يكون بالفعل يكون بالقول ويكون بالنية كما قال :

أفادتكم النعماء منى ثلاثة

يدى ولسانى والضمير المحجبا

ثم ذكر السبب في طلب الشكر منهم فقال :

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أي وقليل من عبادى من يطيعنى شكرا لنعمتى ، فيصرف ما أنعمت به عليه فيما يرضينى ، وقد قيل : الشكور من يرى عجزه عن الشكر.

ونحو الآية قوله : «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ».

وعن عائشة رضى الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطّر قدماه ، فقلت له : أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال أفلا أكون عبدا شكورا» أخرجه مسلم في صحيحه.

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

٦٧

تفسير المفردات

قضينا عليه : أي حكمنا عليه ، دابة الأرض : هى الأرضة (بفتحات) التي تأكل الخشب ونحوها ، والمنسأة : العصا ؛ من نسأت البعير إذا طردته ، قال الشاعر :

ضربنا بمنسأة وجهه

فصار بذاك مهينا ذليلا

لأنها يطرد بها ، وخر : سقط ، وما لبثوا : أي ما أقاموا ، فى العذاب المهين : أي الأعمال الشاقة التي كلّفوا بها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه عظمة سليمان وتسخيره الريح والجن ـ أردف ذلك بيان أنه لم ينج أحد من الموت بل قضى عليه به ، تنبيها للخلق إلى أن الموت لا بد منه ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة.

الإيضاح

المعنى ـ إنا لما قضينا على سليمان بالموت لم يدل الجن على موته إلا الأرضة التي وقعت في عصاه من داخلها ؛ إذ بينما هو متكىء عليها وقد وافاه القضاء المحتوم انكسرت فسقط على الأرض واستبان للجن أنهم لا يعلمون الغيب كما كانوا يزعمون ، ولو علموه ما قاموا في الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها ظانين أنه حى.

والكتاب الكريم لم يحدد المدة التي قضاها سليمان وهو متوكىء على عصاه حتى علم الجن بموته ، وقد روى القصاصون أنها كانت سنة ، ومثل هذا لا ينبغى الركون إليه ، فليس من الجائز أن خدم سليمان لا يتنبهون إلى القيام بواجباته المعيشية من مأكل ومشرب وملبس ونحوها يوما كاملا دون أن يحادثوه في ذلك ويطلبوا إليه القيام بخدمته ، فالمعقول أن الأرضة بدأت العصا وسليمان لم يتنبه لذلك ، وبينما

٦٨

هو متوكىء عليها حانت منيته ، وكانت الأرضة قد فعلت فعلها في العصا فانكسرت فجرّ على الأرض فعلمت الجن كذبها ، إذ كانت تدعى أنها تعلم الغيب ، إذ لو علمته ما لبثت هق نفسها في شاقّ الأعمال التي كلّفت بها.

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧))

تفسير المفردات

سبأ : هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان : والمراد به هنا القبيلة ، والمسكن موضع السكنى وهو مأرب (كمنزل) من بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام ، آية : أي علامة دالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته على إيجاد الغرائب والعجائب ، جنتان : أي بستانان ، فأعرضوا : أي انصرفوا عن شكر هذه النعم ، والعرم : واحدها عرمة ؛ وهى الحجارة المركومة كخزان أسوان في وادي النيل لحجز المياه جنوبى النيل ، وكانت له ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض ، والمطر يجتمع أمام ذلك السد ، فيسقون من الباب الأعلى ثم الذي يليه ثم من الأسفل ، والأكل : الثمر ، والخمط : كل شجرة مرة ذات شوك ، والأثل. الطرفاء ، وهو المعروف في مصر (بالأثل) والسدر : شجر النبق.

٦٩

المعنى الجملي

بعد أن ذكر جل وعلا حال الشاكرين لنعمه المنيبين إليه ـ أعقب ذلك بذكر ما حل بالكافرين بنعمه ، المعرضين عن ذكره وشكره من عظيم العقاب ، موعظة لقريش وتحذ المن يكفر بالنعم ، ويعرض عن المنعم.

