تفسير ستّ سور

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

تفسير ستّ سور

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-3-3
الصفحات: ٤٨٥

وقد يقال : إنّ الآية تفيد الحصر وهو كما ترى ، ضرورة أنّ كلّ ما يعطي الله عبده من رزق وغيره فهو من فضله تعالى عليه ، وإلّا فالعبد من حيث هو لا يستحقّ شيئا كما فصّلناه في محلّ آخر.

وقد روى الطبرسيّ رحمه الله في المجمع : أنّه جاء الفقراء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا : يا رسول الله ، إنّ للأغنياء ما يتصدّقون وليس لنا ما نتصدّق ، ولهم ما يحجّون وليس لنا ما نحجّ ، ولهم ما يعتقون وليس لنا ما نعتق؟ فقال صلّى الله عليه وآله : من كبّر الله مائة مرّة كان أفضل من عتق رقبة ، ومن سبّح الله مائة مرّة كان أفضل من مائة فرس في سبيل الله يسرجها ويلجمها ، ومن هلّل الله مائة مرّة كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم ، إلّا من زاد. فبلغ ذلك الأغنياء فقالوه ، فرجع الفقراء إلى النبي صلّى الله عليه وآله فقالوا : يا رسول الله ، قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه؟ فقال صلّى الله عليه وآله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) (١) انتهى. فيستفاد منه أنّ الفضل لا ينحصر في الرسالة ، فليتأمّل.

و «المثل» في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بمعنى الحال والصفة ، كما في قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (٢) وقوله : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) (٣).

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

(٢) الرعد : ٣٥ ، ومحمّد : ١٥.

(٣) الأعراف : ١٧٦.

٢٤١

ويستعمل «المثل» بالكسر والسكون في هذا المعنى أيضا ، وبالعكس ، فيراد بـ «المثل» الشبيه بالآخر في صفة من الصفات ، وكيف كان فقد شبّه الله حال علماء اليهود الّذين عرفوا صفات النبيّ صلّى الله عليه وآله المبعوث عليهم من التوراة ، كما عرفوا أبناءهم ، فأنكروه تعصّبا وحسدا من أنفسهم بحال الحمار الغير المنتفع بما عليه من الأسفار ، قال الله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (١).

قال الرازيّ : اعلم أنّه تعالى بعد أن أثبت التوحيد والنبوّة وبيّن في النبوّة أنّه صلّى الله عليه وآله بعث إلى الأمّيّين ، واليهود لمّا أوردوا تلك الشبهة ، وهي أنّه صلّى الله عليه وآله بعث إلى العرب خاصّة ولم يبعث إليهم بمفهوم الآية ، أتبعه الله بضرب المثل للّذين أعرضوا عن العمل بالتوراة والإيمان بالنبيّ صلّى الله عليه وآله ، والمقصود منه أنّهم لمّا لم يعملوا بما في التوراة شبّهوا بالحمار ، لأنّهم لو عملوا بمقتضاها لا نتفعوا بها ولم يوردوا تلك الشبهة ، وذلك لأنّ فيها نعت الرسول صلّى الله عليه وآله والبشارة بمقدمه ، والدخول في دينه ، وقوله (حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي حمّلوا العمل بما فيها ، وكلّفوا القيام بها (٢). انتهى.

وفي الكشّاف : شبّه اليهود ـ في أنّهم حملة التوراة وقرّاؤها وحفّاظ ما فيها ، ثمّ إنّهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها ، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله صلّى الله عليه وآله والبشارة به ولم يؤمنوا به ـ بالحمار حمل أسفارا ، أي

__________________

(١) البقرة : ٨٩.

(٢) التفسير الكبير ٣٠ : ٥.

٢٤٢

كتبا كبارا من كتب العلم ، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلّا ما يمرّ بجنبيه وظهره من الكدّ والتعب ، وكلّ من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله وبئس المثل (١). انتهى.

وقال الأصمعيّ : إنّ الأسفار جمع السفر ، وهو الكتاب الكبير ، لأنّه يسفر عن المعنى إذا قرئ ، ونظيره شبر وأشبار ؛ شبّه اليهود ـ إذا لم ينتفعوا بما في التوراة ، وهي دالّة على الإيمان لمحمّد صلّى الله عليه وآله ـ بالحمار الّذي يحمل الكتب العلميّة ولا يدري ما فيها. انتهى.

وقوله «يحمل» جملة حاليّة ، فهي في محلّ النصب ، وقد يقال : إنّها وصفيّة في محلّ الجرّ.

