تفسير ستّ سور

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

تفسير ستّ سور

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-3-3
الصفحات: ٤٨٥

قلت : لأنّ الأصل في الطيران هو صفّ الأجنحة ، لأنّ الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مدّ الأطراف وبسطها ، وأمّا القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرّك ، فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنّهنّ صافّات ، ويكون منهنّ القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح (١). انتهى.

وحاصله : أنّ مقتضى الفعل التجدّد والحدوث ، فيناسب الطارئ على الأصل دون الأصل.

و «فوقهم» يحتمل أن تكون ظرفا لصافّات ، وأن تكون حالا ، وتكون «صافّات» حالا من الضمير المستكنّ في «فوقهم» و «ما يمسكهنّ» قيل : يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون حالا من الضمير في «يقبضن» ومفعول «يقبضن» محذوف ؛ أي أجنحتهنّ. انتهى.

وفي بعض التفاسير : إنّ المعنى : ألم يستدلّوا بثبوت الطير في الهواء على قدرتنا أن نفعل بهم ما تقدّم وغيره من العذاب. انتهى.

وفي التعبير بلفظ (الرَّحْمنُ) إشارة إلى أنّ إمساكهنّ في الهواء وعدم سقوطهنّ مقتضى الصفة الرحمانيّة.

وفي قوله : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي : عليم ، إشارة إلى أنّ أفعاله تعالى لا تكون إلّا بحكمة ومصلحة.

قال الطبرسيّ رحمه الله : والبصير في أسمائه ، هو الّذي يشاهد الأشياء كلّها ظاهرها وخافيها من غير جارحة ، فالبصر في حقّه تعالى عبارة عن

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٥٨١.

٣٨١

الصفة الّتي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات ، وفي الحديث : سمّيناه بصيرا ، لأنّه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك ، ولم تصفه ببصر لحظة العين. انتهى.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) وكلمة «أم» في الآيتين أيضا منقطعة بمعنى بل الإضرابيّة خاصّة ، فإنّ الاستفهام لا يدخل على الاستفهام ، لأنّ «من» فيهما للاستفهام الإنكاريّ في موضع الرفع على كونه مبتدأ ، وبهذا يحتجّ على البصريّين في زعمهم أنّ المنقطعة أبدا بمعنى ، بل والهمزة جميعا ، اللهمّ إلّا أن يدّعوا التوكيد ، وهو خلاف الأصل لا يرتكب إلّا بالدليل.

فالحقّ ما نصّ عليه ابن هشام من أنّها قد تستعمل في مجرّد الإضراب ؛ كما في الآيتين وأشباههما ، وقد تستعمل متضمّنة للاستفهام الإنكاريّ ؛ كما في قوله تعالى : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) (١) ومتضمّنة للاستفهام الطلبيّ ؛ كما في قولهم : إنّها لإبل أم شاة.

وعن أبي عبيدة : إنّها قد تستعمل بمعنى الاستفهام المجرّد ؛ كما في قول الشاعر :

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظّلام من الرّباب خيالا

وقد اختلف في خبر «من» ففي مجمع البيان : إنّ هذا مبتدأ ثان ، و «الّذي» خبره ، وقد وصل بالمبتدأ والخبر ، وهو قوله : (هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) و «ينصركم»

__________________

(١) الطور : ٣٩.

٣٨٢

صفة الجند (١). انتهى.

وحاصله : أنّ «الّذي» مع صلته وعائده خبر لـ «هذا» الّذي هو مبتدأ ثان ، ومجموع هذه الجملة في محلّ الرفع ليكون خبرا عن «من» الّذي هو مبتدأ أوّل ، ويسمّى هذا المجموع بالجملة الصغرى ، كما يسمّى المجموع من المبتدأ الأوّل وهذه الجملة بالجملة الكبرى. وقد فسّروا الكبرى بالجملة الاسميّة الّتي خبرها جملة ، والصغرى بالجملة المبتنية على المبتدأ ، وقد ذكروا في قوله تعالى : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) (٢) أنّ الأصل : لكن أنا هو الله ربّي.

قال في المغني : ففيها ثلاث مبتدءات إذا لم يقدّر «هو» ضميرا له سبحانه ، ولفظ الجلالة بدلا منه أو عطف بيان عليه ـ كما جزم به ابن الحاجب ـ بل قدّر ضمير الشأن وهو الظاهر ، ثمّ حذفت همزة «إن» حذفا اعتباطيّا ؛ أي بلا سبب ، وقيل : حذفا قياسيّا بأن نقلت حركتها ؛ أي إلى النون من «لكن» ثمّ حذفت ، ثمّ أدغمت نون «لكن» في نون «أنا». انتهى.

