تفسير ستّ سور

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

تفسير ستّ سور

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-3-3
الصفحات: ٤٨٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[المقدّمة]

مصلّيا على فاتحة كتاب الوجود ، وخاتمة دائرة الموجود ، صاحب المقام المحمود ، الّذي فتح الله له أبواب خزائن الجود بإفاضة الوجود ، وعلى آله شموس أفلاك الولاية ، وأنوار أقمار الهداية ، المخصوصين بأعلى مراتب الكشف والشهود ، صلاة دائمة إلى اليوم الموعود.

أمّا بعد ، فيقول الفقير إلى رحمة الله ؛ ابن علي مدد حبيب الله : إنّ العقول والبصائر وإن كلّت عن درك أسرار القرآن ، والأفكار والأنظار وإن انحسرت في مشاهدة أنوار الفرقان ، إلّا أنّ الله عزّ وجلّ قد جعل لكلّ عبد أخلص (١) قلبه للإيمان حظّا من البصائر ، وإلهاما في الخاطر ، ينكشف له بذلك بعض معضلات القرآن من عباراته ، وتنحلّ نبذة من الغوامض بإشاراته ، وقد سنح لهذا العبد القاصر عند تفسيري لسورة «الفتح» سوانح ، ولاح لي بعون الملك القادر لوائح ، ولا بأس بكشف القناع عن بعض وجوه هذه السوانح ، وتوضيح رموز بعض هذه اللوائح ، مع انكساف البال ، واختلال الحال ، وعلى الله التكلان في جميع الأحوال.

__________________

(١) «أ» : اختصّ.

١٠١

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قد برهنّا في «زبرنا الفقهيّة» أنّ البسملة من السورة ، وبيّنّا تفسيرها في تفسيرنا لسورة الفاتحة.

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) الفتح والإفتاح والتفتيح والافتتاح في الأصل هو ضدّ الإغلاق ، وإلى هذا الأصل يؤول جميع ما ذكروه من المعاني ؛ كالعلم ، والحكم ، والبسط ، والنصر ، والقهر ، والتيسير (١) ، وبكلّ فسّرت الآية ، وإن احتيج في بعضها إلى تقدير اللام مبنيّة للمفعول بتقدير الإرادة ونحوها ، ولكن الّذي أحتمله وظنّي أنّه لم يسبقني إليه أحد أنّ المراد به هو فتح أبواب خزائن الجود ؛ أعني إفاضة الوجود على المهيّات الإمكانيّة الّتي في أنفسها أعدام ، بإخراجها من الغيب إلى عرصة الشهود ، فإنّ أبواب الوجود كانت مغلقة عليها مع ملاحظتها من حيث «هي هي» فإنّها من هذه الحيثيّة ما شمّت رائحة من الوجود.

واللام إشارة إلى أنّ مدخولها وهو الحقيقة المقدّسة المحمّديّة كانت علّة غائيّة للإيجاد ، كما قال : خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي. وقال : لولاك لما خلقت الأفلاك (٢). أو فتح أبواب المعرفة بالآثار والصفات الفعليّة المشار إليها بقوله عزّ وجلّ : كنت كنزا مخفيّا فخلقت الخلق لكي أعرف (٣). إذ ليس المراد بهذه المعرفة معرفة الذات ، فإنّ الحقّ لا يعرفه إلّا الحقّ ، فأبواب معرفة الذات مسدودة على غير أهله.

__________________

(١) «أ» : التيسّر.

(٢) بحار الأنوار ١٥ : ٢٨.

(٣) جاء في بيان العلّامة : «كما قال سبحانه : كنت ...» إلى آخره. بحار الأنوار ٨٧ : ١٩٩.

١٠٢

كيف الوصول إلى سعاد ودونها

قلل الجبال ودونهنّ حتوف

 والرجل حافية ومالي مركب

 والكفّ صفر والطريق مخوف

 و «اللام» إشارة إلى أنّ الغرض من هذا الفتح هو معرفة الحقيقة المحمّديّة لكونها مظهرا لصفات الله العليا ، ومرآة لأسمائه الحسنى ، ووجهه الّذي لا يهلك ولا يفنى ، كما قال : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١).

وقال : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ * وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢).

وفي الحديث : لولانا ما عرف الله (٣).

وقال صلّى الله عليه وآله : من رآني فقد رأى الله (٤).

وقال عليه السلام : إنّ معرفتي بالنورانيّة معرفة الله (٥).

ومن المحتمل أن تكون «اللام» في مقام الباء ، فتكون إشارة إلى أنّه صلّى الله عليه وآله فاتحة الكتاب التكوينيّ ؛ كما أنّ سورة الحمد فاتحة الكتاب التدوينيّ ، فهو المتجلّي الأوّل ، والعقل الأوّل ، وقد قال صلّى الله عليه وآله : أوّل ما خلق الله نوري (٦). ولا ينافي ذلك ما ورد من أنّ أوّل ما خلق الله اللوح ، أو القلم ، أو الماء ، أو الدرّة البيضاء ، أو غير ذلك ، فإنّ كلّا منها حكاية عن شأنه الخاصّ ، ومقامه المخصوص ، فالاختلاف على حسب اختلاف الاعتبارات والحيثيّات :

__________________

(١) القصص : ٨٨.

