تفسير ستّ سور

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

تفسير ستّ سور

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-3-3
الصفحات: ٤٨٥

وبالكسر يختصّ بغير العقلاء. وقيل : بينهما عموم وخصوص من وجه ، فالمضموم هو التسلّط على من يتأتّى منه الطاعة ، ويكون بالاستحقاق وغيره ، والمكسور كذلك ، إلّا أنّه لا يكون إلّا بالاستحقاق. والملك بالفتح وكسر اللّام أدلّ على التعظيم بالنسبة إلى المالك ، لأنّ «التصرّف» في العقلاء المأمورين بالأمر والنهي أرفع وأشرف من التصرّف في الأعيان المملوكة الّتي أشرفها العبيد والإماء ... إلى آخره. انتهى.

ويظهر من بعض العارفين أنّ المراد بالملك في الآية هو ملك مشاهدة الحقّ ، قال : وهم ؛ ـ أي المحبّون ـ في ملك قربه لا ينقطع عنهم وصاله أبدا. انتهى.

ويحتمل أن يراد بـ «الملك» النبوّة والرسالة ؛ كما قال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (١) وأن يراد به الولاية العامّة والخاصّة ، وكيف كان فالحمل على العموم أولى.

ويظهر ممّا ذكرناه أنّ الملك بالضمّ مبدأ لاشتقاق الملك بالفتح فالكسر ، وبالكسر مبدأ لاشتقاق المالك ، فترجح قراءة من قرأ في سورة الفاتحة : ملك يوم الدين على قراءة من قرأ : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ومن قرأ : ملك يوم الدين على صيغة الفعل الماضي ، فإنّ الملكيّة مستلزمة للقدرة على التصرّف دون المالكيّة ، مع أنّ الأولى تقتضي التصرّف في عظائم الأمور وجلائلها دون الثانية ، يقال : فلان مالك الدرهم ، ولا يقال : ملك الدرهم ، ويقال : فلان ملك الدهر ، ولا يقال : مالك الدهر.

__________________

(١) الأنعام : ١٢٤.

٣٠١

وبالجملة : الوصف بالملك أمدح من الوصف بالمالك ، وقد فصّلنا هذه الجملة في تفسيرنا على سورة الفاتحة. وفي «الرسالة الواضحة في تفسير سورة الفاتحة» للكفعميّ رحمه الله : إن وصف الله بأنّه ملك كان ذلك من صفات الذات ، وإن وصف بأنّه مالك كان من صفات الأفعال ، ولعلّ نظره في هذا التفصيل إلى أنّ المالك مستلزم للمملوك والمفروض أنّه لم يكن مع الله شيء في أزل الآزال ؛ بخلاف الملك ، فإنّه لم يزل قادرا على التصرّف في جميع الأمور ، فكان هذه الملك مطلقا ، ولا يزال كذلك أبدا ؛ كما يشير إليه قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١) فافهم وتأمّل جيّدا!

ثمّ لا يذهب عليك أنّ مملوكيّة الأشياء لمالكيها والممالك لسلاطينها وملوكها من الأمور الاعتباريّة الّتي لا ثبات لها في حدّ أنفسها ، وكذا مالكيّة ما سوى الحقّ تعالى وملكيّته ، فإنّ تصرّفه في ذلك ليس بالإيجاد والإفناء والإحياء والإماتة متى شاء وأراد.

غاية الأمر : أنّ تصرّفه فيه نظير تصرّف النفوس في الأعضاء والجوارح الّتي هي من آلاتها وأدواتها ، فلا قدرة لها بدونها على شيء ، فهي محتاجة إليها عند إرادتها شيئا ؛ بخلاف مالكيّة الحقّ تعالى وملكيّته ، فإنّ ذلك أمر حقيقيّ ، وتصرّفه في الأشياء والمماليك نظير تصوّر النفوس لصورها العلميّة الحاصلة عندها يوجد ما شاء منها ، ويفني ما شاء منها ، ويفعل فيها ما شاء ، ومتى شاء ، وكيفما شاء ، وإنّما أمره سبحانه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، فملكيّته ومالكيّته ثابتة دائمة غير منصرمة أبد الآبدين.

__________________

(١) غافر : ١٦.

٣٠٢

فإن قلت : إذا كانت الملكيّة من صفات الذات الّتي هي عين الذات ، فكيف قال : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) ... (١) إلى آخره.

قلت : قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ) ... إلى آخره ، قرينة على أنّ المراد بهذا الملك غير ما أشرنا إليه ؛ نظير العزّة والذلّة. فليتأمّل.

تتمّة : قال فخر الدين الرازيّ في تفسيره الكبير : إنّه يتفرّع على كونه سبحانه ملكا أحكام :

منها : أنّ السياسات على أربعة أقسام : سياسة الملّاك ، وسياسة الملوك ، وسياسة الملائكة ، وسياسة ملك الملوك.

