تفسير ستّ سور

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

تفسير ستّ سور

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-3-3
الصفحات: ٤٨٥

أو نقبل ما أمرنا به ما كنّا من أصحاب السعير. قال عليه السلام : قد سمعوا وعقلوا ولكنّهم لم يطيعوا ولم يقبلوا ، والدليل على أنّهم قد سمعوا وعقلوا ولم يقبلوا قوله : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) ... (١) (٢) إلى آخره. انتهى.

يعني أنّه إذا كانوا لم يسمعوا ولم يعقلوا فلا يثبت لهم تكليف حتّى يترتّب عليه الذنب ، فإنّ ذلك من شرائط حسن التكليف ؛ كما حقّق في محلّه. ففي الاعتراف بالذنب وتقريره دلالة على تحقّق السمع والعقل ، ويرشد إليه قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٣).

ومنها : أنّ المراد : لو كنّا نعتقد ما اقتضته الأدلّة السمعيّة من الكتاب والسنّة ، وأدّت إليه الأدلّة العقليّة ، ما كنّا من أصحاب النار.

قال في الكشّاف : إنّما جمع بين السمع والعقل ، لأنّ مدار التكليف على [أدلّة] السمع والعقل (٤).

ومنها : إنّ المراد : أنّا لو كنّا ننقاد لأولياء الأمر ، وكنّا في تقليد صحيح ، أو ندرك بعقولنا ، ونميّز الحقّ من الباطل ، وكنّا محقّقين.

ومنها : ما روي من أنّ هذه الآيات نزلت في أعداء أمير المؤمنين عليه السلام ، فالمعنى : لو كنّا نسمع أو نعقل ما ورد في حقّ عليّ عليه السلام وولايته ما كنّا مخلّدين في النار.

ومنها : ما ذكره في الصافي من : أنّا لو كنّا نسمع كلام الرسل فنقبله جملة

__________________

(١) الملك : ١١.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ : ٣٧٨.

(٣) الإسراء : ١٥.

(٤) الكشّاف ٤ : ٥٧٩.

٣٦١

من غير بحث وتفتيش اعتمادا على صدقهم ، أو نعقل فنفكّر في حكمه ومعانيه تفكّر المستبصرين ، ما كنّا في عداد أصحاب الجحيم وفي جملتهم (١).

ومنها : ما ذكره في الكشّاف من : أنّا لو كنّا نسمع الإنذار سماع طالبين للحقّ ، أو نعقله عقل متأمّلين (٢).

ولا يخفى أنّه يمكن إرجاع بعض هذه الوجوه إلى بعض آخر.

وفي الكشّاف : إنّ من بدع التفاسير أنّ المراد لو كنّا على مذهب أهل (٣) الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي ؛ كأنّ هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين ، وكأنّ سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم ، وكأنّ من كان من هؤلاء فهو من الناجين لا محالة ... (٤) إلى آخره. انتهى.

هذا مع أنّه لو صحّ هذا التفسير صحّ استدلال كلّ أهل مذهب بهذه الآية على صحّة مذهبه ، وهو كما ترى.

وكيف كان ، فهذه الآية جارية في الأصول والفروع ، ودالّة على أنّ تارك طريقي الاجتهاد والتقليد لمن ليس له قوّة الاجتهاد مؤاخذ. فتأمّل.

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) قد عرفت اختصاص مورد ما تقدّم بالمقصّرين ، وعدم شموله للقاصرين الّذين لم يبلغهم خطاب التكليف ، فالأعتراف بالذنب في محلّه ، ولكنّه غير نافع في الآخرة مطلقا ،

__________________

(١) التفسير الصافي ٥ : ٢٠٢.

(٢) الكشّاف ٤ : ٥٧٨ ـ ٥٧٩.

(٣) في المصدر : أصحاب.

(٤) الكشّاف ٤ : ٥٧٩.

٣٦٢

سواء كان من جهة الكفر ، أو غيره من أصناف المعاصي ، فإنّ المصدر المضاف مفيد للعموم ، إلّا أنّ الظاهر أنّ الإضافة للعهد الذكريّ ، فإنّ المعهود المذكور هو الكفر وتكذيب الرسل.

