تفسير ستّ سور

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

تفسير ستّ سور

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-3-3
الصفحات: ٤٨٥

وفي رواية عمر بن أبان عن الصادق عليه السلام قال : إنّ أناسا يخرجون من النار بعد ما كانوا حمما فينطلق بهم إلى نهر عند باب الجنّة يقال له «الحيوان» فينضح عليهم من مائه فتنبت لحومهم ودماؤهم وشعورهم (١). وقريب منها روايات أخر.

قال القيصريّ في شرح الفصوص : اعلم أنّ من اكتحلت عينه بنور الحقّ يعلم أنّ العالم بأسره عباد الله ، وليس له وجود وصفة إلّا بالله وحوله وقوّته ، وكلّهم محتاجون إلى رحمته ، وهو الرحمان الرحيم ، ومن شأن من هو موصوف بهذه الصفات أن لا يعذّب أحدا عذابا أبديّا ، وليس ذلك المقدار من العذاب إلّا لأجل إيصالهم إلى كمالاتهم المعدودة كما يذاب الذهب والفضّة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدّره وينقص عياره ، وهو يتضمّن اللطف والرحمة ؛ كما قيل :

وتعذيبكم عذب وسخطكم رضى

وقطعكم وصل وجوركم عدل

أقول : ما زعمه من نفي الخلود مسلّم بالنسبة إلى أهل التوحيد الّذين أقرّوا به مع شرطه وشروطه الّتي منها الإذعان بمراتب الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام والتديّن بموالاتهم لا مطلقا ، فإنّه مخالف للضرورة الدينيّة المستفادة من الآيات والأخبار المتواترة القطعيّة ، فما ذكره تبعا لشيخه الأعرابيّ لا يصغي إليه المسلم كاستدلاله بما روي ضعيفا من طرق العامّة من

__________________

(١) بحار الأنوار ٨ : ٣٦١.

١٨١

أنّه يأتي على جهنّم زمان ينبت في قعرها الجرجر (١) ، فإنّه لا يعارض ما أشرنا إليه من الآيات والأخبار.

وأمّا ما قيل من أنّ الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، بل بالتجاوز : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) (٢) ولم يقل وعيده ، بل قال : (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (٣) فهو كما ترى.

وقول ابن مسعود : ليأتينّ على جهنّم زمان ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون أحقابا. ليس بحجّة. فافهم ، ولا تغترّ بوساوس الشيطان ، وقد قال : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤).

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) هذا أيضا إخبار عن الغيب ، لعدم وقوع هذا القول ، بل نزول هذه الآية.

وقد روي أنّهم لمّا انصرفوا من الحديبيّة بالصلح وعدهم الله فتح خيبر ، وخصّ بغنائمها من شهد الحديبيّة ، ولم يتخلّف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله عند مسيره إليها ، فلمّا أرادوا المسير إلى خيبر قال : هؤلاء المخلّفون (٥) : ذرونا ـ أي اتركونا ـ نتّبعكم ؛ أي نجيء معكم لنصرتكم. ولا

__________________

(١) الجرجر والجرجير : بقلة معروفة.

(٢) إبراهيم : ٤٧.

(٣) الشورى : ٢٥.

(٤) ص : ٨٢ و ٨٣.

(٥) «ب» : المتخلّفون.

١٨٢

ماضي لـ «ذر» كـ «دع» و «هب» بمعنى احسب ، إلّا أنّ «هب» هذه من الجوامد المطلقة ؛ كـ «نعم» و «بئس» في الماضي.

وإنّما قالوا ذلك لتكذيب وعد الله المغانم في خيبر للسائرين إلى الحديبيّة خاصّة ؛ لا يشركهم فيها غيرهم. وهذا هو المراد بكلام الله.

وعن الجبّائيّ : إنّ المراد به قوله تعالى لهم حين تثبّطوا عن الخروج إلى تبوك : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) (١) فأرادوا بالخروج تكذيب هذا الكلام.

قال شيخنا الطبرسيّ رحمه الله في مجمع البيان : وهذا غلط فاحش ، لأنّ هذه السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبيّة في سنة ستّ من الهجرة ، وتلك الآية ـ أي قوله : (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) ـ نزلت في الّذين تخلّفوا عن تبوك.