فسياسة الملوك أقوى من سياسة الملّاك ، وسياسة الملائكة فوق سياسة الملوك ، وسياسة ملك الملوك فوق سياسة الملائكة ، ألا ترى إلى قوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٢) فيا أيّها الملوك ، لا تغترّوا بما لكم من الملك والملك ، فإنّكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين. ويا أيّها الرعيّة ، إن كنتم تخافون سياسة الملك ، أفما تخافون سياسة ملك الملوك الّذي هو مالك يوم الدين؟!

ومنها : أنّه ملك لا يشبه سائر الملوك ، لأنّهم إذا تصدّقوا بشيء انتقص ملكهم ، وقلّت خزائنهم ، أمّا الحقّ سبحانه ، فملكه لا ينتقص بالعطاء والإحسان.

ومنها : أنّه يجب على الرعيّة طاعته ، فإن خالفوه ولم يطيعوه وقع الهرج والمرج في العالم ، وحصل الاضطراب والتشويش ، وتداعى ذلك تخريب

__________________

(١) آل عمران : ٢٦.

(٢) النبأ : ٣٨.

٣٠٣

العالم ، وفناء الخلق ، فلمّا شاهدتم أنّ مخالفة الملك المجازي تفضي آخر الأمر إلى تخريب العالم وفناء الخلق ، فانظروا إلى مخالفة ملك الملوك ؛ كيف يكون تأثيرها في زوال المصالح ، وحصول المفاسد.

وتمام تقريره أنّه تعالى بيّن أنّ الكفر سبب لخراب العالم ، قال تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (١) وبيّن أنّ طاعته سبب للمصالح ، قال : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (٢) فيا أيّها الرّعية ، كونوا مطيعين لمولاكم ، ويا أيّها الملوك ، كونوا مطيعين لملك الملوك حتّى تنتظم مصالح العالم. انتهى كلامه ملخّصا (٣).

وفي تقديم الخبر إشارة إلى اختصاص الملكيّة به تعالى ، وأنّه ملك الملوك ، وسلطان السلاطين ، وإيماء إلى برهان استحقاق التعظيم والعبوديّة ، ووجوب إطاعته في أوامره ونواهيه ، فإذا دلّ العقل على وجوب إطاعة الملك المجازي ، فدلالته على وجوب إطاعة ملك الملوك الحقيقيّ أوضح وأتمّ. وفي الإتيان بجملة الصلة الاسميّة ، إشارة إلى دوام مضمونها وثباته.

وقوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جملة حاليّة غير منتقلة ، وإن غلب الانتقال في الأحوال لدوام صفاته تعالى وثباتها أزلا وأبدا ، وهي في الحقيقة مبنيّة للجملة السابقة ، بل برهان لمضمونها ، وإشارة إلى أنّه تعالى كما هو

__________________

(١) مريم : ٩٠ ـ ٩١.

(٢) طه : ١٣٢.

(٣) التفسير الكبير ١ : ٢٣٨ ـ ٢٤٠.

٣٠٤

ملك حقيقيّ ، كذلك ملكه ملك حقيقيّ دائميّ سرمديّ ، لعموم قدرته على كلّ ما حوته بقعة الإمكان ممّا يصدق عليه لفظ الشيء ، وهو ما أمكن وجوده بالإمكان العامّ دون ما امتنع وجوده ، فإنّ الشيئيّة تساوق الوجود ، وتخصيص التفسير بالإنعام والانتقام ـ كما في مجمع البيان (١) ـ لا وجه له.

وفسّر البيضاويّ «كلّ شيء» بكلّ ما يشاء ، ويستفاد من بعض الأخبار أنّ الشيء هو ما قدّر وما كوّن ، وهو ما روي عن الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى : (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (٢) أنّه قال : أي لا مقدّرا ولا مكوّنا (٣). وربّما يفسّر الشيء في الآية بما يصحّ أن يكون مقدورا له تعالى ، قيل : وهو أخصّ من قولنا «وهو بكلّ شيء عليم» لأنّه لا شيء إلّا ويجب أن يعلمه إذ لا شيء إلّا ويصحّ أن يكون معلوما في نفسه ولا يوصف سبحانه بكونه قادرا على ما لا يصحّ أن يكون مقدورا في نفسه ؛ مثل ما تقضّى وقته ممّا لا يبقى.

وصرّح بعضهم بأنّه يجوز إطلاق الشيء على المعدوم والمحال كشريك الباري. ومن هنا قال بعضهم : كيف قيل : «على كلّ شيء قدير» وفي الأشياء ما لا تعلّق به للقادر ؛ كالمستحيل ، وفعل قادر آخر؟

وأجيب عنه بأنّه مشروط في حدّ القادر أن لا يكون الفعل مستحيلا ، فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلّها ، فكأنّه قال :

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٠٨.

(٢) مريم : ٦٧. وفي المصدر : ولقد خلقنا الإنسان من قبل ولم يك شيئا وهو خلط بين الآيتين.

(٣) الكافي ١ : ١٤٧.