قال الطبرسيّ رحمه الله : و «الإقرار» مشتقّ من قرّ الشيء يقرّ قرارا : إذا ثبت. و «الاعتراف» مأخوذ من المعرفة. و «الذنب» مصدر لا يثنّى ولا يجمع ، ومتى جمع فلاختلاف جنسه (١). انتهى ، فتأمّل.

وقال أيضا : وإذا قيل : ما وجه اعترافهم بالذنب مع ما عليهم من الفضيحة به؟

فالجواب : أنّهم قد علموا حصولهم على الفضيحة ؛ اعترفوا أم لم يعترفوا ، فليس يدعوهم إلى أحد الأمرين إلّا مثل ما يدعوهم إلى الآخر في أنّه لا فرج فيه ، فاستوى الأمران عليهم : الاعتراف وترك الاعتراف ، والجزع وترك الجزع (٢). انتهى ، فتأمّل.

و «السحق» البعد عن الرحمة ، ونصب «سحقا» على المصدر ، وقد أنيب عن فعله المحذوف وجوبا ؛ كما في نظائره.

وقيل : أي ألزمهم الله سحقا ، فجاء المصدر على غير لفظه ، والظاهر أنّ الجملة دعائيّة ، ويحتمل الخبريّة ، وفائدتها الإخبار عن حالهم في الآخرة ، وأنّ اعترافهم وترك اعترافهم سيّان في هذا اليوم ، وإن كان الاعتراف بالذنب

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤١١.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤١١.

٣٦٣

في الدنيا توبة ، وقد قال الله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا) (١) وقال ـ حكاية عن قول جبرئيل لفرعون ـ : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) الخشية هي الخوف المفسّر بتألّم القلب واحتراقه بسبب توقّع مكروه في الاستقبال ؛ كما صرّح به الغزاليّ في الإحياء.

وعن المحقّق الطوسيّ رحمه الله إنّه بعد ما صرّح باتّحادهما معنى في اللغة قال : إلّا أنّ بين خوف الله وخشيته في عرف أرباب القلوب فرقا ، وهو أنّ الخوف تألّم النفس من العقاب المتوقّع بسبب ارتكاب المنهيّات ، والتقصير في الطاعات ، وهو يحصل لأكثر الخلق ؛ وإن كانت مراتبه متفاوتة جدّا ، والمرتبة العليا منه لا تحصل إلّا للقليل.

والخشية حالة تحصل عند الشعور بعظمة الحقّ وهيبته ، وخوف الحجب عنه. وهذه حالة لا تحصل إلّا لمن اطّلع على حال الكبرياء ، وذاق لذّة القرب ، ولذا قال سبحانه : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٣) فالخشية خوف خاصّ ، وقد يطلقون عليها الخوف. انتهى.

وفي فروق اللغات للسيّد نور الدين الجزائريّ بعد نقل ما ذكر : ويؤيّد هذا الفرق أيضا قوله يصف المؤمنين : (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) (٤) حيث ذكر الخشية في جانبه والخوف في العذاب. انتهى.

__________________

(١) غافر : ٨٤.

(٢) يونس : ٩١.

(٣) فاطر : ٢٨.

(٤) الرعد : ٢١.

٣٦٤

وكيف كان ، فالخشية من ثمرات اليقين.

وفي مصباح الشريعة : قال الصادق عليه السلام : اليقين يوصل العبد إلى كلّ حال سنيّ ، ومقام عجيب ، كذلك أخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله عن عظم شأن اليقين ؛ حين ذكر عنده أنّ عيسى ابن مريم عليه السلام كان يمشي على الماء ، فقال : لو زاد يقينه لمشى على الهواء.

فدلّ بهذا على أنّ الأنبياء مع جلالة محلّهم من الله [كانت] تتفاضل على حقيقة اليقين لا غير ، ولا نهاية بزيادة اليقين على الأبد ، والمؤمنون أيضا متفاوتون في قوّة اليقين وضعفه ، فمن قوي منهم يقينه فعلامته التبرّي من الحول والقوّة إلّا بالله ، والاستقامة على أمر الله ، وعبادته ظاهرا وباطنا ؛ قد استوت عنده [حالتا] العدم والوجود ، والزيادة والنقصان ، والمدح والذمّ ، والعزّ والذلّ ، لأنّه يرى كلّها من عين واحد ، [و] من ضعف يقينه تعلّق بالأسباب ، ورخّص لنفسه بذلك ، واتّبع العادات ، وأقاويل الناس بغير حقيقة ، والسعي في أمور (١) الدنيا وجمعها وإمساكها ، مقرّا باللسان أنّه لا مانع ولا معطي إلّا الله ، وأنّ العبد لا يصيب إلّا ما رزق وقسم [له] ، والجهد لا يزيد في الرزق ، وينكر ذلك بفعله وقلبه ... (٢) إلى آخره. انتهى.