الإيضاح

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي لقد كان أهل هذا الحي من ملوك اليمن فى نعمة عظيمة وسعة في الرزق ، وكانت لهم حدائق غناء ، وبساتين فيحاء ، عن يمين الوادي وشماله ، وقد أرسل الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزق ربهم ويشكروه بتوحيده وعبادته كفاء ما أنعم عليهم بهذه المنن ، وأحسن إليهم بتلك النعم ، فكانوا كذلك إلى حين ، ثم أعرضوا عما أمروا به فعوقبوا بإرسال السيل عليهم فتفرقوا في البلاد شذر مذر ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :

(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) أي فأعرضوا عن طاعة ربهم ، وصدوا عن اتباع مادعتهم إليه الرسل ، فأرسل الله عليهم سيلا كثيرا ملأ الوادي وكسر السد وخرّبه وذهب بالجنان والبساتين ، وأهلك الحرث والنسل ، ولم يبق منهم إلا شراذم قليلة تفرقت في البلاد ، وبدّلوا بتلك الجنان والبساتين التي سبق وصفها بساتين ليس فيها إلا بعض أشجار لا يؤبه بها كالخمط والأثل وقليل من النبق.

ثم بين سبب ذلك العقاب بقوله :

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أي وجازيناهم ذلك الجزاء الفظيع من جراء كفرهم بربهم وجحودهم بنعمه ، وتكذيبهم بالحق ، وعدو لهم

٧٠

عنه إلى الباطل ، وما نجازى مثل هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا عظيم الكفران للنعم ، الجحود للفصل والمنن.

سد مأرب ـ سد العرم

وصف هذا السد مؤرخو العرب في عصور مختلفة. وأصدق من أجاد وصفه الهمداني في كتابه (وصف جزيرة العرب) قال : فى الجنوب الغربي من مأرب سلسلة جبال هى شعاب من جبل السراة الشهير ، تمتد مئات الأميال نحو الشرق الشمالي ، وبين هذه الجبال أودية تصب في واد كبير يعبّر عنه العرب بالميزاب الشرقي وهو أعظم أودية الشرق ، وشعاب هذه المواضع وأوديتها إذا أمطرت السماء تجمعت فيها السيول وانحدرت حتى تنتهى أخيرا إلى وادي آذنة ، وهو يعلو سطح البحر بنحو ١١٠٠ متر ، وتسير فيه المياه نحو الشرق الشمالي حتى تنتهى إلى مكان قبل مأرب بثلاث ساعات ، هو مضيق بين جبلين يقال لكل منهما بلن ، أحدهما بلن الأيمن وثانيهما بلن الأيسر والمسافة بينهما ستمائة ذراع يجرى السيل الأكبر بينهما من الغرب الجنوبي إلى الشرق الشمالي في وادي أذنة.

وقد اختار السبئيون المضيق بين جبلى بلن وبنوا في عرضه سورا عظيما عرف بسد مأرب أو بسد العرم ، لأنه لا أنهار عندهم ، وإنما يستقى أهلها من السيول التي تتجمع من المطر ، وقد كان يذهب أكثرها في الرمال ، فإذا انقضى فصل المطر ظمئوا وجفّت أغراسهم ، وربما فاض المطر فسطا على المدن والقرى فنالهم منه أذى كثير.

وبين المضيق ومدينة مأرب متسع من الأرض تبلغ مساحة ما يحيط به من الأرض من سفوح وجبال نحو ٣٠٠٠ ميل مربع كانت صحراء جرداء قاحلة فأصبحت بعد تدبير المياه بالسد غياضا وبساتين على سفحى الجبلين وهى المعبر عنها بالجنتين الجنة اليمنى والجنة اليسرى ا ه بتصرف.

وقد ظل الباحثون والمنقبون في العصر الحديث في شك من أمر هذا السد حتى

٧١

تمكن المستعرب الفرنسى أرنو من الوصول إلى مأرب سنة ١٨٤٣ وشاهد آثاره ورسم له مصورا نشر في المجلة الفرنسية سنة ١٨٧٤ وزار مأرب بعده هاليفى وغلا زر ووافقاه فيما قال وصادقاه فيما وصف وهو يطابق من وجوه كثيرة ما قاله الهمداني فى كتابه ثم عثروا فيما بعد على نقوش كتابية في خرائب السد وغيرها تحققوا بها صدق خبره.

قال الأصفهانى : إن السد تهدم قبل الإسلام بنحو أربعمائة سنة ، وقال ياقوت : إنه هدم في نحو القرن السادس للميلاد ، وقال ابن خلدون : إنه تهدم في القرن الخامس للميلاد.

