تفسير ستّ سور

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

تفسير ستّ سور

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-3-3
الصفحات: ٤٨٥

فهو مصدر من مصادر المفاعلة ؛ نظير القتال والمقاتلة ، يقال : طابقت النعل : إذا خصفتها طبقا على طبق ، أي : أطبقت طاقا على طاق ؛ من الخصف ، وهو ضمّ الشيء إلى الشيء ، وإلصاقه به.

والمراد بالمطابقة ؛ إمّا كون واحدة من السماوات فوق الأخرى ، وواحدة تحت الأخرى. وإمّا المشابهة ؛ أي يشبه بعضها بعضا في الإتقان والإحكام ، والاتّساق والانتظام.

وعلى الوجهين ؛ فالوصف بالمصدر للمبالغة في المطابقة ، كما في «زيد عدل» ويحتمل كونه حالا ، نظرا إلى التخصيص بالإضافة ، وإلّا فلا يجوز إتيان الحال عن النكرة المحضة.

قال الطبرسيّ : و «طباقا» نصب على الحال إذا أردنا في «سماوات» معنى «الألف واللام» (١). انتهى.

والأوّل أولى لشيوع الوصف بالمصدر ؛ كما قال ابن مالك :

قد نعتوا بمصدر كثيرا

فالتزموا الإفراد والتذكيرا (٢)

وقد يرتكب في المقام حذف المضاف فتنتفي المبالغة ، وقد يجعل «طباقا» جمع الطبق محرّكة ، نظير الجبال في جمع الجبلي ؛ أي ذوات طبقات ؛ بعضها فوق بعض.

وقوله : (ما تَرى) ... إلى آخره ، خبر لقوله «الّذي» إن جعلناه مبتدأ والجملة المخبر بها وإن احتاجت إلى رابط يعود إلى المبتدأ إلّا أنّه قد يقوم

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٠٨.

(٢) البهجة المرضية ؛ (باب النعت).

٣٤١

مقام الضمير اسم الظاهر لنكتة.

والمراد بـ «خلق الرحمن» إمّا العموم بالنسبة إلى تمام مخلوقاته ؛ كما يقتضيه المصدر المضاف.

فالمراد بالتفاوت : العيب والاعوجاج وخلاف ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، يعني أنّ أفعاله كلّها شرع سواء في الإتقان والإحكام ، وإن اختلفت بحسب الصورة والهيئة :

پير ما گفت خطا در قلم صنع نرفت

آفرين بر نظر پاك خطا پوشش باد

وإمّا خصوص خلق السماوات ، نظرا إلى تقدّم ذكر خلقها ، وسوق الآية لذلك ، فالإضافة للعهد ، يعني أنّها متناسبة الأجزاء ، مستقيمة الأجرام ، صحيحة الانتظام والاتّساق على أحسن التراتيب ، مع اشتمالها على كثير من الأعاجيب.

و «إرجاع البصر» ردّه وإدارته لمكان التحقيق في التفاوت وعدمه ، لئلّا يقع الالتباس في الحسّ.

قوله : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) ؛ أي لو أرجعت البصر وتأمّلت بعين التحقيق لم تجد للسماوات فروجا وصدوعا وشقوقا ، ومثله قوله : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (١) ؛ أي فتوق ؛ كسائر الأبنية المبنيّة من الأحجار واللبنات ، بل هي ملساء متّصلة ليس فيها تفاوت واختلاف.

__________________

(١) ق : ٦.

٣٤٢

وقريب منه قوله : (سَبْعاً شِداداً) (١) وقوله : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) (٢).

وقد استدلّ بعضهم بهذه الآيات على أنّ السماوات لا تقبل الخرق والالتيام ؛ كما عليه الحكماء المتقدّمون. وفيه نظر ، فإنّ الإخبار عن عدم شيء لا يكون إخبارا عن عدم إمكانه ، مع أنّ جملة من الآيات صريحة في إمكان ذلك ، بل وقوعه بعد ذلك ؛ مثل قوله : (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٣) وقوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (٤) وقوله : (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (٥) وقوله : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٦) وقوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِ) (٧) وقوله : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (٨).

وقد يقال : إنّ عدم الفطور ينافي سكون الملائكة فيها ، ونزولهم إلى الأرض ، وعروجهم إليها.