وفي أكثر التفاسير : إنّ «من» مبتدأ ، و «هذا» خبره ، و «الّذي» نعت لـ «هذا» أو بدل عنه أو عطف بيان عنه. لا يقال : «الجند» في معنى الجمع ، فكيف وحّدت الإشارة والضمير الراجع إليه في «ينصركم» فإنّ لفظ «الجند» موحّد ؛ كما في قوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) (٣). قيل : و «ينصركم» نعت لـ «جند» محمول على اللفظ ولو جمع على المعنى جاز. انتهى.

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤١٤.

(٢) الكهف : ٣٨.

(٣) ص : ١١.

٣٨٣

وقال الطبرسي رحمه الله : أي لا جند لكم ينصركم منّي ويمنعكم من عذابي إن أردت عذابكم. عن ابن عبّاس.

ولفظ «الجند» موحّد ، ولذلك قال : «هذا الّذي» وكأنّه سبحانه يقول للكفّار : بأيّ قوّة تعصونني ، ألكم جند يدفع عنكم عذابي؟ بيّن بذلك أنّ الأصنام لا يقدرون على نصرتهم (١). انتهى.

و «الغرور» بالضمّ : الباطل. وعن ابن السكّيت : إنّه ما رأيت له ظاهرا تحبّه وفيه باطن مكروه ومجهول. انتهى.

ويستعمل في الخدعة ، ومنه الغرور بالفتح للشيطان ، فإنّه يخادع الإنسان بمتاع الدنيا حتّى يدخله النار.

و «الغرّة» بالكسر : الغفلة.

قال الطبرسيّ رحمه الله : أي ما الكافرون إلّا في غرور من الشيطان ؛ يغرّهم بأنّ العذاب لا ينزل بهم.

وقيل : معناه : ما هم إلّا في أمر لا حقيقة له من عبادة الأوثان ، يتوهّمون أنّ ذلك ينفعهم والأمر بخلافه (٢). انتهى.

والضمير في «أمسك رزقه» راجع إلى «الله» إن أريد بالمشار إليه أصنامهم الّتي يتوهّمونها آلهة.

والمراد بإمساك الرزق : إمساك أسبابه ؛ كالمطر ونحوه.

قيل : جواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله ؛ أي «فمن يرزقكم» أي : لا رازق لكم غيره انتهى.

__________________

(١ و ٢) مجمع البيان ١٠ : ٤١٤.

٣٨٤

وعن الفرّاء : قوله : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) ... إلى آخره. تعريف حجّة ألزمها الله العباد فعرفوا فأقرّوا بها ولم يردّوا لها جوابا ، فقال سبحانه : (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (١). انتهى.

و «اللجاجة» و «اللجوجة» : ملازمة الشيء ومواظبته والاستمرار عليه.

و «العتوّ» : التجبّر والتكبّر ، وقد تقلب الواو ياء بعد إبدال الضمّة كسرة ، فيقال : عتى بضمّ المهملة أو كسرها.

و «النفور» : التباعد عن الحقّ والإيمان.

وفي الآية إشارة إلى أنّ الحجّة قد تمّت على هؤلاء الكفّار العابدين للأوثان ، وأنّ الحقّ لم يؤثّر في قلوبهم القاسية الّتي طبع ورين وختم عليها ، بل زادهم طغيانا وكفرا ؛ كما قال : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) ـ إلى قوله ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (٢).

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

قال صاحب الحقائق : شبّه الله صاحب النفس الّذي يمشي قلبه في ظلماتها لا يدري أين يمشي بالأعمى الّذي يخبط خبط العشواء في ظلمات هو كمن يمشي روحه في طرق الملكوت بنعت المعرفة والسريان في أنوار المشاهدة.

قال سهل : مكبّا ، أي : مطرقا إلى هوى نفسه بجبلّة خلقته بعد هدى ربّه

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤١٥.

(٢) البقرة : ١٢٤ ـ ١٢٥.

٣٨٥

أهدى أم من يمشي سويّا ، يعني المؤمن المهتدي على صراط مستقيم ، أي : على شريعة طرق التوحيد. انتهى.