(٢) الرحمن : ٢٦ و ٢٧.

(٣) بحار الأنوار ٢٥ : ٤.

(٤) بحار الأنوار ٦١ : ٢٣٥. جاء هذا الحديث في بيان العلّامة ، وفيه بدل لفظة «الله» لفظة «الحقّ».

(٥) بحار الأنوار ٢٦ : ١. في حديث طويل ، ليس فيه لفظة «إن».

(٦) بحار الأنوار ٥٧ : ١٧٠.

١٠٣

عباراتنا شتّى وحسنك واحد

 وكلّ إلى ذاك الجمال يشير (١)

ووصف «الفتح بالمبين» إشارة إلى أنّ الوجود والمعرفة هما حقيقة النور وجوهره ، فإنّه عبارة عن الظاهر بنفسه ، المظهر لغيره وإن اختلفت مراتبه بالضعف والقوّة ، فإنّ ذلك لا يوجب الاختلاف في الجوهر والحقيقة وإن زعمه المشّائيّة.

والافتتاح بكلمة التحقيق (٢) والتأكيد المستعملة في مقام الترديد والإنكار ، دفع لما توهّمه المحرومون عن مشاهدة أنوار لوامع الأسرار ؛ من كونه كسائر من أخلد إلى أرض الناسوت ، ولم يصعد إلى سماء الجبروت لقوله : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (٣) ولم يعرفوا أنّه حكى بذلك هيكل بشريّته ، ومقام ناسوتيّته ، وإلّا فهو الاسم الأعظم ، والتجلّي المعظّم ، وسرّ الله المخزون ، وغيبه المكنون ، جلّ جلاله ، وتشعشع جماله :

بلغ العلى بكماله

كشف الدجى بجماله (٤)

ولقد منّ الله عليه صلّى الله عليه وآله بهذه المرتبة العليّة السنيّة ؛ الّتي هي أعلى المراتب الإمكانيّة ؛ الّتي لا يفوقها فائق ، ولا يدركها لاحق ، ولا يطمعها طامع ، ولا يطيق استماع كنهها سامع ، فقال : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) وقد روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وآله : لقد أنزلت عليّ آية هي

__________________

(١) جامع الأسرار ومنبع الأنوار : ٧٥ نقلا عن : التعليقة على الفوائد الرضويّة : ٨٦.

(٢) مراده كلمة «إنّا».

(٣) الكهف : ١١٠.

(٤) كلّيّات السعديّ ، كتاب گلستان : ٢٩.

١٠٤

أحبّ إليّ من الدنيا كلّها (١). أفترى أنّ ابتهاجه بهذه الآية كان لوعده بفتح مكّة ، أو بما اتّفق له في تلك السنة من فتح خيبر وفدك ، أو لصلح الحديبيّة ، أو لفتح الروم ـ على اختلاف التفاسير الّتي ذكرت في كتبها ـ؟ كيف ولا تعدل الدنيا وزخرفها وإقبالها ودولتها وسلطنتها وفتح بلادها من المشرق والمغرب عنده صلّى الله عليه وآله مقدار جناح البعوضة وما دونها؟ اللهمّ إلّا أن يكون في ذلك إعلاء لكلمة الإسلام ؛ الكاشفة عن شأنه ورتبته المخصوصة به من بين الأنام.

فيحتمل أن يراد بـ «الفتح المبين» ما نطقت به ألسنة القشريّين من المفسّرين ، لكونه كاشفا عن فضله على اليقين للعوامّ دون الخصّيصين من أرباب الشهود ، الواقفين على سرّ الوجود ، فإنّهم ما عرفوه بشؤون الناسوت ؛ بل شاهدوه بعين الملكوت ، أنّه الفارع (٢) من حضيض الإمكان إلى أوج قرب الحيّ الّذي لا يموت ؛ حتّى دنى فتدلّى ، فكان قاب قوسين أو أدنى (٣).

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) التفات من التكلّم إلى الغيبة ، وتعبير على خلاف ما يقتضيه ظاهر سوق الكلام ، وانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر غير ما يترقّبه المخاطب ، تطرئة لنشاطه ، وإيقاظا في إصغائه ، وهذا لاشتماله على النكتة الّتي هي من خواصّ التركيب من فنون المعاني ، ولكونه من إيراد المعنى الواحد على طرق مختلفة في الوضوح من فنون البيان ، ولكونه موجبا لتحسين الكلام وتزيينه من علم البديع ؛ كما صرّح به

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ١٤٠.

(٢) «ب» : العارج.

(٣) إشارة إلى الآية ٩ من سورة النجم.

١٠٥

بعض الأفاضل ، وكلمات الفصحاء والبلغاء مشحونة به ، والنكتة الّتي أشرنا إليها عامّة لجميع موارده ، ولكن قد يختصّ كلّ مورد منها بلطيفة خاصّة به سوى هذا الوجه العامّ على حسب مناسبة المقام.

