تفسير ستّ سور

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

تفسير ستّ سور

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-3-3
الصفحات: ٤٨٥

يجد حلاوتها مع ما يجد من حبّ المال ، وكما يلتذّ المريض بنعت الطبيب العالم بما يرجو فيه من الشفاء ، فإذا ذكر مرارة الدواء وطعمه كدر عليه الشفاء ، كذلك أهل الدنيا يلتذّون ببهجتها وأنواع ما فيها ، فإذا ذكروا فجأة الموت كدّرها عليهم وأفسدها.

بحقّ أقول لكم ؛ إنّ كلّ الناس يبصر النجوم ولكن لا يهتدي بها إلّا من يعرف مجاريها ومنازلها ، وكذلك تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلّا من عمل بها.

ويلكم يا عبيد الدنيا ، نقّوا القمح وطيّبوه وأدقّوا طعمه يهنئكم أكله ، كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه تجدوا حلاوته.

بحقّ أقول لكم ؛ لو وجدتم سراجا يتوقّد بالقطران في ليلة مظلمة لاستضأتم به فلم يمنعكم ريح قطرانه ، كذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمة ممّن وجدتموها معه ، ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها.

ويلكم يا عبيد الدنيا ، لا كحلماء تعقلون ، ولا كحكماء تفقهون ، ولا كعلماء تعلمون ، ولا كعبيد أتقياء ، ولا كأحرار كرام ، توشك الدنيا أن تقلعكم من أصولكم فتقلبكم على وجوهكم ، ثمّ تكبّكم على مناخركم ، ثمّ تأخذ خطاياكم بنواصيكم حتّى تسلمكم إلى الملك الديّان عراة فرادى ؛ فيجزيكم بسوء أعمالكم.

بحقّ أقول لكم ؛ لا تدركون شرف الآخرة إلّا بترك ما تحبّون ، فلا تنتظروا

٢٦١

بالتوبة غدا ، فإنّ دون غد يوما وليلة قضى الله فيما يغدو ويروح ... (١) إلى آخره. انتهى.

ولمّا أرشد الله سبحانه عباده إلى التوحيد الّذي هو الأصل الأوّل من أصول الدين ، وإلى رسالة محمّد صلّى الله عليه وآله الّتي هي من الأصل الثاني منها أي النبوّة المطلقة ، وذمّ اليهود على ترك متابعته والإيمان به صلّى الله عليه وآله ، وكذّبهم في دعواهم محبّة الله وولايته ، خاطب المؤمنين خطاب عناية ولطف ، وأرشدهم إلى فرع جليل من فروع الدين ، وهو «صلاة الجمعة» فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

قال الشهيد الثاني رحمه الله في آخر رسالة أفردها لوجوب صلاة الجمعة : اعلموا معاشر إخواننا المسلمين ؛ أعاننا الله وإيّاكم على طاعته ، وأخذ بنواصينا إلى محبّته ، وما يوجب الفوز لقرب حضرته ؛ أنّ صلاة الجمعة من أعظم فرائض الإسلام ، وأفضل العبادات بعد الإيمان ، خصّ الله بها هذه الأمّة الكريمة ، وجعلها في ذلك اليوم الشريف من أجلّ مننه الجسيمة ، جامعة بين وظيفة الذكر والصلاة والوعظ ، واستماعها الموجب لصفاء القلوب ، والانبعاث على التقوى ، والبعد عن معصية الله ، قد خصّ الله كلّ فرقة بيوم من الأسبوع يتقرّب فيه إليه بما شرعه لهم من الدين ، وجعل هذه الصلاة في هذا اليوم من خاصّة المسلمين ، وقد خصّها الله مع ذلك بالحثّ العظيم المؤكّد عليها بما

__________________

(١) مجموعة ورّام ١ : ١٧٥.

٢٦٢

لم يفعله بغيرها من العبادات ، فقال سبحانه في محكم كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ) إلى آخره.

وفيها ضروب من التوكيد لا يقتضي الآن بسطه لكثرته ودقّة مأخذه عمّا يليق بهذا المكان ؛ لا تخفى على من له مسلك بحقائق الكلام ، وأمر النبيّ صلّى الله عليه وآله بقراءة هذه السورة يوم الجمعة في سائر الصلوات ؛ خصوصا صلاة الجمعة ليبتدر السامع لهذا الأمر ، وينبعث على العمل بمقتضاه ، وأعاد التوكيد عليها في سورة «المنافقين» المأمور بقراءتها فيها أيضا.

فقال جلّ من قائل في سورة «المنافقين» بعد أن سمّى هذه الصلاة «ذكر الله» في سورة «الجمعة» وأمر بها ، ناهيا عن التهاون بها في السورة الأخرى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١).