واعترض عليه باشتراط التنكير في الموصوف بالجمل ، فإنّها نكرات ، وردّ بأنّ «اللام» في الحمار للجنس ، وهو نكرة كما في قوله :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

والحقّ جواز الوجهين.

و «اللام» في «القوم» إمّا للعهد الذكريّ وإمّا للجنس ، فالمخصوص بالذمّ محذوف ، أي مثلهم. وقد يقال : إنّ التقدير «بئس مثلا مثل القوم» كما في قولهم : «نعم رجلا زيد» فالمقصود أنّ كلّ من يحمل كلام الله ثمّ لا يعمل به فهو كالحمار.

وقد يقال : إنّ تشبيه العالم بالحمار سيّما في حمل الأسفار ليس من باب التحقير للعالم من حيث عدم عمله بعلمه ، بل من حيث عدم مبالاته وعدم قبوله الحقّ ، وبجهله مع كمال علمه ومعرفته ، كما شبّه الله بالأنعام كلّ من لم

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٥٣٠.

٢٤٣

يتعدّ نظره عن ظهور هذه الأجسام إلى عالم التدبّر في توحيده ، ولم يرتق فكره عن عمارة هذه الهياكل والأبدان إلى عالم التصديق من حيث الدليل والبرهان في إثبات صفاته الجلاليّة والكماليّة ، حيث قال : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) ... (١) إلى طريق الحقّ لشؤم سيرتهم الفاسدة ، وخبث سريرتهم الخاسرة.

ومورد الآية وإن خصّ بعلماء اليهود ، ولكنّ المناط ـ وهو عدم العمل بالعلم ـ يعمّ جميع علماء السوء الّذين يتركون العمل بما يعلمون ، وقد تواترت الأخبار بذمّهم من طرق الفريقين ، ولا يخفى أنّ توفيق العمل بالعلم أيضا من فضل الله يؤتيه من يشاء ، كما أنّ نفس العلم أيضا كذلك إذا كان المعلوم من علوم الآخرة ، فلا يؤتى إلّا من عمل صالحا وتزكّى بالرياضات الشرعيّة ، وقد أحسن من قال :

شكوت إلى [وكيع سوء] (٢) حفظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال : اعلم بأنّ العلم فضل

وفضل الله لا يؤتاه عاص

وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إشارة إلى أنّ هؤلاء الّذين أخبروا برسالة هذا النبيّ صلّى الله عليه وآله في التوراة فأنكروه بعد بعثه ،

__________________

(١) الأعراف : ١٧٩.

(٢) في الأصل : الوكيع قلّة.

٢٤٤

فهم قد ظلموا أنفسهم وعلم الله بشقاوتهم من الأزل ، فلا يتوقّع إيمانهم حيث لا يفعل الله بهم من الألطاف التّي يفعلها بالمؤمنين الّذين بها يهتدون إلى الحقّ ، أولا يهديهم إلى الجنّة ، فإنّ طريقها منحصرة في الإيمان بهذا النبيّ الأمّيّ العربيّ الناسخ بشريعته جميع الشرائع السالفة ، ويمكن حمل الآية على العموم نظرا إلى الظاهر من إفادة الجمع المحلّى بـ «اللام» له ، إذا لم يكن للعهد ، فتأمّل.

وفي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) إشارة إلى أنّ المدّعي لا يقبل قوله بمجرّد الدعوى ، بل لا بدّ له من إقامة البيّنة عليها ، ودعوى محبّة الله وولايته من أعظم الدعاوى وأعلاها وأصعبها ، فكيف يصغى إليها بمجرّد القول والتدليس؟!

قال في «مصباح الشريعة» : ومن ادّعى فيما لا يحلّ له فتح عليه أبواب البلوى ، والمدّعي يطلب بالبيّنة لا محالة وهو مفلس فيفتضح (١).

وفي الديوان العلويّ :

لا تخدعنّ فللمحبّ دلائل

ولديه من نجوى الحبيب رسائل

منها تنعّمه بما يبلى به

 وسروره في كلّ ما هو فاعل

فالمنع منه عطيّة معروفة

 والفقر إكرام ولطف عاجل

 ومن الدلائل أن يرى متحفّظا

متقشّفا في كلّ ما هو نازل

 ومن الدلائل أن تراه مشمّرا

في غرقيين على شطوط الساحل

__________________

(١) مصباح الشريعة : ٢٠٠.