ولعلّ الوجه فيه في الآية ، مضافا إلى صحّة إدراج لفظة الجلالة الّتي هي الاسم الأعظم الجامع لجميع الأسماء ؛ المحتوي على جميع خواصّها المناسبة لرتبة المخاطب ؛ الجامع لجميع كمالات الأنبياء ؛ المخصوص بمظهريّة جميع الصفات والأسماء ، المسمّى باسم «عبد الله» في اصطلاح الأولياء ، أنّ العبد لا يصدر عنه الذنب إلّا وهو غائب بزعمه عن الله ، فإنّ الغفلة عن الشيء وعدم الالتفات عنه بمنزلة الغيبة عنه ؛ وإن كان حاضرا شاهدا ، فلا يمكن صدور الذنب عن العبد المؤمن الموقن بأنّه تعالى يراه إلّا إذا التفت إلى سواه ، فاحتجب عن ربّه بمرديات هواه.

ففي الالتفات إشارة أيضا إلى أنّ المذنب كما يلتفت عن الربّ وينصرف بوجهه عنه ، كذلك الربّ يلتفت ويصرف وجهه عنه ويعرض عن محاضرته كأنّه غائب عنه ؛ كما قال : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (١) ، وقال : (نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ) (٢) حسما لجرأة العبد على مخالفة الربّ ، وإلى أنّ العبد لا يغيب عن الله وإن زعم أنّه تعالى يغيب عنه.

ولذا صحّ الخطاب من جهته تعالى إليه ، وأنّه يعفو عن ذنبه مع هذا الزعم لكمال رأفته به ، وتمام رحمته له ، قال عليه السلام : فلو اطّلع اليوم على ذنبي

__________________

(١) التوبة : ٦٧.

(٢) الجاثية : ٣٤.

١٠٦

غيرك ما فعلته ، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته ؛ لا لأنّك أهون الناظرين إليّ ، وأخفّ المطّلعين عليّ ، بل لأنّك يا ربّ خير الساترين ، وأحكم الحاكمين ، وأكرم الأكرمين ، ستّار العيوب ، غفّار الذنوب ، علّام الغيوب ، تستر الذنب بكرمك ، وتؤخّر العقوبة بحلمك ... (١) إلى آخره.

قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ) متعلّق بـ «فتحنا» وتعليل للفتح ، من غفره : إذا ستره ، وغفر الله له ذنبه : إذا غطّى عليه وعفا عنه.

و «الذنب» الإثم ، وفعل ما لا يحلّ.

فإن قيل : إنّ المعصوم كيف يكون مأثوما حتّى يغفر ذنبه؟

قلت : أما سمعت ما قيل من أنّ «وجودك ذنب لا يقاس به ذنب» فهو مأخوذ من قول الشاعر :

إذا قلت ما أذنبت قالت مجيبة

حياتك ذنب لا يقاس به ذنب

فلعلّ المراد من الذنب المنسوب إليه في الآية هو رؤية وجوده الشريف ، وعدم الفناء عنه بكلّيّته ، فإنّ ذلك وأمثاله يعدّ ذنبا عند المقرّبين ، فكم من حسنات للأبرار هي سيّئات للمقرّبين (٢) ، فالالتفات إلى غير الله كالاتّصاف بالنقائص الطبيعيّة البشريّة الّتي لا بدّ منها في عالم الناسوت ذنب يستغفر عنه أصفياء الله. ولذا كان صلّى الله عليه وآله يستغفر ربّه في كلّ يوم سبعين

__________________

(١) فقرة من دعاء أبي حمزة الثماليّ المأثور عن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام ، معروف عند العامّ والخاصّ. راجع : مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي.

(٢) إشارة إلى عبارة معروفة وجدتها في بيان العلّامة ، في البحار ٢٥ : ٢٠٥ وهي : حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

١٠٧

مرّة (١) ، مع أنّه كان لم يزل يترقّى في كلّ آن عن درجة من العبوديّة إلى درجة فوقها ، فيرى الدرجة السابقة نقصا في خضوعه لربّه بالنسبة إلى الدرجة اللاحقة ، فيستغفر من ربّه ما فات من مراتب القرب والخضوع في الدرجة السابقة ؛ إذ كلّما زاده الخضوع رأى عظمة ربّه أكثر ممّا رآه قبل ذلك ، فيرى من نفسه التقصير في العبوديّة والتعظيم ، ألا ترى أنّ المصلّي في ركوعه يذكر الله باسمه العظيم ، وفي سجوده باسمه الأعلى؟

ف «ما تقدّم من ذنبه» كناية عن الأطوار السابقة وما تأخّر عن الدرجات اللاحقة قبل أن ينتهي إلى ما أراد منه من أعلى مدارج القرب ، وأرفع معارج الوصول إلى حضرة الربّ.

ومن المحتمل أن يكون الأوّل إشارة إلى وجوده الإبداعيّ ، والثاني إلى وجوده التكوينيّ والاختراعيّ ، فإنّ فعل الله : إمّا أن يكون مسبوقا بالمدّة والمادّة فيسمّى بالكائن.

