تفسير ستّ سور

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

تفسير ستّ سور

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-3-3
الصفحات: ٤٨٥

يختلفان ويتعدّدان باعتبار المفهوم ، وأمّا باعتبار المصداق فهو واحد ، العلم نفس القدرة في نفس الأمر ، وإنّما تعدّدا واختلفا باعتبار اختلاف متعلّقهما وجهته من حيث الفهم والإدراك ، والمفهومان حادثان ، وهما عنوان المعنى القديم الّذي هو واحد بكلّ اعتبار ، فإنّا إن أردنا العلم القديم فهو الله ، وإن أردنا العلم الحادث المرتبط بالمعلوم فهو المعلوم ، أو صفة المعلوم ، والأوّل غير مرتبط بشيء لأنّ ذاته غير مرتبطة بشيء ، والأوّل ليس هو المعلوم ، ولا صفة المعلوم ، لأنّ ذاته ليس هو المعلوم الحادث ، ولا صفته.

وإذا قلت : هو المعلوم القديم ، وجب الاتّحاد ، وامتنع التعدّد والكثرة ولو باعتبار الفرض والاحتمال والإمكان ، والثاني ؛ أي العلم الحادث مرتبط بالمعلوم ، لأنّه إمّا نفس المعلوم على قول ، أو صفته على آخر ، وإذا أردنا القدرة القديمة فهو الله ، وإن أردنا الحادثة فهي المتعلّقة بالحادث ، والممتنع ليس شيئا ، فكما لا يكون مقدورا لا يكون معلوما ، لأنّه لو كان معلوما لكان إمّا نفس العلم ، فلا يكون ممتنعا ، لأنّ العلم موجود ، وإما موصوفا ، والعلم صفة على القول الآخر بأنّ العلم صفة المعلوم ، ويجب أن يكون على هذا الممتنع موجودا ، لأنّ العلم صفته هي موجودة ، ولا يجوز في العقول أن تكون الصفة موجودة والموصوف ممتنع الوجود. انتهى.

وحاصله : أنّ المحال كما لا تتعلّق به القدرة ، كذلك لا يتعلّق به العلم ، فأعمّيّة العلم ممنوعة. فتأمّل.

ثمّ أشار سبحانه إلى بعض آثار صنعه وقدرته ، وأنّ قدرته تشمل الجواهر والأعراض ، ولا تختصّ بالجواهر ، فقال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ

٣٢١

وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) فإنّ الموت والحياة على ما صرّح به جماعة عرضان ، والأعراض مخلوقة كالجواهر.

لا يقال : إنّ الموت عدم والخلق لا يتعلّق بالأعدام ؛ إذ العدم أزليّ لا تؤثّر فيه القدرة ؛ إذ المقدور منه هو إبقاؤه واستمراره ، لما قيل من أنّ لأعدام الملكات حظّ ضعيف من الوجود ، والموت هو عدم الحياة لمن شأنه الحياة ؛ نظير العمى الّذي هو عدم البصر لمن شأنه أن يكون بصيرا ، فالتقابل بالعدم والملكة لا بالإيجاب والسلب ، ولذا صحّ تعلّق الخلق به. فتأمّل.

هذا ؛ وفي رواية زرارة عن الباقر عليه السلام قال : الحياة والموت خلقان من خلق الله ، فإذا جاء الموت فدخل في الإنسان لم يدخل في شيء إلّا وقد خرجت منه الحياة (١). انتهى.

وورد أنّه يؤتى بالموت ما بين الجنّة والنار على صورة كبش أملح فيذبح (٢).

ويظهر من ذلك أنّ التقابل في الموت والحياة بالتضادّ كما يكشف عن ذلك تصريح بعضهم بأنّ الموت ضدّ الحياة ، فهما أمران وجوديّان يتعلّق بهما الخلق والقدرة. فتأمّل.

هذا ، ولكن في التفسير الصادقيّ عليه السلام يفسّر «خلق» بـ «قدّر» ، قال عليه السلام : ومعناهما قدّر الحياة والموت (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٥٩.

(٢) إشارة إلى ما جاء في تفسير القمّيّ ٢ : ٥٠ ؛ وفي بحار الأنوار ٨ : ٣٤٤.

٣٢٢

أي يختبركم بالأمر والنهي أيّكم أحسن عملا (١).

[و] في تفسير البيضاويّ : قدّرهما أو أوجد الحياة وأزالها حسبما قدّره (٢).

وفي الكشّاف : إنّ الحياة ما يصحّ بوجوده الإحساس. وقيل : ما يوجب كون الشيء حيّا ، وهو الّذي يصحّ منه أن يعلم ويقدر ، والموت عدم ذلك فيه. قال : ومعنى خلق الموت والحياة : إيجاد ذلك المصحّح وإعدامه (٣). انتهى.