والجواب : إنّ الملائكة أرواح لطيفة ، وبذلك يدفع أيضا ما قيل من أنّ كونها طباقا يقتضي كون بعضها مطبقا على البعض متماسّة ، وهذا ينافي ما ذكر من اختلاف الملائكة وذهابهم وإيابهم ، وربّما يدفع بأنّ المراد كونها موازية.

__________________

(١) النبأ : ١٢.

(٢) الأنبياء : ٣٢.

(٣) المرسلات : ٩.

(٤) الإنفطار : ١.

(٥) الحاقّة : ١٦.

(٦) الرحمن : ٣٧.

(٧) الأنبياء : ١٠٤.

(٨) الطور : ٩.

٣٤٣

وأمّا ما ورد من أنّ لكلّ سماء بابا وحجابا فهذه الأبواب غير مرئيّة [فلا] تدرك بالبصر.

والمراد بـ «كرّتين» ؛ أي رجعتين إدامة النظر لا التثنية ؛ أي ارجع النظر مرّة بعد مرّة ؛ إذ بالمرّتين لا ينقلب البصر خاسئا ؛ أي بعيدا عن نيل المراد ، ذليلا صاغرا. وهذا نظير قولهم : سعديك ولبّيك ، فإنّه يراد به أنّه كلّما دعوتني لأمر فأنا ذو إجابة وذو ثبات ، لا أنّي أجيبك إجابتين خاصّة.

و «الحسير» الكالّ الكليل العاجز عن الوصول إلى المطلوب ، وهو وجدان الفطور في السماوات.

قال الطبرسيّ رحمه الله : والتحقيق أنّ بصر هذا الناظر بعد الإعياء يرجع إليه بعيدا عن طلبته ، خائبا عن بغيته (١). انتهى.

فالمراد كمال المبالغة في عدم إمكان مشاهدة الفطور لمن يكرّر النظر لمشاهدته.

والمراد بالخطابات في هذه الآية ، إمّا المخاطب المعيّن ، وهو شخص الرسول صلّى الله عليه وآله بعينه ؛ كما هو ظاهر الخطاب ، نظرا إلى أنّ أصل الخطاب أن يكون لمعيّن مطلقا واحدا كان أو كثيرا ، فإنّه وضع لتوجيه الكلام إلى الحاضر.

وإمّا كلّ من هو قابل للخطاب على سبيل البدل ، فإنّه قد يترك الخطاب مع المعيّن إلى غيره ليعمّ كلّ مخاطب ؛ كما في قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٠٩.

٣٤٤

الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) (١) فإنّه ـ على ما صرّح به التفتازانيّ ـ لا يريد بهذا الخطاب مخاطبا معيّنا قصدا إلى تفظيع حال المجرمين ؛ أي عظمت حالهم الفظيعة في الظهور ، وبلغت النهاية في الانكشاف لأهل المحشر إلى حيث يمتنع خفاؤها ، فلا تختصّ بها رؤية راء دون راء ، فلا يختصّ به مخاطب دون مخاطب ، بل كلّ من تتأتّى منه الرؤية ، فلا يدخل في هذا الخطاب. ومثله قولهم : «فلان لئيم ؛ إن أكرمته أهانك ، وإن أحسنت إليه أساء إليك» إذ لا يريدون بذلك مخاطبا معيّنا ، بل يريدون إن أكرم إليه وأحسن إليه أهان وأساء.

وعلى هذا ففي الآية دلالة على أنّ هذه الرؤية غير متميّزة لأحد من الناظرين. وأمّا على الأوّل ، فالدلالة على ذلك بالفحوى تعني أنّه إذا لم تتيسّر الرؤية المذكورة للنبيّ صلّى الله عليه وآله الّذي هو أشرف الخلق وأكملهم في البصر والبصيرة ، فكيف لغيره؟ فافهم.

قال صاحب العرائس بعد ذكر هذه الآية : حارت الأبصار والبصائر عن إدراك مائيّة استواء أفعاله ، لأنّها عاجزة عن اللحوق بجريان قدرته الواسعة فيها ، فإذا كانت كذلك في إدراك خلقه ، فكيف تشاهد جلال القدم والأبصار والبصائر والقلوب والأرواح والعقول فانية حسيرة في أوّل سطوة من سطوات عظمته ، راجعة عنها خاسئة ، ولا يبقى عليها من العلم والعرفان. انتهى.