وفيه أيضا : قال الصادق عليه السلام : الخوف رقيب القلب ، والرجاء شفيع النفس ، ومن كان بالله عارفا كان من الله خائفا ، وإليه راجيا ، وهما جناحا الإيمان ؛ يطير بهما العبد المحقّق إلى رضوان الله ، وعينا عقله يبصر

__________________

(١) في المصدر : أمر.

(٢) مصباح الشريعة : ١٧٧.

٣٦٥

بهما [إلى] وعد الله ووعيده ، والخوف طالع عدل الله باتّقاء وعيده ، والرجاء داعي فضل الله وهو يحيى القلب ، و [الخوف] يميت النفس. قال النبيّ صلّى الله عليه وآله : المؤمن بين خوفين : خوف ما مضى ، وخوف ما بقي ... (١) إلى آخره. انتهى.

قوله : (بِالْغَيْبِ) في محلّ النصب على الحاليّة من «الّذين» أو «من ربّهم».

قال الطبرسيّ : أي يخافون عذاب ربّهم باتّقاء معاصيه ، وفعل طاعاته ؛ على وجه الاستسرار بذلك ، لأنّ الخشية متى كانت بالغيب على ما ذكرناه (٢) كانت بعيدة من الرياء ، خالصة لوجه الله ، وخشية الله بالغيب تنفع بأن يستحقّ عليها الثواب ، وخشيته في الظاهر بترك المعاصي لا يستحقّ بها الثواب ، فإذا الخشية بالغيب أفضل لا محالة.

وقيل : بالغيب معناه أنّهم (٣) يخشونه ولم يروه فيؤمنون به خوفا من عذابه.

وقيل : يخافونه حيث لا يراهم مخلوق ، لأنّ أكثر ما ترتكب المعاصي إنّما ترتكب في حال الخلوة ، فهم يتركون المعصية لئلّا يجعلوا الله [سبحانه] أهون الناظرين إليهم ، ولأنّ من تركها في هذه الحال تركها في حال العلانية (٤). انتهى.

__________________

(١) مصباح الشريعة : ١٨٠.

(٢) في المصدر : ذكرنا.

(٣) في المصدر : أنّه.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٤١٣.

٣٦٦

وفي تفسير الحقائق بعد ذكر هذه الآية : وصف الله تعالى معرفة العارفين به قبل رؤيتهم مشاهدته تعالى ، فإذا عاينوه استفادوا من رؤيته علم المعاينة وهو المعرفة الحقيقيّة خشوا منه في غيبة منه ، وهو خشية القلب ، فلمّا رأوه زاد على الخشية نصيب القلب والسرّ والخوف نصيب البدن. انتهى.

وفيه ما لا يخفى ، لما برهنّا عليه من استحالة رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة ؛ خلافا لجماعة من العامّة والصوفيّة. ويستفاد من هذه العبارة فرق آخر بين الخوف والخشية. فتفطّن.

ومن المحتمل تعلّق «بالغيب» بالفعل الخاصّ المقدّر ؛ أي يؤمنون بالغيب أو الوصف كذلك ، أي مؤمنين به ؛ كما قال : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ... (١) إلى آخره. يعني بما غاب عن حواسّهم من الأمور الّتي عزمهم الإيمان بها كالبعث ، والنشور ، والحساب ، والجنّة ، والنار ، وغيرها.

والتنوين في قوله : (مَغْفِرَةٌ) للتعظيم ؛ كما في قوله : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (٢) وقول الشاعر :

له حاجب عن كلّ أمر يشينه

والمراد : العفو عن الذنوب والجرائم. والمراد بـ «الأجر الكبير» ما أعدّه الله لعباده الصالحين في الآخرة ممّا لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. أو ما كشف عنه في سورة «البيّنة» من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) البقرة : ٣.

(٢) البقرة : ٧.

٣٦٧

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (١). انتهى.

قال في الصافي : فإنّ الخشية ملاك الأمر والباعث على كلّ خير. انتهى.