ونقل في مجمع البحرين : أنّ الموت في كلام العرب يطلق على السكون ، يقال : ماتت الريح : إذا سكنت ، قال : والموت يقع بحسب أنواع الحياة :

فمنها : ما هو بإزاء القوّة النامية الموجودة في الحيوان والنبات ؛ كقوله : (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٤).

ومنها : زوال القوّة الحسّيّة ؛ كقوله : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) (٥).

ومنها : زوال القوّة العاقلة ـ وهي الجهالة ـ كقوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (٦) و [قوله] : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (٧).

ومنها : الحزن والخوف المكدّر للحياة ؛ كقوله : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِ

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ : ٣٧٨.

(٢) أنوار التنزيل وأسرار التأويل ٢ : ٥٠٩.

(٣) الكشّاف ٤ : ٥٧٥.

(٤) الروم : ١٩.

(٥) مريم : ٢٣.

(٦) الأنعام : ١٢٢.

(٧) النمل : ٨٠.

٣٢٣

مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) (١) ، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقّة كالفقر والذلّ والسؤال والهدم وغير ذلك (٢). انتهى.

ويستفاد من هذه العبارات أنّ التقابل بالعدم والملكة نظير المرض والصحّة. فتأمّل.

وفي كلّيّات أبي البقاء : الموت هو في الحقيقة جسم على صورة الكبش ، كما أنّ الحياة جسم على صورة الفرس. وأمّا المعنى القائم بالبدن عند مفارقة الروح فإنّما هو أثره ، فتسميته بالموت من باب المجاز ـ إلى أن قال ـ والإماتة : جعل الشيء عادم الحياة. انتهى.

وفي تفسير عرائس البيان في حقائق البيان : وأصل الحياة حياة نجلية ، وأصل الممات موت استتارة ، وهما يتعاقبان للعارفين في الدنيا ، فإذا ارتفعت الحجب يرتفع الموت عنهم بأنّهم يشاهدونه عيانا بلا استتار أبدا ، لا يجري عليهم طوارق الحجاب بعد ذلك ، قال الله : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٣).

خلق الموت والحياة فيميت قوما بنعت الفناء في ظهور مسطوات الفناء ، ويحيي قوما بنعت البقاء في ظهور أنواع البقاء ـ إلى أن قال ـ قال الجنيد : حياة الأجسام مخلوقة ، وهي الّتي قال الله : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) وحياة الله قائمة لا انقطاع لها ؛ أوصلها إلى أوليائه في قديم الدهر الّذي ليس له

__________________

(١) إبراهيم : ١٧.

(٢) مجمع البحرين ٤ : ٢٤٦ (موت).

(٣) آل عمران / ١٦٩.

٣٢٤

ابتداء بموادّه قبل أن خلقهم ، فكانوا في علمه أحياء يراهم قبل إيجادهم ، ثمّ أظهرهم فأعادهم الحياة المخلوقة ، فكانوا في ستره بعد الوفاة كما كانوا ، ثمّ ردّ عليهم الحياة الأبد فكانوا أحياء ، واتّصل الأبد بالأبد فصار أبدا في الآبد ـ إلى أن قال ـ قال الواسطيّ : من أحياه الله عند ذكره في أزله لا يموت أبدا ، ومن أماته في ذلك لا يحيا أبدا ، وكم حيّ غافل عن حياته ، وميّت غافل عن مماته. انتهى.

وحاصله أنّ المراد بالحياة تجلّي الحقّ على عبده بكشف الأستار ، وبالممات احتجابه عنه ، وحرمان العبد عن مشاهدة الأنوار ، ومن هنا قيل بالفارسيّة :

هرگز نميرد آنكه دلش زنده شد به عشق

ثبت است بر جريده عالم دوام ما (١)

وقد يقال : إنّ المراد بـ «الموت» الموت في الدنيا بالمعصية ، و «الحياة» الحياة في الآخرة بالطاعة.

وقد يقال : إنّ المراد بالموت موت العبد عن العلائق الجسمانيّة ، وعند ذلك يصير حيّا بالحياة الأبديّة ؛ كما قيل :

إذا شئت أن تحيا فمت عن علائق

من الحسّ خمس ثمّ عن مدركاتها

ومن هنا يظهر سرّ قوله :

__________________

(١) للشاعر حافظ الشيرازيّ.