وقد يقال : إنّ في الآية إشارة إلى أنّ فعل الله إذا كان منزّها عن العيب والنقص فذاته أشدّ امتناعا عن ذلك ، تعالى عمّا يصفه الملحدون ، وسبحان الله عمّا يصفون.

__________________

(١) السجدة : ١٢.

٣٤٥

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) هذا قسم بقرينة اللام الموطّئة الّتي يتلقّى بها القسم ، وهذه الآية في معنى قوله تعالى (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (١) وقوله تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٢).

والمراد بـ «السماء الدنيا» هو الفلك الأوّل الّذي هو أقرب الأفلاك إلى كرة الأرض ، ويسمّى بفلك القمر ، كما أنّ الثاني يسمّى بفلك عطارد ، والثالث بفلك زهرة ، والرابع بفلك الشمس ، والخامس بفلك مرّيخ ، والسادس بفلك المشتري ، والسابع بفلك زحل.

والمراد بـ «المصابيح» ـ وهي لغة : السرج ـ : الكواكب ، بعلاقة المشابهة في الإضاءة وقرينة الآية الأخرى ، وقد تقدّم أنّ القرآن يكشف بعضه عن بعض.

وتنكير «المصابيح» للتعظيم وكثرة الاعتناء بشأنها ؛ كما في قول الشاعر :

له حاجب عن كلّ أمر يشينه

وقولهم : إنّ له لغنما.

و «الرجوم» جمع الرجم. والمراد به «الآلة» أي : ما يرجم به.

وقد يقال : إنّ المراد من «الشياطين» «المنجّمون» الّذين يحكمون بأوضاع الكواكب رجما بالغيب ، وب «الرجوم» «ظنونهم». وهذا بعيد بعد

__________________

(١) الصافّات : ٦ و ٧.

(٢) فصّلت : ١٢.

٣٤٦

ملاحظة قوله تعالى : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (١) ونحوه. هذا مع ما ورد من الأخبار في مدح علم النجوم. فتأمّل.

وفي الآية دلالة على ما ذهب إليه بلنياس الحكيم من قدماء الحكماء من أنّ النجوم الثوابت في فلك القمر.

قال في كتاب «علل الأشياء» على ما حكى عنه المجلسيّ رحمه الله : هي سبعة أفلاك بعضها في جوف بعض ، وصارت الأفلاك في كلّ منها كوكب غير فلك القمر ، فإنّ الكواكب تبدّدت فيه وتقطّعت لاختلاطها بكثرة الرياح الصاعدة إليه من قرب الأرض (٢). انتهى.

وعلى هذا فلا إشكال في الآية من هذه الجهة ، ولكنّ أكثرهم ، بل جميع أهل الهيئة ـ على ما قيل ـ على أنّه ليس في السماء الأولى سوى القمر ، وسائر السيّارات كلّ في فلك ، والثوابت كلّها في الفلك الثامن. وعلى هذا فيرد الإشكال على ظاهر الآية ، لدلالتها على أنّ كلّها أو أكثرها في السماء الأولى.

والجواب عن ذلك من وجوه :

منها : أنّ تزيّن السماء الأولى وتحسّنها بالكواكب لا يستلزم كونها في داخلها ، ولمّا كانت ترى وتشاهد فيها لمكان شفّافيّة الأفلاك ، صحّ أن يقال : إنّها مزيّنة بسببها ؛ أي بسبب ظهورها وانعكاسها فيها ، نظير السراج المرئيّ خلف الزجاج ، واختصاص هذه السماء بالتزيّن لمكان كونها مرئيّة للناس بقربها منهم.

__________________

(١) الصافّات : ٧.

(٢) بحار الأنوار ٥٨ : ٧٨.

٣٤٧

ومنها : أنّ الناظر إلى هذه السماء لمّا كان يتخيّل أنّ الكواكب فيها ، جرت الآية على ما يتخيّله الناس. فتأمّل.

ومنها : أنّه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر ، فتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت. حكي عن الرازيّ. وفيه نظر.

ومنها : أنّه يجوز أن تكون جميع الأفلاك الثمانية الّتي أثبتوها لجميع الكواكب فلكا واحدا مسمّى بالسماء الدنيا ، وتكون غيرها ستّة سماوات أخر غير مكوكبة ؛ كما أنّهم يثبتون لكلّ من الكواكب أفلاكا كثيرة جزئيّة ، ويعدّون الكلّ فلكا واحدا كلّيّا. قاله المجلسيّ رحمه الله (١). وفيه أيضا ما لا يخفى. فليتأمّل.

