تفسير المراغي - ج ٢٢

أحمد مصطفى المراغي

فهى التي تطهر قلوبهم وتقربهم من ربهم حين مناجاتهم له كما جاء في الحديث «اعبد الله كأنك تزاه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والخلاصة ـ إنه إنما ينفع إنذارك وتخويفك من يخشى بأس الله وشديد عقابه ، دون من عداهم من أهل التمرد والعناد.

ثم حث على الأعمال الصالحة وأبان أن فائدتها عائدة إليهم فقال :

(وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي ومن يتطهر من أدناس الشرك وأوضار الذنوب والمعاصي فنفع ذلك عائد إليه ؛ كما أن من يتدسى بالذنوب والآثام فضرّ ذلك راجع إليه ، وإلى الله مصير كل عامل وهو مجازيه بما قدم من خير أو شر على ما جنى وأثّل لنفسه.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦))

تفسير المفردات

الحرور : السموم إلا أن السموم يكون بالنهار والحرور بالليل والنهار ، خلا : أي سلف ومضى ، ونذير : أي منذر مخوف وهو النبي ، والبينات : أي المعجزات

١٢١

الدالة على صدقهم فيما يدعون ، والزبر : واحدها زبور وهو الكتاب ، النكير : الإنكار بالعقوبة ..

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه طريق الهدى وطريق الضلالة وذكر أن المستعد للإيمان قد اهتدى بهدى النذير ، والجاحد المعاند قسا قلبه ولم يستفد من هديه ـ ضرب مثلا به تنجلى حاليهما ، ثم ذكر أن الهداية بيد الله يمنحها من يشاء ، وأن هؤلاء المشركين كالموتى لا يسمعون نصيحة ولا يهتدون بعظة ، وأن الله لم يترك أمة سدى ، بل أرسل الرسل ؛ فمنهم من أجاب دعوة الداعي ونجا ، ومنهم من استكبر وعصى ، وكانت عاقبته الوبال والنكال في الدنيا والنار في العقبى.

الإيضاح

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) أي وما يستوى الأعمى عن دين الله الذي ابتعث به نبيه صلّى الله عليه وسلم ، والبصير الذي قد أبصر فيه رشده فاتبع محمدا صلّى الله عليه وسلم وصدّقه وقبل عن الله ما ابتعثه به ، وما تستوى ظلمات الكفر ونور الإيمان ولا الثواب والعقاب.

ثم ضرب مثلا آخر لهما فقال :

(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) أي وما يستوى أحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ومعرفة كتابه وتنزيله ، وأموات القلوب بغلبة الكفر عليها حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ولا تفرق بين الهدى والضلال ، وكل هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان والكافر والكفر.

ونحو الآية قوله : «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؟» وقوله : «مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً؟».

١٢٢

والخلاصة ـ إن المؤمن بصير سميع نيّر القلب يمشى على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون ، والكافر أعمى وأصم يمشى في ظلمات لا خروج له منها ، فهو يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة حتى يفضى به ذلك إلى حرور وسموم ، وحميم وظل من يحموم ، لا بارد ولا كريم.

ثم بين أن الهداية والتوفيق بيده سبحانه وحده فقال :

(إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي إن الله يهدى من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها بخلق الاستعداد فيه للهداية.

ثم ضرب مثلا لهؤلاء المشركين وجعلهم كالأموات لا يسمعون فقال :

(وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي فكما لا تقدر أن تسمع من في القبور كتاب الله ، فتهديهم به إلى سبيل الرشاد ، لا تقدر أن تنفع بمواعظ الله وحججه من كان ميت القلب لا يستطيع فهم كتابه ومعرفة مغازى الدين وأسراره.

والخلاصة ـ كما لا ينتفع الأموات بعد أن صاروا إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها ـ كذلك هؤلاء المشركون لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم.

ثم بين عمل الرسول فقال :

(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما أنت إلا منذر عقاب الله لهؤلاء المشركين الذين طبع على قلوبهم ، ولم تكلّف هدايتهم وقبولهم ما جئتهم به ، فإن ذلك بيده تعالى لا بيدك ولا بيد غيرك ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن هم لم يستجيبوا لك.