٣٠٥

على كلّ شيء مستقيم قدير ، وسيأتي لهذا زيادة توضيح.

والتحقيق : أن يقال : إنّا إن اعتبرنا في صدق الشيء إمكان الوجود الخارجيّ ، فلا يطلق على المعدوم والمحال ، وإن اعتبرنا إمكان الوجود بنحو من الأنحاء ولو في ظرف الذهن كما هو الحقّ ، فلا مانع من إطلاقه على ما ذكر ؛ إذ من الواضح أنّ لكلّ لفظ ـ حتّى شريك الباري ـ مفهوما يدلّ عليه هذا اللفظ ، وإلّا لكان هذا اللفظ من الألفاظ المهملة ، ولذا قسّموا الكلّيّ إلى ما امتنع وجوده في الخارج ، وما أمكن.

وهل يجوز إطلاق الشيء على الله سبحانه؟ قيل : لا ، لأنّه قال : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) فلو كان شيئا لزم أن يكون خالق نفسه ، فيكون حادثا مخلوقا ، والمفروض قدمه وسابقيّته على الأشياء كلّها ، ومثله الآية المبحوث عنها ، فإنّه يلزم كونه مقدورا ، والمفروض أنّه على كلّ شيء قدير ، ولقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٢) فإنّه تعالى حكم بأنّ مثل مثله ليس بشيء ، ولا شكّ أنّ كلّ شيء مثل لمثل نفسه ، وثبت بهذه الآية أنّ مثل مثله ليس بشيء ، فهو تعالى غير مسمّى بالشيء.

ولأنّ أسماء الله يفيد كلّ منها صفة جمال أو صفة جلال. وبعبارة : مفيد لمدح وكمال ، ولا مدح في وصف شيء بشيء ، فينتج أنّ لفظ الشيء ليس من أسماء الله.

ولأنّ هذا اللفظ في غاية الحقارة ، فكيف يخاطب من هو أعظم من كلّ شيء.

__________________

(١) الزمر : ٦٢.

(٢) الشورى : ١١.

٣٠٦

ولأنّ أسماء الله توقيفيّة ، ولم ينقل عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ولا عن أصحابه مخاطبة الله بلفظ «يا شيء».

ولأنّه تعالى قال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) (١) وهذا اللفظ لم يذكر في أسمائه الحسنى ، فمن دعاه بلفظ الشيء فقد ألحد في أسمائه.

وفي جميع هذه الوجوه نظر :

أمّا الأوّل ، فلأنّ العامّ يخصّص ، وقد اشتهر أنّه «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» ، ولا يلزم أن يكون المخصّص لفظا ، فقد يكون التخصيص بالعقل ، وقد يكون بالإجماع ، وقد يكون بالعرف والعادة ، وقد يكون بغير ذلك.

والعقل والضرورة قاضيان في المقام بالتخصيص ؛ كما لا يخفى.

والجواب عن الثاني : أنّ الكاف زائدة ، فتدبّر.

وعن الثالث : ما ذكره النيسابوريّ في تفسيره من أنّ الشيء خير من لا شيء ، قال : وإن كان سائر الأشياء مشتركة معه في ذلك كالموجود والكريم والحليم ، فإنّ كلّا منها مدح بالنسبة إلى من لا وجود له ولا كرم ولا حلم ، بل الشيء بالحقيقة هو وباقي الأشياء شيئيّتها مستعارة كوجودها. انتهى ، فتأمّل.

وعن الرابع : بالمنع ، كيف وشيئيّة كلّ شيء بحسبه ، وشيئيّة الحقّ سبحانه أعظم من جميع الشيئيّات ، هذا مع ما عرفت من أنّ الشيئيّة مساوقة للوجود ، ولم يختلف المسلمون في جواز إطلاقه عليه.

__________________

(١) الأعراف : ١٨٠.

٣٠٧

وعن الخامس : أنّ التوقيفيّة لو سلّمت فهي في الأعلام الموضوعة دون الدعاء ، فإنّه لا مانع منه إذا لم يشتمل على ما نهي عنه ، وقد ورد أنّ خير الدعاء ما جرى باللسان. فتأمّل.

وعن السادس : أنّ المراد بالأسماء الحسنى ما اشتمل على نوع من المدح ، ولم يشتمل على ما هو تعالى منزّه عنه. فليتأمّل.

فالحقّ الموافق للأكثرين جواز الإطلاق ، وقد قال تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) (١) وقال : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢) وفي رواية هشام بن الحكم عن الصادق عليه السلام : إنّه قال للزنديق حين سأله ما هو؟ قال : هو شيء بخلاف الأشياء ، ارجع بقولي [شيء] إلى إثبات معنى ، وأنّه شيء بحقيقة الشيئيّة غير أنّه لا جسم ولا صورة ... (٣) إلى آخره.