وكانت غزوة تبوك بعد فتح مكّة وبعد غزوة حنين والطائف ورجوع النبي صلّى الله عليه وآله منها إلى المدينة ومقامه ما بين ذي الحجّة إلى رجب ، ثمّ تهيّأ في رجب للخروج إلى تبوك ، وكان منصرفه صلّى الله عليه وآله من تبوك في بقيّة رمضان من سنة تسع من الهجرة ، ولم يخرج بعد ذلك لقتال ولا غزو إلى أن قبضه الله تعالى ، فكيف تكون هذه الآية مرادة بقوله (كَلامَ اللهِ) وقد نزلت بعده بأربع سنين (٢)؟ انتهى.

و «كم» في «كذلكم» حرف الخطاب ، وإنّما جمع لتعدّد المخاطب بهذا الخطاب ، وأفرد الإشارة لأنّ المشار إليه الوعد المذكور ، وهو أمر واحد ،

__________________

(١) التوبة : ٨٣.

(٢) مجمع البيان ٥ : ١١٤.

١٨٣

وتفصيل باب المخاطبة في النحو ، وقد ذكره ابن مالك في التسهيل فراجع.

وقولهم (بَلْ تَحْسُدُونَنا) ردّ على المؤمنين وتكذيب لهم في قولهم : إنّ الله وعدنا خاصّة غنيمة خيبر ، وهذا راجع إلى تكذيب الرسول في وحيه ، وقوله تعالى : (بَلْ كانُوا) ردّ على المنافقين في اعتقادهم أنّ منعهم عن النفر للحسد ، وأنّ قولهم ذلك لعدم شعورهم ، وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) ؛ أي إلّا فقها قليلا ، فيكون وصفا للمصدر المحذوف أو القليل منهم ، فيكون مستثنى من ضمير الجمع ؛ كما في قوله تعالى : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (١) فيجوز فيه الرفع على البدليّة ، والنصب على الاستثناء.

و «الفقه القليل» على الأوّل هو الشعور الحيوانيّ الّذي هو إدراك اللذّات والآلام الحسّيّة ، فإنّه قليل بالنسبة إلى الإدراكات العقليّة الروحانيّة الخاصّة بالأناسيّ الإلهيّين ، والإخوان الروحانيّين ، وعلى الثاني هو من تاب منهم فأحسن عقيدته ، وآمن بقلبه كما آمن بلسانه ، وهو قليل في هؤلاء المخلّفين ؛ كما قال : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢).

ويحتمل أن يراد به من عرف الحقّ بقلبه ولكن أنكره من باب العناد ، والعصبيّة ، وحقد الجاهليّة ، وحب الرئاسة ، فافهم.

وفي الآية دلالة واضحة على أنّ المنافقين ليسوا بمؤمنين ، بل أولئك هم الكافرون حقّا.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ

__________________

(١) النساء : ٦٦.

(٢) سبأ : ١٣.

١٨٤

يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) لم يقنطهم الله من رحمته مع ما شدّد عليهم من النكير وأوعدهم بالسعير ، فإنّ بابه مفتوح لكلّ من أتاه ، وفضله متاح لكلّ عبد وإن عصاه ، كيف وقد قال : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) (١) فالتوبة هو باب الأبواب.

وقال : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (٢) بل وعدهم الأجر الحسن لو رجعوا إلى الطاعة ، فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له (٣).

وفيه أيضا إخبار عن الغيب ، فإنّ جماعة منهم اتّبعوا المؤمنين في قتال هوازن وغيرهم من القبائل ، ولا ينافي ذلك قوله فيما تقدّم : (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) الدالّ على نفي الأبد ، فإنّ المراد به المتابعة في غزوة خيبر خاصّة ؛ كما عرفته.

و (سَتُدْعَوْنَ) ؛ أي : يدعوكم النّبيّ إلى قتال.

و «البأس» : الشدّة في الحرب.

ويطلق على العذاب أيضا ؛ كما قال : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) (٤) أي عذابنا.

(تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) ؛ أي يقع أحد الأمرين : إمّا المقاتلة ، وإمّا الإسلام.

والمراد به إمّا الإقرار بالشهادتين ، أو الانقياد للأمر والصلح ولو بإعطاء الجزية.

__________________

(١) طه : ٨٢.

(٢) الزمر : ٥٣.

(٣) انظر : الكافي ٢ : ٤٣٥.

(٤) غافر : ٨٤.