والمكبّ على الوجه هو المنكّس رأسه إلى الأرض بحيث لا يبصر الطريق ، ولا ينظر أمامه ، ولا يمينه ، ولا شماله ، شبّه به الكافر المقلّد الّذي لم يشمّ رائحة التحقيق ، فلا يدري أمحقّ هو أم مبطل ، فيميل مع كلّ ناعق ؛ كما شبّه المؤمن المحقّ الّذي سلك طريق الحقّ برهانه القاطع ، وعرف موارد الحقّ ببيانه الساطع ، بالبصير المستوي بقيامه يمشي على صراط مستقيم بحيث لا يعثر ولا يزلّ قدمه في طريق من طرقه.

وقيل : إنّ الكافر المكبّ على معاصي الله يحشره الله يوم القيامة على وجهه بخلاف المؤمن ، فإنّه يمشي على الصراط مستويا قائما.

وقيل : المراد بالأوّل أبو جهل ، وبالثاني رسول الله.

وقيل : حمزة بن عبد المطّلب عليه السلام (١).

قال في الكشّاف : فإن قلت : ما معنى «يمشي مكبّا على وجهه» وكيف قابل «يمشي سويّا على صراط مستقيم»؟

قلت : معناه : يمشي معتسفا في مكان معتاد غير مستو فيه انخفاض وارتفاع ، فيعثر كلّ ساعة فيخرّ على وجهه منكبّا ، [فحاله] نقيض حال من يمشي سويّا ؛ أي قائما سالما من العثور والخرور ، أو مستوي الجهة قليل الانحراف خلاف المعتسف الّذي ينحرف هكذا أو هكذا ... (٢) إلى آخره. انتهى.

__________________

(١) انظر : الكشّاف ٤ : ٥٨٢.

(٢) الكشّاف ٤ : ٥٨٢.

٣٨٦

و «المكبّ» : اسم فاعل ؛ من «أكبّ الشيء» فهو إمّا من الأفعال الّتي مجرّدها متعدّ ومزيدها لازم مطاوع لمجرّدها ، فيقال : كببته ، فأكبّ ؛ نظير قولهم : تشعبّت الريح السحاب أي كشفته وأزالته فانقشع ونزفت البئر فأنزفت ؛ أي ذهب ماؤها ، ونسلت ريش الطائر فانسلّ ؛ إذ من الأفعال الّتي جاءت للصيرورة ؛ كما في : أغدّ البعير ، أي : صار ذا غدّة ، فمعنى «مكبّا» صائرا إذا كبّ ، أو من الأفعال المتضمّنة للدخول كقولهم : أحرم الرجل ؛ إذا دخل في الحرم ، وأشأم : إذا دخل الشام ، وأتهم : إذا دخل تهامة ، وأنجد : إذا دخل النجد ، وأيمن : إذا دخل اليمن. فمعنى «مكبّا» داخلا في الكبّ.

وهذان الوجهان أولى من الأوّل لندرته. وقد صرّح جماعة بأنّ مطاوع «كبّ» «انكبّ» وبأنّه لا شيء من بناء «أفعل» مطاوعا.

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ذكّرهم الله بعض نعمائه عليهم ليشكروا ، ووبّخهم على تركهم الشكر في كثير من الأوقات ، فإنّ الشكر هو صرف العبد جميع ما أعطاه الله من النعم فيما يحبّه ويأمر به ، ومنها : الوجود الّذي هو أعظم النعم وأصلها وأساسها ، ولذا قدّمه فقال : (الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) ؛ أي أخرجكم من العدم إلى الوجود ، لإيصال الفيض والجود.

قيل : أي ابتدأكم وخلقكم ، وكلّ من ابتدأ شيئا فقد أنشأه.

ومنها : القوّة السامعة ، ليسمعوا بها المسموعات ، فينتفعوا بالمواعظ الإلهيّة.

ومنها : القوّة الباصرة ، ليبصروا بها المبصرات ، فينتفعوا بمشاهدة آثار

٣٨٧

صنع الله وقدرته ، وإنّما جمع الأبصار لاختلاف أجناس المبصرات ، دون السمع لاختصاصه بالأصوات.

ومنها : الفؤاد ، ليتعقّلوا به الأمور ، ويتميّزوا بينها ، فيتفكّروا في آيات الله فيصلوا به إلى مراتب العلم واليقين. جمعه لما تقدّم من اختلاف أجناس متعلّقاته وظاهر كلمات أهل اللغة أنّ الفؤاد والقلب مترادفان ، ولكن فسّره بعضهم بأنّه غشاء القلب ، فإذا رقّ نفذ القول فيه وخلص إلى ما وراءه ، وإذا غلظ تعذّر وصوله إلى داخله.

قيل : ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ، ولا أشدّ تأذّيا منه.