ثم بين سبحانه أنه ليس نذيرا من تلقاء نفسه ، بل بإذن ربه وإرادته وأنه ما جاء إلا بالحق فقال :

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي إنا أرسلناك أيها الرسول بالإيمان بي وحدي ، وبالشرائع التي فرضتها على عبادى ، مبشرا بالجنة من صدقك وقبل منك ما جئت به من عندى ، ومنذرا بعقاب من كذبك وردّ عليك ما أوحى به إليك.

١٢٣

ثم بين فضله سبحانه على عباده ورحمته بهم وأنه لم يتركهم دون أن يبين لهم طريق الهدى والضلال فقال :

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) أي وما من أمة خلت من بنى آدم إلا وقد بعث الله إليهم النذر ، وأزاح عنهم العلل ، كما قال : «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» وقال : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» وقال : «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ».

ثم سلّى رسوله على ما يلاقيه من قومه من الإصرار على العناد والتكذيب وأبان له أنه ليس ببدع من بين الرسل فقال :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي وإن يكذبك أيها الرسول مشركو قومك فلا تبتئس بما يفعلون ، فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات الباهرة ، والأدلة القاطعة ، وبالكتب الواضحة كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وزبور داود ، وبعد أن سلاه هدد من خالفوه وعصوه بمثل ما فعل بمن قبلهم من الماضين فقال.

(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي وبعد أن أتاهم الرسل بما أتوهم كذبوهم فيما جاءوهم به فأخذتهم بالعقاب والنكال ، فانظر كيف كان شديد عقابى بهم وإنكارى عليهم ، فإن تمادى قومك وأصروا على إنكارهم واستمروا فى عمايتهم حل بهم مثل ما حل بأولئك : فتلك سنة الله لا تبديل لها ولا تغيير.

«سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً».

ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد.

١٢٤

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨))

تفسير المفردات

ألوانها : أي من أحمر إلى أصفر إلى أخضر إلى نحو ذلك ، الجدد : واحدها جدة (بالضم) وهى الطريق المختلفة الألوان في الجبل ونحوه ، والغرابيب : واحدها غربيب وهو شديد السواد ؛ يقال أسود غربيب ، وأبيض يقق ، وأصفر فاقع ، وأحمر قان ، وفي الحديث «إن الله يبغض الشيخ الغربيب» يعنى الذي يخضب بالسواد ، وقال امرؤ القيس في وصف فرسه :

العين طامحة واليد سابحة

والرجل لافحة والوجه غربيب

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه دلائل وحدانيته وعظيم قدرته التي أعرض عنها المشركون عنادا واستكبارا ـ أردف ذلك ذكر ما يرونه من المشاهدات الكونية المختلفة الأشكال والألوان ، لعل ذلك يعيد إليهم أحلامهم وينبه عقولهم إلى الاعتبار بما يرون ويشاهدون.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) يقول سبحانه منبها إلى كمال قدرته : ألم تشاهد أيها الرائي أنا خلقنا الأشياء المختلفة من الشيء

١٢٥

الواحد ، فأنزلنا الماء من السماء وأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها وطعومها وروائحها كما هو مشاهد من ألوان الثمار من أصفر إلى أحمر إلى أخضر إلى نحو ذلك ونحو الآية قوله : «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».

(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) أي وخلقنا الجبال كذلك مختلفة الألوان من بيض إلى حمر إلى سود غرابيب كما هو مشاهد ، وفي بعضها طرائق مختلفة الألوان أيضا.

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) أي وكذلك الناس والدواب والأنعام مختلفة الألوان في الجنس الواحد ، بل الحيوان الواحد قد يكون فيه ألوان مختلفة ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

ونحو الآية قوله : «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ».

ولما عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعه بين أنه لا يعرف ذلك حق المعرفة إلا العلماء بأسرار الكون ، العالمون بدقائق صنعه تعالى ، فهم الذين يفهمون ذلك حق الفهم ، ويعلمون شديد بطشه وعظيم قهره فقال :

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي إنما يخاف الله فيتقى عقابه بطاعته ـ العالمون بعظيم قدرته على ما يشاء من الأشياء وأنه يفعل ما يريد ، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته فخافه ورهبه خشية أن يعاقبه.