ومنها : أنّ المراد بالكواكب المزيّنة للسماء هي الشهب المنقضّة من الكواكب ، ولمّا كانت ترى حسّا على سطح السماء فهي زينة لها ؛ كما يؤيّده قوله : (وَجَعَلْناها رُجُوماً) (٢) فإنّ الشهب يرجم بها لا الكواكب ؛ كما ستعرفه.

ومنها : أنّ المراد بالدنيا المدنو من الناحية العليا والعرش الأعلى ، فالمراد بها الفلك الثامن.

وفي الآية إشكال آخر ، وهو أنّ الكواكب مركوزة في ثخن الفلك ، فلا يمكن انتقالها من محالّها ، فكيف يرجم بها الشياطين؟ ودفع بأنّهم لا يرجمون بالكواكب أنفسها ، لأنّها قارّة في الفلك على حالها ، ولكن ينفصل من نار الكواكب شهاب كقبس يؤخذ من نار ، والنار ثابتة كاملة لا تنقص ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٥٨ : ٧٨.

(٢) الملك : ٥.

٣٤٨

فيرجمون بالشهب الّتي تنقضّ لرمي الشياطين المسترقين للسمع ، وهي منفصلة من نار الكواكب ؛ كما قال : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١).

وعن ابن عبّاس : إنّه كان في الجاهليّة كهنة ومع كلّ واحد شيطان ، فكان يقعد [من السماء مقاعد] للسمع ، فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض ، فينزل ويخبر به الكاهن ، فيفشيه الكاهن إلى الناس ، فلمّا بعث الله عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات ، ولمّا بعث محمّدا صلّى الله عليه وآله منعوا من السماوات كلّها ، وحرست السماء بالنجوم ، والشهاب من معجزات نبيّنا صلّى الله عليه وآله (٢).

وقيل : الشهاب عمود من نور يضيء ضياء النار لشدّة ضيائه.

وقيل : شعلة نار تظهر لأهل الأرض.

وهل يقتل الشياطين المسترقون للسمع بهذه الشهب ويحرقون بها أو لا يقتلون؟ قولان ، ويمكن أن يقال : إنّ لهم عذابين : عذاب في الدنيا ؛ وهو الرجم بالشّهب ، وعذاب في الآخرة ؛ كما قال : (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) (٣) ؛ أي هيّأنا لهم ، (عَذابَ السَّعِيرِ) ؛ أي جهنّم.

قيل : وفيه دلالة على أنّهم مكلّفون.

ويحتمل أن يراد بـ «السماء الدنيا» : قلب المؤمن السليم عن الصفات

__________________

(١) الحجر : ١٧ و ١٨.

(٢) بحار الأنوار ٥٨ : ٦٨.

(٣) الملك : ٥.

٣٤٩

الرذيلة ، فإنّه أقرب إليه من كلّ عضو ، وبالكواكب والمصابيح : أخلاقه الحميدة المستضيئة بأنوار المعرفة الإلهيّة ، وبالشياطين : الملكات النفسانيّة الخبيثة ، والأخلاق الرذيلة الشيطانيّة ؛ أعاذنا الله منها.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) و «اللام» للاستحقاق ، فإنّ العذاب من نتائج الكفر ، وثمرات شجرته الخبيثة ، بل هو عينه المنقلبة إليه المتصوّرة في القيامة بهذه الصورة على القول بتجسّم الأعمال والعقائد ؛ كما يرشد إليه ظاهر جملة من الآيات وصريح بعض الروايات ؛ مثل قوله : إنّما هي أعمالكم تردّ إليكم (١).

وعموم الآية بمقتضى صيغة الجمع وحذف المتعلّق يشمل الشياطين والإنس وإن احتمل الاختصاص بالفرقة الأولى بحسب السياق ، ويحتمل الاستخدام في الآية السابقة بإرادة التعميم من «لهم» بإرجاع الضمير إلى مطلق الشياطين ، وإن لم يسترقوا السمع وإرادة شياطين الإنس والجنّ من مطلقهم ، فافهم.