قال الرازيّ : واعلم أنّ من الناس من ظنّ أنّ هذا البحث واقع في المعنى ، وهذا في غاية البعد ، فإنّه لا نزاع في أنّ الله موجود وذات وحقيقة ، إنّما النزاع في أنّه هل يجوز إطلاق هذا اللفظ عليه ، فهذا نزاع في مجرّد اللفظ ، ولا يجري بسببه تكفير ولا تفسيق ، فليكن الإنسان عالما بهذه الدقيقة حتّى لا يقع في الغلط. انتهى.

وكيف كان ، فكلّ شيء عامّ يشمل جميع ما يصلح أن يخبر عنه ، وأن يعلم به سواء كان خيرا أو شرّا ، نورا أو ظلمة.

__________________

(١) الأنعام : ١٩.

(٢) القصص : ٨٨.

(٣) التوحيد ، للصدوق : ٢٤٣.

٣٠٨

و «القدير» و «القادر» بمعنى ، إلّا أنّ الأوّل لا يطلق على غير الله ؛ دون الثاني. قال أبو البقاء : القدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة لا زائدا عليه ، ولا ناقصا عنه ، ولذا لا يصحّ أن يوصف به إلّا الله.

والمراد بالقدرة التمكّن من التأثير في الشيء بالإيجاد والإفناء وغيرهما ، فالقادر على ما في شرح الطوالع وغيره : هو الّذي يصحّ أن يصدر عنه الفعل ، وأن لا يصدر. قيل : وهذه الصفة هي القدرة ، وإنّما يترجّح أحد الطرفين على الآخر بانضياف وجود الإرادة أو عدمها إلى القدرة. وقد يفسّر «القدرة» بكون الفاعل بحيث إن شاء فعل مع تمكّنه من الترك ، و «القادر» بالّذي يصحّ أن [يؤثّر] تارة ، وأن لا يؤثّر أخرى بحسب الدواعي المختلفة. وربّما يفسّر بالّذي إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل.

وقيل : إنّ هذا ، تفسير المختار ويقابل القدرة الإيجاب ، وهو كون الشيء بحيث يكون الفعل لازما لذاته ، لا ينفكّ عنه ؛ كالإضاءة للشمس ، والإحراق للنار ، ويقابل «القادر» «الموجب» بفتح الجيم ، وهو الّذي يصدر الفعل عنه لا باختياره ، ولا يتمكّن من تركه.

وكيف كان ، فلا ريب أنّه تعالى قادر مختار ، لأنّه خلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من الصنائع الغريبة ، والبدائع العجيبة ، ولم يعي بخلقهنّ ، ولا ريب أنّ وجود العالم بعد عدمه ينافي كون تأثيره تعالى فيه بالإيجاب ، والقول بقدم العالم ـ كما عن الفلاسفة ـ شطط من الكلام ـ كما حقّق في محلّه ـ كالقول بأنّه سبحانه موجب بالذات ، وأنّ تأثيره في وجود العالم بالإيجاب ، بمعنى أنّ العالم لازم لذاته كتأثير الشمس في الإضاءة ،

٣٠٩

والنار في الإحراق ، والماء في التبريد ، وإن استدلّ له بأنّ المؤثّر في وجود الشيء إن استجمع جميع ما لا بدّ منه في المؤثّريّة من الشرائط وجوديّا كان أو عدميّا وجب الأثر ، لأنّه لو لم يجب الأثر مع وجود المؤثّر المستجمع للشرائط لكان فعله تارة وتركه أخرى ترجيحا بلا مرجّح ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله.

وإن لم يستجمع المؤثّر الشرائط المعتبرة في المؤثّر امتنع وجود الأثر ، لامتناع المشروط عند عدم الشرط.

وفيه أوّلا : أنّ القادر يرجّح أحد مقدوريه على الآخر ، كما أنّ الجائع يختار أحد الرغيفين المتساويين من جميع الوجوه ، والهارب من السبع أو العدوّ يهرب من أحد الطريقين.

وثانيا : أنّ من الشرائط ؛ إرادة المؤثّر في وقت خاصّ وتحقّق المصلحة ، وقوله : (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) يفيد عموم قدرته على جميع الممكنات ، لأنّ لفظة «كلّ» من ألفاظ العموم موضوعة له خاصّة على الأظهر الأشهر ، فاستعماله في غيره مجاز ، وهو خير من الاشتراك ، وإن ذهب إليه بعض. والدليل على عموم قدرته تعالى أنّ الموجب للقدرة ذاته المقدّسة ، ونسبة الذات إلى كلّ الممكنات على السواء ، لمكان تجرّده ، فلو اختصّت قادريّته بالبعض دون البعض افتقر ذاته في كونه قادرا على البعض دون البعض إلى مخصّص ، وهو محال ، لمكان غناه عمّا سواه.

قال في شرح الطوالع : والمصحّح للمقدوريّة هو الإمكان المشترك بين جميع الممكنات ، لأنّ ما عدا الإمكان منحصر في الوجوب والامتناع ، وهما

٣١٠

يحيلان المقدوريّة. انتهى.