وقد أثر عن ابن عباس أنه قال : العالم بالرحمن من عباده ، من لم يشرك به شيئا ، وأحلّ حلاله ، وحرّم حرامه ، وحفظ وصيته ، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسبه بعمله.

١٢٦

وقال الحسن البصري : العالم من خشى الرّحمن بالغيب ، ورغب فيما رغب الله فيه ، وزهد فيما سخط الله فيه ثم تلا الآية.

وعن عائشة قالت : «صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا فرخّص فيه ، فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم ، فخطب فحمد الله ثم قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ، فو الله إنى لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» ، أخرجه البخاري ومسلم ثم بين سبب خشيتهم منه فقال :

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) أي إن الله عزيز في انتقامه ممن كفر به ، غفور لذنوب من آمن به وأطاعه ، فهو قادر على عقوبة العصاة وقهرهم ، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم ، ومن حق المعاقب والمثيب أن يخشى.

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠))

تفسير المفردات

يتلون : أي يتّبعون من قولهم تلاه إذا تبعه ، لأن التلاوة بلا عمل لا نفع فيها ، وقد ورد : «ربّ قارئ للقرآن والقرآن يلعنه» والمراد من التجارة المعاملة مع الله لنيل الثواب ، وتبور : أي تكسد.

المعنى الجملي

لما بين سبحانه أن العلماء هم الذين يخشون الله ويخافون عقابه ـ أردف ذلك ذكر حال العالمين بكتاب الله العالمين بما فرض فيه من أحكام كإقامة الصلاة

١٢٧

وإيتاء الزكاة في السر والعلن ، وأبان أن هؤلاء يرجون ثوابا من ربهم كفاء أعمالهم ، بل أضعاف ذلك فضلا من ربهم ورحمة ، ويطمعون في غفران زلاتهم لأنه الغفور الشكور لهم على ما أحسنوا من عمل.

الإيضاح

إن الذين يتبعون كتاب الله ويعملون بما فرض فيه من فرائض فيؤدون الصلاة المفروضة لمواقيتها على ما رسمه الدين بإخلاص وخشية من ربهم ، ويتصدقون مما أعطاهم من الأموال سرا وعلانية بلا بسط ولا إسراف ـ هؤلاء قد عاملوا ربهم راجين ربخ تجارتهم بنيلهم عظيم ثوابه كفاء ما قدموا من عمل مع الإخبات والإنابة إليه ، ويبتغون فضلا منه ورحمة فوق ذلك ، وغفرانا لما فرط من زلاتهم ، وما اجترحوا من سيئاتهم ، فالله هو الغفور لما فرّط من المطيعين من الزلات ، الشكور لطاعاتهم ، فمجازيهم عليها الجزاء الأوفى.

ونحو الآية قوله : «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ».

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))

١٢٨

تفسير المفردات

الكتاب : هو القرآن ، مصدقا لما بين يديه : أي لما تقدمه من الكتب السماوية ، خبير بصير : أي محيط ببواطن أمورهم وظواهرها ، مقتصد : أي عامل به تارة ، ومخالف له أخرى ، سابق : أي متقدم إلى ثواب الله راج دخول جنته ، بالخيرات : أي بسبب ما يعمل من الخيرات والأعمال الصالحة ، بإذن الله : أي بتوفيقه وتيسيره ، والحزن : هو الخوف من محذور يقع في المستقبل ، دار المقامة : أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا وهى الجنة ، نصب : أي تعب ، ولغوب : أي كلال وفتور.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن الذين يتلون كتاب الله يوفيهم أجرهم ـ أكد هذا وقرره بأن هذا الكتاب حق وصدق ، وهو مصدق لما بين يديه من الكتب ، فتاليه مستحق لهذا الأجر والثواب ، ثم قسم هؤلاء الذين أورثوا الكتاب أقساما ثلاثة : ظالم لنفسه ومقتصد ، وسابق بالخيرات ، ثم ذكر جزاء هؤلاء السابقين ، وأنهم يدخلون جنات تجرى من تحتها الأنهار وأنهم يحلّون فيها أساور الذهب واللؤلؤ ، ويلبسون الحرير ، ويقولون حينئذ : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ، ويقولون : إنه أحلنا دارا لا نصب فيها ولا تعب.