وإمّا أن يكون غير مسبوق بشيء منهما وهو المبتدع.

وإمّا أن يكون مسبوقا بالمادّة دون المدّة. والأوّل كالعناصر والعنصريّات ، والثاني كالعقول والنفوس المجرّدة ، والثالث كالفلك والفلكيّات ، فإنّ الزمان من حركة الأفلاك.

ف «النبيّ» الأجلّ الّذي هو آدم الأوّل المخلوق على صورته عزّ وجلّ ، قد طوى من أوّل ما أبدعه جميع مراحل الوجود ؛ سوى مرحلة الأحديّة الذاتيّة إلى أن شعشع نوره آفاق عالم الشهود ، فإنّ مراحل الوجود ـ على ما حقّقه العارفون ـ خمس :

__________________

(١) إشارة إلى ما ورد في البحار ٢٥ : ٢١٠ من : إنّي لأستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة.

١٠٨

الأولى : مرتبة الأحديّة الذاتيّة الّتي لا فيها اسم ، ولا رسم ، ولا صفة ، وفيها كان الله ولم يكن معه شيء ، والآن كما كان. وهذه مرحلة الوجوب الذاتيّ ، لم يصل ولا يصل ولن يصل إليها شيء من مبدعاته وكائناته ومخترعاته ، وهو مقام الهويّة المطلقة ، وفيه اتّحدت الذات والأسماء والصفات ؛ كما قال عليه السلام : كمال التوحيد نفي الصفات عنه (١). ويسمّى هذا المقام باللاهوت ، وقد سدّ بابه على كلّ شيء دونه ، وهو غيب الغيوب ، ومقام الأحديّة المحضة ، والسرّ المستسرّ ، فلا سبيل لغيره إلى معرفته ، كما قال : ما عرفناك حقّ معرفتك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك (٢).

الثانية : مرتبة الأحديّة الجمعيّة ؛ أي الجامعة لجميع الأسماء والصفات على وجه الإجمال ؛ نظير جامعيّة كلمة الجلالة لسائر الأسماء الإلهيّة ، ونظير الأصل للفروع والبذر للثمار. وهذه مرتبة الصادر الأوّل الّذي مع كونه بسيط الحقيقة ، فيه كلّ شيء «كلّ شيء فيه معنى كلّ شيء».

فتفطّن واصرف الذهن إليّ ، وهو العقل الأوّل ، وآدم الأوّل ، وامّ الكتاب الّذي جميع الموجودات آياته الّتي فصّلت من لدن حكيم خبير ، وهو العالم الأوّل ، فإنّ العالم في اللغة اسم لما يعلم به كالخاتم لما يختم به ، فلا ينبغي

__________________

(١) إشارة إلى كلام أمير الكلام عليه السلام في نهج البلاغة : الخطبة الأولى : وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه.

(٢) هكذا جاء في البحار ٧١ : ٢٣ : قال سيّد العابدين والعارفين والشاكرين صلّى الله عليه وآله : لا أحصي ثناء عليك ، أنت ما أثنيت على نفسك ، وقال صلّى الله عليه وآله : ما عبدناك حقّ عبادتك ، وما عرفناك حقّ معرفتك.

١٠٩

إطلاقه على مرتبة الأحديّة الذاتيّة ، فإنّها ممّا لا يعلم به. ولذا قالوا : إنّ العالم هو ما سوى الله. فهذه المرتبة لكونها من فعل الله ، سوى الله ، وهو ممّا يمكن أن يعلم به ، ولمّا لم يسبق بغير الله فيكون عالما أوّلا ، ممكنا ذاتيّا لا واجبا كذلك ، وإن كان واجبا بالغير وقديما بالنسبة إلى ما دونه ، حادثا بالإضافة إلى ما فوقه ، وتسمّى هذه المرتبة بالحقيقة المحمّديّة ، فإنّها الجامعة لجميع الأسماء الحسنى ، والحاكية لجميع الصفات العليا ، ولذا ظهرت منها وبها ولها جميع الموجودات من المبدعات والكائنات والمخترعات ؛ كما قال : أنا من الله والمؤمنون منّي. وحديث شجرة اليقين المذكور في بعض الكتب كناية عن هذه المرتبة ، ورمز إلى هذا المقام ، ولمّا كانت هذه الحقيقة المقدّسة أوّل حاك عن الأسماء والصفات كانت نبوّة محمّد صلّى الله عليه وآله أصليّة ، فإنّ معنى النبيّ هو المخبر المنبئ عن الله فكان هو أوّل النبيّين كما قال : كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين (١). ولمّا كانت نبوّته أصليّة لم ينصرم دونه (٢) إلى آخر الدهر [بخلاف] (٣) كما في سائر النبوّات ، فإنّها منصرمة ، فهو آخر النبيّين وخاتمهم.