فتأمّل كيف جمع بين الأمر بفعلها والحثّ عليه في السورة الأولى ، ثمّ شفعه بالنهي عن الاشتغال عنها ، والتهديد على تركها في السورة الثانية ، ووصف التارك لها بالخسران الّذي [وصف] به الكافرين والظالمين في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ، وفي هذا كفاية للمستبصر وبلاغ للمتدبّر.

وقال : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (٢) فخصّ الصلاة الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها من بين الصلوات ، والّذي عليه المحقّقون

__________________

(١) المنافقون : ٩.

(٢) البقرة : ٢٣٨.

٢٦٣

أنّها «صلاة الظهر» في غير يوم الجمعة ، وفيه هي «الجمعة» بل قال جماعة : إنّها هي «الجمعة» لا غير ... (١) إلى آخره. انتهى.

ولا ريب في وجوب هذه الصلاة في زمان حضور النبيّ صلّى الله عليه وآله والإمام المعصوم مع اجتماع سائر الشروط المقرّرة في الفقه ، وإنّما اختلف الأصحاب في حكمها في زمن الغيبة على أقوال ، أظهرها عندي هو الحرمة ، وقد أفردنا لذلك رسالة سمّيناها بـ «مغانم المجتهدين».

والمراد بـ «النداء» هو الأذان وب «الصلاة» صلاة الجمعة باتّفاق المفسّرين ، وقد دلّت عليه جملة من روايات المعصومين عليهم السلام ، ولو لا ذلك لحملت على مطلق الصلاة. فتأمّل.

قوله : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) بضمّ «الميم» كما في لغة الحجاز ، وفتحها كما في لغة تميم ، وسكونها كما في لغة عقيل ، ويسمّى قبل مجيء الإسلام بـ «يوم العروبة» بفتح «العين» المهملة وضمّ «الراء» كذلك.

قيل : سمّي هذا اليوم بـ «الجمعة» لاجتماع المسلمين فيه لإقامة صلاة الجمعة.

وقيل : لأنّه فرغ من خلق الخلق في هذا اليوم.

ويقال : إنّ أوّل من سمّاه بهذا الاسم هو «كعب بن لؤيّ» وقد كان قبل ذلك اسمه العروبة.

وقيل : معنى «يوم الجمعة» يوم الفوج المجموع ، أو يوم الوقت الجامع.

وفي بعض الأخبار : سمّيت «الجمعة» جمعة ، لأنّ الله جمع فيها خلقه

__________________

(١) الرسائل ، للشهيد الثاني : ٩٨.

٢٦٤

لولاية «محمّد صلّى الله عليه وآله» ووصيّه في الميثاق ، فسمّاه يوم الجمعة.

وقد يسمّى «يوم المزيد» لما فيه من زيادة كرامات الله لأهل الجنّة في الآخرة.

وقد روي عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : أتاني جبرئيل وفي كفّه مثل المرآة المصفيّة ـ ويروى كالمرآة البيضاء ـ فيها كالنكتة السوداء ، قلت : ما هذه الّتي في يدك؟ قال : هذه «الجمعة» ، قلت : وما الجمعة؟ قال : لكم فيها خير قسّم قلت : وما لنا فيها؟ قال : تكون عيدا لك ولأمّتك من بعدك ، فيكون اليهود والنصارى تبعا لكم ، ولكم فيها ساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله خيرا له هو له قسّم إلّا أعطاه إيّاه ، أو ليس له قسما إلّا ذخر له عنده ما هو أفضل منه ، أو يتعوّذ من شرّ هو عليه مكتوب إلّا فكّ عنه ما هو أعظم منه ، وهو عندنا سيّد الأيّام ، ونحن نسمّيه «يوم المزيد» ، قلت : وممّ ذلك؟ قال : إنّ الربّ تبارك وتعالى اتّخذ في الجنّة واديا أفيح من مسك أبيض ، وإذا كان يوم الجمعة وهو «يوم المزيد» نزل الربّ تعالى من علّيّين على كرسيّه ثمّ حفّ الكرسيّ بمنابر من ذهب مكلّل بالدرّ ، ويجيء النبيّون يجلسون على تلك المنابر ، ثمّ حفّت المنابر بكراسيّ من نور ، ثمّ يجيء الصدّيقون والشهداء حتّى يجلسوا على تلك الكراسيّ ، ثمّ ينزل أهل الغرف حتّى يجلسوا على كثبان المسك ـ ويروى على النمارق ـ ثمّ يتجلّى لهم الربّ فيقول لهم : أنا الّذي صدّقتكم وعدي ، وأتممت عليكم نعمتي ، وهذا محلّ كرامتي فاسألوني فيسألونه الرضا ، فيشهدهم أنّي قد رضيت عنكم ، فيسألونه حتّى تنتهي رغباتهم ، ثمّ يفتح لهم ما لم يخطر على قلب بشر ، ولم