وقد ظهر من ذلك فساد ما ذهب إليه جماعة من الحكماء من أنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد ، وصرّح بعضهم بأنّ الله تعالى خلق العقل الأوّل المعبّر عنه بالصادر الأوّل ، وقد كان واحدا بسيطا ، وقد صدر عنه العقل الثاني والفلك الأوّل وهكذا إلى العقل العاشر ، وهو خلق الفلك التاسع وهيولى العناصر.

وصرّح بعض المنجّمين بأنّ مدبّر هذا العالم ؛ أي عالم العنصريّات وهو ما تحت فلك القمر هو الأفلاك والكواكب وأوضاعها ، لما يشاهد من أنّ تغيّرات أحوال هذا العالم ترتبط بتغيّرات أحوال الكواكب وأوضاعها ، فإن أرادوا أنّ ذلك لم يتحقّق في الخارج ولكنّه مقدور فلا نزاع ؛ إذ القدرة على الشيء لا تستلزم الوقوع الخارجيّ ، وإن أرادوا أنّه تعالى لا يقدر على إيجاد الكثير بلا واسطة وترتيب ، فيدفعه ما تقدّم من الأدلّة على عموم قدرته تعالى. اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ العقل يستحيل تحقّق ذلك ، فلا تتعلّق القدرة بالمحال ؛ نظير تعلّق القدرة بإيجاد شريك الباري تعالى ، فإنّه محال لعدم قابليّة المحال لهذا التعلّق ، فيرجع الكلام إلى أنّ هذا من المحال ، أو من الممكنات القابلة لتعلّق القدرة بها. وهذه مسألة أخرى ينبغي التأمّل فيها. فافهم.

وكذا الكلام في أنّه تعالى هل يقدر على فعل القبيح وإن لم يفعله لمانع الحكمة ، فلا تكون القدرة زائلة بالنسبة إليه ، فإنّ القبيح حينئذ يكون محالا ممتنعا بغيره ، والمحال بغيره ممكن لذاته ، والممكن لذاته مقدور ، فكونه مقدورا بالذات لا ينافي الامتناع بالغير ، أو لا يقدر على خلق القبيح بالذات

٣١١

كما عليه إبراهيم النظّام من المعتزلة ، قال : لأنّ فعل القبيح محال ، والمحال غير مقدور ، أمّا أنّ فعل القبيح ومحال ، فلأنّه يدلّ على جهل الفاعل أو حاجته وهما محالان على الله ، والمؤدّي إلى المحال محال ، وأمّا أنّ المحال غير مقدور ، فلأنّ المقدور هو الّذي يصحّ إيجاده ، وذلك يستدعي صحّة الوجود ، والممتنع ليس له صحّة الوجود.

وأجيب عنه :

أوّلا : إنّه لا قبيح بالنسبة إلى الله. فتأمّل.

وثانيا : بما تقدّم من أنّ المانع من فعله متحقّق لا أنّ القدرة زائلة ، إلى آخر ما ذكر آنفا.

وكذا الكلام في أنّه تعالى هل يقدر على مثل فعل العبد ومقدوره لعموم القدرة ، أو يقدر مثل فعل العبد ولكنّه ليس بقادر على نفس مقدور العبد ؛ كما عليه الشيخ أبو عليّ الجبّائيّ ـ نسبة إلى الجباء وهو بلده ـ وابنه أبو هاشم الجبّائيّ قالا : لأنّ المقدور من شأنه أن يوجد عند توفّر دواعي القادر ، ويبقى على العدم عند توفّر صوارفه ، فلو كان نفس مقدور العبد مقدورا لله ، فلو أراد الله مقدور العبد وكرهه العبد لزم وقوعه لتحقّق الداعي ، ولزم لا وقوعه ، لتحقّق الصارف.

واعترض عليه بأنّ مكروه العبد لا يقع عند وجود الصارف إذا لم تتعلّق به إرادة الله المستقلّة. فليتأمّل.

أو لا يقدر على مثل فعل العبد ؛ كما عليه أبو القاسم البلخيّ قال : لأنّ مقدور العبد إمّا طاعة ، أو سفه ، أو عبث ، وذلك على الله محال.

٣١٢

قال في شرح الطوالع : وأجيب بأنّ الفعل في نفسه حركة أو سكون ، وكونه طاعة أو سفها أو عبثا اعتبارات تعرض للفعل بالنسبة إلى العبد ، فإنّها تعرض للفعل من حيث إنّه صادر عن العبد ، والله قادر على مثل ذلك الفعل. فتأمّل.