٣٢٥

اقتلوني يا ثقاتي إنّ في قتلي حياتي

 ومماتي في حياتي وحياتي في مماتي

ولفظ الحياة في الآية وإن يشمل بإطلاقه حياة الله الّتي هي من الصفات الثبوتيّة ، إلّا أنّ قوله : (خَلَقَ) قرينة على إرادة غيرها ، فإنّ حياة الله ليست مخلوقة. كيف وهي كالعلم والقدرة عين الذات على ما هو الحقّ ، فإنّها عبارة عن صحّة اتّصافه بالقدرة والعلم ؛ كما صرّح به الحكماء وأبو الحسين البصريّ ؛ خلافا للأشاعرة ، فصرّحوا بأنّها صفة زائدة على ذاته ، مغايرة لهذه الصحّة. وهو كما ترى ، والدليل على حياته أنّه تعالى قادر عالم فيكون حيّا بالضرورة.

وعن المعتزلة : إنّ الحياة عبارة عن صفة تقتضي صحّة اتّصافه تعالى بالعمل والقدرة ، وإلّا لكان اختصاصه بها ترجيحا بلا مرجّح. وفيه : إنّ ذاته كاف في هذا التخصيص ممّا لا تتضمّن.

وكيف كان ، فلا يخفى أنّ قوله : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) في قوّة قوله : «خلق الأشياء كلّها» كما قال : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) فإنّ الأشياء منحصرة في صنفين : الأحياء والأموات.

وبعبارة أخرى : هي إمّا ساكنة أو متحرّكة ولا ثالثة ، وإنّما قدّم الموت على الحياة مع أنّها أشرف ، وأنّ الموت طارئ عليها ووارد عليها ، وأنّه روي عن الباقر عليه السلام : إنّ الله خلق الجنّة قبل أن يخلق النار ، وخلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية ، وخلق الرحمة قبل الغضب ، وخلق الخير قبل الشرّ ، وخلق الأرض قبل السماء ، وخلق الحياة قبل الموت ، وخلق الشمس قبل

__________________

(١) الزمر : ٦٢.

٣٢٦

القمر ، وخلق النور قبل الظلمة (١).

إمّا لأنّ الموت أمر عدميّ ، والعدم سابق على الوجود. فتأمّل.

وإمّا لأنّ الموت في عالم الطبع مقدّم على الحياة بالطبع.

وإمّا لأنّ الاهتمام بذكر الموت في هذا المقام ؛ أي مقام ذكر المقدوريّة والمقهوريّة للخلق أشدّ ، فكان تقديم ما هو أقرب إلى ذلك أنسب ؛ كما في تقديم السنة على النوم في قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (٢) وتقديم التجارة على اللهو في قوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) (٣) والعكس في قوله : (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) (٤).

قال البيضاويّ : وقدّم الموت لقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (٥) ولأنّه أدعى إلى حسن العمل. انتهى (٦).

يعني أنّ الغرض من ذكر ذلك التهديد عن ارتكاب الشرور ، والترغيب في حسن العمل ، وارتكاب الخيرات ، فتقديم ذكر الموت الرادع عن المعاصي ، الحامل على الطاعات ، أنسب وأولى في المقام.

وفي مجمع البيان قيل : إنّما قدّم ذكر الموت على الحياة ، لأنّه إلى القهر أقرب ؛ كما قدّم البنات على البنين في قوله : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) (٧) وقيل :

__________________

(١) الكافي ٨ : ١٤٥.

(٢) البقرة : ٢٥٥.

(٣ و ٤) الجمعة : ١١.

(٥) البقرة : ٢٨.

(٦) أنوار التنزيل وأسرار التأويل ٢ : ٥٠٩.

(٧) الشورى : ٤٩.

٣٢٧

إنّما قدّمه لأنّه أقدم ، فإنّ الأشياء في الابتداء كانت في حكم الأموات ؛ كالنطفة والتراب (١). انتهى.

وهذا راجع إلى بعض ما قدّمناه.

وربّما يخطر بخلدي أنّ الوجه في ذلك أنّ غرابة خلق الموت أكثر من غرابة خلق الحياة ولو بحسب ظنّ الناس وتوهّمهم ، فلذا قدّمه في مقام ذكر أنّ بيده الملك ، وأنّ له التصرّف في كلّ شيء ، وأنّه على كلّ شيء قدير ، ليكون إشارة إلى استواء نسبة قدرته إلى كلّ شيء ، فلا يتصوّر أهون وأصعب في أفعاله تعالى ؛ بل الجميع بالنسبة إلى قدرته على حدّ سواء ، فخلق النملة عنده كخلق الفيل ، وإيجاده السماوات والأرضين وما بينهما مثل إيجاده الذرّة بلا تفاوت ، فأمره (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢) وفي قوله في الجوشن الكبير : «يا من في الممات قدرته» (٣). إشعار بهذا الوجه.