٢٤٥

 ومن الدلائل زهده فيما يرى

من دار ذلّ والنعيم الزائل

 ومن الدلائل أن يرى من عزمه

طوع الحبيب وإن ألحّ العاذل

 ومن الدلائل أن يرى من شوقه

مثل السقيم وفي الفؤاد غلائل

 ومن الدلائل أن يرى من أنسه

مستوحشا من كلّ ما هو شاغل

 ومن الدلائل أن يرى متبسّما

 والقلب فيه مع الحنين بلابل

 ومن الدلائل ضحكه بين الورى

 والقلب محزون كقلب الثاكل

 ومن الدلائل أن يرى متمسّكا

بسؤال من يحظى لديه السائل

 ومن الدلائل أن تراه مسافرا

نحو الجهاد وكلّ فعل فاضل

 ومن الدلائل أن تراه باكيا

إن قد رآه على قبيح عاقل

 ومن الدلائل أن تراه مسلّما

كلّ الملوك إلى المليك العادل

وعن الصادق عليه السلام : حبّ الله إذا أضاء على سرّ عبد أخلاه من كلّ شاغل ، وكلّ ذكر سوى الله عنده ظلمة ، والمحبّ أخلص الناس سرّا ، وأصدقهم قولا ، وأوفاهم عهدا ، وأزكاهم عملا ، وأصفاهم ذكرا ، وأعبدهم نفسا ، تتباهى الملائكة عنده مناجاته ، وتفتخر برؤيته ، وبه يعمر الله بلاده ، وبكرامته يكرم الله عباده ، ويعطيهم إذا سألوه بحقّه ، ويدفع عنهم البلايا برحمته ، فلو علم الخلق ما محلّه عند الله ومنزلته لديه ما تقرّبوا إلى الله إلّا بتراب قدميه ... (١) إلى آخره. انتهى.

ولا ريب أنّ من علامات محبّة الله الاشتياق إلى الموت ، فإنّ فيه لقاء الله ، ومن أحبّ الله أحبّ لقاءه ، ومن أحبّ لقاءه أحبّ الموت ، ومن هنا قال عليّ

__________________

(١) مصباح الشريعة : ١٩٢.

٢٤٦

عليه السلام : والله لابن أبي طالب أشوق إلى الموت من الطفل إلى ثدي أمّه (١).

وروي أنّه عليه السلام يطوف بين صفّين في غلالة ، فقال له ابنه الحسن عليه السلام : ما هذا بزيّ المحاربين ، فقال : يا بنيّ لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت (٢).

وروي أنّه كان الحسين عليه السلام وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم ، وتهدأ جوارحهم ، وتسكن نفوسهم ، فقال بعضهم لبعض : انظروا إليه فلا يبالي بالموت؟ فقال عليه السلام : صبرا يا بني الكرام ، فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة ، والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ، وهؤلاء أعداؤكم كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، إنّ أبي حدّثني بذلك عن جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله : أنّ الدنيا سجن المؤمن ، وجنّة الكافر (٣) ، فالموت جسر هؤلاء إلى جنانهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، ما كذبت ولا كذّبت (٤). انتهى.

وعن عليّ بن الحسين عليهما السلام : ما الموت للمؤمن إلّا كنزع ثياب وسخة قملة ، وفكّ قيود وأغلال ثقيلة ، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح ، وأوطأ المراكب ، وآنس المنازل ، وللكافر كخلع ثياب فاخرة والنقل

__________________

(١) نهج البلاغة : ٥٢ الخطبة ٥.

(٢) نهج البلاغة : ٩١ الخطبة ٥٥.

(٣) الفقيه ٤ : ٣٦٢.

(٤) معاني الأخبار : ٢٨٨.

٢٤٧

من منازل أمينة (١) والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها ، وأوحش المنازل ، وأعظم العذاب (٢).

وروي أنّه قيل لمحمّد بن عليّ الرضا عليه السلام : ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت؟ قال : لأنّهم جهلوه فكرهوه ، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عزّ وجلّ حقّا لأحبّوه ، ولعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا.

ثمّ قال : يا [أبا] عبد الله ، ما بال الصبيّ والمجنون يمتنع من الدواء المشفي لبدنه والنافي للألم عنه؟ فقال : لجهلهم بنفع الدواء ، قال عليه السلام : والّذي بعث محمّدا بالحقّ! إنّ من استعدّ للموت حقّ الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء ، وهذا التعالج ، إنّهم لو علموا ما يؤدّي إليه الموت من النعيم لاستدعوه أشدّ استدعاء (٣).