وكيف كان ، فإذا صرف العبد هذه الثلاثة في غير ما خلقت لأجله فقد كفر بأنعم الله ؛ وقد قال : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (١) وقال : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) ... (٢) إلى آخره.

وجملة (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) مستأنفة مخبرة بقلّة شكرهم ؛ كما صرّح به بعضهم. و «ما» مزيدة للتأكيد والتحقيق والمبالغة في القلّة ، ويحتمل كونها موصولة حرفيّة تؤوّل مع صلته بالمصدر ، ولذا تسمّى مصدريّة ؛ أي قليلا شكركم ، فالقلّة راجعة إلى الفعل ، ويحتمل رجوعها إلى الفاعل ؛ كما هو مؤدّى قوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) إن جعلنا الشكور بمعنى

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) الأعراف : ١٧٩.

٣٨٨

الشاكر ، وأمّا إن جعلناه بمعنى كثير الشكر ، فلا ينفي كثرة الشاكرين إذا كان شكر كلّ منهم قليلا ، ثمّ إنّ قلّة الفعل لا تقتضي قلّة الفاعل ؛ بخلاف العكس. فتدبّر.

ونصب «قليلا» على كونه وصفا لظرف محذوف وهو «الحين». ويحتمل أن يكون لنيابته عن المصدر ، أي : وتشكرون شكرا قليلا. ومن المحتمل بعيدا كون «ما» نافية ، فيكون المراد نفي شكرهم بالمرّة. فتأمّل.

(قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) هذا تذكير آخر ، بل برهان على أنّ الملجأ في جميع الأمور هو الله الحقّ دون الأصنام الّتي كانوا يعبدونها على الباطل ، فإنّه هو الخالق للجميع ، القادر على كلّ شيء ، وهو المرجع في القيامة للحساب والمجازاة دون هذه التماثيل الّتي كانوا يعكفون عليها بعد أن نحتوها وخلقوها بأيديهم ، وهي لا تقدر على نفع ولا ضرّ ، ولا على خلق مثل ذباب ، ولا على مجازاة وحساب.

و «الذرء» بالهمزة : الخلق ؛ كما في الآية ؛ وقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) ... (١) إلى آخره. ومنه الذرّيّة بتثليث الذال وأصلها الذروءة على وزن الفعولة ، فأبدلت الهمزة ياء ؛ كما في «النبيء» فإنّه من النبأ على ما قيل.

وقيل : إنّها من الذرّ ، وهو البثّ والتفريق ، لأنّه تعالى ذرّهم ونشرهم في الأرض ، فالوزن فعلولة فأبدلوا الراء الأخيرة ياء ، ثمّ أدغمت الواو فيها بعد قلب الواو ياء.

__________________

(١) الأعراف : ١٧٩.

٣٨٩

و «متى» استفهام وسؤال عن الزمان ، والمراد بالوعد ما يشمل الوعيد ، و «اللام» فيه للعهد الحضوريّ أو الذكريّ لدلالة «وإليه تحشرون» على الحشر ، أو الخارجيّ وهو المعروف في مخاطبات الأنبياء مع الأمم في إرشادهم إلى الاعتقاد بالقيامة والحساب ، وإنكار الكفّار جميع ذلك ، وسؤالهم عن وقت ذلك تعنّتا واستهزاء ، ففي سورة الأعراف : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١) ونحوها آيات أخرى دالّة على أنّ علم الساعة مخصوص بالله تعالى لا يعلمه سواه.

وفي الحقائق : قوله جلّت عظمته : (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) ففي مكنون علمه فيما جرى في الأزل عن الخليقة وإن كان صدّيقا مرسلا ، أو ملكا مقرّبا ، فيكون عنهم مستورا كما كان في ستر الأزل قبل الخلق ، ولو أمعنت النظر يا صاحبي في العلم فإنّ حقيقة العلم منفيّ عن الخلق ؛ إذا الخلق لا يعلم حقيقة الأشياء ، فإنّ حقيقة علم الأشياء لمنشئها لا غير ، وذلك قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) أثبت العلم بالحقيقة لنفسه.

قال يحيى بن معاذ : أخفى الله علمه في عباده ، فكلّ يتّبع أمره على جهة الإشفاق لا يعلم ما سبق له ، وبماذا يختم له ، وذلك قوله : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ). انتهى.

ويظهر منه أنّ «اللام» في «العلم» للجنس أو للاستغراق الحقيقيّ ، فمفاد

__________________

(١) الأعراف : ١٨٧.