٢٦٥

تسمعه أذن ، ولم تره عين ، وذلك مقدار منصرفهم عن الجمعة ، ثمّ يرفع الربّ عن كرسيّه ويرتفع النبيّون والصدّيقون والشهداء ، ثمّ يرجع أهل الغرف إلى غرفهم في جوف درّة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم ، أو ياقوتة حمراء ، أو زبرجدة خضراء ، أو مثل ذلك ، فيها أنهار مطّردة ، وثمارها متدلّية منها ، فيها أزواجهم وخدمهم فليسو إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا فيه من الكرامة ، ولذا سمّي «يوم المزيد» وفيه تقوم الساعة (١). فتدبّر.

وفي رواية عاصم بن حميد عن الصادق عليه السلام : إنّ لله كرامة في عباده المؤمنين في كلّ يوم جمعة ، فإذا كان يوم الجمعة بعث الله إلى المؤمنين ملكا معه حلّة فينتهي إلى باب الجنّة فيقول : استأذنوا لي على فلان ، فيقال له : هذا رسول ربّك على الباب ، فيقول لأزواجه : أيّ شيء ترينّ عليّ أحسن ، فيقلن : يا سيّدنا ، والّذي أباحك الجنّة ، ما رأينا عليك أحسن من هذا قد بعث إليك ربّك ، فيتّزر بواحدة ويتعطّف بالأخرى ، فلا يمرّ بشيء إلّا أضاء له حتّى ينتهي إلى الموعد ، فإذا اجتمعوا فيه تجلّى لهم الربّ ، فإذا نظروا إليه ـ أي إلى رحمته ـ خرّوا سجّدا فيقول : عبادي ارفعوا رؤوسكم ، ليس هذا يوم سجود ولا عبادة قد رفعت عنكم المئونة؟

فيقولون : يا ربّ ، وأيّ شيء أفضل ممّا أعطيت ؛ أعطيتنا الجنّة؟ فيقول : لكم مثل ما في أيديكم بسبعين ضعفا ، فيرجع المؤمن في كلّ جمعة بسبعين

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٦ : ٢٨٠.

٢٦٦

ضعفا مثل ما في يديه ، وهو قوله تعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (١) وهو يوم الجمعة ... (٢) إلى آخره.

وفضائل هذا اليوم أكثر من أن تحصى كما لا يخفى على من له تتبّع في أخبار أئمّة الهدى ، وآداب هذا اليوم أيضا كثيرة فصّلناها في بعض رسائلنا ، وكيفيّة «صلاة الجمعة» مشروحة في كتب الفقه.

وفي «الكشّاف» قيل : إنّ الأنصار قالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه كلّ سبعة أيّام ، وللنصارى مثل ذلك ، فهلمّوا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله فيه فنصلّي ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، [ويوم الأحد للنصارى] (٣) ، فاجعلوه «يوم العروبة» فاجتمعوا الى سعد بن زرارة فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكّرهم فسمّوه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، فأنزل الله «آية الجمعة» فهي أوّل جمعة كانت في الإسلام ، وأمّا أوّل جمعة جمعها رسول الله صلّى الله عليه وآله فهي أنّه لمّا قدم المدينة مهاجرا نزل «قباء» على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسّس مسجدهم ، ثمّ خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، فخطب وصلّى الجمعة (٤). انتهى.

وفي «مجمع البيان» : فسمّوه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه ، فذبح لهم سعد بن زرارة شاة فتغدّوا وتعشّوا من شاة واحدة وذلك لقلّتهم ، فأنزل الله

__________________

(١) ق : ٣٥.

(٢) بحار الأنوار ٨ : ١٢٦.

(٣) أضفناه من المصدر.

(٤) الكشّاف ٤ : ٥٣٢.

٢٦٧

في ذلك (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) (١) إلى آخره. انتهى.

و «من» في (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) بيانيّة لقوله (إِذا نُودِيَ).

قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) قيل : معنى فاسعوا فامضوا كما في قراءة جماعة من الصحابة كابني عبّاس ومسعود ، وفي «الكشّاف» : إنّ عمر سمع رجلا يقرأ : فاسعوا ، فقال : من أقرأك ذلك؟ قال : أبيّ بن كعب ، فقال : لا يزال يقرأ بالمنسوخ ، لو كانت فاسعوا لسعيت حتّى يسقط ردائي (٢). انتهى.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ رحمه الله : الإسراع في المشي.

وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر صلّى الله عليه وآله في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ... إلى آخره ؛ يقال : اسعوا أي امضوا ، ويقال : اسعوا اعملوا لها ، وهو قصّ الشارب ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، والغسل ، ولبس أفضل ثيابك ، وتطيّب للجمعة فهو السعي ، يقول الله : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (٣) (٤). انتهى.

وقيل : ليس السعي على الأقدام بل على النيّات والقلوب ، ولعلّ مراد هذا القائل أنّ المراد بالسعي ليس السعي بالمشي ، بل ينبغي له أن يكون من نيّته وعزمه إقامة هذه الصلاة في وقتها ، فإنّه مضيّق لا يدرك ثوابها بعد هذا الوقت ، ولا يتدارك مصلحتها بالقضاء كسائر الصلوات اليوميّة.

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ٤٣٢.

(٢) الكشّاف ٤ : ٥٣٤.

(٣) الإسراء : ١٩.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ : ٣٦٧.

٢٦٨

وقيل : المراد الإسراع على وجه القصد والاقتصاد ، لا من قبيل العدو ، بل دونه.

وقيل : اسعوا أي اعملوا وعجّلوا ، فإنّه يوم مضيّق على المسلمين ، وروي عن الباقر عليه السلام أيضا.

وفي رواية : إنّ أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله كانوا يتجهّزون للجمعة أي يتهيّأون لها يوم الخميس ، لأنّه يوم مضيّق على المسلمين (١).

وفي «العلل» بإسناده إلى محمّد بن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن الحلبيّ ، عن الصادق عليه السلام قال : إذا قمت إلى الصلاة فأتها سعيا ، وليكن عليك السكينة والوقار ، فما أدركت فصلّ وما سبقت به فأتمّه ، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) ... (٢) إلى آخره.

ومعنى قوله : (فَاسْعَوْا) هو الانكفاء بالهمزة ، أي التمايل إلى قدّام ، وفي «مجمع الطريحيّ» : وفي وصفه صلّى الله عليه وآله : كان إذا مشى تكفّى تكفّيا ، أي تمايل إلى قدّام ، هكذا روي غير مهموز ، والأصل الهمز ، وبعضهم يرويه مهموزا ، وقيل : معناه يتمايل يمينا وشمالا ، وخطّأه الأزهريّ بناء على أنّ التكفية الميل إلى سنن ممشاه ، كما دلّ عليه قوله فيما بعد «كأنّما ينحطّ من صبب» ولأنّ التمايل يمينا وشمالا من الخيلاء وهو ممّا لا يليق به (٣). انتهى.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤١٥.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٣٥٧.

(٣) مجمع البحرين ٤ : ٥٠ (كفأ).

٢٦٩

والصبب : ما انحدر من الأرض ، وفي بعض نسخ «العلل» الانكفات بـ «التاء» والظاهر أنّه سهو ، فإنّ معناه الانضمام ولا مناسبة له في المقام ، فليتأمّل.

والمراد من (ذِكْرِ اللهِ) هو خصوص «الصلاة» بقرينة قوله : (نُودِيَ لِلصَّلاةِ) وقوله فيما بعد : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) لكونها من أفراد «الذكر» لقوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١) ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (٢) فإنّ المراد بـ «الصلاة» نفس الأركان المخصوصة المشتملة على الذكر اللفظيّ ، وب «الذكر» الذكر القلبيّ ، أو المراد بـ «الصلاة» هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وب «الذكر» محمّد صلّى الله عليه وآله ؛ كما ورد في بعض الروايات. فتأمّل.

وقد يقال : إنّ السعي إلى ذكر الله مقام المريدين ، فإنّهم يسعون إلى الذكر سعي مشتاق إلى مذكور يطلب منه محلّ القربة إليه ، والدنوّ منه.

قوله : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي اتركوه ، ولا ماضي لهذا الأمر كما في مرادفه «دع» ، وهذا وإن كان على صيغة الأمر إلّا أنّه نهي في حقيقة الأمر ، أي لا تبيعوا ، والمراد بـ «البيع» مطلق المعاملات المعاوضيّة ، فإنّها منافية «لذكر الله» وكاشفة عن إيثار الدنيا على الآخرة.

وقد روي أنّه كان في المدينة إذا أذّن المؤذّن يوم الجمعة ، نادى مناد : حرّم البيع حرّم البيع ، قال الطبرسيّ رحمه الله : قال الحسن كلّ بيع تفوت فيه الصلاة يوم الجمعة فإنّه بيع حرام لا يجوز ، وهذا هو الّذي يقتضيه ظاهر

__________________

(١) طه : ١٤.