وكذا الكلام في أنّه تعالى هل يقدر على خلق الشرّ والظلمة ونحوهما ، فهو خالق الخير والشرّ ، وجاعل الظلمات والنور ، لعموم قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (٢) وقوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) (٣) وقوله تعالى : (إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٤) وقوله في الحديث القدسيّ : خلقت الخلق ، وخلقت الخير ، فطوبى لمن أجريت الخير على يديه ، لا إله إلّا أنا ، خلقت الخلق ، وخلقت الشرّ ، فويل لمن أجريت الشرّ بيديه ، وويل لمن يقول كيف هذا ، وكيف ذاك ، أو لا يقدر إلّا على الخيرات والأنوار والنافعات ، ولا يقدر على خلق الشرور والظلمات والمضرّات والمؤذيات (٥).

كما هو مذهب الثنويّة والمجوس ، فإنّهم يقولون : لو كان الله قادرا على الشرّ خالقا له لكان شرّيرا.

__________________

(١) الزمر : ٦٢.

(٢) الأنعام : ١.

(٣) النبأ : ١٠.

(٤) النساء : ٧٨.

(٥) وجدنا ما هو قريب منه في بحار الأنوار ٥ : ١٦٠.

٣١٣

ولكن عن صاحب التخليص أنّهم يقولون : إنّ فاعل الخير يزدان ، وفاعل الشرّ أهرمن ، ويعنون بهما ملكا وشيطانا ، والله منزّه عن فعلي الخير والشرّ.

والمانويّة يقولون : إنّ فاعلهما النور والظلمة.

والديصانيّة يذهبون إلى مثل ذلك.

والجميع يقولون : إنّ الخير هو الّذي يكون جميع أفعاله خيرا ، والشرّ هو الّذي يكون جميع أفعاله شرّا ، ومحال أن يكون فاعل واحد وأفعاله كلّها خير وشرّ معا. انتهى ما حكي عن التلخيص.

وقال الملّا صدرا الشيرازيّ رحمه الله في شرحه على أصول الكافي : إنّ الثنويّة فرق كثيرة منهم المجوس أثبتوا أصلين مدبّرين قديمين يقتسمان الخير والشرّ ، والنفع والضرر ، والصلاح والفساد ، يسمّون أحدهما النور ، والثاني الظلمة ، وبالفارسية : يزدان وأهرمن ، ولهم تفصيل.

مذهب ومسائل المجوس كلّها تدور على قواعد النور والظلمة ولهم فيها قاعدتان عمدتان إحداهما بيان سبب امتزاج النور بالظلمة ، وذكروا في ذلك وجوها كثيرة يطول الكلام بذكرها :

منها : إنّهم قالوا : إنّ يزدان فكّر في نفسه أنّه لو كان لي منازع كيف يكون؟ وهذه الفكرة كانت رديّة غير مناسبة لطبيعة النور ، فحدثت الظلمة من هذه الفكرة ، وسمّي أهرمن وكان مطبوعا على الشرّ والضرر والفساد.

ومنها : إنّ النور أبدع أوّلا أشخاصا من النور كلّها روحانيّة نورانيّة ربّانيّة ، ولكنّ الشخص الأعظم الّذي اسمه زرزان شكّ في شيء من الأشياء ، فحدث أهرمن الشيطان من ذلك الشكّ.

٣١٤

ومنها : إنّ زرزان الكبير قام فزمزم تسعة آلاف وتسعة وتسعين سنة ليكون له ابن ، فلم يكن ، ثمّ حدّث في نفسه وفكّر وقال : لعلّ هذا العلم ليس بشيء فحدث أهرمن من ذلك الهمّ الواحد ، وزعموا أنّ الدنيا كانت سليمة من الشرور والآفات ، وكان أهلها في خير محض ، ونعيم خالص ، فلمّا حدث أهرمن حدثت الشرور والآفات والفتن ، ومنها غير ذلك.

والقاعدة الثانية : في سبب خلاص النور من الظلمة ، ولهم في هذا أيضا وجوه كثيرة :

منها : إنّه وقعت المحاربة بين عسكر النور وعسكر الظلمة مدّة كثيرة من ألوف السنين ، ثمّ يظفر عاقبة الأمر يزدان وجنوده وعند الظفر وإهلاك جنود أهرمن أجمعين تكون القيامة ، فيرتفع هؤلاء إلى عالم النور والسماء ، وينحطّ هؤلاء إلى الهاوية ودار الظلمة والجحيم ، فذلك سبب الامتزاج ، وهذا سبب الخلاص.

ومنها : إنّ الملائكة توسّطوا بعد المحاربة وصالحوا على أنّ العالم السفليّ خالص لجنود أهرمن ، والعالم العلويّ خالص لجنود يزدان ، ومنها غير ذلك من الوجوه الركيكة.

ومنهم الكيومرثيّة : أثبتوا أصلين ـ كما ذكرنا ـ إلّا أنّ المجوس الأصليّة لا يجوّزون أن يكونا قديمين أزليّين ، فقالوا : النور أزليّ ، والظلمة محدثة ، ثمّ لهم اختلاف في سبب حدوثها أمن النور حدثت والنور لا يحدث شرّا جزئيّا ، فكيف يحدث أصل الشرّ أي الظلمة أم شيء آخر ، ولا شيء يشارك النور في القدم والإحداث.