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩))

تفسير المفردات

القرى التي بارك فيها : هى قرى الشام ، قرى ظاهرة : أي مرتفعة على الآكام وهى أصح القرى ، وقدرنا فيها السير : أي كانت القرى على مقادير للراحل ، فمن سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى حين الظهيرة ، ومن سار من بعد الظهر وصل إلى أخرى حين الغروب ، فلا يحتاج إلى حمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدو ولا سبع ، آمنين : أي من كل ما تكرهون ، وظلموا أنفسهم لأنهم بطروا النعمة ، والأحاديث : واحدها أحدوثة وهى ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب ، ومزقناهم كل ممزق : أي وفرقناهم كل تفريق ، الصبّار : كثير الصبر

٧٢

عن الشهوات ودواعى الهوى وعلى مشاق الطاعات. والشكور : أي كثير الشكران على النعم.

المعنى الجملي

بعد أن حكى سبحانه ما أوتوا من النعم في مساكنهم ، ثم كفرانهم بها ، وما جوزوا به من الخراب والدمار ـ قص علينا ما أعطوه من النعم في مسايرهم ومتاجرهم ، ثم جحودهم بها ، ثم ماحاق بهم بسبب ذلك.

الإيضاح

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) أي وجعلنا بين قراهم وقرى الشام التي باركنا فيها بالتوسعة على أهلها قرى متواصلة يظهر بعضها لبعض ، لأنها مبنية على آكام عالية.

(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي وجعلنا بين بعضها وبعض مقادير متناسبة بحيث يقيل الغادي في قرية ، ويبيت الرائح في أخرى إلى أن يصل إلى الشام وهو لا يحمل معه زادا ولا ماء.

(سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي وقلنا لهم سيروا في هذه القرى التي بين قراكم وقرى الشام التي باركنا فيها ليالى وأياما وأنتم آمنون لا تخشون جوعا ولا عطشا ولا عدوا يبطش بكم ، بل تغدون فتقيلون ، وتروحون فتبيتون في قرية ذات جنان ونهر.

وخلاصة هذا ـ إنهم كانوا في نعمة وغبطة وعيش هنّى رغد في بلاد مرضية وأماكن آمنة وقرى متواصلة ، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها ، فالمسافر لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء ، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا ، فهو يقيل في قرية ويبيت فى أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في مسيرهم.

٧٣

ثم ذكر أنهم بطروا وملّوا تلك النعم وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير كما فعل بنوا إسرائيل فطلبوا أن يفصل بين القرى بمفاوز وقفار ، ليظهر القادرون منهم الأزواد والرواحل تكبرا وفخرا على العاجزين كما حكى سبحانه عنهم بقوله :

(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز ، لنركب فيها الرواحل ، ونتزود معنا فيها الأزواد ، فأجاب الله طلبهم وعاقبهم على بطرهم بالنعمة كما قال : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) إذ قد عرّضوها للسخط والعذاب ، بغمط النعمة وعدم الوفاء بشكرها.

ثم ذكر عاقبة أمرهم فقال :

(فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فجعلناهم أحاديث للناس يسمرون بها ويعتبرون بأمرهم ، وكيف مكر الله بهم ، وفرّق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنىّ وصاروا مضرب الأمثال فقيل للقوم يتفرقون تفرقوا أيدى سبأ ، فنزل آل جفنة ابن عمرو الشام ونزل الأوس والخزرج يثرب ، ونزلت أزد السّراة السّراة ، ونزلت أزد عمان عمانا ثم أرسل الله على السد السيل فهدمه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن في ذلك الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب ، بعد النعمة والعافية ، عقوبة لهم على ما اجترحوه من الآثام ـ لعبرة لكل عبد صبار على المصايب ، شكور على النعم.

روى سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر ، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر ، يؤجر المؤمن في كل شىء حتى اللقمة يرفعها إلى في امرأته» وكان مطرّف بن الشّخّير يقول : نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر ، وإذا ابتلى صبر.

٧٤

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١))

تفسير المفردات

صدق عليهم إبليس ظنه : أي وجد ظنه فيهم صادقا ، لانهما كهم في الشهوات واستفراغ الجهد في اللذات ، سلطان : أي تسلط واستغواء بالوسوسة ، حفيظ : أي وكيل قائم على شئون خلقه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر جلت قدرته قصص سبأ ، وما كان من أمرهم في اتباع الهوى والشيطان ـ أردف ذلك الإخبار بأنهم صدّقوا ظنّ إبليس فيهم وفي أمثالهم ممن ركنوا إلى الغواية والضلال ، إذ تسلط عليهم وانقادوا إلى وسوسته ، وبذا امتازوا من فريق المؤمنين الذين لا سلطان للشيطان عليهم كما قال سبحانه «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ».