الثالثة : مرتبة الواحديّة الجمعيّة وهي مرتبة ظهور الأسماء والصفات وتعيّنها وتميّزها وبروز كلّ عن مكمن الغيب إلى الشهود على وجه خاصّ بالفيض المقدّس ؛ كما أنّ استفاضة المرتبة الثانية كانت بالفيض الأقدس ،

__________________

(١) بحار الأنوار ١٦ : ٤٠٢.

(٢) «أ» : وقته.

(٣) «أ» : كما في.

١١٠

وتسمّى هذه المرتبة بـ «عالم الجبروت» مبالغة من الجبر.

قال الغزاليّ في كتابه المسمّى بـ «كشف الوجوه» : والجبر إمّا بمعنى الإجبار ؛ من قولهم : جبرته على الأمر جبرا ، وأجبرته : أكرهته ، أو بمعنى الاستعلاء ؛ من قولهم : نخلة جبّارة : إذا فاقت الأيدي ، والجبّار : الملك تعالى كبرياؤه ، متفرّد بالجبروت ، لأنّه يجري الأمور مجاري أحكامه ، ويجبر الخلق على مقتضيات إلزامه ، أو لأنّه يستعلي عن درك العقول.

الرابعة : مرتبة الأرواح وتسمّى بـ «عالم الملكوت» مبالغة من الملك ؛ وهو التصرّف في الأشياء بالاستعلاء. وروي أنّه خلق الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة (١).

الخامسة : مرتبة الشهادة المطلقة وتسمّى بـ «عالم الملك ، والناسوت ، والأجسام ، والعنصريّات ، والطبيعيّات» ولتفصيل هذه المراحل محلّ آخر.

والغرض من ذكرها : أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كان سائرا في المراحل الإمكانيّة إلى مرحلة الشهادة ، وكان له في كلّ منها وجود خاصّ ، فالتفاته إلى هذا الوجود ذنب ؛ لكونه التفاتا إلى غير الله بحسب الظاهر.

وبعبارة اخرى : كان له وجه إلى الحقّ ووجه إلى الخلق لكونه واسطة بينهما ، فوجهه إلى الخلق يعدّ ذنبا متقدّما ومتأخّرا على التفصيل الّذي عرفته ، ومثل هذا الذنب لا ينافي العصمة المشترطة (٢) في الأنبياء والمقرّبين ؛ بل هو في الحقيقة ليس ذنبا ؛ إذ هو ممّا لا بدّ منه في إرشاد العباد ، ونظم

__________________

(١) جاء في البحار ٦١ : ١٣٦ : إنّ الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام.

(٢) «أ» : المشروطة.

١١١

المعاش والمعاد ، وإنّما أطلق عليه اسم الذنب لاعتذارهم عنه في مقام المناجاة ؛ إظهارا للتقصير في مقام العبوديّة لغاية التذلّل والتخشّع ؛ كما هو شأن العبد الذليل ، في حضرة الملك الجليل ، وقد يذكر لدفع هذه الشبهة وجوه اخر :

منها : أنّ الذنب مصدر مضاف إلى مفعوله دون فاعله ؛ أي لذنبهم إليك قديما بأذاهم لك في بدو البعثة وقبل الهجرة ، وحديثا بمنعهم لك عن دخول مكّة للحجّ ، وذلك بسبب دخول كثير منهم في الإسلام بسبب هذا الفتح الّذي صار سببا لشوكتك وعزّتك ، أو لزوال وصمة ما صنعوا بك من الإهانة والإذلال في المنع عن الدخول وغيره. فالمراد بالمغفرة على هذا : إزالة الوصمة والعار دون العفو عمّا صدر عنه بالاختيار ، فقد حصل الانجبار لهذا الانكسار ، بنصرة العزيز الجبّار.

ومنها : أنّه صلّى الله عليه وآله لمّا أظهر نبوّته وأمر المشركين بالتوحيد ونهاهم عن عبادة ثلاثمائة وستّين صنما ، كبر ذلك عليهم وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) (١) ، فنسبوه إلى الكذب والذنب ، فلمّا وقع له هذا الفتح علموا أنّه كان صادقا يدعو من عند الله ؛ حيث أظهره عليهم ، وكسر أصنامهم ، وأذلّ رؤساءهم من عبدة الأصنام. وقد ورد حديث عن الرضا عليه السلام قريبا من هذا الوجه ، فالمراد بالمغفرة إزالة الوصمة باعتقادهم.

ومنها : أنّه من قبيل «إيّاك أعني واسمعي يا جاره» لما ورد من أنّ القرآن

__________________

(١) الشورى : ٥.

١١٢

نزل على ذلك (١) ، فالمخاطب وإن كان [النبيّ صلّى الله عليه وآله] بحسب الظاهر إلّا أنّ المقصود منه هو الامّة لاتّصالهم به ، وانتسابهم إليه صلّى الله عليه وآله ، فجهادهم للمشركين وانتصارهم له صلّى الله عليه وآله في هذا الفتح صار سببا لمغفرة ذنوبهم الّتي صدرت عنهم قبل الفتح أو بعده.