وقوله : (الَّذِي خَلَقَ) محتمل لكونه استئنافا بيانيّا ، لكونه جوابا عن السؤال المقدّر عن مقدار قدرته ، ولكونه بدلا عن الّذي بيده الملك ، ولكونه خبرا عن المبتدأ المحذوف ؛ أي هو الّذي خلق الموت.

وقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ) تعليل لخلق هذين الأمرين بالعلّة الغائيّة ، وهذا التعليل مذكور أيضا في قوله تعالى في سورة هود : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ) ... (٤) إلى آخره. أي :

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٠٨.

(٢) يس : ٨٢.

(٣) مفاتيح الجنان ، دعاء الجوشن الكبير.

(٤) هود : ٧.

٣٢٨

فائدة هذا الخلق هو الاختبار والامتحان ؛ إذ «عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان» من بلاه يبلوه : إذا اختبره وامتحنه ، وبمعناه : ابتلاه ، والاسم «البلاء» كال «سلام» ومنه قوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (١).

قيل : البلاء على ثلاثة أوجه : نعمة واختبار ومكروه ؛ والاختبار حقيقة في أن يفعل الجاهل بحقيقة الأمر فعلا يريد أن يعلم به ما في نفس الأمر وحقيقته ، ولا ريب أنّ هذا لا يصحّ بالنسبة إلى الله الّذي لا تخفى عليه الحقائق والعواقب ، فالمراد به في الآية ونحوها معناه المجازي ، وهو إظهار ما علمه لغيره ليطّلع عليه ، لا ليعلم الله ما لم يعلم.

والحاصل : أنّ فائدة هذا الاختبار راجعة إلى المختبر الجاهل بحقيقة أمره ، لا إلى المختبر بالكسر.

قال الطريحيّ : قوله : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٢) ؛ أي يختبرها ، واختبار الله العباد : امتحانهم وهو عالم بأحوالهم فلا يحتاج أن يختبرهم [ليعرفهم]. قال : وتحقيق هذا المجاز أنّ الله يكلّف العباد ليثيب المحسن ، ويجازي المسيء (٣). انتهى.

ولذا قال البيضاويّ في تفسير هذه الآية : ليعاملكم معاملة المختبر بالتكليف (٤). انتهى.

__________________

(١) الصافّات : ١٠٦.

(٢) محمّد صلّى الله عليه وآله : ٣١.

(٣) مجمع البحرين ١ : ٦١٨ (خبر).

(٤) أنوار التنزيل وأسرار التأويل ٢ : ٥٠٩.

٣٢٩

ونحوه ما في مجمع البيان (١).

وقال الزمخشري في الكشّاف : وسمّى علم الواقع منهم باختبارهم «بلوى» وهي الخبرة استعارة من فعل المختبر ، ونحوه قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) (٢) (٣). انتهى.

وفي الكلّيّات : إنّ البلاء أصله الاختبار ، وفي ذلك بلاء : أي محنة إن أشير إلى صنائعهم ، أو نقمة إن أشير إلى الإنجاء. وفعل البلوى يتعدّى إلى مفعول واحد بنفسه ، وإنّما يتعدّى إلى الثاني بواسطة الباء. انتهى.

وعلى ما ذكره من عدم تعدّي هذا الفعل بنفسه إلّا إلى المفعول الواحد ، فلا تعلّق لقوله : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) إلّا أن يقال كما في الكشّاف :

إنّ قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ) تضمّن معنى العلم ، فكأنّه قيل : ليعلمكم أيّكم أحسن عملا. قال : وإذا قلت علمته أزيد أحسن عملا أم هو ، كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه ؛ كما تقول : علمته هو أحسن عملا (٤). انتهى.

وبه صرّح البيضاويّ أيضا قال :

جملة واقعة موقع المفعول الثاني لفعل البلوى المتضمّن معنى العلم (٥). انتهى.

ويمكن أن يقال : لا تضمين في قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ) بل يقال : إنّ فعل

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ٤٨٤.

(٢) محمّد صلّى الله عليه وآله : ٣١.

(٣ و ٤) الكشّاف ٤ : ٥٧٥.

(٥) أنوار التنزيل وأسرار التأويل ٢ : ٥٠٩.

٣٣٠

«العلم» محذوف بقرينة فعل «البلوى» فالتقدير «ليبلوكم فيعلم أيّكم أحسن عملا» كما صرّح به شيخنا الطبرسي رحمه الله (١).