وروي أنّه عليه السلام دخل على مريض من أصحابه وهو يبكي ويجزع من الموت ، فقال له : يا عبد الله ، تخاف الموت لأنّك لا تعرفه ، أرأيتك إذا وسخت وتقذّرت ما عليك من الوسخ والقذارة وأصابك آكلة وقرح وجرب أما تريد أن تدخل حمّاما فتغسل ذاك عنك ، أو ماء في حمّام يزيل عنك ذلك كلّه ، أو تكره أن لا تدخله فيبقى عليك؟ فقال : بلى يا ابن رسول الله. قال : فذلك الموت ، وهو ذلك الحمّام ، وهو آخر ما يبقى عليك من تمحيص ذنوبك وينقّيك من سيّئاتك ، فإذا أنت وردت عليه وجاوزته

__________________

(١) في المعاني : أنيسة.

(٢) معاني الأخبار : ٢٨٩.

(٣) معاني الأخبار : ٢٩٠.

٢٤٨

نجوت من كلّ همّ وغمّ وأذى إلى سرور وفرح. فسكن الرجل ونشط واستسلم وغمّض عين نفسه ومضى لسبيله (١).

وبالجملة : الأخبار في هذا الباب متكاثرة متظافرة ، بل متواترة ، فيكون تمنّي الموت والتخلّص عن العلائق الجسمانيّة والأغلال والسلاسل المرتّبة على الحياة الدنيويّة من الدلائل الواضحة على محبّة الله وكمال معرفته ، ومن هنا لمّا ادعت اليهود أنّهم أحبّاء الله وأولياؤه ، وأنّ الجنّة خالصة لهم ، وأنّ الله لا يعذّبهم ، ولو عذّبهم لكان ذلك في أيّام معدودات ؛ كما أخبر الله بذلك كلّه عنهم في كتابه ردّ الله عليهم وكذّبهم في هذه السورة بما عرفته ، وفي سورة «البقرة» بقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٢).

فإن قلت : قد ورد النهي عن تمنّي الموت ، فقد روى الشيخ في «أماليه» بإسناده عن أمّ الفضل قالت : دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله على رجل يعوده وهو شاكّ فتمنّى الموت ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لا تتمنّ الموت فإنّك إن تك محسنا تزداد حسنا إلى إحسانك ، وإن تك مسيئا فتؤخّر لتستعتب (٣). انتهى.

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢٩٠.

(٢) البقرة : ٩٤ ـ ٩٦.

(٣) الأمالي ، للطّوسي : ٣٨٥.

٢٤٩

وروي في بعض كتب العامّة : إنّ رسول الله قال : لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به ، وإن كان ولا بدّ فليقل : اللهمّ أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وأمتني ما كانت الوفاة خيرا لي (١). انتهى.

فالمنهيّ عنه كيف يصلح أن يكون دليلا على محبّة الله وولايته؟!

قلت : بعد الغضّ عن ضعف سند الخبرين ومخالفتهما لظاهر القرآن ، أنّ تمنّي الموت على قسمين :

أحدهما : أن يكون للاشتياق إلى الدار الآخرة ، والوصول إلى لقاء الحقّ ، والجلوس على بساط قربه ، كما هو غاية آمال المشتاقين ، ومنتهى أماني العارفين ، وقد قال الله في «الحديث القدسيّ» : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر (٢). وهذا التمنّي ممدوح.

وثانيهما : أن يكون من باب الجزع وترك الصبر على مصائب الدنيا ، وعدم الرضا بالقضاء والتسليم لأمر الله وقدره ، كما هو الغالب في الناس. ومن هنا قال الشاعر :

ألا موت يباع فأشتريه

فهذا العيش ما لا خير فيه

ألا رحم المهيمن روح عبد

تصدّق بالوفاة على أخيه

وهذا التمنّي مذموم ، والنهي محمول عليه.

فإن قلت : قد ذكرت أنّ أولياء الله يتمنّون الموت ولا يكرهونه بقلوبهم ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٩ : ١٧٦.

(٢) عوالي اللئالي ٤ : ١٠١.

٢٥٠

بل يشتاقون إليه ، فما الوجه فيما رواه في «الكافي» عن أبان بن تغلب ، عن أبي جعفر : قال : لمّا أسري بالنبيّ صلّى الله عليه وآله قال : يا ربّ ، ما حال المؤمن عندك؟

قال : يا محمد ، من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، وما تردّدت في شيء [أنا فاعله] كتردّدي في وفاة المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلّا الغنى ، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك ... (١) إلى آخره. وقريب منه روايات اخر.