١٨٥

وفي قراءة «أبيّ» حذف النون فـ «إن» مقدّرة و «أو» بمعنى «إلى» فيكون الإسلام غاية للقتال.

والمراد بالتولّي هنا الإعراض والقعود عن القتال ، والإحجام عنه.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) هذه الجملة بمنزلة الاستثناء عن المأمورين بالجهاد.

و «الحرج» : الضيق ؛ أي ليس على هؤلاء ضيق ومعصية في القعود عن الجهاد ، فإنّ الله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر.

وإنّما كرّر الحرج تأكيدا لبيان لطفه وشفقته على العباد ؛ كما أنّ قوله :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) توكيد لما سبق من الوعد والوعيد ، إلّا أنّ ما تقدّم خاصّ وما هنا عامّ ، وإنّما فصّل الأوّل لسبق رحمته وكونه أدخل في الترغيب.

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) قد عرفت معنى رضا الله وسخطه ، والمراد من السكينة.

واللام في «المؤمنين» للعهد ـ وكان عددهم ألفا وخمسمائة أو ثلاثمائة أو أربعمائة ـ كـ «اللام» في الشجرة ؛ وهي شجرة [السدر ، أو] (١) الطلح ؛ وهو الموز ، وهو (٢) شجر حسن اللون له نور ، طيّب ، ولكنّه كثير الشوك.

روي أنّه لمّا نزل رسول الله صلّى الله عليه وآله الحديبيّة بعث جراس بن

__________________

(١) ليس في «أ».

(٢) «أ» : فهو.

١٨٦

أميّة الخزاعيّ إلى أهل مكّة فهمّوا بقتله فرجع ، فبعث عثمان بن عفّان فحبسوه فدعا رسول الله أصحابه وكان جالسا تحت هذه الشجرة وبايعهم على أن يقاتلوا قريشا ولا يفرّوا عنهم.

و «أثابهم» أي جازاهم ؛ من الثواب ، وهو الجزاء على العمل ، وهو في الأصل : الرجوع ، فالعمل يرجع جزاؤه وخاصّيّته إلى العامل ؛ كما قال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) فالثواب أعمّ من جزاء الخير والشرّ ، ولكن غلب استعماله في الأوّل.

والفتح القريب هو فتح خيبر ، والمغانم الكثيرة هي مغانمها.

ومن المحتمل أن يكون المراد بها الدرجات العاليات الأخرويّة الّتي يستحقّونها بجهادهم في سبيل الله ، هذا مع أنّ رضا الله عنهم أعلى مقاصد المؤمنين ، بل المؤمن الكامل لا يطلب سوى رضاه ، ولا يهتمّ بالغنائم الفانية الزائلة. ولذا سمّيت هذه البيعة ببيعة الرضوان (٢).

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً).

في هذه الآية وعد للمؤمنين بكثير من المغانم غير هذه الغنيمة المعجّلة الّتي ستحصل لهم بخيبر ، فإن كان الخطاب المشافهة كان المراد بها ما حصل لهم في عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وما بعده إلى زمن انقراضهم ، فلا يشمل ما حصل للتابعين من الفتوح ، وإلّا لشمل ما يحصل لهم من الفيء إلى يوم القيامة.

__________________

(١) الزلزلة : ٧ و ٨.

(٢) «ب» : بيعة الرضوان.

١٨٧

والمراد بكفّ الأيدي : حفظهم عن أذى الكفّار بما وقع من الصلح في الحديبيّة ، أو عن خلفاء أهل خيبر من أسد وغطفان ، فإنّه لمّا حاصرها همّت قبائل من العرب أن يغيروا على أموال المسلمين وعيالاتهم بالمدينة ، وهمّت اخرى أن ينصروا اليهود في خيبر ، فقذف الله الرعب في قلوبهم فانصرفوا ، وإنّما فعل ذلك ليحصل لهم الاستعداد لفتح مكّة وغيرها ، ولتكون علامة لصدق النبيّ فيما وعد المؤمنين.

فقوله : (وَلِتَكُونَ آيَةً) عطف على محذوف ، هو علّة للتعجيل بالغنيمة أو كفّ الأذى ؛ أي عجّل أو كفّ أو فعل الأمرين لتستعدّوا ويحصل لكم كثرة العدد والعدّة ، وليكون آية لهم ، فإنّ غلبة النبيّ مع قلّة عدده وعدّته على هؤلاء القبائل الكثيرة الجمّة في مدّة يسيرة آية كاشفة عن صدقه في دعوى النبوّة.