الإيضاح

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي إن القرآن الذي أنزلناه إليك هو الحق من ربك ، وعليك وعلى أمتك أن تعمل به وتتبع ما فيه ، دون غيره من الكتب التي أوحيت إلى غيرك ، وهو مصدق لما مضى بين يديه مما أنزل إلى الرسل من قبله فصار إماما لها (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي إن الله خبير بأحوال عباده ، بصير بما يصلح

١٢٩

لهم ، فيشرع لهم من الأحكام ما يناسب أحوال الناس في كل زمان ومكان ، ويرسل من الرسل من هو حقيق بتبليغ ذلك للناس «اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ».

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) أي أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من اصطفينا من عبادنا ، وهم هذه الأمة التي هى خير الأمم بشهادة الكتاب «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» وجعلناهم أقساما ثلاثة :

(١) ظالم لنفسه ، مفرّط فعل بعض الواجبات ، مرتكب لبعض المحرمات.

(٢) مقتصد مؤدّ للواجبات ، تارك للمحرمات ، تقع منه تارة بعض الهفوات ، وحينا يترك بعض المستحسنات.

(٣) سابق بالخيرات بإذن الله ، يقوم بأداء الواجبات والمستحبات ، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات.

والخلاصة ـ إن الأمة في العمل أقسام ثلاثة : مقصّر في العمل بالكتاب مسرف على نفسه. ومتردد بين العمل به ومخالفته. ومتقدم إلى ثواب الله بعمل الخيرات وصالح الأعمال بتيسير الله وتوفيقه.

وقال الحسن : الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته ، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته ، والسابق من رجحت حسناته على سيئاته.

(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ذلك الميراث والاصطفاء فضل عظيم من الله لا يقدر قدره.

وبعد أن ذكر سبحانه أحوال السابقين بيّن جزاءهم ومآلهم بقوله :

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي بساتين إقامة يدخلها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب واصطفيناهم من عبادنا يوم القيامة ، ويحلون فيها أسورة من ذهب ولآلئ ويكون لباسهم حريرا

١٣٠

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) أي ويقولون حينئذ : الحمد لله الذي أذهب عنا الخوف من كل ما نحذر ، وأراحنا مما كنا نتخوف من هموم الدنيا والآخرة.

ثم ذكر السبب في ذهاب الحزن عنهم فقال :

(إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) أي إن ربنا لغفور لذنوب المذنبين ، شكور للمطيعين ، روى عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم ، وكأنى بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور».

والخلاصة ـ إنه أذهب عنهم الحزن من خوف العاقبة ومن أجل المعاش والوساوس الشيطانية.

ولما ذكر سرورهم وكرامتهم بتحليتهم بالحلى وإدخالهم الجنات ـ ذكر سرورهم ببقائهم فيها وأعلمهم بدوامها فقال :

(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) أي إن ربنا لغفور شكور ، لأنه أنزلنا الجنة التي لا تحول عنها ولا نقلة ، ولا يصيبنا فيها تعب ولا وجع ولا إعياء ولا فتور.

والخلاصة ـ إنهم أتعبوا أنفسهم في العبادة في دار الدنيا فاستراحوا راحة دائمة في الآخرة كما قال : «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ».

وقيل للربيع بن خيثمة وقد كان يقوم ليله ويصوم نهاره (أتعب نفسك) فقال : راحتها أطلب.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧))

١٣١

تفسير المفردات

لا يقضى عليهم : أي لا يحكم عليهم بموت ثان ، يصطرخون : أي يصيحون أشد الصياح للاستغاثة ، نعمركم : أي نمهلكم ، للظالمين : أي للكافرين ، نصير : أي معين يدفع عنهم العذاب.