وعليه ، ففي الكلام تعليق ، وهو إبطال العمل لفظا خاصّة ، فمحلّ هذه الجملة ؛ أي قوله : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) نصب ، ولذا ينصب المعطوف عليها ، وهو ـ أي التعليق في هذا الباب ـ واجب عند دخول واحد من المعلّقات على الجملة ، وهي «ما» و «لا» و «إن» النافيات ، و «لام» الابتداء والاستفهام.

قال السيوطيّ : سواء تقدّمت أداته على المفعول الأوّل نحو «علمت أزيد قائم أم عمرو» أم كان المفعول اسم استفهام نحو (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) أم أضيف إلى ما فيه معنى الاستفهام نحو «علمت أبو من زيد» فإن كان الاستفهام في الثاني نحو «علمت زيدا أبا من هو» ، فالأرجح نصب الأوّل ، لأنّه غير مستفهم به ، ولا مضاف إليه. قاله في شرح الكافية. انتهى.

بخلاف الإلغاء ، وهو إبطال العمل لفظا ومحلّا بوقوع الفعل في الوسط ، فإنّه جائز ، وربّما يعدّ من المعلّقات «لعلّ» و «لو».

قال الطبرسيّ : وارتفع «أيّ» بالابتداء ، وإنّما لم يعمل فيه ما قبله لأنّه على أصل الاستفهام (٢). انتهى.

وأمّا على الأوّل فلا تعليق ، قال في الكشّاف بعد ذكر ما تقدّم من العبارة :

فإن قلت أتسمّي هذا تعليقا؟ قلت : لا ، إنّما التعليق أن توقع بعد ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعا ؛ كقولك : «علمت أيّهما عمرو ، وعلمت أزيد

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٤٠٧.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤٠٧.

٣٣١

منطلق» ألا ترى أنّه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدرا بحرف الاستفهام ، وغير مصدر به ، ولو كان تعليقا لافترقت الحالتان ؛ كما افترقتا في قولك «علمت أزيد منطلق» و «علمت زيدا منطلقا (١). انتهى.

وقال البيضاويّ بعد عبارته المتقدّمة :

وليس هذا من باب التعليق ، لأنّه يخلّ به وقوع الجملة خبرا لما لا يعلّق الفعل عنها ؛ بخلاف ما إذا وقعت موقع المفعولين (٢). انتهى.

وكلمة «أيّ» في الآية استفهاميّة معربة بالرفع على الابتدائيّة.

وقوله : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قد حذف معادله ، وهو : «وأيّكم أسوأ عملا» كما في قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٣) ؛ أي : والبرد. وفي الاكتفاء بذكر الأحسن عملا إشارة إلى أنّ المقصود الأصليّ من الخلق هو حسن العمل ، ولا تنافي هذه الآية قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٤) فإنّ العبادة من أحسن العمل ، والقرآن يكشف بعضه عن بعض ، ومدخليّة الحياة في تحسين العمل واضحة ، فإنّ بها يقتدر العبد على الأعمال الصالحة ، وأمّا مدخليّة الموت فإنّ ذكره زاجر للعبيد عن المعاصي ، وموجب لعدم الوثوق بالدنيا الّتي هي أسّ كلّ خطيئة ، ورأس كلّ معصية.

وفسّر في العرائس (أَحْسَنُ عَمَلاً) بالّذي يدركه التوفيق فيحييه بالطاعة في الدنيا ، ويبعده عن المعصية.

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٥٧٥.

(٢) أنوار التنزيل وأسرار التأويل ٢ : ٥٠٩.

(٣) النحل : ٨١.

(٤) الذاريات : ٥٦.

٣٣٢

وفي بعض الأخبار : أنّ المراد أيّكم أتمّ عقلا ؛ أي معرفة وخشية (١) من الله ، فإنّ العقل ما عبد به الرحمن ، واكتسب به الجنان (٢).

وقد فسّر ليعبدون بـ «ليعرفون». وقد ورد في جملة من الروايات : أنّ ثواب العمل على مقدار المعرفة والعقل.

وفي رواية سليمان الديلميّ [عن أبيه] قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : فلان من عبادته ودينه وفضله كذا. فقال : كيف عقله؟ قلت : لا أدري. فقال : إنّ الثواب على قدر العقل ، إنّ رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر ، خضراء نضرة ، كثيرة الشجر ، طاهرة الماء ، وإنّ ملكا من الملائكة مرّ به فقال : يا ربّ أرني ثواب عبدك هذا ، فأراه الله ذلك فاستقلّه (٣) الملك ، فأوحى الله إليه أن اصحبه ، فأتاه الملك في صورة إنسيّ فقال له : من أنت؟ فقال : أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان ، فأتيتك لأعبد الله معك ، فكان معه يومه ذلك ، فلمّا أصبح قال له الملك : إنّ مكانك لنزه وما يصلح إلّا للعبادة. فقال له العابد : إنّ لمكاننا هذا عيبا. فقال له : ما هو؟ قال : ليس لربّنا بهيمة ، فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع ، فإنّ هذا الحشيش يضيع. فقال له الملك : وما لربّك حمار؟ فقال : لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش. فأوحى الله إلى الملك : إنّما أثيبه على قدر عقله (٤). انتهى.