٣١٥

ومنهم الزرادشتيّة : أصحاب زرادشت ـ وكان أصل دينه عبادة الله ، والإيمان به ، والكفر بالشيطان ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، إلّا أنّ أهل زمانه قتلوه وأحرقوا كتابه ـ فقال المنتسبون إليه : إنّ النور والظلمة أصلان متضادّان ، وكذلك يزدان وأهرمن وهما مبدءا موجودات العالم ، وحصلت التراكيب من امتزاجهما ، والباري خالق النور والظلمة ومبدعهما ، وهو واحد لا شريك له ، ولا ضدّ ولا ندّ ، لكنّ الخير والشرّ والصلاح والفساد والطهارة والخبث إنّما حدثت من امتزاج النور والظلمة ، وهما متقاربان متغالبان ، إلّا أن يغلب النور الظلمة والخير الشرّ ، ثمّ يتخلّص الخير إلى عالمه ، والشرّ ينحطّ إلى عالمه ، وذلك هو سبب الخلاص ، والباري مزجهما وخلطهما لحكمة رآها في التركيب ، ومن هؤلاء من جعل النور أصلا وقال : وجوده وجود بالذات ، وأمّا الظلمة فتبع كالظلّ بالنسبة إلى الشخص.

ومنهم الثنويّة بالحقيقة ، وهؤلاء أصحاب المبدأين الأزليّين : يزعمون أنّ النور والظلمة أزليّان قديمان ، بخلاف المجوس ، فإنّهم قالوا بحدوث الظلام ـ كما مرّ ـ وهؤلاء قالوا بتساويهما في القدم ، واختلافهما في الجوهر والطبع ، والفعل والحيّز ، والمكان والأجناس ، والأبدان والأرواح ، وبيّنوا كلّها على التفصيل،وربّماوضعوها في جدول سمّوه«جدول النور والظلمة».

فمن هؤلاء المانويّة أصحاب ماني الّذي ظهر في زمان شاپور بن أردشير ، وقتله هرمز بن شاپور بعد عيسى عليه السلام أحدث دينا بين المجوسيّة والنصرانيّة ؛ كان يقول بنبوّة عيسى عليه السلام ولا يقول بنبوّة موسى عليه السلام زعم أنّ العالم مصنوع مركّب من أصلين قديمين أحدهما

٣١٦

نور ، والآخر ظلمة ، وأنّهما أزليّان لم يزلا ولا يزالا ، وأنكر وجود شيء لا من أصل قديم.

ثمّ اختلف المانويّة في المزاج وسببه ، قال بعضهم : إنّ النور والظلام امتزجا بالبخت والاتّفاق ، لا بالقصد والاختيار. وقال أكثرهم : إنّ سبب المزاج أنّ أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل ، فنظرت فرأت النور فتغلّبت الأبدان على ممازجة النور ، فأجابتها لإسراعها إلى الشرّ ، فلمّا رأى ذلك ملك النور وجّه إليها ملكا من الملائكة في خمسة أجزاء من أجناسها الخمسة ، فاختلطت الخمسة النوريّة بالخمسة الظلمانيّة ، فخولط الدخان بالنسيم ، والحريق بالنار ، والنور بالظلمة ، والسموم بالريح ، والضباب بالماء ، فما في العالم من منفعة وخير وبركة فمن أجناس النور ، وما فيه من مقابلات هذه فمن أجناس الظلمة ، إلى غير ذلك من مقالاتهم الطويلة.

ولكن عمدة شبههم ما ذكرناه من قبل ، وهي أنّ في هذا العالم يوجد شرور وخيرات ، والمبدأ الواحد لكونه بسيط الحقيقة لا يمكن أن يكون مبدأ لهما جميعا ، وإلّا لكان شيء واحد خيرا وشرّا معا وهو محال ، فمبدأ الخيرات هو يزدان ، ومبدأ الشرور أهرمن ، وقد ذكرنا وجه دفعها. انتهى كلامه.

وقد فصّل وجه الدفع في شرح الحديث الأوّل من أحاديث باب الخير والشرّ بما لا مزيد عليه ، وحاصله يرجع إلى أنّ الشرّ الحقيقيّ ليس موجودا في العالم ؛ كما قال المولويّ :

٣١٧

پس بد مطلق نباشد در جهان

[بد به نسبت باشد اين را هم بدان] (١)

قال بعض المتكلّمين في جوابهم : إنّ الخير والشرّ لا يكونان لذاتيهما خيرا وشرّا ، بل بالإضافة إلى غيرهما ، وإذا أمكن أن يكون شيء واحد بالقياس إلى واحد خيرا ، وبالقياس إلى غيره شرّا ، أمكن أن يكون قليل ذلك الشيء واحدا.