المعنى الجملي

بعد أن بين ما لعباده الذين أورثوا الكتاب من النعمة في دار السرور التي قال فى مثلها القائل :

علياء لا تنزل الأحزان ساحتها

لو مسها حجر مسته سرّاء

أردف ذلك ذكر ما لأضدادهم من النقمة ، زيادة في سرورهم بما قاسوا في الدنيا من تكبرهم عليهم وفخارهم بما أوتوا من نعيم زائل وحبور لا يدوم.

الإيضاح

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أي والذين ستروا ما تدل عليه العقول من شموس الآيات وأنوار الدلالات ، لهم نار جهنم لا يحكم عليهم فيها بموت ثان فيستريحوا من الآلام ، ولا يخفف عنهم العذاب فيها ، بل كلما خبت زيد سعيرها.

ونحو الآية قوله : «وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» وقوله : «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» وقوله : «كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً» وقوله : «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً».

ثم بين أن هذا جزاء كل كافر بنعمة ربه ، جاحد بوحدانيته فقال :

١٣٢

(كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أي وهكذا نكافى كل جاحد لآلاء الله منكر لرسله ، فندخله نار جهنم بما قدم من سيئات في الدنيا.

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي وهم يستغيثون ويضجّون في النار يقولون ربنا أخرجنا منها ، وأعدنا إلى دار الدنيا ، نطعك ونعمل غير الذي كنا نعمل من معصيتك ، وقد علم منهم أنه لو ردهم إلى هذه الدار لعادوا إلى ما نهوا عنه.

وحينئذ يقال لهم تقريعا وتوبيخا.

(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ؟) أي ما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفعون بالحق لا نتفعتم به مدة عمركم؟

ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم «هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟».

والخلاصة ـ إنه تعالى لا يجيبكم إلى ما طلبتم ، لأنكم كنتم عصاة ، ولو رددتم لعدتم إلى ما نهيتم عنه.

روى أحمد عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : «لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين ، لقد أعذر الله تعالى إليه ، لقد أعذر الله تعالى إليه».

(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي وجاءكم الرسول ومعه كتاب الله ، ينذركم بالعقاب إن خالفتم أمره ، وتركتم طاعته.

والخلاصة ـ إنه احتج عليهم بأمرين : طول الأمل ، وإرسال الرسل ونحو الآية قوله : «وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ. لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» وقوله : «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ».

١٣٣

وقد استبان مما تقدم أنهم لا يخرجون منها ، ومن ثم قال :

(فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي فذوقوا عذاب النار جزاء مخالفتكم للأنبياء فى حياتكم الدنيا ، ولن تجدوا لكم ناصرا ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والسلاسل والأغلال.

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩))

تفسير المفردات

ذات الصدور : هى المعتقدات والظنون التي في النفوس ، والخلائف : واحدهم خليفة ، وهو الذي يقوم بما كان قائما به سلفه ، مقتا : أي بغضا واحتقارا ، خسارا : أي خسارة ، فالعمر كرأس مال إذا اشترى به صاحبه رضا الله ربح ، وإذا اشترى به سخطه خسر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف أنه ليس للظالمين من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم ـ أردف ذلك بيان أنه محيط بالأشياء علما ، فلو كان لهم نصير في وقت ما لعلمه.

إلى أنه تعالى لما نفى النصير على سبيل الاستمرار ، وكان ذلك مظنة أن يقال كيف يخلّدون في العذاب وقد ظلموا في أيام معدودات ـ أعقب ذلك بذكر أنه عليم بما انطوت عليه ضمائرهم ، وأنهم صمّموا على ما هم فيه من الضلال والكفر إلى الأبد ، فمهما طالت أعمارهم فلن تتغير حالهم.

١٣٤

الإيضاح

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إن الله عالم ما تخفون أيها المشركون فى أنفسكم وما تضمرون ، وما ستنوون أن تفعلوه ، وما هو غائب عن أبصاركم في السموات والأرض ، فاتقوه أن يطلع عليكم وأنتم تضمرون الكيد لرسوله ، وتريدون إطفاء دينه ، وتنصرون آلهتكم التي لا تنفعكم شيئا يوم القيامة.

