تفسير ستّ سور

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

تفسير ستّ سور

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-3-3
الصفحات: ٤٨٥

الصراط المستقيم ؛ كما قال : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١) فإنّه بالمرصاد في جميع الجهات لإضلال عباد الله ؛ كما قال : (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) ... (٢) إلى آخره.

ولكن لم يقل ومن فوقهم ، ولا من تحتهم ، لأنّ الأوّل طريق الحقّ إلى الخلق ، والثاني طريق الخلق إلى الحقّ ، والطريقان إلى القلب ، ومن القلب ، فمتى أراد الحقّ بعبد خيرا جذبه وألهم في نفسه أن يسلك طريق الحقّ من قلبه ، أو سلك العبد أوّلا فيجذبه الحقّ ، ويسمّى الأوّل بال «مجذوب السالك» والثاني بال «سالك المجذوب».

والجذبة عبارة عن : تقرّب العبد إلى الحقّ بالعناية الإلهيّة ، وتهيئة الحقّ له جميع ما يحتاج إليه في طيّ المنازل وقطع المراحل ، فهي عبارة اخرى عن التوفيق الّذي هو خير رفيق في الأسفار.

وبالجملة : الطريق إلى الله من جهة القلب أسلم الطرق (٣) إذا كان سليما من آفات الرذائل ؛ كما قال : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٤) وإلّا فالسالكون بغير هذا الطريق في خطر عظيم من وسوسة الشيطان الرجيم ، وقلّ من وصل إلى المقصود بغير هذا الصراط المستقيم ؛ أي القلب السليم.

هزار تشنه درين ره فرو شدند ونديدند

ز بوى وصل نسيمى ز كوى دوست نشانى

__________________

(١) الأعراف : ١٦.

(٢) الأعراف : ١٧.

(٣) «أ» : الطريق.

(٤) الشعراء : ٨٩.

١٤١

ولمّا كان القلب هو الجوهر النورانيّ المجرّد الّذي به يتحقّق إنسانيّة الإنسان ، وكان بمنزلة عرش الرحمن ؛ بل عرشه حقيقة ومنظره ومحلّ رحمته ومعرفته ؛ كما قال : لا يسعني أرضي ولا سمائي ؛ بل يسعني قلب عبدي المؤمن (١). أنزل سكينته فيه وجعله بمنزلة تابوت السكينة الّذي أنزله لبني إسرائيل ، فكما أنّ سكينتهم كانت في التابوت ، كان سكينة هذه الأمّة في القلوب المصفّاة بحبّ المحبوب الّذي لا ينام ولا يموت.

وكما أنّ أولاد يعقوب عليه السلام كانوا أقوياء أعزّاء لا يغلبهم الأعداء مادام هذا التابوت فيهم ، فلمّا ذهب به العمالقة الجبّارون صاروا ضعفاء أذلّاء قتل كثيرا منهم جالوت وأسرهم وأخرجهم من بلادهم ، فكذلك أولاد يعقوب عليه السلام.

الروح الانساني وهي القوى الروحانية قويّة غالبة مادام تابوت سكينة القلب فيهم ، فإذا ذهب به منهم جنود جالوت النفس الأمّارة فهي في غاية الذلّ والمهانة ، إلّا أن يوفّقهم للتوبة والإنابة ، فيرجع إليهم السكينة في تابوت قلوبهم بمعونة طالوت العقل والنفس المطمئنّة ، فيقتل داود العلم جالوت الجهل والنفس الأمّارة ، وكما أنّ تابوت بني إسرائيل كان تحمله الملائكة ، كان قلوب المؤمنين حملتها يد الله ؛ حيث قال : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٢) وقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ).

__________________

(١) جاء هذا الحديث في البحار ٥٨ : ٣٩ هكذا : لم يسعني سمائي ولا أرضي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن.

(٢) الإسراء : ٧٠.

١٤٢

وكما أنّ تابوت بني إسرائيل كان مشتملا على صور الأنبياء كانت قلوب المؤمنين متّصفة بأخلاق الأنبياء وسيرتهم من الصفات الحميدة ، ومزيّنة بالعلوم الربّانيّة ، والأسرار الإلهيّة.