وعلى هذا فالتجوّز إمّا في الإسناد ، لكفاية أدنى الملابسة في الإضافة ، أو في الكلمة ، لعلاقة المجاورة ونحوها. وكذا الكلام في الضمير المجرور باللام ، ولكنّ إبقاءه على ظاهره أولى ، فيكون المعنى : أنّ هذه المغفرة لهم كانت لأجلك ولحرمتك وشأنك ، لكونهم رعيّتك المتديّنين بدينك ، أو لشفاعتك (٢) لهم في الدنيا والآخرة.

ثمّ المراد بالامّة المغفورة المرحومة هم الامّة الإجابتيّة خاصّة ، وهم الّذين أجابوا دعوته ، واتّبعوا دينه ، وماتوا على ملّته الحنفيّة ، وإلّا فجميع من عاصره مذ دعا إلى توحيد الله إلى يوم القيامة كانوا من امّته وإن كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم من أهل الملل وغيرهم ، بل قد يقال في تفسير الآية (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) من آدم إلى زمانك ، (وَما تَأَخَّرَ) من زمانك إلى يوم القيامة ، فإنّ الكلّ أمّته ، فإنّه ما من امّة إلّا وهي تحت شرع محمّد صلّى الله عليه وآله من اسم الباطن من حيث «كان نبيّا وآدم بين الماء والطين» (٣) فدعا الكلّ إلى الله ، فالكلّ أمّته من آدم إلى يوم القيامة ، فبشّره الله

__________________

(١) جاء في البحار ٩٢ : ٣٨٢ : عن أبي عبد الله عليه السلام قال : نزل القرآن بـ «إيّاك أعني واسمعي يا جاره».

(٢) «أ» : بشفاعتك.

(٣) بحار الأنوار ١٨ : ٢٧٨.

١١٣

بالمغفرة لما تقدّم من ذنوب الناس وما تأخّر منها ، وكان هو المخاطب ، والمقصود : الناس ، فيغفر الكلّ ويعدهم ، وهو اللائق لعموم رحمته الّتي وسعت كلّ شيء (١) ، ولعموم مرتبة محمّد صلّى الله عليه وآله حيث بعث إلى الناس كافّة بالنصّ ولم يقل : أرسلناك إلى هذه الامّة خاصّة (٢).

أقول : والسرّ في ذلك كلّه وتوضيحه ما ذكره الغزاليّ في شرح قصيدة ابن فارض المصريّ من أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله هو المنبئ عن ذات الله وصفاته وأسمائه وأحكامه ومراداته ، والإنباء الحقيقيّ الذاتيّ الأوفى ليس إلّا للروح الأعظم الّذي بعثه الله إلى النفس الكلّيّة أوّلا ، ثمّ إلى النفوس الجزئيّة ثانيا ، لينبّئهم بلسانه العقليّ عن الذات الآخريّة ، والصفات الأزليّة ، والأسماء الإلهيّة ، والأحكام القديمة ، والمرادات الجسميّة ـ إلى أن قال ـ وكلّ نبيّ من آدم إلى محمّد صلّى الله عليه وآله مظهر من مظاهر نبوّة الروح الأعظم ، فنبوّته دائمة ونبوّة المظاهر عرضيّة ومنصرمة ، إلّا نبوّة محمّد صلّى الله عليه وآله فإنّها دائمة غير منصرمة ؛ إذ حقيقته حقيقة الروح الأعظم ، وصورته المصوّرة (٣) الّتي ظهر فيها الحقيقة بجميع أسمائها وصفاتها ، وسائر الأنبياء مظاهرها ببعض الأسماء والصفات ، تجلّت في كلّ مظهر بصفة من صفاتها ، واسم من أسمائها ، إلى أن تجلّت في المظهر المحمّديّ بذاتها وجميع صفاتها ، وختم به النبوّة ، فكان الرسول صلّى الله عليه وآله سابقا على جميع

__________________

(١) إشارة إلى الآية ١٥٦ من سورة الأعراف : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).

(٢) إشارة إلى الآية ٢٨ من سورة سبأ : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً).

(٣) «أ» : الصورة.

١١٤

الأنبياء من حيث الحقيقة ، متأخّرا عنهم من حيث الصورة ؛ كما قال : نحن الآخرون السابقون (١).

وقال : وكنت نبيّا وآدم بين الماء والطين (٢).

وفي رواية : بين الروح والجسد (٣). أو لا روحا ولا جسدا ـ إلى أن قال ـ : وأضرب لك مثلا : دائرة ، لها وجود في الذهن ، ووجود في الخارج ، وهو مظهر للوجود الذهنيّ وصورته ، والذهنيّ حقيقيته ومعناه متقدّم عليه ، ووجودها الخارجيّ خطّ مستدير متألّف من نقط متواصلة ، ووجود كلّ نقطة منها مظهر وصف من أوصاف وجودها الذهنيّ ، ولا توجد حقيقتها في الخارج إلّا عند تكامل الأجزاء وتواصلها بوجود النقطة الأخيرة المتّصلة بالنقطة الأولى ، فالنقطة الأخيرة لاشتمالها على سائر النقط مظهر لحقيقة الدائرة ، وسائر النقط مظاهر أوصافها.