وقوله : (وَيَهْدِيَكُمْ) أي يزيدكم البصيرة في الدين ، ويثبّتكم على الإيمان بالنبيّ ، وإلّا فقد كانوا مؤمنين من قبل.

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) ؛ أي عجّل لكم غير مغانم خيبر مغانم أخرى لم تقدروا عليها إلى الآن ، بل وقع لكم فيها الانكسار والحولة ؛ أي الهزيمة ، مثل مغانم هوازن في غزوة حنين.

فقوله : (وَأُخْرى) وصف لـ «مغانم» وعطف على «هذه».

ويحتمل نصبها على التفسير ، ورفعها على الابتداء ، وإن كانت نكرة ، لمكان الوصف بالجملة بعدها وجرّها بـ «ربّ» المحذوفة.

وقوله : (قَدْ أَحاطَ اللهُ) ... إلى آخره. كناية عن إظفار الله لهم بهذه الغنائم باستيلائهم على أهلها.

١٨٨

قال الطبرسيّ رحمه الله : فجعلهم بمنزلة قوم قد أدير حولهم ؛ فما يقدر أحد منهم أن يفلت (١).

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً * سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً).

أراد بـ «الّذين كفروا» كفّار قريش الّذين كانوا بمكّة.

و «تولية الدبر» كناية عن الفرار والانهزام.

وقيل : المراد بالّذين كفرواهم الّذين همّوا بالإغارة على أموال المسلمين بالمدينة من أسد وغطفان.

ومحصّل الآية : أنّ الله كان ينصر المؤمنين على الكافرين لقدرته على نصر من ليس له عدد ولا عدّة ، فإنّ الأمور كلّها بيد الله ؛ يذلّ من يشاء ، ويعزّ من يشاء ، ويخذل من يشاء ، وينصر من يشاء ، وهذه سنّة الله وطريقته القديمة الّتي سلفت في أنبيائه والمعاندين لهم ، فإنّ حزب الله هم الغالبون.

ونصب «سنّة الله» بفعل محذوف ؛ أي سنّ سنّة الله.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) امتنّ الله عليهم بكفّ تعرّضهم للكفّار ، وكفّ تعرّض الكفّار لهم بالأمر بالصلح ، وإلقاء الرعب في قلوب الكفّار حتّى يرضوا به.

وقد روي أنّ ثمانين منهم طافوا بعسكر المسلمين ليصيبوا منهم ،

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ١٨٦.

١٨٩

فأخذوا وأتي بهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله ، فعفا عنهم وخلّى سبيلهم ، فكان ذلك سبب الصلح.

والمراد بـ «بطن مكّة» هو الحديبيّة ، فإنّها اسم لبئر قرب مكّة.

والمراد بـ «الإظفار» إمّا أخذهم الثمانين المشار إليهم ، وإمّا نصرتهم في سائر الغزوات كبدر وأحد.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

«الصدّ» : المنع بالعدوّ ، ويقال لمن منعه العدوّ عن الحجّ المصدود ؛ كما يقال للممنوع عنه بالمرض ونحوه المحصور ، وتفصيل أحكامهما في الفقه.

و «الهدي» عطف على الضمير المنصوب في «صدّوكم» ؛ أي منعوكم عن دخول المسجد ، ومنعوا الهدي عن أن يبلغ مكانه الّذي كان ينحر فيه من الحرم ، وهدي العمرة لا ينحر إلّا بمكّة ؛ كما أنّ هدي الحجّ لا ينحر إلّا بمنى.

ويحتمل كونه عطفا على «المسجد» فيكون «أن يبلغ» بدلا عنه بدل الاشتمال.

والمراد بـ «الهدي» : البدن الّتي ساقها رسول الله ، وكانت سبعين بدنة ، حتّى بلغ ذا الحليفة فقلّدها وأشعرها ، وأحرم بالعمرة حتّى نزل بالحديبيّة ، فمنعه المشركون ، فنحرها بعد الصلح.

و «معكوفا» أي محبوسا.

١٩٠

والمراد بـ «الرجال» : المؤمنين.