ولذا قيل : إنّ الآيات الّتي كانت في بني إسرائيل ظاهرة لا بدّ من وقوعها في هذه الامّة ولو في الباطن ، وقد روي مستفيضا أنّه صلّى الله عليه وآله قال : يكون في امّتي ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة (١).

وفي بعض الروايات : أنّ تابوت بني إسرائيل كان هو الصندوق الّذي أنزله الله على آدم عليه السلام وفيه صور أولاده من الأنبياء والأولياء وغيرهم ، وقد عهد في محافظته إلى شيث ، وكان من بعده بيد من كان حاملا لنور خاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله.

وفي بعضها : أنّه الصندوق الّذي أنزله الله إلى أمّ موسى عليه السلام فوضعته فيه وألقته في اليمّ ، وكان في بني إسرائيل يتبرّكون به ، فلمّا حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوّة وأودعه يوشع وصيّه ، فلم يزل التابوت بينهم حتّى استخفّوا به وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات ، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف مادام التابوت بينهم ، فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفّوا بالتابوت رفعه الله عنهم ، فلمّا سألوا النبيّ وبعث الله طالوت إليهم ملكا يقاتل ردّ الله عليهم التابوت (٢).

وقد اختلفوا في المراد من السكينة الّتي كانت في هذا التابوت على

__________________

(١) بحار الأنوار : ٣٦ : ٢٨٤ ؛ إلّا أنّ فيه بدل كلمة «يكون» ، كلمة «كائن».

(٢) راجع بحار الأنوار : ١٣ : ٤٣٩.

١٤٣

حسب اختلاف ما ورد فيها من الأخبار ، ففي بعضها : أنّها كانت فيه ريح هفّافة من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان (١).

وفي بعضها : أنّها ريح تخرج من الجنّة لها صورة كصورة الإنسان ، ورائحة طيّبة (٢).

وفي بعضها : أنّها روح الله [فكان يتكلّم] (٣) ويخبرهم إذا اختلفوا في شيء (٤).

وفي بعضها : أنّها حيوان على صورة الهرّة ؛ لها وجه كوجه الإنسان ، وكانت تخرج من التابوت ، فيفزع منها الأعداء ، فينهزمون ويتفرّقون (٥).

وفي بعضها : أنّها الطست الّذي يغسل فيه قلوب الأنبياء (٦). وقيل فيها أقوال اخر.

و «السكينة» بفتح السين وتخفيف الكاف ، وبكسر السين وتشديد الكاف في أصل اللغة هي الطمأنينة ، وسكون النفس ضدّ القلق والاضطراب ، وبذلك فسّرت أيضا في الآية ، وقد يفسّر أيضا بوجوه اخر يمكن إرجاعها إلى ذلك :

منها : الإيمان ، وقد روى الكلينيّ بسنده عن أبي حمزة عن أبي جعفر

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٠ : ١١٠.

(٢) بحار الأنوار ١٢ : ١٠٣.

(٣) «أ» : وكان يتكلّمهم.

(٤) بحار الأنوار ١٣ : ٤٤٣ ، مع اختلاف في بعض ألفاظه.

(٥) بحار الأنوار ١٣ : ٤٤٣ ، مع اختلاف في بعض ألفاظه.

(٦) بحار الأنوار ١٣ : ٤٤٣.

١٤٤

عليه السلام قال : سألته عن قول الله : (أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) قال : «هو الإيمان».

قال : وسألته عن قول الله : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (١) قال : هو الإيمان (٢).

وبسنده عن محمّد بن مسلم عنه عليه السلام أيضا قال : السكينة الإيمان (٣).

وبسنده عن حفص بن البختريّ وهشام بن سالم وغيرهما عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) ... إلى آخره قال : هو الإيمان (٤).

وبسنده عن جميل قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) ... إلى آخره قال : هو الإيمان.

قال : قلت : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) قال : هو الإيمان. وعن قوله : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) (٥) قال : هو الإيمان (٦).

أقول : مرادهما عليهما السلام من الإيمان هو الكامل منه ؛ أي الاعتقاد الجازم الثابت الّذي لا يزول بتشكيك المشكّكين ، وشبهة الملحدين ، وهو المعبّر عنه باليقين.

ولذا عبّر في الآية بـ «في» الدالّة على الظرفيّة ، ففيها إشارة إلى تمكّن الإيمان في قلوبهم تمكّن المظروف من الظرف ورسوخه فيه ، وأمّا غيره

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.