وفي الحقائق : عن سهل في قوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) الخشية سرّ ، والخشوع ظاهر.

قال عمرو المكّيّ : اشترط على الراضين الخشية في رضاه عنهم ، ولذلك أوجب لهم رضاه عنهم بأن يرضون عنه ، ويخشونه في رضاه عنهم ، ولا يكون ذلك إلّا بالاجتناب عن المحارم ، وعند موافقتهم لموافقته ؛ أي يكرهوا ما كره ، ويرضوا ما رضي. انتهى.

ويحتمل أن يراد بـ «الأجر الكبير» ما أشار سبحانه إليه في سورة «الرحمن» من قوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) ... (٢) إلى آخره.

وقد تقدّم أنّ المؤمن بين خوفين : خوف ما مضى ، وخوف ما بقي ، فيكون إحدى الجنّتين لخوف ما مضى ، والأخرى لخوف ما بقي.

وقال بعض العارفين : أي من خاف وهاب مقامه في مقام العتاب وتعيير ربّ الأرباب جنّتان : جنّة المشاهدة ، وجنّة المواصلة ، وجنّة المحبّة ، وجنّة المكاشفة جنّة المعرفة ، وجنّة التوحيد جنّة المقامات ، وجنّة الحالات جنّة

__________________

(١) البيّنة : ٧ ـ ٨.

(٢) الرحمن : ٤٦.

٣٦٨

القلب ، وجنّة الروح جنّة الكرامات ، وجنّة المداناة.

وقيل : هو المقام الّذي يقوم بين يدي ربّه يوم القيامة عند كشف الستور ، وظهور حقائق الأمور ، وسكوت الكلّ من الأنبياء والأولياء لظهور القدرة والجبروت.

ثمّ ليعلم أنّ من ثمرات الخشية : الورع ، وهو كفّ النفس عن المحارم ، والتحرّج منها.

وروي أنّه قال : صونوا دينكم بالورع (١).

وقال : ملاك الدين الورع (٢).

وفي الحديث القدسيّ : عبدي أدّ ما افترضت عليك تكن من أعبد الناس ، وانته عمّا نهيتك عنه تكن من أورع الناس ، واقنع بما رزقتك تكن من أغنى الناس.

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) صيغة الأمر في الآية ليست على ظاهرها ، بل هي للتسوية كما هو أحد معانيها المجازيّة ، يعني : إنّ إسراركم للقول ، وإجهاركم به سواء عند الله ، فإنّه يعلم ما تسرّون كما يعلم ما تعلنون.

وفي الكشّاف : إنّ معناه ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما (٣). انتهى.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٧٦.

(٢) ثواب الأعمال : ٢٩٢ ، غرر الحكم : ٢٧١ ، تحف العقول : ٥١٣.

(٣) الكشّاف ٤ : ٥٧٩.

٣٦٩

ولعلّ التعبير بالأمر الظاهر في المطلب كناية عن وجوب الاعتقاد بذلك.

وفي مجمع البيان : يعني أنّه عالم بإخلاص المخلص ، ونفاق المنافق ، فإن شئتم فأظهروا القول ، وإن شئتم فأبطنوه ، فإنّه عليم بضمائر القلوب ، ومن علم إضمار القلب علم إسرار القول. قال ابن عبّاس : كانوا ينالون من رسول الله صلّى الله عليه وآله فيخبره به جبرئيل ، فقال بعضهم لبعض : أسرّوا قولكم لئلّا (١) يسمع إله محمّد صلّى الله عليه وآله ، فنزلت الآية (٢). انتهى.

وكلمة «ذات» في «ذات الصدور» إمّا زائدة مقحمة لتزيين الكلام ؛ كما في قولهم : «رأيته ذات يوم ، وذات ليلة ، وذات مرّة» ؛ أي عليم بالصدور ، والمراد بما يخفيه الشخص في الصدر.

وفي الكلّيّات : وعليم بذات الصدور ؛ أي ببواطنها وخفاياها. انتهى.

وإمّا بمعنى السريرة المضمرة من قولهم : عرفه من ذات نفسه ؛ أي من سريرة نفسه.

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

قال صاحب الحقائق : فيه وعيد لمن يضمر في خاطره ما لا يليق بالحقّ ، وكيف يخفى ما في القلوب والغيوب من المغيّبات المكنونة وهو موجدها ابتداء وعالم بها انتهاء ، لأنّه من لطفه محيط بما في القلوب ، خبير بما يجري في الصدور.