ويحتمل «اللام» للاختصاص ؛ كما يرشد إليه تقديم الخبر المشعر بالحصر ، ولكن يرد عليه ثبوت العذاب للمجرمين ، ولو في الجملة أيضا ، وإن لم يكونوا كفّارا ؛ كما دلّت عليه الآيات والروايات والضرورة من الدين والمذهب.

ويمكن دفعه بتعميم الكفر للمعاصي ، لقوله عليه السلام : لا يزني الزاني وهو مؤمن (٢) ونحوه ، أو تخصيص العذاب بالدائم الأبديّ على القول

__________________

(١) بحار الأنوار ٣ : ٩٠.

(٢) الكافي ٢ : ٢٨٨.

٣٥٠

به ؛ كما هو الحقّ المحقّق عند أهل الحقّ ، لظاهر الآيات والأخبار المتواترات ، خلافا لمن حمل الخلود على المكث الطويل ، لرواية موضوعة : سيأتي زمان على جهنّم ينبت في قعرها الجرجير (١). (٢)

وقد يقال : إنّ الآية الأولى مخصوصة بالشياطين المسترقين ، وهذه الآية بسائر الكفّار. ويؤيّده قراءة «عذاب جهنّم» بالنصب على كونه معطوفا على «عذاب السعير» ؛ أي وأعتدنا للّذين كفروا عذاب جهنّم ، فيكون المراد بـ «السعير» طبقة خاصّة من طبقات جهنّم ، فإنّ لكلّ طبقة منها اسما خاصّا وعذابا مخصوصا ؛ كما يستفاد من بعض الروايات والمخصوص بالذّم محذوف وهو «هو» إن رجع إلى المضاف أو «هي» إن رجع إلى المضاف إليه ، وكذا إن رجع إلى المضاف بناء على الإكساب ؛ كما في قوله :

كما شرقت صدر القناة من الدم (٣)

والأولى تقدير الاسم الظاهر من المضاف أو المضاف إليه ، فلا حاجة إلى تجشّم ما ذكرناه. فتأمّل.

قال شيخنا الطبرسي رحمه الله : وإنّما وصف بـ «بئس» وهو من صفات الذمّ والعقاب حسن ، لما في ذلك من الضرر الّذي يجب على كلّ عاقل أن يتّقيه بغاية الجهد ، ولا يجوز قياسا على ذلك أن يوصف به فاعل العقاب ، لأنّه لا يقال «بئس الرجل» إلّا على وجه الذمّ ، ووجه الحكمة في [فعل]

__________________

(١) الجرجر والجرجير : بقلة معروفة.

(٢) إشارة إلى أحاديث منها ما في البحار ٦٦ : ٢٣٦ ؛ وفي مقابلها ما في البحار ٨ : ٣٠٦ و ٦٦ : ٢٣٧.

(٣) جامع الشواهد ٣ : ١٣٣. والبيت من قصيدة للأعشى ، وصدره : وتشرق بالقول الّذي قد أذعته.

٣٥١

العقاب ما فيه من الزجر المتقدّم للمكلّف ، ولا يمكن أن يكون مزجورا إلّا به ، ولولاه لكان مغريا بالقبيح (١). انتهى.

ولا يخفى أنّ الله كما هو خالق الخير خالق للشرّ أيضا ، وخلق الشرّ لمصلحة وحكمة ليس بقبيح ، وكون الشرّ من حيث هو شرّ لا ينافي حسنه من جهة أخرى ؛ كالزجر ، ومكافاة المسيء والظالم ، فالذمّ في قوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) راجع إلى نفس جهنّم الّتي هي مرجع الكافر ومآله لا إلى فاعل العقاب.

وقوله تعالى : (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) بيان لشدّة العذاب والتهاب النار عليهم.

و «الإلقاء» الطرح ، يقال : ألقيت الحطب على النار : إذا طرحته ورميته فيها ، ومنه قوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٢) ؛ أي تطرحوها.

(سَمِعُوا لَها) ؛ أي لجهنّم ونارها المسعرة فيها تشبيها لحسيسها المنكر الفظيع بالشهيق وهو صوت تقطيع النّفس ، أو صوت في الصدر ، كما أنّ الزفير صوت في الحلق.

وقد يقال : إنّ المراد شهيق أهل النار لقوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) (٣).

و (تَفُورُ) من الفور ، وهو ارتفاع الشيء بالغليان ؛ أي تغلي بهم غليان المرجل بما فيه.