ففي رواية حمّاد بن بشير ، عن الصادق عليه السلام : وما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي عن موت المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته (٢).

وفي رواية معلّى بن خنيس عنه عليه السلام : قال الله عزّ وجلّ : من استذلّ عبدي المؤمن فقد بارزني بالمحاربة ، وما تردّدت في شيء أنا فاعله تردّدي في عبدي المؤمن ، أنا أحبّ لقاءه فيكره الموت ، فأصرفه عنه ، وإنّه ليدعوني في الأمر فأستجيب له بما هو خير له (٣). انتهى.

فهذه الروايات صريحة في أنّ المؤمن يكره الموت ، والموت لقاء الله ، فيلزم منه أنّه سبحانه يكره لقاءه ، لما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ، أنّه قال : من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه (٤). وهذا

__________________

(١ و ٢) الكافي ٢ : ٣٥٢.

(٣) الكافي ٢ : ٣٥٤.

(٤) مصباح الشريعة : ١٧١.

٢٥١

ينافي كونه مؤمنا كما لا يخفى.

قلت : ليس في هذه الأخبار أنّ المؤمن يكره لقاء الله ، وإنّما المذكور فيها أنّه يكره الموت ، والموت ليس نفس لقاء الله ، بل هو موصل إليه.

قال المحقّق النراقيّ رحمه الله في «مشكلات العلوم» : فكراهته من حيث الألم الحاصل منه لا تستلزم كراهة لقاء الله. انتهى. توضيحه : أنّ الموت من حيث اشتماله على الآلام والسكرات يكرهه الإنسان بطبعه ، والمكره بالطبع قد يكون مطلوبا محبوبا بالنظر إلى فائدته وخاصيّته المرتّبة عليه كالفصد والحجامة ، فإنّهما في ذاتهما مؤلمان لا يلائمان طبع الإنسان ، ولكنّهما مطلوبان للعاقل يعطي بإزائهما أجرة ، لأنّهما يدفعان ما ببدنه من المرض ، وإن كان الأطفال والمجانين يهربون من الفصّاد والحجّام ، ويجزعون من عملهما ، وكذا حال المؤمن ، فإنّه بحسب طبعه الحيوانيّ يتألّم من سكرات الموت ، وأمّا بحسب رتبة الإيمان فهو مشتاق إلى الموت ، لكونه وسيلة إلى الوصول إلى لقاء الحقّ.

قال المحدّث الكاشانيّ في «الوافي» : فكراهة الموت لا تنافي لقاء الله ، مع أنّه قد ورد : أنّ حال الاحتضار يحبّب الله إلى المؤمن لقاءه حتّى يشتاق إلى الموت ، انتهى.

ويحتمل أن يكون الضمير المنصوب في قوله «فأصرفه عنه» راجعا إلى ألم الموت لا نفس الموت ، وفي «المشكلات» : إنّ كراهة الموت غير موقّت بوقت ، وكذا حبّ لقاء الله ، فيحمل الأوّل على ما قبل الاحتضار وعدم مشاهدته ما أعدّ الله له من النوازل الرفيعة ، والنعم الكثيرة ، والثاني على حال

٢٥٢

الاحتضار ومعاينته ما يحبّ ، ويحمل كراهة لقاء الله على هذه الحالة لغير المؤمن ، فإنّه يعاين ما يسوؤه فيكره الموت. انتهى ، فتأمّل.

وعلى هذه الأخبار سؤال آخر ، وهو أنّ التردّد لا يجوز إلّا على الجاهل ، فلا معنى لتردّد الله سبحانه؟

وقد أجيب عنه تارة بأنّ المراد تردّد الملائكة الموكّلين على الموت.

وأخرى : بأنّ في الكلام إضمارا ، فإنّ التقدير : ما تردّدت لو جاز لي التردّد.

وثالثة : بأنّ في الكلام استعارة تمثيليّة عن الإكرام والاحترام.

ورابعة : بأنّ المراد تشبيه ما يظهره الله للمؤمن عند احتضاره من اللطف والإكرام والبشارة ، بحيث يزيل عنه كراهة الموت بمعاملة من يريد أن يؤلّم حبيبه بما يترتّب عليه منافع عظيمة فيتردّد في فعله ، وفي بعض هذه الوجوه ما لا يخفى ، ولسنا نحن الآن بصدد شرح هذا المطلب ، وإنّما أشرنا إليه استطرادا ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه.