و «النساء» : المؤمنات ؛ هم الّذين كانوا بمكّة مختفين عن المشركين ، وكان المؤمنون لا يعرفونهم بأعيانهم ، فلو قاتلوا أهل مكّة صار هؤلاء مقتولين.

فجواب «لو لا» في قوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ) ... إلى آخره. محذوف ؛ أي لأمركم بقتالهم.

و «المعرّة» : الإثم والجناية أو الدية.

واللام في «ليدخل» تعليل لعدم الإذن في قتالهم ، وهو مستفاد من الكلام كما لا يخفى. ويرشد إليه أيضا قوله : (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي : لو تميّز المؤمن من الكافر بحسب الظاهر. فهذا الاختلاط أوجب دفع العذاب عن الكفّار.

وقد وردت أخبار كثيرة بأنّ الله يدفع بمؤمن واحد البلاء عن البلد.

ففي رواية الثماليّ : إنّ الله ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية : الفناء (١).

وفي روايته الاخرى : لا يصيب قرية عذاب وفيها سبعة من المؤمنين (٢).

وفي رواية يونس بن ظبيان عن الصادق عليه السلام قال : إنّ الله ليدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي من شيعتنا ، ولو أجمعوا على ترك الصلاة لهلكوا ، وإنّ الله ليدفع بمن يزكّي من شيعتنا عمّن لا يزكّي ، ولو

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٤٧.

(٢) الكافي ٢ : ٢٤٧.

١٩١

أجمعوا على ترك الزكاة لهلكوا ... (١).

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) الظرف إمّا متعلّق بـ «عذّبنا» أو بـ «اذكر» أو بـ «أذنّا لكم في قتالهم».

والمراد بـ «حميّة الجاهليّة» : عدم الانقياد لأحد ؛ من التكبّر والنخوة ، وقد قالوا : إنّ محمّدا قتل آباءنا وإخواننا ، فكيف نتركه يدخل منازلنا ، فتتحدّث العرب : إنّه دخل علينا على رغم أنفنا ، فواللات والعزّى لا ندعه أن يدخل مكّة أبدا.

قال في الصحاح : وحميت عن كذا حميّة بالتشديد ، ومحميّة : إذا أنفت منه وداخلك عار ، وأنفة أن تفعله (٢). انتهى.

وإنّما نسبت إلى الجاهلية لكونها سجيّة لآبائهم الجهلة الضالّين ، فإنّ العالم العاقل مطيع (٣) من هو أعلم وأعقل منه.

والمراد بـ «كلمة التقوى» وإن فسّرت بـ «كلمة لا إله إلّا الله» إلّا أنّ المراد بها حقيقة التوحيد لا مجرّد التفوّه بهذه الحروف والأصوات ؛ كما يقال : «كلمة الحضرة» لـ «كلمة كن» في قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤) مع أنّ المراد هو نفس الإرادة الكلّيّة وتعلّقها بإيجاد الشيء ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٥١.

(٢) صحاح اللغة ٦ : ٢٣٣٠ (حمي).

(٣) «أ» : يطيع.

(٤) النحل : ٤٠.

١٩٢

فكما أنّ كلمة «كن» صورة هذه الإرادة ، فكذلك كلمة «التهليل» صورة التوحيد.

والمقصود هو حقيقته ومعناه ، وإنّما نسبت إلى التقوى ؛ لأنّ المقرّ بالصانع وتوحيده بحقيقة الإقرار لا يخالف أمره ، ولا يرتكب متعلّق نهيه.

والتقوى حقيقتها هي التورّع عن معاصي الله.

وبالجملة : «الكلمة» قد تطلق على كلّ واحدة من الماهيّات باعتبار وجودها في الخارج ويقال لها : «الكلمة الوجوديّة» ويطلق عليها بدون هذا الاعتبار «الحرف الغيبيّ» ويطلق على المجرّدات والمفارقات «الكلمة التامّة» ولتفصيل ذلك محلّ آخر.

وفسّرها بعضهم بالبسملة والإقرار بالرسالة.

والمراد بـ «إلزامهم هذه الكلمة» أنّهم لا يفارقونها ، بل هم ثابتون على الإيمان لا ينكثون عهد الله ورسوله فيه ، فهم أحقّ بهذه الكلمة ، ومستأهلين لها.