وكيف كان ، فلا ريب في أنّه سبحانه على كلّ شيء قدير. نعم ، لا تتعلّق قدرته بالمحال والممتنع وجوده بالذات ، فإنّه لو فرض تأثير الحقّ فيه يكون ممكنا ، بل واجبا بالغير ، فينقلب الممتنع إلى الواجب. وهذا خلف.

وإلى هذا يشير ما روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال : قيل لأمير المؤمنين عليه السلام : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغّر الدنيا أو يكبّر البيضة؟ فقال (٢) : إنّ الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز ، والّذي سألتني لا يكون (٣).

وفي رواية أخرى عنه عليه السلام أنّه : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : أيقدر الله أن يدخل الأرض في بيضة ولا يصغّر الأرض ولا يكبّر البيضة؟ فقال له (٤) : ويلك! إنّ الله لا يوصف بالعجز ، ومن أقدر ممّن

__________________

(١) المثنويّ ، للمولويّ : بداية الدفتر الرابع.

(٢) في المصدر : قال.

(٣) التوحيد : ١٣٠.

(٤) ليست في المصدر.

٣١٨

يلطّف الأرض ويعظّم البيضة (١).

وفيه دلالة على ما قيل على أنّ إدخال العظيم في الصغير لا يمكن إلّا بأن يصغّر العظيم ، أو يعظّم الصغير ؛ بنحو التكاثف والتخلخل ، وما يجري مجراهما ، وأنّ تصغير الأرض إلى حدّ تدخل في بيضة ، أو تعظيم البيضة إلى حدّ تدخل فيها الأرض غاية القدرة.

وأمّا ما رواه محمّد بن [أبي] إسحاق [الخفّاف] أنّ عبد الله الديصانيّ سأل هشام بن الحكم فقال له : ألك ربّ؟ فقال : بلى. فقال : أقادر هو؟ قال : نعم قادر هو. قال : يقدر أن يدخل الدنيا كلّها في بيضة لا يكبّر البيضة ولا يصغّر الدنيا؟ قال هشام : النظرة. قال له : قد أنظرتك حولا ، ثمّ خرج عنه ، فركب هشام إلى أبي عبد الله عليه السلام فاستأذن عليه ، فأذن له ، فقال له : يا ابن رسول الله ، أتاني عبد الله الديصانيّ بمسألة ليس المعوّل فيها إلّا على الله وعليك. فقال له أبو عبد الله عليه السلام : عمّا ذا سألك؟ فقال : قال لي كيت وكيت. فقال عليه السلام : كم حواسّك؟ قال : خمس. قال : أيّها أصغر؟ قال : الناظر. قال : وكم قدر الناظر؟ قال : مثل العدسة أو أقلّ منها. فقال له : يا هشام ، فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى. فقال : أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري وجبالا وأنهارا. فقال عليه السلام : إنّ الّذي قدر أن يدخل الّذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة ؛ لا يصغّر الدنيا ، ولا يكبّر البيضة ... (٢) إلى آخره.

__________________

(١) التوحيد : ١٣٠.

(٢) التوحيد : ١٢٢ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

٣١٩

فقد ذكر شارح الكافي المشار إليه : أنّ الّذي أفاده عليه السلام وجه إقناعيّ مبناه على المقدّمة المشهورة لدى الجمهور ؛ أنّ الرؤية بدخول المرئيّات في العضو البصريّ ، فاكتفى في الجواب بهذا القدر ، لقبول الخصم وتسليمه. انتهى.

وقال أيضا : واعلم بأنّ معنى كونه تعالى قادرا على كلّ شيء أنّ كلّ ما له ماهيّة (١) إمكانيّة أو شيئيّة تصوّرته فيصحّ تعلّق قدرته به ، وأمّا الممتنعات فلا ماهيّة (٢) لها ولا شيئيّة حتّى يصحّ كونها مقدورة له تعالى ، وليس في نفي مقدوريّتها نقص على عموم القدرة بل القدرة عامّة ، والفيض شامل ، والممتنع لا ذات له ، وإنّما يخترع العقل في وهمه مفهوما يجعله عنوانا لأمر باطل بالذات كشريك الباري ، واللّاشيء ، واجتماع النقيضين ... إلى آخره. انتهى.

والحاصل : إنّ قابليّة المتعلّق للقدرة الإلهيّة للتأثّر بالقدرة شرط في تعلّق القدرة العامّة ، والمحال ليس بقابل له أصلا ، لأنّه لا ذات له ، ولا شيئيّة. وقد أجاد من قال :

قبول ماده شرط است در إفاضه فيض

 وگرنه بخل نباشد بمبدأ فياض

قال شارح الزيارة الجامعة : وقول المتكلّمين أنّ العلم أعمّ من القدرة ، لأنّه يتعلّق بالممكن والواجب والممتنع ، والقدرة إنّما تتعلّق بالممكن خاصّة جهل بعموم القدرة وخصوص العلم ، لأنّ العلم هو القدرة ، وإنّما

__________________

(١) في المصدر : مهيّة.

(٢) في المصدر : مهيّة.

٣٢٠