الإيضاح

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد ظن إبليس بهؤلاء الذين بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط عقوبة منالهم ـ ظنا غير يقين أنهم يتبعونه ويطيعونه في معصية الله ، وحين أغواهم وأطاعوه وعصوا ربهم تحقق صدق ظنه فيهم ، إلا فريقا من المؤمنين ثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس.

ثم ذكر أنه ابتلاهم ليظهر حال المؤمنين من حال الشاكين في الآخرة فقال :

٧٥

(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) أي وما كان لإبليس على هؤلاء القوم من حجة يضلهم بها ، ولكنا أردنا ابتلاءهم واختبارهم ليظهر حال من يؤمن بالآخرة ويصدق بالثواب والعقاب ممن هو منها فى شك ، فلا يوقن بمعاد ، ولا يصدق بثواب ولا عقاب.

قال الحسن البصري : والله ما ضربهم بعصا ، ولا أكرههم على شىء ، وما كان إلا غرورا وأمانىّ دعاهم إليها فأجابوه.

وخلاصة ذلك : لا سلطان لإبليس على قلوب الناس ، ولكنى أسلطه عليهم كما أسلط الذباب على العيون القذرة ، والأوبئة على البلاد التي لم يراع أهلها شروط النظافة في مساكنهم وملابسهم ومآكلهم ، ولا أفعل ذلك إلا لحكمة ، فإذا حل الوباء بأرض مات من لا قدرة له على مقاومة جراثيم الأمراض وبقي من هو قادر على المقاومة ولديه قوة المناعة ، وهكذا وسوسة الشيطان يفرق الله بها بين الثابت العقيدة والمتزلزلها ، ومن انقاد لها فلا يلومنّ إلا نفسه وهو المذنب وحده ، وهكذا جميع حوادث الدنيا من مصايب وآلام يثبت لها ذوو العزيمة الصادقة ، ولا يضطرب حين حلولها إلا الضعيف الذي ليس له جلد ولا صبر.

(وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي وربك أيها الرسول حفيظ على أعمال هؤلاء الكفار وغيرهم ، لا يعزب عن علمه شىء ، وهو يجازيهم جميعا يوم القيامة بما كسبوا فى الدنيا من خير أو شر ، فمن أخبت لله وأناب إليه لاقى من الثواب مالا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ومن دسّى نفسه الأمارة بالسوء وانهمك فى شهواته لاقى من سوء الجزاء كفاء أعماله نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى.

٧٦

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣))

تفسير المفردات

ادعوا : أي نادوا ، زعمتم : أي زعمتموهم آلهة ، من شرك : أي شركة ، والظهير : المعين ، والتفزيع : إزالة الفزع ، وهو انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عزت قدرته ما آتاه الشاكرين من أوليائه كداود وسليمان من النعم التي لا حصر لها ، وما فعله بسبأ حين بطروا النعمة وكذبوا الرسل ـ أعقب ذلك بأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين من قومه تهكما بهم وتعجبا من حالهم : ادعوا آلهتكم الذين زعمتموهم شركاء لله ، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض أفعالنا بمن وصفنا أمرهم من إنعام أو انتقام ، فإن لم يستطيعوا ذلك فاعلموا أنهم مبطلون.

ثم ذكر أن شأن المعبود أن يكون نافعا للعابد يخشى بطشه وسطوته ، وهؤلاء ليس لهم شىء من ذلك ، إذ لا تصرف لهم في شىء في السموات والأرض لا استقلالا ولا شركة ، ولا هم معينون للخالق فيهما ، ولا تنفع شفاعتهم لديه ، فكيف تتقربون إليهم وتعبدونهم رجاء نفعهم بعد الذي علمتم من أمرهم.

الإيضاح

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك موبخا لهم ومبينا لهم سوء ما يصنعون : ادعوا هؤلاء الأصنام في مهامّ أموركم ليدفعوا الضر عنكم أو يجلبوا النفع لكم ، لعلهم يستجيبون لكم إن كان ذلك فى مكنتهم ، وبيدهم مقاليد أموركم.