__________________

(١) إشارة إلى رواية في البحار ٧٠ : ٢٣٢.

(٢) إشارة إلى حديث في الكافي ١ : ١١.

(٣) أي : رآه قليلا.

(٤) بحار الأنوار ١٤ : ٥٠٦.

٣٣٣

وعن النبيّ صلّى الله عليه وآله : إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله ، فإنّما يجازى بعقله (١). انتهى.

وعن الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية : ليس يعني أكثر عملا ، ولكن أصوبكم عملا ، وإنّما الإصابة خشية الله ، والنيّة الصادقة [والحسنة] ثمّ قال : الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل ... (٢) انتهى.

وفي الكشّاف عند تفسير (أَحْسَنُ عَمَلاً) : قيل : أخلصه وأصوبه ، لأنّه إذا كان خالصا غير صواب لم يقبل ، وكذلك إذا كان صوابا غير خالص ، فالخالص أن يكون لوجه الله تعالى ، والصواب أن يكون على السنّة.

وعن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه تلاها ، فلمّا بلغ قوله : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال : أيّكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله (٣) ، يعني أيّكم أتمّ عقلا عن الله ، وفهما لأغراضه ، قال : والمراد أنّه أعطاكم الحياة الّتي تقدرون بها على العمل ، وتستمكنون منه ، وسلّط عليكم الموت الّذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح ، لأنّ وراءه البعث والجزاء الّذي لا بدّ منه (٤). انتهى.

وفي مصباح الشريعة : قال الصادق عليه السلام : ذكر الموت يميت الشهوات في النفس ، ويقطع منابت الغفلة ، ويقوّي القلب بمواعد الله ، ويرقّ الطبع ، ويكسر أعلام الهوى ، ويطفئ نار الحرص ، ويحقّر الدنيا ـ إلى

__________________

(١) الكافي ١ : ١١.

(٢) الكافي ٢ : ١٦.

(٣) انظر : بحار الأنوار ٧٠ : ٢٣٢.

(٤) الكشّاف ٤ : ٥٧٥.

٣٣٤

أن قال ـ ومن لا يعتبر بالموت ، وقلّة حيلته ، وكثرة عجزه ، وطول مقامه في القبر ، وتحيّره في القيامة ، فلا خير فيه ... (١) إلى آخره.

ولمّا كانت الآية مسوقة للترغيب على الطاعة ، والترهيب عن المعصية والمخالفة ، ختمها باسمي «العزيز» و «الغفور» لدلالة الأوّل على أنّه الغالب الّذي لا يعجزه من خالف أمره ونهيه ، فلا ينقص من ملكه إساءة المسيء ، وكفر الكافر ، والثاني على أنّه لا ينبغي للعاصي أن ييأس من روحه ورحمته ، فإنّه غفّار لمن تاب وعمل صالحا.

وفي العرائس : عن سهل أنّه قال في قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الممتنع في ملكه ، الغفور يستره بجوده.

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) ويحتمل في ما قدّمناه وكونه نعتا للغفور ومبتدأ خبره ما ترى. وفيه أيضا برهان على كمال قدرته ، وإشارة إلى بعض آثار نافذ مشيّته. وفي قوله (خَلَقَ) ردّ على من زعم من الفلاسفة أنّ الأفلاك وأجرامها قديمة أزليّة بالذات والصفات ؛ كأرسطو ، وأبي نصر الفارابيّ ، ومن زعم أنّها قديمة الذات محدثة الصفات كتاليس الملطيّ ، وانكساغورس ، وفيثاغورس ، وسقراط ، وجميع فرق الثنويّة ، فإنّ الخلق معناه الاختراع ، ويلزمه الحدوث ؛ وعليه المسلمون كافّة ، بل جميع أهل الملل إلّا بعض المجوس. وهذا مذهب أفلاطون على ما حكي عنه.

__________________

(١) مصباح الشريعة : ١٧١.