(٢) العنكبوت : ٤٥.

٢٧٠

الآية ، لأنّ النهي يدلّ على فساد المنهيّ عنه (١). انتهى.

وفيه : إنّ هذا مسلّم في العبادات دون المعاملات كما حقّق في الأصول ، نعم سلّمنا دلالة النهي أي صيغته على التحريم كما عليه كثير من المحقّقين ، والإجماع ثابت على حرمة البيع بعد النداء ، ولكن في فساده بأن لا يحصل معه النقل والانتقال خلاف.

قال العلّامة رحمه الله في «التذكرة» : البيع بعد النداء يوم الجمعة حرام بالنصّ والإجماع ، قال الله تعالى : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) والأمر للوجوب ، والنهي للتحريم ، ولا خلاف بين العلماء في تحريمه ، والنداء الّذي يتعلّق به التحريم ، هو النداء الّذي يقع بعد الزوال والخطيب جالس على المنبر ـ إلى أن قال ـ :

وهل ينعقد البيع؟ لعلمائنا قولان :

المنع. وبه قال مالك ، وأحمد ، وداود ، لأنّ النهي يقتضي الفساد.

والصحّة. وبه قال الشافعيّ ، وأبو حنيفة ، لأنّ النهي [في المعاملات] لا يقتضي الفساد ، بل في العبادات ، ولأنّ البيع غير مقصود في النهي ، فإنّه لو ترك الصلاة بالمبايعة كان عاصيا ، وإذا كان مقصودا فالتحريم لا يمنع انعقاده ، كما لو ترك الصلاة المفروضة بعد ضيق الوقت واشتغل بالبيع ، فإنّه يصحّ إجماعا (٢). انتهى.

قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) إلخ ؛ «ذا» للإشارة إلى ما تقدّم من حضور

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ٤٣٤.

(٢) تذكرة الفقهاء ٤ : ١٠٧ ـ ١١٠.

٢٧١

الجمعة والسعي إلى «ذكر الله» وأداء الفريضة وترك البيع ، وكلمة «كم» حرف خطاب إلى المكلّفين ، والكلمتان قد تتّفقان وقد تختلفان في الوحدة والتعدّد والتذكير والتأنيث ، فيكون المشار إليه واحدا ، والمخاطب متعدّدا ، وبالعكس ، إلى غير ذلك من الصور ، ويعرف هذا بباب المخاطبة ، وأمّا أنّ ذلك خير ، فلأنّ منافع الآخرة أهمّ في نظر العقلاء من منافع الدنيا ، لأنّ ما يتعلّق بالآخرة باق دائم ، بخلاف ما يتعلّق بالدنيا ، ولذا قال الله : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) (١) إلى آخره.

وفي بعض خطب عليّ عليه السلام : أيّها الناس ، انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها ، الصادفين عنها ، فإنّها والله عمّا قليل تزيل الثاوي الساكن ، وتفجع المترقّب الآمن ، لا يرجع ما تولّى منها فأدبر ، ولا يدني ما هو آت منها فينتظر ، سرورها مشوب بالحزن ، وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن ، فلا يغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها ، رحم الله امرأ تفكّر فاعتبر ، واعتبر فأبصر ، وكأنّ ما هو كائن في الدنيا لم يكن ، وكأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل ، فكلّ معدود منقض ، وكلّ متوقّع آت ، وكلّ آت قريب دان (٢). انتهى.

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لا يقال : إنّ ما هو في نفس الأمر خير نافع فهو خير مطلقا سواء علم به أو لم يعلم ، فإنّ العلم والجهل لا يؤثّران في حقيقة الشيء وخاصيّته ، فما معنى التعليق الّذي مفهومه عدم كونه خيرا مع الجهل؟

__________________

(١) النحل : ٩٦.

(٢) إرشاد القلوب ١ : ٣٤ ، نهج البلاغة : ١٤٨.

٢٧٢

لأنّا نقول : قد أجيب عن ذلك بوجوه :

منها : إنّ المعطوف في المقام محذوف بقرينة المعطوف عليه ، والتقدير «إن كنتم تعلمون وإن كنتم لا تعلمون» كما في قوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (١) أي والبرد ، وقد قيل بهذا الوجه في قوله : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) (٢) أي وإن لم تنفع الذكرى.

ومنها : إنّ لزوم حمل كلام الحكيم على ما لا يلزم اللغو حملنا على القول بالمفهوم ، وأمّا إذا كان للتعليق فائدة اخرى فلا يجب القول به ، والمقام من هذا القبيل ، فإنّ الغرض ذمّ من لا يأتمر بهذا الأمر مع علمه به واستبعاده عن درجة العلم ، وتنزيله منزلة الجاهل في عدم العمل به ، وقد قيل بذلك أيضا في الآية المذكورة ، وأنّه من قبيل قولهم : عظ الظالمين إن سمعوا منك.