وقيل : الضمير راجع إلى مكّة ، لأنّهم أهل الله ، فهم أحقّ ببلد فيه بيت الله.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) اللام توطئة للقسم المحذوف ، ووجه التوكيد بالقسم إنكار المنافقين صدق هذه الرؤيا ، فإنّ الله لمّا أرى نبيّه في المنام بالمدينة أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام محلّقين ومقصّرين أخبر بذلك أصحابه ، فلمّا خرج إلى الحديبيّة حسبوا أنّهم يدخلون مكّة في عامهم هذا ، فلمّا

١٩٣

صدّوا عن دخولها قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصّرنا ولا دخلنا المسجد الحرام. وكان غرضهم من ذلك أنّ رؤيا الرسول كانت كاذبة ، فردّ الله عليهم بأنّ رؤياه صادقة البتّة ، وما رآه كائن لا محالة في العام القابل.

وقوله : (بِالْحَقِ) وصف لمصدر محذوف ، أي : صدقا متلبسا بالحقّ ، مطابقا للواقع.

ويحتمل كون «الباء» للقسم ، فهو متّصل بقوله : «لتدخلنّ» ، فهو جواب القسم المذكور ، وعلى الأوّل جواب للمحذوف ، والاعتراض بكلمة الاستثناء لطريان الموت ، أو المرض على بعض المخاطبين ، أو لتعليم العباد ، أو حكاية لقول الملك أو النبي صلّى الله عليه وآله.

ومن المحتمل أن يكون «إن» بمعنى «إذ» كما في قوله : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) (١) وقوله : «إن أذنا قتيبة حزّتا».

و «التحليق» هو إزالة شعر الرأس بالحلق.

و «التقصير» هو قصّ الظفر ، ونحو ذلك ، وهما من مناسك «منى» والمكلّف مخيّر بينهما ، وإن كان الأوّل أفضل ، ولكنّ الثاني متعيّن على المرأة. والتفصيل في الفقه. فالمراد : محلّقا بعضكم ، ومقصّرا آخرون.

وقوله : (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) إشارة إلى أنّ تأخير وقوع تعبير هذه الرؤيا كان لمصلحة لا تعلمونها وكان الله عالما بها ، فالاعتراض على النبيّ صلّى الله عليه وآله من ضعف الإيمان.

__________________

(١) الأعلى : ٩.

١٩٤

والمراد بـ «الفتح القريب» هو فتح خيبر ، أو صلح الحديبية ؛ إذ حصل للمسلمين بهذا الصلح شوكة عظيمة فدخلوا مكّة بها.

وسببها كان اختلاط الفريقين ، وميل كثير إلى الإسلام بما سمعوا من المسلمين من الآيات وأحكام الدين.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) ونحوه في سورة التوبة إلّا أنّه بدّل فيها (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) بقوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (١) والمراد بإظهاره صلّى الله عليه وآله أو إظهار دينه على الاحتمالين في مرجع الضمير المنصوب جعله غالبا على سائر الأديان ؛ بحيث لا يبقى أحد إلّا وهو مؤمن به ، متديّن بدينه.

قال الصادق عليه السلام : والله ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتّى يخرج القائم ، فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله العظيم ، ولا مشرك بالإمام إلّا كره خروجه ، حتّى لو كان كافر أو مشرك في بطن صخرة ، لقالت : يا مؤمن ، في بطني كافر فاكسرني واقتله (٢). انتهى.

وفي رواية عن النبيّ صلّى الله عليه وآله : لا يبقى على وجه الأرض [بيت مدر ولا وبر] (٣) إلّا أدخله الله الإسلام ؛ إمّا بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل ، إمّا يعزّهم فيجعلهم الله من أهله فيعزّوا به ، وإمّا يذلّهم فيدينون له. انتهى.

وقوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) يجري مجرى قوله تعالى في سورة الرعد

__________________

(١) التوبة : ٣٣.

(٢) بحار الأنوار ٥٢ : ٣٢٤ ، كمال الدين وتمام النعمة ٢ : ٦٧٠.

(٣) «ب» : بيت شعر أو وبر.

١٩٥

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(١).

وشهادة الله لنبيّة بالرسالة هو إنزاله الآيات على قلبه ، وإجراؤها على لسانه ، وإجراء المعجزات على يده. وهذه الشهادة كافية لصدقه ، ولا حاجة له إلى شهادة غير الله.

ويمكن أن يكون المراد بها : جعله مرآة لأسمائه وصفاته ؛ كما عرفته.