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤١٠.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) هود : ١٠٦.

٣٥٢

(تَمَيَّزُ) كتنزّل ؛ أي تتفرّق ، شبّهت بالغضبان المغتاظ إذا اشتدّ غضبه وخرج عن حالته الطبيعيّة ، كأنّه طارت منه شقّة في الأرض وشقّة في السماء لغاية اضطرابه وقلقه.

وفي الكشّاف : ويجوز أن يراد : غيظ الزبانية (١). انتهى.

أي التسعة عشر من الملائكة الموكّلين بجهنّم ؛ الغلاظ الشداد ، الّذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

وعلى القول بأنّ الأشياء كلّها شاعرة ناطقة فنسبة التغيّظ إلى جهنّم حقيقيّة كنسبة التسبيح إليها. فتأمّل.

(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) وكلمة «كلّما» في هذه الآية ونظائرها ؛ كقوله : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) (٢) وقوله : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا) (٣) وقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٤) وقوله : (كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ) (٥) وقوله : (كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) (٦) وقوله : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) ... (٧) إلى آخره. وقول الشاعر :

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٥٧٨.

(٢) الأعراف : ٣٨.

(٣) البقرة : ٢٥.

(٤) النساء : ٥٦.

(٥) نوح : ٧.

(٦) هود : ٣٨.

(٧) المائدة : ٧٠.

٣٥٣

 وقولي كلّما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

منصوبة على الظرفيّة مفيدة للشرطيّة ، وناصبها الفعل الّذي هو جواب في المعنى ، وهو في الآية (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) (١).

قال ابن هشام في المغني : وجاءتها الظرفيّة من جهة «ما» فإنّها محتملة لوجهين :

أحدهما : أن تكون حرفا مصدريّا والجملة بعده صلة له ، فلا محلّ لها ، والأصل كلّ وقت رزق ، ثمّ عبّر عن معنى المصدر بـ «ما» والفعل ، ثمّ أنيبا عن الزمان ؛ أي كلّ وقت رزق كما أنيب عنه المصدر الصريح في «جئتك خفوق الثريّا».

والثاني : أن تكون اسما نكرة بمعنى وقت ، فلا يحتاج على هذا إلى تقدير [وقت ، والجملة بعده في موضع خفض على الصفة ، فتحتاج إلى تقدير] عائد منها ؛ أي كلّ وقت رزقوا فيه ... إلى آخر ما ذكره (٢). انتهى.

و «الفوج» الجماعة ، أو الجماعات المختلفة.

والمراد بـ «الخزنة» من أشرنا إليه من التسعة عشر ؛ كما قال : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣) وهذه الآية من الآيات الدالّة على اختصاص العذاب بالكفّار ، فإنّها صريحة في أنّ الملقون في النار هم المكذّبون المنكرون لتنزيل الله شيئا ، وهم الكفّار.

__________________

(١) الملك : ٨.

(٢) مغني اللبيب (الباب الأوّل) حرف الكاف ، كلمة «كلّ».

(٣) المدّثّر : ٣٠.

٣٥٤

ويقرب من هذه الآية قوله تعالى في سورة المؤمن : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ * قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١) ويدلّ عليه أيضا قوله : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٢) وقوله : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (٣) وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (٤).

قيل : فلمّا لم يحصل الخزي إلّا للكفّار لزم أن لا يدخل النار إلّا الكفّار.

وقوله حكاية عن موسى عليه السلام : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٥).

ويظهر من هذه الآيات ضعف القول بخلود أصحاب الكبائر في النار ؛ كما يزعمه الوعيديّة من المعتزلة ، لقوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٦) وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٧) وقوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (٨) فإنّ كلمة «من» تفيد العموم. وقوله :

__________________

(١) غافر : ٤٩ ـ ٥٠.

(٢) الليل : ١٥ و ١٦.

(٣) الواقعة : ٩٢ ـ ٩٤.

(٤) آل عمران : ١٩٢.

(٥) طه : ٤٨.

(٦) البقرة : ٨١.

(٧) النساء : ١٤.

(٨) النساء : ٩٣.

٣٥٥

(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ * وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (١) فإنّ الجمع المحلّى بـ «اللام» مفيد للعموم ، فلو أخرجوا من النار لكانوا غائبين عنها.