(٢) الكافي ٢ : ١٥.

(٣) الكافي ٢ : ١٥.

(٤) الكافي ٢ : ١٥.

(٥) الفتح : ٢٦.

(٦) الكافي ٢ : ١٥.

١٤٥

فهو في معرض الزوال والتزلزل.

وفي رواية جابر قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : يا أخا جعف ، إنّ الإيمان أفضل من الإسلام ، وإنّ اليقين أفضل من الإيمان ، وما من شيء أعزّ من اليقين (١).

وفي رواية الوشّاء عن أبي الحسن عليه السلام : الإيمان فوق الإسلام بدرجة ، والتقوى فوق الإيمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة ، وما قسّم في الناس شيء أقلّ من اليقين (٢).

وبالجملة : لمّا كانت الآية في مقام الامتنان على المؤمنين ، لا بدّ أن يكون المراد بالإيمان الّذي أنزله في قلوبهم هو اليقين الكامل الّذي لا يزول ولا يتبدّل إلى الشكّ والحيرة والقلق أبدا ؛ إذ غيره قد يسلب وقد يتزلزل صاحبه ؛ كما في المعارين والمستودعين ، قال الكاظم عليه السلام : إنّ الله خلق النبيّين على النبوّة ، فلا يكونون إلّا أنبياء ، وخلق المؤمنين على الإيمان ، فلا يكونون إلّا مؤمنين ، وأعار قوما إيمانا ، فإن شاء تمّمه لهم ، وإن شاء سلبهم إيّاه (٣).

قال : وفيهم جرت (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) (٤) (٥).

وقال أيضا في رواية اخرى : إنّ الله خلق خلقا للإيمان لا زوال له ، وخلق

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ : ١٣٥.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ١٣٦.

(٣) بحار الأنوار ٦٩ : ٢٢٦.

(٤) الأنعام : ٩٨.

(٥) الكافيّ ٢ : ٤١٨.

١٤٦

خلقا للكفر لا زوال له ، وخلق خلقا بين ذلك أعارهم الله الإيمان يسمّون المعارين ؛ إذا شاء سلبهم (١).

وقال أيضا عليه السلام : إنّ العبد يصبح مؤمنا ويمسي كافرا ، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا ، وقوم يعارون الإيمان ثمّ يسلبونه ويسمّون المعارين (٢).

أقول : فغير المعارين هم الّذين كتب الله في قلوبهم الإيمان وثبّته فيها.

ويحتمل أن يراد بالمؤمنين غير من خلقوا للإيمان ، فإنّ المخلوقين لا يكونون إلّا مؤمنين ، فهم أرباب السكينة من أوّل الأمر ، فلا حاجة إلى إنزالها في قلوبهم. فافهم.

ومنها : نور معرفة الإمام المعصوم عليه السلام المشعشع لقلوب العارفين به ، فإنّ من لا يعرف إمام زمانه يكون حائرا متحيّرا في دينه ، متزلزلا في عقيدته ، غير مطمئنّ بنجاته ، قال الباقر عليه السلام : كلّ من دان الله عزّ وجلّ بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول ، وهو ضالّ متحيّر ، والله شانئ لأعماله ، ومثله كمثل شاة ضلّت عن راعيها وقطيعها ، فهجمت ذاهبة وجائية يومها ، فلمّا جنّها الليل بصرت بقطيع غنم مع غير راعيها ، فحنّت إليها واغترّت بها ، فباتت معها في مربضها ، فلمّا أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها فهجمت متحيّرة تطلب راعيها وقطيعها ، فبصرت بغنم مع راعيها فحنّت إليها واغترّت بها ، فصاح بها

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٨ : ١١٦.

(٢) بحار الأنوار ٦٩ : ٢٢٥.

١٤٧

الراعي : الحقي براعيك وقطيعك فأنت تائهة متحيّرة عن راعيك وقطيعك فهجمت ذعرة ، متحيّرة ، تائهة ، لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها أو يردّها ، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها ، فأكلها ، كذلك والله من أصبح من هذه الامّة لا إمام له من الله عزّ وجلّ ظاهر عادل ، أصبح ضالّا تائها ، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق ... (١)

ومنها : ذكر الله القلبيّ ؛ كما قال : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢) وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : قال الله : إذا كان الغالب على قلب عبدي ذكري تولّيت أموره ، وكنت جليسه وأنيسه. انتهى (٣).