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) نصّ على شهادته برسالته سواء جعلنا «رسول الله» خبرا عن «محمّد» أو عطف بيان ، أو بدلا عنه ، فيكون خبره «أشدّاء».

وعلى الأوّل فهو خبر «للّذين آمنوا» فالجملة تجري مجرى قوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢) فإنّهم كانوا يحترزون عن ثياب المشركين حتّى لا تلصق بثيابهم ، وعن أبدانهم حتّى لا تمسّ أبدانهم ، ويقتلونهم في الحروب بأشدّ قتلة ؛ وإن كانوا آباءهم أو إخوانهم ، ولكنّهم إذا رأوا مؤمنا صافحوه وعانقوه وأعانوه في جميع أموره تقرّبا إلى الله تعالى ، وطلبا لمرضاته.

و «السيماء» من السوم ؛ كما يظهر من المجمع (٣) ، ولكنّ تفسيرها بالعلامة

__________________

(١) الرعد : ٤٣.

(٢) المائدة : ٥٤.

(٣) انظر : مجمع البحرين ٢ : ٤٥٨ (سوم) ، الكشّاف ٤ : ٣٤٧.

١٩٦

يرشد إلى أنّه من «الوسم» ، و «السمة» وهي العلامة الّتي تحدث في جباههم من كثرة السجود. كذا قيل (١).

وأنت خبير بأنّ هذا التفسير لا ينافي ما ذكر ، فإنّه يقال : سامه : إذا أعلمه. ومن هنا كان يقال لعليّ بن الحسين عليهما السلام : «ذو الثفنات» لأنّه قد ظهر في مواضع سجوده أشباه الثفنات (٢).

وقيل : علامتهم يوم القيامة أن تكون مواضع سجودهم أشدّ بياضا (٣).

وقيل : كالقمر ليلة البدر (٤).

وقيل : هو التراب على الجباه ، لأنّهم يسجدون عليه (٥).

وقيل : هو الصفرة والنحول (٦).

وفي الأخبار الواردة في علائم الشيعة ما يرشد إلى ذلك.

وقرئ بالمدّ أيضا ؛ كما في الحديث : «وسوّمني بسيماء الإيمان» (٧).

وبالجملة : كما يعرف المجرمون بسيماهم وهو سواد الوجه وزرقة العين ، يعرف المؤمنون ببياض الوجه وإشراقه.

(وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) الظاهر إنّ «مثلهم» مبتدأ ، و «كزرع» خبره ؛ يعني أنّ مثلهم في التوراة ما ذكر من أنّ سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، أو هذا مع ما

__________________

(١) انظر : مجمع البحرين ٢ : ٤٥٨ (سوم) ، الكشّاف ٤ : ٣٤٧.

(٢) انظر : مجمع البحرين ٢ : ٤٥٨ (سوم) ، الكشّاف ٤ : ٣٤٧.

(٣) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ١٩٢.

(٤) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ١٩٢.

(٥) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ١٩٢.

(٦) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ١٩٢.

(٧) الأمان : ٤٩.

١٩٧

تقدّم عليه من الشدّة على الكفّار والمرحمة على المؤمنين ، ومثلهم في الإنجيل كزرع ... إلى آخره.

ولكن في بعض التفاسير : إنّ «ومثلهم» عطف على «مثلهم» فتكون خبرا لذلك ؛ يعني أنّ ما ذكر من الأوصاف حالهم ومثلهم في التوراة والإنجيل ، فقوله «كزرع» استئناف لتمثيل على حدة ، أو تفسير لما أبهم في قوله ذلك ؛ بناء على كونه إشارة مبهمة. ولعلّه بعيد ؛ كما لا يخفى.

و «الشطاء» و «الشطأ» و «الشطاء» و «الشطا» و «الشطو» و «الشط» : الفرخ ، وهو الزرع إذا تهيّأ للانشقاق بعد ما يطلع ، ويطلق على السنبل أيضا.

وفي مجمع الطريحيّ : وقد يستعمل الفرخ في كلّ صغير من الحيوان والنبات. وفي الخبر : نهي عن بيع الفروخ بالكيل من الطعام. قيل : المراد بالفروخ : الفروخ من السنبل وهي ما استبان وانعقد حبّه ، وأفرخ الحبّ : إذا تهيّأ للانشقاق (١). انتهى.