فنقول : لا ريب في أنّ الوليّ لله المحبّ له شائق إلى لقائه ، فلا يكره الموت ، بل يتمنّاه ، فاليهود المدّعون لهذا المقام الّذين لا يتمنّون الموت أبدا كاذبون في هذه الدعوى ، قال عيسى ابن مريم عليه السلام : ويلكم يا عبيد الدنيا ، من أجل نعمة زائلة وحياة منقطعة تفرّون من الله وتكرهون لقاءه ، فكيف يحبّ الله لقاءكم وأنتم تكرهون لقاءه؟! فإنّما يحبّ الله لقاء من يحبّ لقاءه ، وكيف تزعمون أنّكم أولياء الله من دون الناس وأنتم تفرّون من الموت وتعتصمون بالدنيا؟! فماذا يغني عن الميّت طيب ريح حنوطه ،

٢٥٣

وبياض أكفانه ، وكلّ ذلك في التراب ، كذلك لا يغني عنكم بهجة دنياكم الّتي زيّنت لكم وكلّ ذلك إلى سلب وزوال ، ماذا يغني عنكم نقاء أجسادكم وصفاء ألوانكم وإلى الموت تصيرون ، وفي التراب تنسون ، وفي ظلمة القبر تغمرون ... (١) إلى آخره. انتهى.

وفي تفسير «حقائق القرآن» بعد ذكر الآية : جرّب الله تعالى شأنه المدّعين في محبّته بالموت ، وأفرز الصادقين من بينهم لما غلب عليهم من شوق الله وحبّ الموت ، فتبيّن صدق الصادقين هاهنا من كذب الكاذبين ؛ إذ الصادق يختار اللحوق إليه ، والكاذب يفرّ منه. قال صلّى الله عليه وآله : من أحبّ لقاء الله ... (٢) إلى آخره.

قال الجنيد : المحبّ يكون مشتاقا إلى مولاه ، فهو يتمنّى الموت أبدا وذلك قوله : (إِنْ زَعَمْتُمْ) ... إلى آخره. انتهى.

لا يقال : إنّ الموت عدم والعاقل لا يختار العدم على الوجود.

لأنّا نقول : أوّلا نمنع كونه عدما ، لأنّ الله نصّ في كتابه بأنّه (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ) (٣).

وقال الباقر عليه السلام : الحياة والموت خلقان من خلق الله ، فإذا جاء الموت فدخل في الإنسان لم يدخل في شيء إلّا وقد خرجت منه الحياة (٤).

وثانيا : إنّ الحياة الحقيقيّة في هذا الموت كما قيل :

__________________

(١) تحف العقول : ٥٠٥.

(٢) مصباح الشريعة : ١٧١.

(٣) الملك : ٢.

(٤) الكافي ٣ : ٢٥٩.

٢٥٤

إذا شئت أن تحيا فمت عن علائق

عن الحسّ خمسا ثمّ عن مدركاتها

وقال بعضهم :

اقتلوني يا ثقاتي إنّ في قتلي حياتي

 ومماتي في حياتي وحياتي في مماتي

وفي التنزيل :

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١).

وفي الحديث : إنّما خلقتم للبقاء لا للفناء (٢). فالفاني من الإنسان هو جسده وبدنه لا نفسه وحقيقته ، بل قيل : إنّ الضمير في قوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٣) راجع إلى نفس الشيء ، يعني : إنّ كلّ شيء فان سوى حقيقته.

وبالجملة : لا تكون الحياة الدنيويّة الزائلة أشرف من الموت الّذي هو قنطرة إلى الحياة الأبديّة الباقية.

وقد حكى بعض أنّه رأى شابّا مغلو لا ينظر إلى السماء ويبكي ويقول بعد جملة من الكلمات : آه آه من حيّ يحسد الأموات ، آه آه من حياة شرّ من الممات ، فويل ثمّ ويل لي ، وطوبى ثمّ طوبى لإخواني الّذين لم يخلقوا ، وهنيئا لأقربائي الّذين لم يوجدوا واستراحوا في فسحة العدم من تعب الحياة ؛ فقلت : يا مجنون ، ألم تعلم أنّ الوجود أشرف من العدم؟ فقال : هل خلوت منذ خلقت عن مكاره الدنيا؟ قلت : لا. قال : فهل أنت على يقين

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩.