أقول : كيف لا يطمئنّ ولا يسكن من كان الله جليسه وأنيسه ومتولّي أموره؟!

ومنها : حبّ الله وولايته ؛ كما قال : (إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٤).

ومنها : التوكّل على الله وتفويض الأمر إليه ؛ كما قال : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (٥).

ومنها : صلح الحديبيّة ، فإنّه صار موجبا لسكون المؤمنين ، واطمئنانهم من المشركين لمّا عاهدوا أن لا يتعرّضوا لهم وإن حجّوا البيت.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٨٣.

(٢) الرعد : ٢٨.

(٣) في البحار ٩٣ : ١٦٢ ما هو قريب منه.

(٤) يونس : ٦٢.

(٥) الطلاق : ٣.

١٤٨

ومنها : أن يفعل الله بهم اللطف الّذي يحصل لهم عنده من البصيرة بالحقّ ما تسكن إليه نفوسهم ، قاله الطبرسيّ رحمه الله : ثمّ قال : وذلك بكثرة ما ينصب لهم من الأدلّة الدالّة عليه ، فهذه النعمة التامّة للمؤمنين خاصّة ، وأمّا غيرهم فتضطرب نفوسهم لأوّل عارض من شبهة ترد عليهم ؛ إذ لا يجدون برد اليقين وروح الطمأنينة في قلوبهم (١).

ومنها : النصرة للمؤمنين ، لتسكن بذلك قلوبهم ، ويثبتوا في القتال.

ومنها : ما أسكن قلوبهم من التعظيم لله ولرسوله. فافهم.

ثمّ الفرق بين السكينة والوقار ، أنّ الأوّل هو السكون في القلب ، والثاني في الجوارح.

وربّما يقال : إنّ السكينة هيئة بدنيّة تنشأ من اطمئنان الأعضاء ، والوقار هيئة نفسانيّة تنشأ من ثبات القلب. وهو كما ترى.

والطمأنينة أعمّ منهما ، يقال : اطمأنّ قلبي.

وتجب الطمأنينة في الصلاة.

(لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) يصلح كونه تعليلا لكلّ واحد من الأفعال المتقدّمة ولجميعها ، إلّا أنّ الظاهر أنّه علّة لإنزال السكينة لقربه وأكثريّة ارتباطه ، وفي المقام سؤال ، وهو أنّ الإيمان ليس إلّا التصديق بالله وبما جاء به رسوله ، وهو أمر واحد ، فكيف يقبل الزيادة والنقصان؟ فمتى تحقّق المعنى المذكور في شخص فهو مؤمن ، وإلّا فلا؟

والجواب عنه من وجوه :

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ١٦٩.

١٤٩

أحدها : إنّ الأمر الواحد كما يكون متواطئا ، كذلك قد يكون مقولا بالتشكيك كالوجود عند الفهلويّين من الحكماء ، لقولهم بأنّه حقيقة واحدة ذات مراتب متعدّدة ؛ أي مقولة بالتشكيك على القويّ والضعيف ، وإن ذهب المشّائيّون إلى أنّ هذه المراتب حقائق متباينة ، وكالنور المختلف شدّة وضعفا ، والبياض والسواد وغيرها من الموضوع للمعنى الواحد الكلّيّ المقول بالتشكيك على الجزئيّات المتفاوتة بالقوّة والضعف ، والأوّليّة والأولويّة وضدّهما.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الإيمان وإن كان هو مجرّد التصديق المذكور ، ولكنّ مراتبه مختلفة متفاوتة بحسب أسبابه من : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحقّ اليقين ، وبحسب درجاته ومنازله بحسب الأخلاق الحسنة كثرة وقلّة ، وشدّة وضعفا ، وبحسب الاعتقادات الحقّة كذلك ، وبحسب الأعمال الصالحة كذلك ، وبحسب الاستعدادات والقابليّات كذلك ، وبحسب الأزمان والأوقات.