قال الواسطيّ : حجب الأشياء عن الوقوف على حقائقها ، واستبدّ

__________________

(١) في المصدر : لكيلا.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤١٣.

٣٧٠

بمعرفة الحقائق فقال : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ).

قال ابن عطاء : ألا يعلم من خلق الصدور وما يحدث فيها من حوادث العوارض. انتهى.

و «الهمزة» في «ألا يعلم» للإنكار الإبطاليّ ؛ كما عرفته في نظائره. فكما أنّ قوله «إنّه عليم» تعليل لما تقدّمه ، فهذا برهان على إثبات علمه بالظواهر والبواطن. والظاهر أنّ «من خلق» فاعل لـ «يعلم» أي يعلم الخالق للخلق ما في صدورهم ، ويحتمل أن يكون مفعولا والضمير المستتر فيه فاعلا ، أي يعلم الله من خلقه.

والمراد بـ «اللطيف» في أسمائه تعالى : العالم بالشيء اللطيف ؛ كالبعوضة وأخفى منها ـ كما في بعض الروايات ـ أو الرفيق بعباده الّذي يوصل إليهم ما ينتفعون به في الدارين.

وب «الخبير» : العالم بما كان وما يكون ؛ لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء ، الواقف على حقائق الأشياء وبواطنها ، وجملة (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) في محلّ النصب على الحاليّة.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) ذكر الله في هذه الآية بعض أنواع النعم ، وبيّن لعباده بعض أصناف الكرم ، لعلّهم يشكرون ، وبآياته يهتدون ، وهو أن سهّل لهم القرار في الأرض ، والمعاش فيها ؛ بأن جعلها ساكنة مسخّرة يعملون فيها ما يشتهون ، ولم يجعلها بحيث لم يتمكّنوا من التصرّف فيها لحزونتها وغلظتها ، وصعوبة المشي والاختلاف فيها ، والنيل منها ، بل جعلها ذلو لا يتصرّفون

٣٧١

فيها كيف شاءوا ، وحيث شاءوا ، ومتى شاءوا ، يزرعون فيها ، ويبنون عليها ، ويسكنون فيها ، فهي كالذلول من الدوابّ لا تمتنع عن راكبها ، يوجّه بها إلى أي جهة من الجهات شاء وأراد ؛ لا كالصعبة الحزون الّتي تجمح بصاحبها ، ولا تطيعه فيما أراد ، ولا يتمكّن من إمساكها.

والأمر في (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) للإباحة والتسهيل.

وقيل : للترغيب ؛ أي فامشوا في طاعة الله. فتأمّل.

قال في الكشّاف : المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية ، لأنّ المنكبين وملتقاهما من الغارب أرقّ شيء من البعير ، وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذلّ بحيث يمشي في مناكبها لم يترك.

وقيل : مناكبها جبالها.

قال الزجّاج : معناه سهّل لكم السلوك في جبالها ، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها ، فهو أبلغ التذليل.

وقيل : جوانبها (١). انتهى.

وقيل : المراد بمناكب الأرض : طرقها وفجاجها.

وقال بعض العارفين : إنّ الخطاب في هذه الآية للأرواح ، والمراد بالأرض : أرض القلوب ، وبمناكبها : أسرارها ، وأقطار عقولها ، وسبل أنوارها إلى عالم الغيوب ، فتأكل منها موائد المعارف ، وأثمار الكواشف.

وعن بعضهم : خلق الله الأنفس ذلولا ، فمن أذلّها بمخالفتها فقد نجّاها

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٥٨٠.

٣٧٢

من الفتن والبلايا والمحن ، ومن لم يذلّها واتّبعها أذلّته نفسه وأهلكته.

أقول : ومن هنا قال الشاعر :

النفس كالطفل إن تهمله شبّ على

حبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطم

وقال الآخر :

 والنّفس راغبة إذا رغّبتها

 وإذا تردّ إلى قليل تقنع (١)

وقوله : (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ؛ أي من رزقه المقسوم لكم حلالا طيّبا.

وقد اختلفوا في تفسير الرزق :

فذهب الأشاعرة إلى أنّ المراد به ما ينتفع به مطلقا ، سواء كان بالتغذّي أو بغيره ، وسواء كان مباحا أو حراما.