٣٩٠

هذا الكلام أنّ حقائق الأشياء كما هي علمها خاصّ بالله ، وخارج عن الطاقة البشريّة ، ولكن يترشّح على العلماء وإن كانوا رسلا أو ملكا على حسب طاقتهم البشريّة والإمكانيّة ، ولذا قيل :

كيف الوصول إلى سعاد ودونها

قلل الجبال ودونهنّ حتوف

 والرجل حافية ومالي مركب

 والكفّ صفر والطريق مخوف

وكيف كان ، فكلمة «إنّما» تفيد حصر العلم مطلقا فيه تعالى من قبيل حصر الصفة في الموصوف ، ومن المحتمل كون «اللام» نائبة عن الضمير على ما جوّزه الكوفيّون ؛ أي إنّما علم هذا الوقت عند الله. فتأمّل.

وكيف كان ، فالقصر قصر أفراد ، لاعتقاد المخاطبين الشركة في صفة العلم المطلق أو الخاصّ بينه تعالى وبين غيره ، وحقيقيّ ، فإنّ العلم المذكور لا يتجاوزه إلى غيره في الحقيقة ونفس الأمر. فليتأمّل.

ومثله القصر في قوله : (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) فإنّه أيضا أفراد ، ولكنّه غير حقيقيّ ، ومن قبيل قصر الموصوف على الصفة.

و «النذير» المنذر ، أي : المخوّف من العذاب.

و «المبين» الظاهر صدقه ، أو المظهر حجّته بالبيّنات والآيات.

قال الطبرسي رحمه الله : أي مبيّن لكم ما أنزل الله إليّ من الوعد والوعيد والأحكام (١).

(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أشار بالتعبير عن المستقبل بلفظ الماضي إلى أنّ وقوع هذا الوعد أمر يقينيّ

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤١٥.

٣٩١

لا ريب فيه ، فهو بمنزلة الماضي الواقع قطعا ، هذا مع أنّ الماضي والمستقبل والحال بالنسبة إلى الحقّ تعالى سواء ؛ كما حقّق في محلّ آخر.

نعم ، عن مجاهد : أنّ المراد بـ «ما رأوه» ما وقع على الكفّار يوم بدر من القتل والأسر ، فلا حاجة إلى التأويل ، ولكنّه خلاف الظاهر.

و «الزلفة» و «الزلفى» القربى ، ومنه قوله : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) (١) أي قربت ؛ أي فلمّا رأوا العذاب الموعود قريبا منهم.

وقيل : أي معاينة بعين اليقين.

وقيل : إنّ المعنى إذا بعثوا ورأوا القيامة قد قامت ورأوا ما أعدّ لهم من العذاب «سيئت وجوه الّذين كفروا» : اسودّت وجوههم.

وقيل : أي قبحت وجوههم بلون السواد.

وقيل : أي ظهرت على وجوههم آثار الكآبة والغمّ والحسرة ، ونالهم السوء والخزي والافتضاح.

وقيل : ظهر كذبهم فيما يدّعون.

قوله «وقيل» ... إلى آخره ، القائل بهذا القول لهم الملائكة ، أو خصوص الزبانية ، أو الأنبياء ، أو المؤمنون.

و «تدّعون» بسكون «الدال» من الدعاء أو بتشديدها على القراءة المشهورة من الادّعاء ، والمعنى واحد ؛ كما في «تدخرون» و «تدّخرون».

قيل : أي تدّعون أن لا جنّة ولا نار ، ولا حساب ولا مجازاة ، وأن لا حياة إلّا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلّا الدهر.

__________________

(١) ق : ٣١ ، والشعراء : ٩٠.

٣٩٢

وقيل : أي تستعجلون وتدعون الله بتعجيله.

ويؤيّده : جملة من الآيات القرآنيّة.

وقيل : المراد بالّذين كفروا هم الّذين أنكروا ولاية عليّ عليه السلام ومقامه ، ولا شكّ في كفرهم باطنا ، وقد أفتى جماعة من أصحابنا بكفرهم ونجاستهم ظاهرا أيضا ، لإنكارهم ما هو الضروريّ من القرآن والنصّ المتواتر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله. فتأمّل.