والجواب عن الجميع : أنّ العامّ يخصّص ، ومقتضى الجمع والتوفيق اختصاص الخلود بالكفّار المكذّبين.

لا يقال : إنّ مبغضي عليّ بن أبي طالب عليه السلام ليسوا بالمكذّبين ، فلا وجه للقول بخلودهم في النار.

فإنّ الأخبار المتواترة في هذا الباب قد دلّت على التخصيص ؛ كما أنّ الأخبار الدالّة على أنّ أمّة محمّد صلّى الله عليه وآله لا يخلّدون في النار ، وأنّهم مغفور لهم بالشفاعة الكبرى مخصّصة أيضا ، مع أنّ المراد بـ «الأمّة» : الأمّة الإجابتيّة دون الدعوتيّة ، فالمبغضون لعليّ عليه السلام خارجون عنهم ، لإنكارهم وتكذيبهم الرسول فيما بلّغه من ولاية عليّ عليه السلام.

وفي بعض الروايات دلالة على أنّ المخالف إذا لم يكن في قلبه شيء من بغضه لا يخلّد في النار ، بل يدخل الجنّة. فليتأمّل.

وروى معاذ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال : يحشر [عشرة] أصناف من أمّتي أشتاتا ؛ قد ميّزهم الله تعالى من المسلمين ، وبدّل صورهم ، فبعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكّسون أرجلهم من فوق ووجوههم من تحت يسحبون عليها ، وبعضهم عمي ، وبعضهم بكم ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلّاة على صدورهم ؛ يسيل القيح من أفواههم ، وبعضهم مقطّعة أيديهم وأرجلهم ،

__________________

(١) الانفطار : ١٤ ـ ١٦.

٣٥٦

وبعضهم مصلّبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبّسون ثيابا سابغة من قطران ، لازقة بجلودهم.

فأمّا الّذين على صورة القردة فالقتّات من الناس.

وأمّا الّذين على صورة الخنازير فأهل السحت.

وأمّا المنكّسون على رؤوسهم فآكلة الربا.

وأمّا العمي فالّذين يجورون في الحكم.

وأمّا الصمّ البكم فالمعجبون بأعمالهم.

وأمّا الّذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقضاة الّذين خالفت أعمالهم أقوالهم.

وأمّا الّذين قطّعت أيديهم وأرجلهم فهم الّذين يؤذون الجيران.

وأمّا المصلّبون على جذوع من النار فالسعاة بالناس إلى السلطان.

وأمّا الّذين هم أشدّ الناس نتنا من الجيف فالّذين يتّبعون الشهوات واللذّات ، ويمنعون حقّ الله في أموالهم.

وأمّا الّذين يلبّسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء (١). انتهى.

والظاهر أنّ المراد بالأمّة في هذا الحديث الأمّة الادّعائيّة ؛ كما يكشف عنه قوله صلّى الله عليه وآله في حديث آخر : عشرة يدّعون أنّهم من أمّتي وليسوا من أمّتي وأنا منهم بريء ... إلى آخره. ويمكن حمل الحديث على

__________________

(١) جاء هذا الحديث في : البحار ٧ : ٨٩ مع اختلاف شاسع ، وهكذا في : جامع الأخبار : ١٧٦ في فصل الأربعون والمائة في الموقف.

٣٥٧

المنافقين ، بقرينة قوله : قد ميّزهم الله من المسلمين (١). وهذا راجع إلى ما سبق أيضا. فتأمّل.

وفي قولهم : (بَلى) في جواب قول الخزنة تصديق بإتيان النذير ، واعتراف به ؛ كما صرّحوا به في قولهم : (قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) (٢) فإنّ الهمزة ليست للاستفهام الحقيقيّ ، بل هي للإنكار الإبطاليّ ، فيقتضي أنّ ما بعدها خبر واقع ، وأنّ مدّعيه كاذب ؛ كما في قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (٣) وقوله : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) ... (٤) إلى آخره. فيلزم ثبوته إن كان منفيّا ، فإنّ هذه الهمزة مفيدة للنفي ، ونفي النفي إثبات ، وكلمة «بلى» مختصّة بالنفي ، فتفيد إبطال ما ولي الهمزة ؛ كما في قوله : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي) (٥) وقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى) ... (٦) إلى آخره.