فيمكن أن يكون الشخص مع كونه مصداقا للمؤمن في مرتبة يزيد إيمانه فيصير مصداقا للمؤمن في مرتبة أعلى من المرتبة السابقة ، فيزداد مع إيمانه إيمانا أقوى ، ضرورة أنّ المرتبة العليا حائزة للمرتبة السفلى مع الزيادة ، فالعلوّ لا يقدح في صدق الإيمان على الإيمان المنحطّ عن هذه الدرجة ؛ نظير النور الحسّيّ ، فإنّه طبيعة مشكّكة ذات مراتب متفاوتة مع كونه موضوعا للظاهر بنفسه ، المظهر لغيره.

قال بعض الأفاضل : فالاختلاف بين الأنوار ليس اختلافا نوعيّا ؛ بل

١٥٠

بالقوّة والضعف ، فإنّ المعتبر في النور أن يكون ظاهرا بالذات ، مظهرا للغير. وهذا متحقّق في كلّ واحدة من مراتب الأشعّة والأظلّة ، فلا الضعف قادح في كون المرتبة الضعيفة نورا ، ولا القوّة والشدّة ، ولا التوسّط شرط أو مقوّم إلّا للمرتبة الخاصّة ، بمعنى ما ليس بخارج عنها أو قادح فالقويّ هو النور ، والمتوسّط أيضا هو هو ، وكذا الضعيف ، فالنور عرض عريض باعتبار مراتبه البسيطة ، ولكلّ مرتبة أيضا عرض باعتبار إضافتها إلى القوابل المتعدّدة. انتهى كلامه رفع مقامه.

فالكلام في الإيمان هو الكلام في النور حرفا بحرف ، بل هو النور الحقيقيّ الّذي تستنير به قلوب المؤمنين ، وصدور العارفين : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (١).

ويدلّ على ما ذكرناه جملة من الروايات ؛ ففي رواية ابن أبي الأحوص عن الصادق عليه السلام : إنّ الله عزّ وجلّ وضع الإيمان على سبعة أسهم ، على : البرّ ، والصدق ، واليقين ، والرضا ، والوفاء ، والعلم ، والحلم ، ثمّ قسّم ذلك بين الناس ، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل محتمل ، وقسّم لبعض الناس السهم ، ولبعض السهمين ، ولبعض الثلاثة حتّى انتهوا إلى سبعة ، ثمّ قال : لا تحملوا على صاحب السهم سهمين ، ولا على صاحب السهمين ثلاثة فتبهضوهم ، ثمّ قال : كذلك حتّى ينتهي إلى سبعة (٢). انتهى.

وفي رواية القراطيسيّ عنه عليه السلام : إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة

__________________

(١) النور : ٤٠.

(٢) الكافي ٢ : ٤٢.

١٥١

السلّم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة ، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء ، حتّى ينتهي إلى العاشر ، فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك ، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة ، فارفعه إليك برفق ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره [فإنّ من كسر مؤمنا فعليه جبره] (١).

وفي رواية شهاب عنه عليه السلام أيضا : إنّ الله تبارك وتعالى خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعين جزء ، ثمّ جعل الأجزاء أعشارا ، فجعل الجزء عشرة أجزاء ، ثمّ قسّمه بين الخلق فجعل في رجل عشر جزء ، وفي آخر عشري جزء حتّى بلغ به جزء تامّا ، وفي آخر جزء أو عشر جزء وآخر جزء وعشري جزء ، وآخر جزء وثلاثة أعشار جزء ، حتّى بلغ به جزءين تامّين ، ثمّ بحساب ذلك حتّى بلغ بأرفعهم تسعة وأربعين جزء ، فمن لم يجعل فيه إلّا عشر جزء لم يقدر على أن يكون مثل صاحب العشرين ، فكذلك صاحب العشرين لا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار ، وكذلك من تمّ له جزء لا يقدر على أن يكون مثل صاحب الجزءين ، ولو علم الناس أنّ الله عزّ وجلّ خلق هذا الخلق على هذا لم يلم أحد أحدا (٢).

وثانيها : إنّ المراد بإيمانهم السابق هو الإسلام ، وبالإيمان المزداد هو التصديق القلبيّ ؛ إذ الأوّل عبارة عن مجرّد الشهادتين باللسان ؛ كما قال : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٤.

(٢) الكافي ٢ : ٤٤.

١٥٢

قُلُوبِكُمْ) (١) وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) ... (٢) إلى آخره.