فكذلك مثل النبوّة ، دائرة لها وجود في الغيب هو حقيقتها ومعناها ، ووجود في الشهادة هو مظهرها وصورتها ، والحقيقة متقدّمة على الصورة من حيث الوجود ، متأخّرة عنها من حيث الظهور ، ووجودها الخارجيّ خطّ مستدير متألّف من نقط وجودات الأنبياء المتواصلة ، ووجود كلّ نقطة منها مظهر صفة من أوصافها في الوجود العينيّ ، ولا توجد في الخارج إلّا عند تكامل أجزائها من النقط بوجود النقطة الأخيرة الّتي هي الصورة الجزئيّة

__________________

(١) بحار الأنوار ٦١ : ٢٣٢.

(٢) بحار الأنوار ١٦ : ٤٠٢ ، عوالي اللئالي ٤ : ١٢١ ، مفتاح الفلاح : ٤١ ، المناقب ١ : ٢١٤.

(٣) بحار الأنوار ١٨ : ٢٧٨.

١١٥

المحمّديّة صلّى الله عليه وآله وتمّ بها صورة دائرة النبوّة ، وظهر منها حقيقتها بجميع أوصافها.

وحقيقة هذه الدائرة هي الروح الأعظم الّذي هو حامل معنى النبوّة ، وله بداية وهي أوّل نقطة الأنبياء وهو وجود آدم عليه السلام وحركة دوريّة في نقط وجودات الأنبياء ونهاية منطبقة على البداية وهو النقطة الأخيرة المحمّديّة ـ إلى أن قال ـ :

فظهر من ضرب هذا المثل : أنّ نبوّة الرسول صلّى الله عليه وآله ذاتيّة دائمة ، لأنّها المنتهى ، ومنتهى الدائرة عين المبدأ ، ومبدأ النبوّة هو الروح الأعظم المتجلّي في كلّ نقطة من نقط الأنبياء بوصف من أوصافها [وفي نقطة الصورة المحمّديّة بذاتها كظهور البذرة في كلّ مرتبة من مراتب النموّ بوصف من أوصافها] (١) وفي منتهى المراتب وهي الثمرة بالذات إلى آخر ما ذكره. فافهم.

وإلى هذا الوجه يرجع ما روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال : ما كان له ذنب ولكنّ الله ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة عليّ عليه السلام ما تقدّم من ذنبهم وما تأخّر (٢).

فإنّ الامّة المرحومة الفائزين بالرحمة الواسعة منحصرة في شيعة عليّ بن أبي طالب عليه السلام كما يستفاد من الأخبار المتواترة ، فلا يدخل الجنّة إلّا من كان محبّا له من زمن آدم إلى يوم القيامة ، ولا يخلد في النار إلّا من كان مبغضا له كذلك.

__________________

(١) ليست في «أ».

(٢) بحار الأنوار ٧١ : ٢٤.

١١٦

وفي رواية المفضّل بن عمر قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : بما صار عليّ بن أبي طالب قسيم الجنّة والنار؟

قال : لأنّ حبّه إيمان ، وبغضه كفر ، وإنّما خلقت الجنّة لأهل الإيمان ، وخلقت النار لأهل الكفر ، فهو عليه السلام قسيم الجنّة والنار لهذه العلّة ، والجنّة لا يدخلها إلّا أهل محبّته ، والنار لا يدخلها إلّا أهل بغضه.

قال المفضّل : يا ابن رسول الله ، فالأنبياء والأوصياء هل كانوا يحبّونه وأعداؤهم يبغضونه؟

فقال : نعم.

قلت : فكيف ذلك؟

قال : أما علمت أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال (١) يوم خيبر : لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، ما يرجع حتّى يفتح الله على يده؟

قلت : بلى.

قال : أما علمت أنّ رسول الله لمّا أوتي بالطائر المشويّ قال : اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليّ يأكل معي هذا الطائر وعنى به عليّا عليه السلام؟ [فدفع الراية إلى عليّ عليه السلام ففتح الله عزّ وجلّ على يديه]؟

قلت : بلى.

قال : يجوز أن لا يحبّ أنبياء الله ورسوله وأوصياؤهم رجلا يحبّه الله ورسوله؟

__________________

(١) «أ» : بم قال.

١١٧

فقلت : لا.

قال : فهل يجوز أن يكون المؤمنون من أمّتهم لا يحبّون حبيب الله وحبيب رسوله وأنبيائه؟

قلت : لا.

قال : فقد ثبت أنّ جميع الأنبياء ورسله وجميع المؤمنين كانوا لعليّ بن أبي طالب محبّين ، وثبت أنّ المخالفين لهم كانوا له ولجميع أهل محبّته مبغضين.

قلت : نعم.

قال : فلا يدخل الجنّة إلّا من أحبّه من الأوّلين والآخرين ، فهو إذن قسيم الجنّة والنار.