وذهب بعضهم إلى أنّه ما يربّى به الحيوان من الأغذية والأشربة.

وذهبت المعتزلة إلى أنّ المراد به ما جاز وصحّ الانتفاع به للحيوان بالتغذّي أو غيره ، فلا يشمل الحرام.

والتحقيق : أنّ الرزق هو ما ينتفع به الحيوان مطلقا على وجه يحلّ شرعا ، ولكن لو اختار المكلّف الحرام حرم من رزقه الحلال بقدر ما قسم له من الحلال.

وقد روي عن صفوان بن أميّة أنّه قال : كنّا جلوسا عند رسول الله صلّى الله عليه وآله إذ جاء عمر بن قرّة فقال : يا رسول الله صلّى الله عليه وآله إنّ الله كتب عليّ الشقوة ، فلا أراني أرزق إلّا من دفّي بكفّي ، فأذن لي بالغناء من غير

__________________

(١) جامع الشواهد ٣ : ١٠٢ ؛ وهو من قصيدة لأبي ذؤيب الهذليّ.

٣٧٣

فاحشة! فقال : لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة ؛ أي عدوّ الله ، لقد رزقك الله طيّبا فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقك مكان ما أحلّ الله لك من حلاله ، أما إنّك لو قلت بعد هذه المقالة ضربتك ضربا وجيعا (١). انتهى ، فتأمّل.

ويدلّ عليه أيضا : حكاية أمير المؤمنين عليه السلام مع السارق ، فهي معروفة.

قوله : (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) وهذا بمنزلة قوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) (٢) وقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣) وقوله : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (٤) ونحو ذلك. وفيه إيماء إلى الزجر عن استبدال الرزق الحلال بالحرام ، لما فيه من المجازاة في يوم القيامة ، فإنّه يوم الحساب.

وفي مجمع البيان : أي وإلى حكمه المرجع في القيامة.

وقيل : معناه وإليه الإحياء للمحاسبة ، فهو مالك النشور ، والقادر عليه. عن الجبّائيّ (٥). انتهى.

والفرق بين الحشر والنشر ـ على ما ذكره السيّد نور الدين بن السيّد نعمة الله الجزائريّ رحمهما الله في فروق اللغات ـ أنّ الحشر لغة : إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم وسوقهم إلى الحرب ونحوه ، ثمّ خصّ في عرف الشرع عند الإطلاق بإخراج الموتى عن قبورهم إلى الموقف للحساب والجزاء.

__________________

(١) بحار الأنوار ٥ : ١٥٠.

(٢) يونس : ٤.

(٣) يونس : ٥٦.

(٤) آل عمران : ١٥٨.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٤١٤.

٣٧٤

وعن الراغب : ولا يقال الحشر إلّا للجماعة.

قلت : هذا في أصل اللغة ، وإلّا فقد يستعمل في الواحد والإثنين ، ومنه دعاء الصحيفة الشريفة : «وارحمني في حشري ونشري». والنشر : إحياء الميّت بعد موته ، ومنه قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) (١) ؛ أي أحياه (٢). انتهى.

قال الشاعر :

حياة ثمّ موت ثمّ نشر

حديث خرافة يا أمّ عمرو

أي : حياة بعد الموت.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) فيه تهديد للعاصين ، بل لمطلق المكذّبين ، وزجر لهم عن مخالفته.

لا يقال : إنّ الله سبحانه لا يحويه مكان ؛ كما قال : «لا يسعني أرضي ولا سمائي» (٣) وكلمة «في» للظرفيّة ، وهو منزّه من أن يكون محاطا بشيء ، وهو بكلّ شيء محيط.

قال عليّ عليه السلام : ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال فيم فقد ضمّنه ، ومن قال علام فقد أخلى منه ، كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء لا بمزايلة (٤). انتهى.

__________________

(١) عبس : ٢٢.

(٢) انظر : المفردات : ١١٩.

(٣) عوالي اللئالئ ٤ : ٧.

(٤) نهج البلاغة : ٣٩.

٣٧٥

هذا مع أنّه الّذي في السماء إله ، وفي الأرض إله ، فما وجه التخصيص مع أنّه لا يخلو منه مكان ، بل الأرض والسماء بالنسبة إليه سواء؟

فإنّا نقول : إنّ لهذا الكلام وجوه :

منها : أنّ المراد أنّ من في السماء سلطانه وأمره ونهيه وتدبيره ورحمته ، فإنّه ينزل من السماء أمره وحكمه.