٣٣٥

قال العلّامة المجلسيّ رحمه الله في البحار : إذا أمعنت النظر فيما قدّمناه ، وسلكت مسلك الإنصاف ، ونزلت عن مطيّة التعنّت والاعتساف ، حصل لك [القطع] من الآيات المتضافرة ، والأخبار المتواترة الواردة بأساليب مختلفة ، وعبارات متفنّنة من اشتمالها على بيانات شافية ، وأدلّة وافية ؛ بالحدوث بالمعنى الّذي أسلفناه ، ومن تتبّع كلام العرب ، وموارد استعمالاتهم ، وكتب اللغة ، يعلم أنّ الإيجاد ، والإحداث ، والخلق ، والفطر ، والإبداع ، والاختراع ، والصنع ، والإبداء لا يطلق (١) إلّا على الإيجاد بعد العدم.

وقال المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات : إنّ أهل اللغة فسّروا الفعل بإحداث شيء ما (٢). وقال أيضا : الصنع : إيجاد شيء مسبوق بالعدم ، وفي اللغة : الإبداع : الإحداث ، ومنه البدعة ، لمحدثات الأمور. وفسّروا الخلق بإبداع شيء بلا مثال سابق.

وقال ابن سينا في رسالة الحدود : الإبداع اسم مشترك لمفهومين أحدهما تأسيس الشيء لا عن شيء [ولا بواسطة شيء] ، والمفهوم الثاني أن يكون للشيء وجود مطلق عن سبب بلا متوسط ، وله في ذاته أن يكون موجود ... (٣) إلى آخره. انتهى.

والخلق : يشمل التكوين والابتداع والاختراع ، وقد اصطلح الحكماء على تسمية ما يفعله الله بالكائن إذا كان مسبوقا بالمادّة والمدّة ؛ كالعناصر

__________________

(١) في المصدر : تطلق.

(٢) ليست في المصدر.

(٣) بحار الأنوار ٥٧ : ٢٥٤.

٣٣٦

والعنصريّات ، فإنّها زمانيّة ومسبوقة بالهيولى ، وبالمبتدع إذا لم يكن مسبوقا بشيء منهما ؛ كالعقول والنفوس المجرّدة ، فإنّها سابقة على وجود الزمان والهيولى ، وبالمخترع إذا كان مسبوقا بالمادّة دون المدّة ؛ كالفلك والفلكيّات ، فإنّ المدّة قد حدثت بخلق الفلك ، فإنّها عبارة عن مقدار حركته المتأخّرة عن خلق جرمه وجسمه ، ولكنّه خلق من المادّة ، ففي رواية : إنّ الله كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا قبل الماء ، فلمّا أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسمّاه سماء ، ثمّ أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثمّ فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين ... (١) إلى آخره.

وفي أخرى في تفسير قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (٢) فكان ذلك الدخان من تنفّس الماء حين تنفّس ، فجعلها سماء واحدة ، ثمّ فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين ... إلى آخره.

ويدلّ على أنّ السماوات سبع قوله تعالى أيضا : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣) وقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) ... (٤) إلى آخره.

وفي رواية مرويّة في «العلل» و «العيون» و «الخصال» : إنّ شاميّا سأل أمير المؤمنين عليه السلام فقال : ممّ خلق السماوات؟ قال : من بخار الماء.

__________________

(١) بحار الأنوار ٥٧ : ٢٠٤.

(٢) فصّلت : ١١.

(٣) البقرة : ٢٩.

(٤) فصّلت : ١١ و ١٢.

٣٣٧

وسأله عن سماء الدنيا [من] ما هي؟ قال : من موج مكفوف.

وسأله كم طول الكوكب وعرضه؟ قال : إثنا عشر فرسخا في اثني عشر فرسخا.

وسأله عن ألوان السماوات السبع وأسمائها؟

فقال عليه السلام له : اسم السماء الدنيا «رقيع» (١) وهي من ماء ودخان ، واسم السماء الثانية «قيدوم» وهي على لون النحاس ، والسماء الثالثة اسمها «المأروم» (٢) وهي على لون الشبه ، والسماء الرابعة اسمها «أرفلون» (٣) وهي على لون الفضّة ، والسماء الخامسة اسمها «هيعون» (٤) وهي على لون الذهب ، والسماء السادسة اسمها «عروس» وهي ياقوتة خضراء ، والسماء السابعة اسمها «عجماء» وهي درّة بيضاء ... (٥) إلى آخره. انتهى.

وأمّا ما ذكره أرباب الهيئة من أنّ الأفلاك تسعة فهو مبنيّ على جعل الكرسيّ والعرش أيضا من الأفلاك. قالوا : إنّ العالم الجسمانيّ منضدة من ثلاث عشرة كرة أعلاها الفلك الأطلس ، ويسمّى الفلك الأعظم ، والفلك الأعلى ، وفلك الأفلاك ، ولا كوكب فيه ، ولذا سمّي بالأطلس. وقيل : إنّه كاسمه غير مكوكب. ويقال له محدّد الجهات.