وقوله : (فَآزَرَهُ) كآجره من المؤازرة كالمؤاجرة بمعنى : المعاونة ، أو من الإيزار كالإيجار بمعنى : الإعانة.

وقرئ فآزره على كونه مجرّدا ، والجميع بمعنى : التقوية والإعانة ؛ أي فقوي الزرع ، [أو الله شطأه وأفراخه] (٢) فلحقت الأمّهات حتّى صارت مثلها.

قوله : (فَاسْتَغْلَظَ) ؛ أي فصار هذا الزرع أو هذا الشطأ غليظا بعد أن كان دقيقا.

__________________

(١) مجمع البحرين ٣ : ٣٧٨ (فرخ).

(٢) كذا في النسختين.

١٩٨

قوله : (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) ؛ أي فقام على أصوله ، والسوق جمع الساق وهو قصب الشجر والزرع.

قوله : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) ؛ أي يروع ويحسن في نظره ، لقوّته وغلظه وحسن منظره.

وهذا مثل ضربه الله للنبيّ وأصحابه ، فالزرع هو محمّد صلّى الله عليه وآله والشطأ أصحابه المؤمنون الّذين حوله المربّون بتربيته ، وقد كانوا في بدو الأمر في غاية الضعف والقلّة ومحلّ الأذى من الكفّار ، فتقوّوا واشتدّوا تدريجا بتلاحق المؤمنين وتعاونهم وازديادهم يوما فيوما ، فاستغلظوا واستقاموا على أمرهم ، وزاد شوكتهم وقوّتهم في ترويج الدين ، فكفّ عنهم أيدي الكفّار ، فشابهوا الزرع حيث إنّه كان في أوّل طلوعه وبروزه دقيقا ضعيفا يزعجه أدنى ريح ، ثمّ صار قويّا غليظا.

وروي أنّه مكتوب في الإنجيل : إنّه يخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وهذا ممّا يؤيّد الوقف بين المثلين ؛ كما ذكرناه. فافهم.

قوله : (لِيَغِيظَ) ؛ أي قوّيناهم ونصرناهم حتّى بلغ أمرهم هذا المبلغ لغيظ الكفّار واشتعال أكبادهم بنار الغضب ، فيكون هذا لهم عذابا معجّلا في الدنيا قبل عذاب الآخرة. ويمكن أن يكون تعليلا للتمثيل المذكور ؛ أي شبّهناهم بالزرع لإغاظة الكفّار.

وقيل : إنّه تعليل مقدّم لقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ... إلى آخره فإنّ الكفّار يغيظون بسماع هذا الوعد.

١٩٩

والمراد بالّذين آمنوا هم الّذين ثبتوا على الإيمان ، وأقاموا على الطاعة في عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وفيما بعد وفاته إلى أن ماتوا. ولذا قال «منهم».

و «من» للتبعيض ، فإنّ من هؤلاء الصحابة من لم يف بعهد الرسول بل خالفه ، وردّ عليه في قوله صلّى الله عليه وآله : من كنت مولاه فعليّ مولاه (١). فهذا الوعد لا يشمل جميعهم. كيف وقد ورد أنّ الناس ارتدّوا بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله إلّا ثلاثة أو أربعة (٢).

وفي بعض التفاسير : إنّ «منهم» للبيان وهو كما ترى تعصّب ضعيف البنيان.

والحاصل : أنّ هذا الوعد مخصوص بمن صدّق بجميع ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وآله لسانا وقلبا ؛ مع امتثاله جميع أوامره ونواهيه ، ثابتا على ذلك إلى آخر عمره ، وأمّا غيره ففيه عرق من الكفر.

توضيح ذلك على ما يستفاد من بعض أكابر المحدّثين في رسالته الّتي ألّفها في تحقيق معنى الإيمان والكفر : أنّ الناس على صنفين :

الأوّل : من لم تصل إليه الدعوة النبويّة ولو في بعض الأمور لعدم سماعه أو لعدم فهمه ، وهذا وإن كان كافرا كفر جهالة ، إلّا أنّه من المستضعفين الّذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (٣) ، فإن كان مقصّرا عوقب على

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٨٧.

(٢) إشارة إلى أحاديث منها ما في البحار ٦٧ : ١٦٤.

(٣) إشارة إلى الآية ٩٨ من سورة النساء.

٢٠٠