وفي الكشّاف : من ملكوته في السماء ، لأنّها مسكن ملائكته ، وثمّ عرشه وكرسيّه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه (١). انتهى.

ويدلّ على ذلك أيضا : رفع من يدعو الله لحاجة من حوائج الدنيا والآخرة يده إلى جانب السماء.

ومنها : أنّ أهل الجاهليّة كانوا يعتقدون أنّ الله في السماء فقيل لهم ذلك على حسب اعتقادهم ، وقصّة نمرود وفرعون معروفة.

ومنها : أنّ المراد بالسماء سماء الالوهيّة وعظمة الربوبيّة الّتي هي أعلى من كلّ شيء ، لا جهة العلوّ الحسّيّ.

ومنها : أنّ إثبات كونه في السماء ـ يعني إحاطة علمه بها ـ لا ينفي كونه في الأرض كذلك. فتأمّل.

ومنها : أنّ المراد بـ «من في السماء» الملك الموكّل بالعذاب.

وكيف كان ، فالظرفيّة ليست بحقيقيّة ؛ كما لا يخفى على من برهن على امتناع كونه جسما ، وكونه محتاجا إلى مكان ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٥٨٠.

٣٧٦

والخسف : شقّ الأرض وجعل الشخص غائبا فيها ؛ كما قال : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) (١) والهمزة للإنكار الإبطاليّ ، أي : لا تطمئنّوا باستقراركم في الأرض وسكونكم فيها منتفعين بما رزقكم الله فيها ، فإنّ الله ربّما يريد أن يعذّبكم بمعاصيكم فيشقّ الأرض ويغيّبكم فيها ؛ كما فعل بقارون وأشباهه ، أو يرسل عليكم الحجارة ؛ كما فعل بقوم لوط وأصحاب الفيل وأشباههم.

و «المور» : الاضطراب والتحرّك.

قال الطبرسيّ رحمه الله : والمعنى أنّ الله يحرّك الأرض عند الخسف بهم حتّى تضطرب فوقهم وهم يخسفون فيها حتّى تلقيهم إلى أسفل (٢). انتهى.

و «أم» في قوله : (أَمْ أَمِنْتُمْ) ... إلى آخره. من حروف العطف ، ومنقطعة بمعنى «بل» فإنّها مسبوقة بهمزة الإنكار الّتي هي بمعنى النفي ، و «أم» المتّصلة لا تقع بعد هذه الهمزة كما صرّح به صاحب المغني.

ثمّ قال : ومعنى «أم» المنقطعة الّتي لا يفارقها الإضراب ، ثمّ تارة تكون له مجرّدا ، وتارة تضمّن مع ذلك استفهاما إنكاريّا ، أو استفهاما طلبيّا ، فمن الأوّل : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) (٣).

أمّا الأولى ، فلأنّه لا يدخل الاستفهام على الاستفهام.

__________________

(١) الملك : ٨١.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤١٤.

(٣) الرعد : ١٦.

٣٧٧

وأمّا الثانية ، فلأنّ المعنى على الإخبار عنهم ـ إلى أن قال ـ ومن الثاني : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) (١) تقديره : بل أله [البنات ولكم] البنون ؛ إذ لو قدّرت للإضراب المحض لزم المحال.

ومن الثالث قولهم : إنّها لإبل أم شاة (٢) ، فإنّ المقدّر : بل أهي شاة (٣). انتهى.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، فالتقدير : بلء أمنتم. فليتأمّل.

وقوله : (فَسَتَعْلَمُونَ) ... إلى آخره. أي إنّكم قبل نزول العذاب وذوقه لا تعلمون حقيقة إنذاري بعلم اليقين ، وأمّا بعد النزول تعلمونها بحقّ اليقين وعين اليقين ؛ كما قال : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) ... (٤) إلى آخره. انتهى.