وقد ورد أنّ هذه الآية نزلت في عليّ عليه السلام وأصحابه الّذين عملوا ما عملوا فيرون أمير المؤمنين عليه السلام في أغبط الأماكن ، فيسيء وجوههم ، ويقال لهم «هذا الّذي كنتم به تدّعون» الّذي انتحلتم اسمه وتسمّيتم أنفسكم بهذا اللقب ، وهم خلفاء بني أميّة وبني العبّاس الّذين سمّوا أنفسهم بأمير المؤمنين.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ رحمه الله بعد ذكر هذه الآية قال عليه السلام : إذا كان يوم القيامة ونظر أعداء أمير المؤمنين عليه السلام ما أعطاه الله من المنزلة الشريفة العظيمة وبيده لواء الحمد وهو على الحوض يسقي ويمنع ؛ تسودّ وجوه أعدائه ، فيقال لهم «هذا الّذي كنتم به تدّعون» أي : هذا الّذي كنتم به تدّعون منزلته وموضعه واسمه (١). انتهى.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أشار إلى أنّ الله هو الملجأ والمعاذ لمن آمن به ولاذ ، وأنّ الكافرين به لا معاذ

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ : ٣٧٨.

٣٩٣

لهم ولا ملاذ ، وإلى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله هو الوسيلة إلى النجاة عن عذاب الله ، فإنّه الداعي إلى الإيمان به تعالى ، بل وجوده بين قومه مانع عن نزول العذاب الدنيويّ ، كما قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (١).

قيل : إنّ الكفّار كانوا يتمنّون موت النبيّ صلّى الله عليه وآله وموت أصحابه ، فقيل لهم «إن أهلكني الله ومن معي» بأن يميتني ويميت أصحابي ، فمن الّذي ينفعهم في دفع العذاب عنهم ويؤمنهم من العذاب ، فإنّه واقع بهم لا محالة.

وقيل : معناه : أرأيتم إن عذّبني الله ومن معي ، أو رحمنا بأن غفر لنا ، فمن يجيركم؟ أي : نحن مع إيماننا بين الخوف والرجاء ، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب ولا رجاء لكم كما للمؤمنين ، نقل هذين القولين شيخنا الطبرسيّ رحمه الله في مجمع البيان (٢). ولكنّه فسّر «أهلكني» بيميتني و «رحمنا» بتأخير آجالنا. فليتأمّل.

وفي الكشّاف : كان كفّار مكّة يدعون على رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلى المؤمنين بالهلاك ، فأمر بأن يقول لهم : نحن مؤمنون متربّصون لإحدى الحسنيين : إمّا أن نهلك كما تتمنّون فننقلب إلى الجنّة ، أو نرحم بالنصرة والإدالة للإسلام كما نرجو ، فأنتم ما تصنعون؟ من يجيركم ـ وأنتم كافرون ـ من عذاب النار؟ لا بدّ لكم منه ، يعني : إنّكم تطلبون لنا الهلاك الّذي هو استعجال للفوز والسعادة وأنتم في أمر هو الهلاك الّذي لا هلاك بعده ،

__________________

(١) الأنفال : ٣٣.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤١٥.

٣٩٤

وأنتم غافلون لا تطلبون الخلاص منه. أو إن أهلكنا الله بالموت فمن يجيركم بعد موت هداتكم ، والآخذين بحجزكم من النار ، وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم وقتلكم فمن يجيركم ؛ فإنّ المقتول على أيدينا هالك. أو إن أهلكنا الله في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون ، فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم ، وإن رحمنا بالإيمان فمن يجير من لا إيمان له (١). انتهى.

و «الرؤية» في «أرأيتم» : بصرته ، أو عرفانيّة فلا تتعدّى إلى اثنين ؛ كما في قوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) (٢) وقد يتوهّم أنّ «أرأيتم» بمعنى : أخبروني ، وقد نقل من الإنشاء إلى الإفشاء ؛ كما في (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) (٣) أي : أخبرني.

وفيه ما لا يخفى ، لأنّهم ملتزمون في «التاء» الملحقة بهذا الفعل الإفراد والتذكير ، فينافيه الجمعيّة.

قال في المغني : ومن غريب أمر «التاء» الاسميّة أنّها جرّدت عن الخطاب والتزم فيها لفظ التذكير والإفراد في أرأيتكما وأ رأيتكم وأ رأيتك وأ رأيتكنّ. انتهى.

قوله : (فَمَنْ يُجِيرُ) جواب عن الشرط ، و «من» كلمة استفهام للإنكار ، فالمراد أنّه لا مجير للكافرين.

قوله : (هُوَ الرَّحْمنُ) ... إلى آخره.

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٥٨٣.

(٢) الماعون : ١.

(٣) الإسراء : ٦٢.

٣٩٥

قال الطبرسيّ رحمه الله : أي إنّ الّذي أدعوكم إليه هو الرحمن الّذي عمّت نعمته جميع الخلائق (١). انتهى.

ف «الرحمن» أيضا من أسمائه الخاصّة كـ «الله» كما يستفاد من قوله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢) الآية. وفي سورة الفرقان : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) (٣).