(٢) غرر الحكم : ١٣٣.

(٣) القصص : ٨٨.

٢٥٥

بالنجاة عن عقاب العقبى؟ قلت : لا. قال : ويحك يا مطرود ، فأيّ شرف في هذا الوجود؟ أنت بهذا الفهم عاقل ، وأنا مع هذه اليقظة غافل؟!

قوله : «هادوا» أي صاروا يهودا كـ «تهوّدوا» ، واليهود على ما قيل تنسب إلى يهوذا بن يعقوب.

وقيل : من «هاد» «يهود» ، إذا سكن ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) (١) أي سكنّا إلى أمرك.

وقيل : من «هاد» بمعنى «تاب» ورجع ، ولمّا قال قوم موسى هذا القول ، سمّوا باليهود.

وفي «مجمع الطريحيّ» : اليهود قوم موسى ، وهو اسم جنس لا ينصرف للعلميّة والتأنيث ، لأنّه يجري في كلامهم مجرى القبيلة (٢).

قال الزمخشريّ : والأصل في «يهود» ومجوس أن يستعملا بغير «لام» التعريف ، لأنّهما علمان خاصّان لقومين كقبيلتين ، وإنّما جوّزوا تعريفهما بـ «اللام» لأنّه أجري يهودي ويهود مجرى شعيرة وشعير (٣). انتهى.

و «الزعم» يستعمل في الظنّ وفي الاعتقاد مطلقا سواء كان المعتقد حقّا أو باطلا ، إلّا أنّ استعماله في الثاني أغلب ؛ كما في قوله : (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ) (٤) وقوله : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) (٥).

وعن الأزهريّ : إنّ أكثر ما يكون «الزعم» فيما يشكّ ولا يتحقّق.

__________________

(١) الأعراف : ١٥٦.

(٢ و ٣) مجمع البحرين ٤ : ٤٤٢ (هود).

(٤) الأنعام : ١٣٦.

(٥) التغابن : ٧.

٢٥٦

وعن المرزوقيّ : إنّ أكثر ما يستعمل فيما كان باطلا وفيه ارتياب.

وقيل : إنّ «زعم» مطيّة الكذب.

وقيل : إنّه خبر لا يدرى أحقّ هو أم باطل.

وروي أنّ كلّ زعم في القرآن كذب. فليتأمّل.

و «لن» و «لا» للنفي ، إلّا أنّ «لن» في سورة «البقرة» لتأكيد النفي أو تأبيده ، وقد صرّح بالتأبيد في الآيتين فلا منافاة.

و «الباء» في «بما قدّمت» للسببيّة.

و «ما» موصوليّة حرفيّة أو اسميّة ، فيرجع المعنى إلى أنّ عدم تمنّيهم للموت لعدم اطمئنانهم بالنجاة من النار ، حيث ارتكبوا أعمالا سيّئة تنافي دعواهم المحبّة والولاية.

قال في «الكشّاف» : وقد قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله : والّذي نفسي بيده ، لا يقولها أحد منكم إلّا غصّ بريقه ، فلو لا أنّهم كانوا موقنين بصدق رسول الله صلّى الله عليه وآله لتمنّوا ، ولكنّهم علموا أنّهم لو تمنّوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد ، فما تمالك أحد منهم أن يتمنّى ، وهو أحدى المعجزات (١) ، انتهى.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) برهان على صدق قوله (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) فإنّ التمنّي أمر قلبيّ باطنيّ ، وعلمه تعالى بالسرائر ممّا لا يصحّ إنكاره لمن اعتقد بوجود الصانع تعالى ، وإنّما لم يقل «بهم» ووضع الظاهر مقام الضمير للإيماء إلى أنّ هؤلاء قد ظلموا رسول الله صلّى الله عليه وآله في كتمانهم ما

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٥٣١.

٢٥٧

عرفوه بقلوبهم من النبوّة والرسالة ، ففي ذلك تهديد لهم بأنّ الله يعذّبهم العذاب المعدّ للظالمين ، وقد قال : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) (١) إلى آخره.

وقوله : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تهديد آخر وتصريح بأنّ الفرار من الموت لا ينفعهم أصلا كما يشاهدونه ، وقد قال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٢) وقال : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (٣) وقال : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٤) وقال عليّ عليه السلام :

أشدد حياز يمك للمو

ت فإنّ الموت لاقيكا

 ولا تجزع من المو

ت إذا حلّ بواديكا (٥)

وقال أيضا :

تزوّد من الدّنيا فإنّك راحل

 وبادر فإنّ الموت لا شكّ نازل (٦)

وقال أيضا :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

 واستنزلوا بعد عزّ عن معاقلهم

إلى مقابرهم يا بئس ما نزلوا

__________________

(١) الكهف : ٢٩.