و «النذير» وإن شاع استعماله في المنذر كالبشير في المبشّر ، إلّا أنّ المراد به في الآية ونحوها : الإنذار ، ويجوز في المضاف إلى ياء النفس حذف الياء وإبقاء الكسرة للدلالة عليها ، وفي المنادى المضاف إليها لغات معروفة منها ذلك.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) يعني اعتبروا أيّها المكذّبون بما فعلنا بمن كذّب من قبل من الأمم من إنزال العذاب عليهم بأنواعه ؛ من : الخسف ، والصيحة ، وإرسال الحجارة ، والرجفة ، والمسخ ،

__________________

(١) الطور : ٣٩.

(٢) في المصدر : إنّها لإبل أم شاء التقدير : بل أهي شاء.

(٣) مغني اللبيب الباب الأوّل ، بحث «أم» المنقطعة.

(٤) التكاثر : ٣ ـ ٧.

٣٧٨

وغير ذلك ، فاشكروا الله حيث جعلناهم عبرة لكم ، ولم نجعلكم عبرة لهم.

والنكير بمعنى العقوبة ، أي : فكيف كان عقوبتي لهم وتغييري ما أنعمت به عليهم لتغييرهم دين الحقّ؟! وقد قال الله : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (١).

وقيل : إنّ المعنى : كيف رأيتم إنكاري عليهم بإهلاكهم واستئصالهم ، فالنكير يحتمل كونه بمعنى المنكر ـ بالفتح ـ وكونه بمعنى الإنكار ؛ نظير النذير ، والياء محذوفة له لدلالة الكسرة كما فيه (٢).

وقد حكي : أنّ ملكا من الملوك أمر غلمانه بأن يلقوا قاضيا من أعلى القصر لفضيحة صدرت عنه ، فقال له : لم تفعل هذا بمثلي؟ قال : ليعتبر بك الناس ، فلا يفعلوا مثل ما فعلت. فقال القاضي : فافعل هذا بغيري حتّى أعتبر أنا به ، فضحك الملك فعفا عنه وأطلقه.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أشار إلى بعض آثار قدرته ليستدلّوا به على كمال صنعه ، وعجيب فعله ، أي : أو لم ينظروا إلى هذا الصنف من الخلق كيف جعل فيه قوّة الطيران على الهواء ، ووقوفه فيه ، وإمساكه له فيه بحيث لا يسقط من الهواء على الأرض مع كثافة جسمه وجثّته ، فربّما يصفّ بجناحيه ، وربّما يدفّ ، فلو لا قدرة الله وإمساكه لسقط على وجهه ، فجعل بقدرته الهواء له كالماء للسمك يسبح فيه.

__________________

(١) الرعد : ١١.

(٢) أي كما في «النذير» وقد أشار إليه من قبل.

٣٧٩

قال صاحب الحقائق : أشار إلى طيور الأرواح القدسيّة الّتي تطير في هواء الأزل والأبد بأجنحة الشوق والمحبّة ؛ باسطات أجنحتهنّ ببسط الأنس ، قابضة لها برؤية عظمة القدس ، فهناك محلّ القبض والبسط ، ولو لا فضله وكرمه لفني في بروز سبحات ذاته ، ولسقط من هواء لاهوتيّه إلى أرض قهره.

ثمّ حكى عن الحريريّ في قوله : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) أنّه قال : أشار الحقّ إلى أنّه يتوكّل عليه الأولياء ، ويسكن إليه الأصفياء بما صففن توكّلهنّ على الحقّ ، فإذا توكّل عليه الوليّ شوقا إلى الملك الأعلى طيّره بجناح الأنس في هواء المحبّة ، وأجلسه على بساط المعرفة ، ويقبضه الحقّ بقدرته ويمسكه عواطف رحمته. انتهى.

و «يقبضن» عطف على «صافّات» فيكون في موضع الحال مثله ، والأكثرون يمنعون من عطف الفعل على الاسم كالعكس.

قال الطبرسيّ رحمه الله : وإنّما عطف الفعل على الاسم ، ومن الأصل المقرّر أنّ الفعل لا يعطف إلّا على الفعل ، كما أنّ الاسم لا يعطف إلّا على الاسم ، لأنّه وإن كان فعلا فهو في موضع الحال. فتقديره تقدير اسم [فاعل] ، و «صافّات» حال ، فجاز أن يعطف عليه ، كأنّه (١) قال : صافّات وقابضات (٢). انتهى.

وفي الكشّاف : فإن قلت : لم قيل «ويقبضن» ولم يقل «وقابضات»؟

__________________

(١) في المصدر : فكأنّه.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤١٤.

٣٨٠