قال في الكشّاف : فإن قلت لم أخّر مفعول «آمنّا» وقدّم مفعول «توكّلنا»؟

قلت : لوقوع آمنّا تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم ، كأنّه قيل : آمنّا ولم نكفر كما كفرتم ، ثمّ قال : وعليه توكّلنا خصوصا لم نتّكل على ما أنتم متّكلون عليه من رجالكم وأموالكم (٤). انتهى.

وفي تقديم الظرف على الفعل دلالة على الحصر ، وإشارة إلى أنّه توجّه بكلّيّته على الحقّ ، وقصر نظره عن غيره في جميع أموره ، فإنّه هو الغنيّ المطلق ، وما سواه فقراء إليه ، فمن يتوكّل على الله فهو حسبه.

وفسّر التوكّل بانقطاع العبد إليه تعالى في جميع ما يأمله من المخلوقين ، ويلزمه ترك الحرص على الدنيا ، وترك السعي فيها ، والرضا بما قسمه الله له. والكلام في التوكّل طويل الذكر ، فمن أراده فليرجع إلى كتب الأخلاق.

قوله : (فَسَتَعْلَمُونَ) ... إلى آخره. قرئ بالتاء ، فالخطاب للكفّار

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤١٥.

(٢) الإسراء : ١١٠.

(٣) الفرقان : ٦٠.

(٤) الكشّاف ٤ : ٥٨٣.

٣٩٦

الزاعمين أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله على ضلال مبين في دعوته النبوّة وإخباره بالبعث والحساب ، وقد قال الّذين سبقوهم لأنبيائهم «إن أنتم إلّا في ضلال مبين» يعني : ستعلمون يا معاشر الكفّار يوم القيامة من هو في ضلال مبين ؛ أنحن أم أنتم؟

وكذلك إن قرئ بالياء ، فمرجع الضمير أيضا هؤلاء الكفّار أو جميعهم من السابقين واللاحقين ، وفي الآية تهديد ووعيد لمن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، فهي نظير قوله تعالى في سورة القمر : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) (١).

وروي في تفسير الآية أنّ المراد : فستعلمون يا معشر المكذّبين من حيث أنبأتكم رسالة ربّي في ولاية عليّ والأئمّة من بعده من هو في ضلال مبين.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٢) برهان على أنّ الله هو المعين لمن استعان به ، والمجير لمن استجار إليه ، والمفزع لمن توكّل عليه ، وأنّه لا معين ، ولا مجير ، ولا مفزع سواه ، ولا إله غيره.

و «أصبح» بمعنى صار في وقت الصبح ؛ كأمسى بمعنى صار في المساء ، وأضحى بمعنى صار في الضحى ، أو بمعنى كان.

قال الشارح الرضيّ : إنّ هذه الثلاثة تكون ناقصة وتامّة ، والناقصة بمعنيين :

إمّا بمعنى صار من غير اعتبار الأزمنة الّتي يدلّ عليها تركيب الفعل ؛ أعني الصبح والمساء والضحى ، بل باعتبار الزمن الّذي يدلّ عليه صيغة

__________________

(١) القمر : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) الملك : ٣٠.

٣٩٧

الفعل أعني الماضي والحال والاستقبال.

وإمّا بمعنى كان في الصبح ، وكان في المساء ، وكان في الضحى. ويقترن في هذا المعنى الأخير مضمون الجملة ، أعني مصدر الخبر مضافا إلى الاسم بزمان الفعل ، أعني الّذي يدلّ عليه تركيبه ، والّذي يدلّ عليه صيغته ، فمعنى أصبح زيد أميرا ؛ أي إمارة زيد مقترنة بالصبح في الزمان الماضي ، ومعنى يصبح قائما أنّ قيامه مقترن بالصبح في الحال والاستقبال.

قال : وتكون تامّة كقولنا أصبحنا والحمد لله ، وأمسينا والملك لله ؛ أي وصلنا إلى الصبح والمساء ودخلنا فيهما ، وكذا أضحينا ، فيدلّ كلّ منهما على الزمانين. انتهى.

ولا يخفى أنّ هذه الأفعال إذا وقعت ناقصة فالمنصوب بعدها خبر ، وإذا استعملت تامّة فالمنصوب حال.

و «الغور» مصدر «غار الماء» : إذا ذهب في الأرض ونضب. والمراد به في الآية الغائر أو معناه المصدريّ ، فوصف الماء به من قبيل «زيد عدل» و «درهم ضرب» و «ماء سكب» وأمثالها ممّا أريد منه المبالغة.