ومنها : ما حكي عن الجبّائيّ من أنّ المراد اعلموا ذلك ، فتأمّل.

ومنها : إنّ المراد إن كنتم تعلمون أنّه خير لكم اخترتموه على المنافع الدنيويّة.

ومنها : إنّ المراد إن كنتم من أهل العلم والمعرفة بولاية عليّ عليه السلام والأئمّة من ولده ، فإنّ شيعتهم هم العلماء حقّا.

فحاصل المفهوم : أنّ أداء هذه الفريضة وأشباهها من سائر العبادات لا يكون خيرا لمن جهل ولايتهم ، وهاجر محبّتهم ، وقد وردت بذلك أخبار متواترة ، بل في بعضها أنّه سواء على الناصب صلّى أم زنى.

__________________

(١) النحل : ٨١.

(٢) الأعلى : ٩.

٢٧٣

ومنها : إنّ المراد إن كنتم تعتقدون بحقّيّة هذا الدين ، ولا تكونون من المنافقين.

والمراد بـ «القضاء» في قوله سبحانه : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) إتمام الشيء وإكماله وفعله على ما ينبغي ، وإلى هذا يرجع ما فسّر (قُضِيَتِ) بأدّيت.

قال أبو البقاء : فكلّما أحكم عمله وختم وأدّى وأوجب وأعلم وأنفذ فقد قضى وفصل.

قال الحلبيّ : القضاء موضوع للقدر المشترك بين هذه المفاهيم ، وهو انقطاع الشيء والنهاية ، وأصل القضاء الفصل بتمام الأمر. انتهى.

وكيف كان فالمراد بـ «القضاء» في الآية مطلق الفعل والفراغ منه ، كما في قوله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) (١) أي فرغتم منها ، وقوله : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (٢) أي لم يفعل ، و «القضاء» في عرف المتشرّعة عبارة عن فعل العبادة المؤقّتة بعد خروج وقتها ، ومقابله الأداء ، وهو فعلها قبل الخروج.

والمراد بـ «الصلاة» هي صلاة الجمعة ، وأوّل وقتها زوال الشمس من يوم الجمعة ، وآخر وقتها إذا صار ظلّ [كلّ] شيء مثله ، فلا تجوز بعده ، بل تتعيّن الظهر.

وعن بعض : إنّ آخر وقتها إذا صار ظلّ الشيء مثليه.

وعن الحلبيّ : إذا مضى مقدار الأذان والخطبة والركعتان فقد فاتت.

__________________

(١) البقرة : ٢٠٠.

(٢) عبس : ٢٣.

٢٧٤

والأمر بـ «الانتشار» للإباحة أو الاستحباب ، وقد روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال : إنّي لأركب في الحاجة الّتي كفاها الله ما أركب فيها إلّا لالتماس أن يراني الله أضحّي في طلب الحلال ، أما تسمع قول الله عزّ وجلّ : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا) ... (١) إلى آخره.

وفي «حقائق القرآن» : إذا فرغتم من مشقّة العبوديّة فانتشروا في الأرض إلى طلب أوليائي ، وجالسوهم لتستفيدوا من لقائهم وكلامهم الفوائد الغيبيّة ، والأنباء الملكوتيّة ، وجالسوا في مجلس السماع والقول فهناك فضل الله من الخطاب ، وكشف النقاب. انتهى.

وفي رواية أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) ليس بطلب دنيا ولكن عيادة مريض ، وحضور جماعة ، وزيارة أخ في الله (٢).

وعن ابن عبّاس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ، إنّما هو عيادة المرضى ، وحضور الجنائز ، وزيارة أخ في الله.

وعن سعيد بن المسيّب : إنّه طلب العلم.

وعن بعضهم : إنّه صلاة التطوّع.

وفي «التفسير الصادقيّ عليه السلام» : إنّ الانتشار يوم السبت (٣). وكذا في «تفسير القمّيّ رحمه الله» (٤).

والمراد بـ «الذكر» أن لا ينسى العبد مولاه في مجامع أحواله سواء كان

__________________

(١) عدّة الداعي : ٩١ ، مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ٤٣٥.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ٤٣٥.

(٣) الفقيه ١ : ٤٢٤.

(٤) تفسير القمّي ٢ : ٣٦٧.

٢٧٥

في الصلاة أو في غيرها ، وفي «الحقائق» بعد هذه الآية : «أي إذا فرغتم من جميع ذلك غيّبوا بأرواحكم وقلوبكم وعقولكم في بحار الأوّليّة والآخريّة ، واذكروا الله بالله لا بكم ، واتركوا الذكر هناك بعد رؤية المذكور. انتهى.