فالإيمان المزداد ما هو أخصّ من الإسلام ، قال سماعة : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان؟ فقال : إنّ الإيمان يشارك الإسلام ، والإسلام لا يشارك الإيمان. فقلت : فصفهما لي. فقال : الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول الله ، به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ، والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام ، وما ظهر من العمل به والإيمان أرفع من الإسلام بدرجة ، إنّ الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر ، والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن ، وإن اجتمعا في القول والصفة (٣).

وثالثها : أنّ المراد بإيمانهم الحاصل هو التصديق الإجماليّ بكلّ ما يأتي به الرسول ، وبالإيمان المزداد هو التصديق التفصيليّ. فتأمّل.

وهو أنّهم كلّما أمروا بشيء من الشرائع والفرائض كالصلاة والصيام والصدقات صدّقوا ؛ وذلك بالسكينة الّتي أنزلها الله في قلوبهم.

ورابعها : إنّ المراد بإيمانهم السابق الإيمان بالأصول ، وبالإيمان المزداد الإيمان بالفروع.

وخامسها : إنّ المراد بإيمانهم معرفتهم على طريق علم اليقين ،

__________________

(١) الحجرات : ١٤.

(٢) النساء : ١٣٦.

(٣) الكافي ٢ : ٢٥.

١٥٣

وبالإيمان المزداد معرفتهم بحقّ اليقين وعين اليقين ، فإنّ مراتب المعرفة منحصرة في هذه الثلاث ؛ كما فصّل في محلّه.

وسادسها : إنّ المراد بإيمانهم السابق تصديقهم بالنبوّة ، وبالإيمان المزداد تصديقهم بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقد قال ابن عبّاس : إنّ أوّل ما أتاهم به النبيّ ، التوحيد ، فلمّا آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة والزكاة ، ثمّ الحجّ ، ثمّ الجهاد ، ثمّ ولاية عليّ بن أبي طالب ، فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم ، وأتمّوه بولاية عليّ عليه السلام (١).

وسابعها : إنّ المراد بإيمانهم هو الإيمان السلوكيّ الّذي لا يطمئنّ فيه قلب السالك ، لكونه بين الخوف من عدم الوصول ورجائه ، وبالإيمان المزداد هو الإيمان الوصوليّ الّذي يرتفع معه الخوف. فتفطّن.

ثمّ في قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) ... إلى آخره. إشارة إلى بطلان القول بالتفويض ، كما أنّ قوله : (لِيَزْدادُوا) يبطل القول بالجبر ، فيثبت الأمر بين الأمرين الّذي هو أوسع ممّا بين السماء والأرض ؛ كما يرشد إليه قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٢) فالعمل من العبد ، والمعونة من الربّ.

وفي التعبير بـ «مع» المشعرة بالاستقلال إشعار بتماميّة إيمانهم السابق في حدّ نفسه بالنسبة إلى تلك الحال ، نظير تماميّة النطفة قبل أوان صيرورتها علقة ، وتماميّة العلقة قبل زمان كونها مضغة ، وهكذا.

فإنّ تماميّة الشيء هو كونه على ما ينبغي أن يكون عليه في زمانه وأوانه ،

__________________

(١) انظر : مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ١٦٩.

(٢) الفاتحة : ٥.

١٥٤

والتماميّة والنقصان أمران إضافيّان ، فتكون بداية شيء نهاية لشيء آخر ، وقد يكون أمر حسنة بالنسبة إلى شخص ، سيّئة بالنسبة إلى آخر ، ولذا لا يرتضى للخواصّ توحيد العوامّ وإن كان مرضيّا بالنسبة إليهم ، وتوحيد الخواصّ غير مرضيّ لخاصّ الخاصّ وإن كان مرضيّا لهم ، ولذا ورد : إنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين (١).