و «المعين» فعيل من «معين الماء» : إذا جرى ، أو مفعول من «عان الماء» : إذا استنبطه واستخرجه ، أو من «عان الشيء» : إذا نظر إليه ورآه. فالماء المعين هو الظاهر المحسوس بالعين.

وعن بعضهم أنّه أراد بقوله «ماؤكم» ماء زمزم وبئر ميمون ، وهي بئر عادية قديمة ، وكان ماؤهم من هاتين البئرين. و «المعين» : الّذي تناله الدلاء ، وتراه العيون.

٣٩٨

وفي تفسير القمّيّ رحمه الله قال : أرأيتم إن أصبح إمامكم غائبا فمن يأتيكم بإمام مثله حدّثنا محمّد بن جعفر قال : حدّثنا محمّد بن أحمد ، عن القاسم بن محمّد قال : حدّثنا إسماعيل بن عليّ الفزاريّ ، عن محمّد بن جمهور ، عن فضالة بن أيّوب قال : سئل الرضا عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) ... إلى آخره. فقال عليه السلام : «ماؤكم أبوابكم ؛ أي الأئمّة عليهم السلام والأئمّة أبواب الله بينه وبين خلقه ، فمن يأتيكم بماء معين يعني بعلم الإمام عليه السلام (١). انتهى.

ونحوه ما في التفسير الصادقيّ ، وروي أنّ هذه الآية نزلت في الإمام القائم عليه السلام يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم لا تدرون أين هو فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات والأرض ، وحلال الله وحرامه. ثمّ قال : والله ما جاء تأويل هذه الآية ولا بدّ أن يجيء تأويلها (٢). انتهى.

ولا منافاة بين تفسير «الماء» تارة بالإمام ، وأخرى بعلمه ؛ كما لا يخفى.

فإن قيل : ما وجه المناسبة بين الماء والإمام عليه السلام وما وجه العلاقة؟

قلت : كما أنّ الماء سبب الحياة ؛ كما قال : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٣) كذلك الإمام عليه السلام سبب لحياة كلّ مخلوق ظاهرا وباطنا ، وكثيرا ما يعبّر عن العلم بالماء ؛ إذ به تحيا القلوب ، كما أنّ موتها بالجهل ، ولذا قال :

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ : ٣٧٩.

(٢) كمال الدين ١ : ٣٢٥.

(٣) الأنبياء : ٣٠.

٣٩٩

فالناس موتى وأهل العلم أحياء (١)

وحكي أنّ فلسفيّا خبيثا تليت عنده هذه الآية فقال : نأتي حينئذ بالماء بمعاونة الفؤوس والمعاول ، يعني بحفر الآبار ، فذهب ماء عينيه فصار أعمى لا يبصر شيئا ، فقيل له : ائت بماء عينك بالفؤوس والمعاول. وقد نظم المولويّ هذه القصّة في مثنويّه ، وأشار إليها الزمخشريّ في كشّافه.

ومن المحتمل أن يراد بالماء : الروح ، فيكون المعنى : إن أصبحت أرواحكم غائبة عن أبدانكم فمن يقدر على إرجاعها إلى أبدانكم؟ كما قال : (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).

ومن المحتمل أن يراد به النفس الناطقة الّتي هي ملاك الإنسانيّة ، ومنشأ العلم والمعرفة ، فيكون المعنى : إن أصبحتم مسوخا فمن يقدر على تبديل صوركم إلى صورة الإنسان ، وقلب حقيقتكم الناهقيّة إلى الفطرة الإنسانيّة.

وبعبارة أخرى : لو قال لكم مثلا «كونوا قردة خاسئين» كما قال لجماعة من بني إسرائيل فمن يقدر على تبديل ذلك؟! فكيف لا تشكرون ولا تؤمنون؟

ومن المحتمل أن يراد به نفس الوجود ، فيكون المعنى : إن ردّكم إلى ما كنتم عليه من العدم ؛ كما أخبر عنكم بقوله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (٣) وسلبكم نعمة الوجود ، فهل يقدر أحد على إيجادكم وإيتائكم السمع والبصر والفؤاد؟! فكيف لا تشكرون نعمة الوجود الّتي هي أصل كلّ فيض وجود؟ وكيف تتّخذون من دونه آلهة تعبدون!

__________________

(١) ديوان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : ٢٤. وأوّل البيت : ففز بعلم ولا ترضى به بدلا ...

(٢) الواقعة : ٨٦ ـ ٨٧.

(٣) الإنسان : ١.

٤٠٠