ثم علل هذا بقوله :

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي لأنه عليم بما تكنه السرائر ، وما تنطوى عليه الضمائر ، وسيجازى كل عامل بما عمل.

وفي هذا إيماء إلى أنه لو مد أعمارهم لم يرجعوا عن الكفر أبدا ، فلا مطمع فى صلاحهم.

ثم ذكر ما هو سبب آخر لعلمه بالغيب فقال :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي هو الذي ألقى إليكم مقاليد التصرف والانتفاع بما في الأرض لتشكروه بالتوحيد والطاعة.

(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي فمن غمط مثل هذه النعمة العظيمة فإنما يعود وبال ذلك إلى نفسه دون غيره ، لأنه هو المعاقب لا سواه.

ثم فصل ذلك وبيّنه بقوله :

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) أي وكلما استمروا في كفرهم أبغضهم ربهم وغضب عليهم.

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) أي وكلما اطمأنوا إلى كفرهم خسروا أنفسهم يوم القيامة وحق عليهم سوء العذاب.

والتكرير للتنبيه إلى اقتضاء الكفر لكل من الأمرين القبيحين البغض والخسران على سبيل الاستقلال.

١٣٥

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١))

تفسير المفردات

أرأيتم : أي أخبرونى ، شرك : أي شركة ، يمسك : أي يحفظ ، وتزول : أي تضطرب وتنتقل من أماكنها

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه أنه هو الذي استخلفهم في الأرض ـ أكد هذا بأمره صلّى الله عليه وسلم أن يقول لهم ما يضطرهم إلى الاعتراف بوحدانيته وعدم إشراك غيره منه.

الإيضاح

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي أخبرونى أيها المشركون عن شركائكم الذين تدعونهم من دون الله من الأصنام والأوثان ـ أرونى أىّ جزء من الأرض أو من الأناسى والحيوان خلقوا حتى يستحقوا الإلهية والشركة.

والخلاصة ـ أعلمتم هذه الآلهة ما هى؟ وعلى أي حال هى؟ فإن كنتم تعلمون أنها عاجزة ، فكيف تعبدونها ، وإن كنتم توهمتم فيها القدرة فأرونى أثرها؟.

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي أم لهم شركة مع الله في خلق السموات حتى يستحقوا ما زعمتم فيهم.

١٣٦

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟) أي أم هناك كتاب أوتوه ينطق بأنا اتخذناهم شركاء ، فهم على حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة معنا.

وخلاصة ما تقدم ـ أخبرونى عمن تعبدونهم من دون الله ، هل استبدوا بخلق شىء من الأرض حتى يعبدوا كعبادة الله ، أولهم شركة معه في خلق السموات ، وآتيناهم برهانا بهذه الشركة؟

والخلاصة : إن عبادة هؤلاء إما بدليل من العقل ، ولا عقل يحكم بعبادة من لا يخلق شيئا ، وإما بدليل من النقل ، وإنا لم نؤت المشركين كتابا فيه الأمر بعبادة هؤلاء.

وبعد أن نفى ما نفى من الحجج أضرب عن ذلك وبين أن الذي حملهم على الشرك هو تقرير السلف للخلف ، وإضلال الرؤساء للأتباع ، وقولهم لهم : إن هؤلاء شفعاء يشفعون لكم عند الله إذا أنتم عبدتموهم ، وإلى هذا أشار بقوله :

(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي بل إنما اتبعوا في ذلك آراء أسلافهم وضلّالهم ، وما هى إلا غرور وأباطيل.

ولما أبان حقارة الأصنام أرشد إلى عظمته تعالى فقال :

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أي إن الله يمنع السموات أن تضطرب من أماكنها ، فترتفع أو تنخفض ويمنع الأرض من مثل ذلك ، ويحفظهما برباط خاص ، وهو ما يسميه العلماء نظام الجاذبية ، فجميع العوالم من الأرض والقمر والشمس والسيارات الأخرى تجرى في مدارات خاصة بهذا النظام الذي وضع لها ، ولو لا ذلك لتحطمت هذه الكرات المشاهدة ، وزالت عن أماكنها ، لكنها به ثبتت فى مواضعها ، واستقرت في مداراتها.

(وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي وإن أشرفتا على الزوال ما استطاع أحد أن يمسكهما من بعد الله.

والخلاصة ـ إنه لا يقدر على دوامهما وبقائهما على هذا الوضع إلا اللطيف الخبير

١٣٧

ونحو الآية قوله : «وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» وقوله : «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ».

(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ومن ثم حلم على المشركين وغفر لمن تاب منهم على عظيم جرمهم المقتضى تعجيل العقوبة لهم.

والخلاصة ـ إنه يحلم وينظر ، ويؤجل ولا يعجّل ، ويستر ويغفر.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣))

تفسير المفردات

وأقسموا : أي حلف المشركون ، جهد أيمانهم : أي غاية اجتهادهم فيها ، نذير : أي رسول منذر ؛ أهدى من إحدى الأمم : المراد بها اليهود أو النصارى ، نفورا : أي تباعدا عن الحق ، مكر السيّء : أي المكر السيّء الذي فيه خداع وكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يحيق : أي ولا يصيب ولا ينزل ، سنة الأولين : أي سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم ، تبديلا : بوضع الرحمة موضع العذاب ، تحويلا : بأن ينقل عذابه من المكذبين إلى غيرهم

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه تكذيبهم للتوحيد بإشراكهم الأوثان والأصنام ، وبكّتهم على هذا أشد التبكيت ، وضرب لهم الأمثال ، ليبين لهم سخف عقولهم ، وقبح معتقداتهم ،

١٣٨

أردف ذلك ذكر إنكارهم للرسالة بعد أن كانوا مترقبين لها ، ناعين على أهل الكتاب تكذيب بعضهم بعضا ، فقالت اليهود : ليست النصارى على شىء ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شىء ، ثم هددهم بأن عاقبتهم ستكون الهلاك الذي لا محيص عنه ، وتلك سنة الله في الأولين من قبلهم ، وسنته لا تبديل فيها ولا تحويل.

الإيضاح

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي وأقسم المشركون بالله أغلظ الأيمان ، وبالغوا فيها أشد المبالغة : لئن جاءهم من الله رسول ينذرهم بأسه ، ليكونن أسلك لطريق الحق وأشد قبولا له من أىّ أمة من الأمم التي خلت من قبلهم.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي ولكن حين جاءهم الرسول انعكست الآية ، فما زادهم مجيئه إلا بعدا من الإيمان بالله ، وانصرافا عن الحق ، واستكبارا عن اتباع آياته ، ومكروا بالناس مكرا سيئا فصدوهم عن سبيله.

والخلاصة ـ إنه تبين أن لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أو في الناس ، ولا صدق لهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق ، وصار مثلهم مثل الإبل التي نفرت من ربها ، فضلت عن الطريق ، فدعاها فازدادت بدعائه نفرة ، وصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها.

ثم بين أن عاقبة مكرهم عادت عليهم بالوبال بقوله :

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي ولا يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم.

روى الزهري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : «لا تمكروا ولا تعينوا ما كرا فإن الله يقول : «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا

١٣٩

فإن الله سبحانه يقول «إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثا فإن الله يقول : «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ».

وقد وقع مثل هذا في كلام العرب فقد قالوا : من حفر لأخيه جبّا وقع فيه منكبّا والعبرة في الأمور بالعواقب ، والله يمهل ولا يهمل ، ووراء الدنيا الآخرة ، فإن لم يجاز الماكر في هذه الدار فسيلقى الجزاء في الآخرة «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ».

ثم هددهم بأن يحل بهم مثل ما أحل بمن قبلهم من العذاب فقال.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك إلا أن أحل بهم من نقمتى على شركهم بي وتكذيبهم رسولى ـ مثل ما أحللت بمن قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا رسلهم.

ثم علل انتظارهم للعذاب وتهديدهم به بقوله :

(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) أي وهذه سنة الله في كل مكذب ، فلا تغير ولا تبدل ، ولن يجعل الرحمة موضع العذاب ، ولن يحوّل العذاب من نفس إلى أخرى كما قال : «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى».

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

١٤٠