٧٧

ثم أبان لهم عظيم خطئهم وكبير جرمهم فقال :

(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي هؤلاء الآلهة لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض من خير أو شر ، فكيف يكونون آلهة يرجى منهم نفع أو يخشى منهم ضر.

ونحو الآية قوله : «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ».

(وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أي لا هم يملكون مثقال ذرة فيهما على سبيل الشركة ؛ والمراد أنهم لا يملكون شيئا لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل الشركة للخالق لهما.

(وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) أي وما لله من الآلهة التي يدعون من دونه معين على خلق شىء من ذلك ، ولا على حفظه.

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أي ولا تنفعهم شفاعتهم عنده تعالى إذ لا شفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع ، وهو لا يأذن أحدا أن يشفع لهؤلاء الكافرين كما قال تعالى : «لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً». والشفاعة لمثل هؤلاء لا تكون أبدا.

ثم ذكر ما يحدث بعد انتظار الإذن بالشفاعة فقال :

(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا؟ قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ) أي يقف الناس منتظرين الإذن بالشفاعة وجلين حتى إذا أذن للشافعين وأزيل الفزع عن قلوب المنتظرين قال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم في الإذن بالشفاعة؟ قالوا قال ربنا القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى.

والآيات تدل على أن المشفوع لهم هم المؤمنون ، والكافرون بمعزل عن موقف الاستشفاع.

والخلاصة ـ إن الشفاعة لا تنفع في حال إلا لشافع أذن له فيها من النبيين

٧٨

والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة ويكون المشفوع له يستحق الشفاعة.

ثم ذكر اعتراف الشفعاء بعظمة خالق الكون وقصور كل ما سواه فقال :

(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وهو جل شأنه المتفرد بالعلو والكبرياء لا يشاركه فى ذلك أحد من خلقه ، وليس لأحد منهم أن يتكلم إلا من بعد إذنه.

وفي هذا تواضع منهم بعد أن رفع سبحانه أقدارهم بالإذن لهم بالشفاعة ، وفيه أيضا ثناء على الله كما لا يخفى.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

تفسير المفردات

أجرمنا : أي وقعنا في الجرم ، وهو الذنب ، ويفتح : أي يحكم ، والفتاح : الحاكم أرونى الذين ألحقتم به شركاء : أي أعلمونى بالدليل وجه الشركة ، كلا : كلمة للزجر عن كلام أو فعل صدر من المخاطب.

المعنى الجملي

بعد أن سلب سبحانه عن شركائهم ملك شىء من الأكوان ، وأثبت أن ذلك له وحده ـ أمر نبيه أن يجعلهم يقرون بتفرده بالخلق والرزق وانفراده بالإلهية ، وأن يخبر بأن أحد الفريقين الموحدين للرازق والمشركين به الجماد ـ مبطل والآخر

٧٩

محق ، وقد قام الدليل على التوحيد فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك ، وأن يقول لهم : لا تؤاخذون بما نعمل ولا نؤاخذ بما تعملون ، وأن يقول لهم : إن ربنا هو الذي يحكم بيننا يوم القيامة وهو الحكيم العليم بجلائل الأمور ودقائقها ، وأن يقول لهم : أعلمونى عما ألحقتم به من الشركاء ، هل يخلقون وهل يرزقون؟ كلا بل الله هو الخالق الرازق الغالب على أمره ، الحكيم في كل ما يفعل.

الإيضاح

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام : من يرزقكم من السموات بإنزال الغيث عليكم ، حياة لحروثكم وصلاحا لمعايشكم ، وتسخير الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم ـ ومن الأرض بإخراج أقواتكم وأقوات أنعامكم؟

فإن هم قالوا لا ندرى فأجبهم :

(قُلِ اللهُ) هو الذي يرزقكم ، إذ لا جواب عندهم سواه في قرارة أنفسهم ، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به عنادا مع علمهم بصحته ، ولأنهم لو تفوّهوا به لقيل لهم : فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟ كما قال سبحانه تبكيتا لهم : «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟».

ثم أمر رسوله أن يقول لهم بعد الإلزام الذي ليس بأقل من الاعتراف بأنفسهم.

(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وإن أحد الفريقين منا معشر الذين يوحدون الرزاق لمن في السموات والأرض ، ويفردونه بالعبادة ، والذين يشركون به الجماد العاجز عن دفع الضر وجلب النفع ـ لعلى الهدى أو في الضلال البين الذي لا شك فيه.

٨٠