وربّما يعبّر عن هذه الهمزة بالاستفهام التقريريّ ؛ بناء على أنّه تقرير بما بعد النفي لا بالمنفي ، ولا مشاحّة فيه ، وإن كان تعبير الأكثر أجدر.

والظاهر أنّ قوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (٧) حكاية عن قول الكفّار في جواب الخزنة ، ففيه دلالة على أنّهم كانوا يعتقدون في الدنيا أنّهم على

__________________

(١) بحار الأنوار ٧ : ٨٩.

(٢) الملك : ٩.

(٣) الأعراف : ١٧٢.

(٤) الإسراء : ٤٠.

(٥) التغابن : ٧.

(٦) القيامة : ٣ ـ ٤.

(٧) الملك : ٩.

٣٥٨

الحقّ والهدى ، وأنّ الرسل على الضلالة في دعواهم الرسالة من جانب الله ؛ كما يرشد إليه قوله ـ حكاية عن قوم صالح عليه السلام ـ : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (١) وقوله ـ حكاية عن أهل أنطاكية ـ : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) (٢).

وقيل : إنّه من كلام الخزنة للكفّار على تقدير القول ، أي : فيقول لهم مالك وأعوانه ـ بعد قول الكفّار : بلى قد جاءنا ـ : إن أنتم إلّا في ضلال كبير ، أي : إلّا في عذاب أليم شديد ؛ كما في الصادقي عليه السلام.

فالمراد بـ «الضلال» الهلاك ، أو عقابه ، بتقدير المضاف.

وقيل : إنّه من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة ؛ أي قالوا لنا هذا فلم نقبله.

(وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) ومفهومه : إنّا لم نسمع ، ولم نعقل ، فكنّا من أصحاب السعير ، فإنّ كلمة «لو» لامتناع الجواب بامتناع الشرط ؛ كما عليه أكثر النحاة ، أو العكس ؛ كما عليه ابن الحاجب.

فإنّ الأوّل سبب ، والمسبّب قد يكون أعمّ من السبب ؛ كالإشراق الحاصل من النار والشمس. قال : فالأولى أن يقال : انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني ، لأنّ انتفاء المسبّب يدلّ على انتفاء كلّ سبب. وعلى ما ذكره ، ففي الآية دلالة على أنّ السبب لعدم السماع ، والعقل هو القضاء الأزليّ بالشقاوة الداعية إلى كونهم من أصحاب السعير ؛ كما يشير إليه قوله : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ

__________________

(١) القمر : ٢٤.

(٢) يس : ١٥.

٣٥٩

فِي النَّارِ) (١) فيرجع الكلام إلى مسألة القضاء والقدر المنهيّ عن الكلام فيها ، وينافي بظاهره اعترافهم بالذنب ، فإنّهم يستندون في الصادر عنهم إلى علم الله ، ويزعمون أنّه علّة وسبب له ؛ كما يومي إليه قوله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) ... (٢).

قال المحقّق النراقيّ رحمه الله في «مشكلات العلوم» : فالفقرة الأولى لفظة «لو» فيها على أصلها ؛ أي انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، وأمّا الثانية فالظاهر أنّها من قبيل لو لم يخف الله لم يعصه ، فيجب أن يوجّه بما وجّه به ... إلى آخر ما ذكره ، وهو طويل. فتأمّل ولا تغفل.

وكيف كان ، فلهم في تفسير الآية وجوه :

منها : ما ذكره صاحب الحقائق من أنّ المعنى : لو سمعنا الخطاب الأزليّ شفاها في مشاهداته ، وعلمنا حقيقته ، ما كنّا من أصحاب البعد والحجاب.

ومنها : ما حكاه عن بعضهم من أنّ المعنى : لو سمعنا موعظة الواعظين ، وعقلنا نصيحة الناصحين لاتّبعناهم فيما أمروا به ، ولما كنّا إذا في أصحاب السعير.

ومنها : ما حكي عن الزجّاج من أنّ المعنى : لو كنّا نستمع سمع من يعي ويفكّر ، و [نعقل] عقل من يميّز وينظر ، ما كنّا من أهل النار (٣).

ومنها : ما يستفاد من التفسير الصادقيّ عليه السلام أنّ المراد : لو كنّا نطيع

__________________

(١) الزمر : ١٩.

(٢) الأنفال : ٢٣.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٤١٠.

٣٦٠