ففي العدول عن «على» إلى «مع» إشعار بأنّهم يثابون على كلّ من الإيمانين على حدة ، فيؤتون أجرهم مرّتين ؛ وإن كان أجرهم على الثاني أعظم ، ولكن يشترط في إيتاء الأجر الموافاة على الإيمان وعدم التقصير في ترتيب مقدّمات فعليّة القابليّات في كلّ مرتبة حصلت للمكلّف بالوصول إليها ، فإنّ الله لا يكلّف نفسا إلّا ما آتاها من الاستعداد ، فهو مؤاخذ بتضييع هذه القابليّة والتفريط في استكمالها بالوصول إلى مقام الفعليّة قبل أن يفاجئه الموت :

ترسم نشده غوره ، انگور ، خزان آيد

يا مى نشده ، انگور ، ماه رمضان آيد

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) ذكر هذه الجملة بعد ذكر إنزال السكينة لزيادة اطمئنان المؤمنين وثباتهم ، فإنّه إذا كان جميع جنود السماوات والأرض من الملائكة والجنّ والإنس مملوكين لله أو

__________________

(١) هذه الجملة مع معروفيّتها فإنّها ليست برواية ، بل هي جملة معروفة عند العرفاء وعلماء الأخلاق ، ويحتمل أن تكون صدرت من عالم ، فظنّها الآخرون بأنّها رواية فنقلوها كالرواية والله العالم.

١٥٥

قائمين لنصرة أهل الله وهو مولى المؤمنين ووليّهم ، فكيف تقلق نفوسهم ، وتدحض أقدامهم ، ولا تطمئنّ قلوبهم ، وربّما يخصّ (١) الجنود بالملائكة ؛ كما قال : (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) (٢) ونصرتهم له صلّى الله عليه وآله في غزوة بدر وغيرها معروفة.

ويمكن تفسير الجنود بالملكوت ؛ كما قال : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣) وملكوت كلّ شيء هو ما يقوم به ذلك الشيء من عالم الأرواح والملائكة.

وفي الكلّيّات : إنّ ملكوت الشيء عند الصوفيّة حقيقته المجرّدة اللطيفة الغير المقيّدة بقيود كثيفة جسمانيّة ، ويقابله الملك بمعنى المادّة الكثيفة بالقيود. انتهى.

وربّما تفسّر جنود السماوات بالقوى والمدارك ، وجنود الأرض بالأعضاء والجوارح ، فإنّ أصلها التراب ، كما أنّ أصل القوى والمدارك العقول والنفوس المجرّدة الّتي من السماوات.

والحاصل : أنّ من بيده تدبير أمور الخلق في العالم العلويّ والسفليّ لا يعجز عن نصر المؤمنين ، إلّا أنّه لعلمه بعواقب الأمور وفعله على حسب المصالح الّتي يعلمها قد يؤخّر هذه النصرة ليتميّز (٤) الخبيث من الطيّب ، والعاصي من المطيع ، ويخرج الحيّ من الميّت ، فلا يغرّنّك إمهال الفجّار

__________________

(١) «ب» : يختصّ.

(٢) التوبة : ٢٦.

(٣) يس : ٨٣.

(٤) «أ» : لتميّز.

١٥٦

لعلّهم يتوبون ، ولا الإبقاء على الكفّار لما في أصلابهم من الأبرار ، وإنّما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.

ومن المحتمل البعيد أن يراد بجنود السماوات حزب الله الغالبون ؛ وهم أولياؤه المتّقون الّذين علت همّتهم ، وسمعت رتبتهم ، فلم يلتفتوا إلى الزخارف الدنيويّة ، فاتّصلوا بالمبادئ العالية من العقول المجرّدة ، فرفعوا مكانا عليّا ، وبجنود الأرض الأناسيّ الطبيعيّون المخلّدون إلى الأرض ، الواقفون على حضيض الطبيعة ، وهم أولياء الشيطان وحزبه ، وهؤلاء وأولئك كلّهم مملوكون لله ، والله عليهم بعواقب أمورهم ، حكيم فيما يصنع بهم من الثواب والعقاب من دون أن يظلم أحدا منهم ، فإنّه العدل الحكيم الّذي لا يجوز.

فقوله : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً * وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) يمكن أن يكون تعليلا لما يفهم من قوله : (وَلِلَّهِ جُنُودُ) ... إلى آخره من معنى التدبير على حسب المصلحة ، والحكمة ففيه إشارة إلى أنّه يعطي كلّ ذي حقّ حقّه ؛ كما هو معنى العدل ، فصنعه بالفريقين من الثواب والعقاب مقتضى العدل ، فله الحجّة عليهم ولا حجّة لأحد عليه ، فلا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

وقيل : إنّه متعلّق بمحذوف ؛ أي أمر تعالى بالجهاد ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكروها ، أو يقتلوا أو يتحمّلوا مشاقّ الحرب فيدخلوا الجنّة ،

١٥٧

ويعذّب الكفّار والمنافقين في الآخرة بنار الجحيم ، وفي الدنيا بما غاظهم من نصرة المؤمنين وتسليطهم على المشركين.