وعن بعضهم : أنّ المراد «بالذكر» هو الفكر ، فإنّ تفكّر ساعة خير من عبادة سنة أو سبعين سنة ، وقد فسّر «الذكر الكثير» في قوله تعالى في سورة الأحزاب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) (١) بما يغلب الأوقات ويعمّ أنواع ما هو أهله من التقديس والتمجيد ، والتهليل والتحميد.

وفي بعض الروايات : إنّ تسبيح فاطمة عليها السلام من الذكر الكثير.

وفي بعضها عن الصادق عليه السلام : ما من شيء إلّا وله حدّ ينتهى إليه إلّا الذكر فليس له حدّ ينتهي إليه ، فرض الله الفرائض فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ ، وشهر رمضان فمن صامه فهو حدّه ، والحجّ فمن حجّ فهو حدّه ، إلّا الذكر ، فإنّ الله لم يرض منه بالقليل ، ولم يجعل له حدّا ينتهي إليه ، ثمّ تلا هذه الآية (٢).

وفي بعضها عنه عليه السلام : شيعتنا الّذين إذا خلوا ذكروا الله كثيرا (٣).

قوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) : أي لأنّكم تنالوا مقام الفوز بالسعادات الدنيويّة والاخرويّة بسبب هذه الأمور المذكورة في الآية ، أو افعلوا ذلك على رجاء منكم في الوصول إلى الفلاح والنجاح ، و «الفلاح» هو الفوز بالأماني ، والظفر

__________________

(١) الأحزاب : ٤١.

(٢) الكافي ٢ : ٤٩٨.

(٣) الكافي ٢ : ٤٩٩.

٢٧٦

بالمطلوب في الخلاص من العذاب ، والبقاء على دوام الرحمة.

قيل : الفلح ضربان : دنيويّ وأخرويّ.

والأوّل : الظفر بما تطيب به الحياة الدنيا.

والثاني : ما يفوز به الرجل في دار الآخرة.

وكيف كان فلا يطلق المفلح إلّا على من عقل وحزم وتكاملت فيه خلال الخير ، ولذا قال (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ... (١) إلى آخره.

وقال في وصف المتّقين : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢) قيل : أي من مكائد النفس والشيطان ، وأيضا : مفلحون من الله بالله.

وقيل : أولئك الّذين لزموا طريق المواصلة بالانفصال عمّا سوى الحقّ ، فأفلحوا فانقطع الحجب عن قلوبهم فشاهدوا.

وفي قولهم في الأذان والإقامة «حيّ على الفلاح» إشارة إلى أنّ الصلاة عمدة ما يصل بها العبد إلى هذا المقام الشريف ، ولذا ورد : أنّ الصلاة عمود الدين ومعراج المؤمنين.

والوجه في تقديم «التجارة» على «اللهو» أوّلا ، والعكس ثانيا في قوله سبحانه : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أنّ التجارة كانت مهتمّا بشأنها عند العقلاء ، وكان المقام مقام الذمّ والتشنيع على المعرضين عن الصلاة لأمر دنيويّ ناسب الترقّي من الأعلى إلى الأدنى ، لأنّهم لعدم رسوخ الإيمان في

__________________

(١) المؤمنون : ١.

(٢) البقرة : ٥ ، والتوبة : ٨٨ ، والنور : ٥١.

٢٧٧

قلوبهم مائلون إلى النفع الدنيويّ ، فإن حصل الكثير منه رجّحوه على القليل منه ، وإن لم يحصل الكثير الّذي يهتمّ به العقلاء اكتفوا بالقليل منه حتّى بما لا يترتّب عليه نفع عقلائيّ ، ومع ذلك يرجّحونه على الصلاة الّتي هي عمود الدين ، وفي هذا كمال التشنيع عليهم ، ونظير ذلك أنّك لو أردت التشنيع على بخيل تقول : فلان لا يعطي دينارا ولا درهما ، تعني أنّه لا يعطي الكثير ، بل لا يعطي القليل.

وأمّا وجه تأخير «التجارة» عن «اللهو» أخيرا ، فلأنّ المقام مقام الترقّي من الأدنى إلى الأعلى ، فإنّه سبحانه في مقام بيان أنّ الثواب الجزيل الأخرويّ راجح على اللهو الّذي لا نفع فيه ولا اهتمام بشأنه عند العقلاء ، بل راجح على التجارة الّتي هي محلّ اعتناء العقلاء ، فإنّ النفع المترتّب عليها فان زائل عن قريب ، بخلاف الثواب الدائم الّذي لا يفنى ولا يبيد.