قال قطب الدين الشيرازيّ في كتابه المسمّى بـ «نهاية الإدراك في دراية

__________________

(١) في العلل : رفيع.

(٢) في العلل : المادون.

(٣) في الخصال : أرقلون.

(٤) في الخصال : هيفون.

(٥) علل الشرائع : ٥٩٣ ؛ والخصال : ٣٤٤ ؛ وبحار الأنوار ٥٨ : ٨٨.

٣٣٨

الأفلاك» : إذ به وبمركزه وهي النقطة الّتي تتساوى جميع الخطوط المستقيمة الخارجة منها إلى ذلك السطح الّذي مركز العالم يحدّد جهتها العلوّ والسفل الطبيعتان تنقسم إلى بسيط ومركّب ، والبسيط ما تتشابه أجزاؤه وطباعه ؛ أي لا تنقسم إلى أجسام مختلفة الصور والطبائع ، بل له طبيعة واحدة يصدر عنها ما يصدر على نهج واحد ، والمركّب ضدّه. والبسيط ينقسم إلى أثيريّ وعنصريّ ، والأوّل هو الأفلاك وما فيها من الكواكب ، وتسمّى الأثيريّات ، والسماوات ، والأجرام العلويّة ، والعالم العلويّ ، وعالم الأفلاك. والثاني هو العناصر الأربعة المشهورة المسمّى بالاستقصاءات بما فيها من المركّبات وتسمّى العنصريّات ، والأرضيّات ، والأجرام السفليّة ، والعالم السفليّ ، وعالم الكون والفساد. انتهى.

وكيف كان ففي تسمية هذا الفلك بالعرش أو الكرسيّ اختلاف يظهر من اختلاف الأخبار ، ففي بعضها وهو رواية الفضيل في تفسير قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (١) أنّ السماوات والأرض وكلّ شيء في الكرسيّ (٢).

وفي بعضها : إنّ كلّ شيء خلق الله في جوف الكرسيّ خلا عرشه ، فإنّه أعظم من أن يحيط به الكرسيّ (٣).

وفي بعضها : ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسيّ إلّا

__________________

(١) البقرة : ٢٥٥.

(٢) في الكافي ١ : ١٣٢ ... فقال عليه السلام : يا فضيل ، كلّ شيء في الكرسيّ ، السماوات والأرض ، وكلّ شيء في الكرسيّ.

(٣) بحار الأنوار ١٠ : ١٨٨.

٣٣٩

كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإنّ فضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على تلك الحلقة (١).

وبالجملة : الفلك الثامن سواء سمّي بالعرش أو الكرسيّ هو فلك الثوابت وفلك الروح ، وهو تحت الفلك الأطلس ، وهذه الكواكب الثابتة فيه مركوزة في شحنته وحجمه ، وحركتها بطيئة كحركة فلكها ، فترى كأنّها ثابتة بخلاف الكواكب السبعة السيّارة الّتي في كلّ فلك من الأفلاك السبعة الواقعة تحت فلك الثوابت واحد منها وكلّ فيها يسبحون. هذا مجمل من شرح الأفلاك التسعة على مذهب الحكماء وأهل الهيئة ، ولعلّ تسميتهم العرش والكرسيّ فلكا لكونهما كرتان متحرّكتان حول العالم ، فيصدق عليهما تعريف الفلك.

ولعلّ حصر الأفلاك في السبعة ـ كما هو ظاهر القرآن والأخبار ـ لما في كلّ واحد منها من الكواكب السيّارات. وأمّا كرة الماء والهواء والنار والأرض فهي واقعة تحت الفلك السابع المسمّى بفلك القمر ، فمجموع العالم الجسمانيّ منضّد من الثلاث عشرة كرة. وأمّا العالم الروحانيّ ، فلا يحيط بعلمه سوى الله. وقد قيل : إنّ العالم اسم كلّ ما وجوده ليس من ذاته ، وهو منقسم إلى روحانيّ وجسمانيّ.

وقوله : (طِباقاً) بكسر «الطاء» في التفسير الصادقي عليه السلام : بعضها طبق لبعض (٢). انتهى ؛ أي مطابقة.

__________________

(١) بحار الأنوار ٥٨ : ١٧ منقولا عن الدرّ المنثور ؛ وفي معاني الأخبار : ٣٣٢.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ : ٣٧٨.

٣٤٠