إلى أن قال : يا مفضّل ، خذ هذا فإنّه من مخزون العلم ومكنونه ، لا تخرجه إلّا إلى أهله (١).

تتمّة : «اللام» في قوله : (لِيَغْفِرَ) للعلّة ، والأصل فيها أن تكون حاصلة قبل المعلول ، كما في قولهم «ضربته لسوء أدبه» و «قعدت عن الحرب جبنا» وقول الشاعر :

لا أقعد الجبن عن الهيجاء

 ولو توالت زمر الأعداء

فعلى تفسير الفتح بما ذكره المفسّرون يكون الفتح سببا للمغفرة دون

__________________

(١) وفي البحار ٣٩ : ١٩٤ ؛ ما يختلف بعباراته ، لكن يقرب منه ، وكذا : علل الشرائع ١ : ١٦٢ ، الأمالي ، للصدوق : ٤٦ ، بصائر الدرجات : ١٩٩.

١١٨

العكس ، فخرج (١) الكلام عن مقتضى الأصل في «اللام» ، فيكون كقولهم «ضربته للتأديب» أي لتحصيل الأدب له ، لا لحصوله سابقا ، فيجب التأويل بالإرادة ؛ أي إرادتي لمغفرة ذنبك صارت سببا لأن فتحت لك هذا الفتح.

وحينئذ فنجري «اللام» على الأصل فيها ، وأمّا على ما فسّرناه به من فتح باب الوجود فهي على أصلها من دون تكلّف تقدير الإرادة السابقة ، فإنّ المراد من المغفرة ، الرحمة والمحبّة الإلهيّة المستفادة من قوله : «فأحببت أن أعرف» (٢) ، وقد كانت أزليّة قديمة ؛ كما قال : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (٣) ؛ أي للرحمة ، فتفطّن (٤).

هذا مع أنّ الحقّ أنّ المشيّة والإرادة من صفات الفعل لا من صفات الذات ، فهما أيضا مخلوقتان ؛ كما قال : «خلق الأشياء بالمشيّة ، وخلق المشيّة بنفسها» (٥) ، وقد عرفت أنّ الحقيقة المحمّديّة هي الإبداع الأوّل ، فلو كانت مخلوقة بالمشيّة كانت سابقة عليها وأوّل ما خلق ، فكيف تكون هذه الحقيقة أوّل ما خلق الله؟! اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ هذه الحقيقة عين المشيّة ؛ كما يستفاد من بعض الروايات. فافهم.

ولك أن تجعل «اللام» للعاقبة ، أو العلّة الغائيّة ، فيكون مدخولها مسبّبا لا

__________________

(١) «أ» : فيخرج.

(٢) بحار الأنوار ٨٧ : ١٩٩.

(٣) هود : ١١٩.

(٤) بحار الأنوار ٢٤ : ٢٠٦.

(٥) في البحار ٥٧ : ٥٦ عن أبي عبد الله عليه السلام قال : خلق الله المشيّة بنفسها ، ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة وكذا : الكافي ١ : ١١٠.

١١٩

سببا ؛ كما في قوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١) وقوله : «لدوا للموت وابنوا للخراب» (٢) فيكون المراد بهذا الكلام الإشارة إلى مقام فناء الوجود في صرف الوجود ، والفناء عن هذا الفناء الموجب للبقاء بالله الّذي هو آخر مراحل السالكين ، وأعلى منازل الواصلين ؛ المشار إليه بقوله عليه السلام : «العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة» (٣) لا أقول كما يقوله الملاحدة من الصوفيّة من الوحدة والاتّحاد والحلول ، وأنّ القطرة من الوجود تفنى في بحر الوجود ، ويتّحد الممكن بالواجب ، فيصير إلها واجبا وجوده بذاته أو غير (٤) ذلك من الترّهات الواهية.

بل أقول : إنّ العبد حينئذ يتخلّق بأخلاق الله ، ويتّصف من كمال القرب بصفات الله ، ويتّسم بأسماء الله ، فيصدر عنه أفعاله بإرادة الله ، فتفنى إرادته في إرادة الله ، فلا يشاء إلّا ما يشاء الله ، ولا ينظر إلّا بعين الله ، ولا يسمع إلّا بإذن الله ، ولا ينطق إلّا بلسان الله ؛ كما قال : العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى كنت سمعه ... (٥) إلى آخره.

وفي مصباح الشريعة : إنّ العارف أمين ودائع الله ، وكنز أسراره ، ومعدن نوره ، ودليل رحمته على خلقه ، ومطيّة علومه ، وميزان فضله ـ إلى أن قال ـ

__________________

(١) القصص : ٨.

(٢) إنّ لله ملكا ينادي في كلّ يوم لدوا للموت ، وابنوا للخراب. نهج البلاغة ، الكلمات القصار : ١٣٢ وكذا : الكافي ٢ : ١٣١.

(٣) مصباح الشريعة : ٧.

(٤) «م» : نحو.

(٥) الكافي ٤ : ٥٣ كتاب الإيمان والكفر ، باب من آذى المسلمين واحتقرهم.

١٢٠