قال عليه السلام :

فإن تكن الدنيا تعدّ نفيسة

فدار ثواب الله أعلى وأنبل

وقال أيضا :

هب الدنيا تساق إليك عفوا

أليس مصير ذاك إلى زوال

 وما ترجو لشيء ليس يبقى

 وشيكا قد تغيّره اللّيالي

وكيف كان ففي «الحقائق» بعد ذكر هذه الآية : أخبر الله سبحانه وتعالى أنّهم في أوائل إرادتهم إذا لم يبلغوا إلى حدّ الاستقامة في الصحبة شغلتهم حوائج النفوس عن صحبة النبيّ صلّى الله عليه وآله فعاتبهم الله بذلك ، وأمره صلّى الله عليه وآله أن يخبرهم أنّ ما عند الله من مشاهدته صلّى الله عليه وآله

٢٧٨

ولقائه ، ولذّة خطابه ومناجاته خير من جميع الحظوظ ، بقوله : (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) ، وفيه تأديب المريدين حين اشتغلوا عن صحبة المشايخ بخلواتهم وعباداتهم لطلب الكرامات ، ولم يعلموا أنّ ما يجدون في خلواتهم بالإضافة إلى ما يجدون في صحبة مشايخهم قليل.

قال سهل : من شغله عن ربّه شيء من الدنيا والآخرة فقد أخبر عن خسّة نفسه ، ورذالة همّته ، لأنّ الله فتح له الطريق إليه ، وأذن له في مناجاته ، فاشتغل بما يفنى عمّا لم يزل ولا يزال ، قال سهل في قوله (ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ) : ما أخّر لكم في الآخرة خير ممّا أعطاكم في الدنيا.

قال الأستاذ : ما عند الله للعباد والزهّاد غدا خير ممّا نالوه من الدنيا نقدا ، وما عند الله للعارفين نقدا من واردات القلوب وبوادي الحقيقة خير ممّا يوصل في المستأنف. انتهى.

قوله : (وَإِذا رَأَوْا) إلى آخره ، أي إذا شاهدوا وعاينوا ؛ من الرّؤية بالعين. ولذا عدّي إلى مفعول واحد كما في قولك : «زيدا إذا أبصرته» ، وقد يفسّر بإذا علموا ، وفيه نظر ، لأنّه يتعدّى إلى إثنين ؛ فتدّبر.

و «التجارة» بالكسر : طلب الربح بالبيع والشراء ونحوهما من العناوين المعروفة.

و «اللهو» ما يشغلك عن ذكر الله من الأباطيل والملاهي ، أو ما لا يترتّب عليه نفع دنيويّ عقلائيّ ، وإن ترتّب عليه نفع خياليّ وهميّ.

قوله : (انْفَضُّوا إِلَيْها) أي انصرفوا إلى جانبها ومحلّها ، وفي «المجمع» :

٢٧٩

أي تفرّقوا عنك خارجين إليها ، وقيل : مالوا إليها (١). انتهى.

وبكلّ ذلك فسّر قوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (٢) والضمير المجرور راجع إلى «التجارة».

وعن ابن مسعود : أنّه قرأ «إليهما» بالتثنية.

وعلى الآية على القراءة المشهورة سؤال عن وجه اختصاص «التجارة» بردّ الضمير إليها ، وأجاب عنه الطبرسيّ رحمه الله بقوله : لأنّها كانت أهمّ إليهم ، وهم بها أسرّ من الطبل ، لأنّ الطبل إنّما دلّ على التجارة. عن الفرّاء.

وقيل : عاد الضمير إلى أحدهما اكتفاء به ، وكأنّه على حذف ، والمعنى : وإذا رأوا تجارة انفضّوا إليها ، وإذا رأوا لهوا انفضّوا إليه ، فحذف «إليه» لأنّ «إليها» يدلّ عليه (٣). انتهى.

قال المحقّق النراقيّ رحمه الله في «المشكلات» : ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٤) فإنّ المذكور شيئان هما «الذهب» و «الفضّة» وأعيد الضمير إلى واحد منهما ، والحقّ أنّه عائد إلى الفضّة ، لمكان «التاء» لأنّها أقرب ، أو لأنّها أكثر وجودا في أيدي الناس ، ويمكن أنّ يقال : إنّ الضمير عائد إلى المكنوز وهو يعمّ الدراهم والدنانير وسائر الأموال.

ثمّ النكتة في إعادة الضمير في الآية إلى «التجارة» دون «اللهو» مع أنّها

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ٤٣٦.

(٢) آل عمران : ١٥٩.

(٣) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ٤٣٦.

(٤) التوبة : ٣٤.

٢٨٠