(٢) آل عمران : ١٨٥ ، والأنبياء : ٣٥ ، والعنكبوت : ٥٧.

(٣) النساء : ٧٨.

(٤) الأعراف : ٣٤ ، والنحل : ٦١.

(٥) ديوان الإمام عليّ عليه السلام : ٣٠٨.

(٦) ديوان الإمام عليّ عليه السلام : ٣١٥.

٢٥٨

ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا

أين الأسرّة والتيجان والحلل

أين الوجوه الّتي كانت محجّبة

من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود ينتقل

قد طال ما أكلوا فيها وقد شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا

 وطال ما كنزوا الأموال وادّخروا

فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا

 وطال ما شيّدوا دورا لتحصنهم

ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

أضحت مساكنهم وحشا معطّلة

 وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا (١)

إلى آخر الأبيات المذكورة في «الديوان العلويّ».

وقد حكى «ابن خلّكان في تاريخه» : إنّه قد سعي بعليّ بن محمّد الجواد عليهما السلام إلى المتوكّل العبّاسيّ وقيل له : إنّ في منزله سلاحا وكتبا وغيرها من شيعته ، وأوهموه أنّه يطلب الأمر لنفسه ، فوجّه إليه بعدّة من الأتراك ليلا فهجموا عليه في منزله على غفلة ، فوجدوه وحده في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر ، وعلى رأسه ملحفة من صوف ، وهو مستقبل القبلة يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد ، وليس بينه وبين الأرض بساط إلّا الرمل والحصى ، فأخذ على هذه الصورة الّتي وجد عليها ، وحمل إلى المتوكّل في جوف الليل ، فمثل بين يديه والمتوكّل يستعمل الشراب وفي يده كأس ، فلمّا رآه أعظمه وأجلسه إلى جانبه ، فناوله الكأس الّتي كانت بيده ، فقال عليه السلام : يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قطّ ، فأعفني عنه! فأعفاه وقال : أنشدني شعرا أستحسنه ، فقال : إنّي لقليل الرواية في

__________________

(١) ديوان الإمام عليّ عليه السلام : ٣٢١.

٢٥٩

الشعر ، فقال : لا بدّ أن تنشدني شيئا ، فأنشده هذه الأبيات ، فأشفق كلّ من حضر على عليّ بن محمّد عليه السلام فبكى المتوكّل بكاء طويلا حتّى بلّت دموعه لحيته ، وبكى من حضره ، وأمر برفع الشراب ، ثمّ قال : يا أبا الحسن ، أعليك دين؟ قال : نعم ؛ أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه وردّوه إلى منزله مكرّما (١).

وحكى قريبا من ذلك القزوينيّ في «حياة الحيوان»والسيّد هاشم في«مدينة المعاجز».

قوله : ثمّ يردّون (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي يرجعون إلى الله الّذي يعلم ما هو غيب عندكم ، وما هو مشهود لديكم ، وإلّا فالغيب والشهادة عنده سواء.

قوله : (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ) إلخ ؛ أي يخبركم بعواقب أعمالكم ، ومساوئ أفعالكم ، فويل لمن نسي ذلك اليوم فلم يتدارك ذنوبه بالتوبة ، ولم يحاسب نفسه من قبل أن تحاسب.

قال المسيح عليه السلام : يا علماء السوء ، لا تحدّثوا أنفسكم أنّ آجالكم يستأخر من أجل ، أنّ الموت لم ينزل بكم ، فكأنّه قد حلّ بكم فأطعنكم ، فمن الآن فاجعلوا الدعوة في آذانكم ، ومن الآن فنوحوا على أنفسكم ، ومن الآن فابكوا على خطاياكم ، ومن الآن فتجهّزوا وخذوا أهبتكم وبادروا التوبة إلى ربّكم ، بحقّ أقول لكم ؛ إنّه كما لا ينظر المريض إلى طيب الطعام فلا يلتذّه مع ما يجده من شدّة الوجع ، كذلك صاحب الدنيا لا يلتذّ بالعبادة ولا

__________________

(١) انظر : بحار الأنوار ٥٠ : ٢١١.

٢٦٠