وقيل : إنّه متعلّق بجميع ما يقدّم من الأفعال على سبيل التنازع ، وليعلم أنّ الثواب والعقاب الحسّيّان المصوّران في النشأة الاخرى بصورة الجنّة والنار صورتان للقرب والبعد والأعمال الحسنة والسيّئة ، فإنّ حقائق الأمور تظهر في تلك النشأة وتنكشف بالصور المحسوسة ؛ كما يرشد إليه أخبار كثيرة :

گاه از او لطف ، گاه بلا مى رسد

صورت اعمال ماست آنچه به ما مى رسد

والفرق بين المنافق والمشرك أنّ الأوّل هو الّذي يبطن الكفر ويعلن بالإيمان ، والثاني هو المعلن بالشرك.

وفي رواية أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام : إنّ أهل مكّة ليكفرون بالله جهرة ، وإنّ أهل المدينة أخبث من أهل مكّة ؛ أخبث منهم بسبعين ضعفا (١). انتهى.

والفرق بين الكافر والمشرك أنّ الأوّل هو من أنكر ضروريّا من ضروريّات الدين وإن كان مقرّا بالتوحيد ، والثاني من جعل مع الله إلها آخر.

وفي رواية عن الصادق عليه السلام : إنّ الكفر أقدم من الشرك وأخبث وأعظم (٢).

وفي رواية اخرى : وذلك أنّ إبليس أوّل من كفر وكان كفره من غير

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٤٠.

(٢) في الكافي ٢ : ٣٨٤ وفيه : إنّ الكفر أقدم من الشرك.

١٥٨

شرك ، لأنّه لم يدع إلى عبادة غير الله ، وإنّما دعا إلى ذلك بعد فأشرك (١). انتهى.

والمراد بظنّ السوء أنّ الكفّار يظنّون أنّ الله لا ينصر رسوله والمؤمنين ، ولذا كان أبو سفيان يقول : اللهمّ إنّ ديننا القديم ودين محمّد الحديث فانصر أيّ الدينين أحبّ إليك. و «السّوء» بالفتح والضمّ مصدر ، وهما لغتان فيه ، إلّا أنّ الأول غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه ، والثاني فيما يراد وصفه به ، فالمراد به : الشرّ.

وفي الصحاح وتقول : هذا رجل سوء بالإضافة ، ثمّ تدخل عليه الألف واللام فتقول : هذا رجل السوء ، قال الشاعر :

وكنت كذئب السوء لمّا رأى دما

بصاحبه يوما أحال على الدم

قال الأخفش : ولا يقال الرجل السوء ، ويقال الحقّ اليقين ، وحقّ اليقين جميعا ، لأنّ السّوء ليس بالرجل ، واليقين هو الحقّ ، ولا يقال : هذا رجل السوء ـ بالضمّ (٢). انتهى.

وقد يقال : إنّ «السّوء» بالفتح مصدر ، وبالضمّ الاسم منه ، فإنّه ما يتحصّل من السوء ؛ كالغسل المتحصّل من الغسل ، والوضوء الحاصل من الوضوء.

ودائرة السوء بالوجهين من القراءتين ما يرجع إليهم من ظنّهم بالله أنّه ينصرهم ولا ينصر المؤمنين.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٨٦.

(٢) صحاح اللغة ١ : ٥٦ (سوأ).

١٥٩

وفسّرت بالهزيمة ، وفيه إشارة إلى أنّ من أراد بمؤمن شرّا رجع هذا الشرّ إليه.

والدائرة مطلق الراجعة ، ولذا كانت هذه الدائرة بالنسبة إلى الكفّار دائرة السوء ، وبالنسبة إلى المؤمنين دائرة الخير ، فهي لهم كما أنّ الأولى على الكفّار ، فيمكن أن يكون الأمر الواحد خيرا من حيثيّة ، وشرّا من اخرى ، ومن هنا قالوا : إنّ الشرّ المحض من جميع الوجوه ليس بموجود. فافهم.

والمراد بغضب الله ما يترتّب على الغضب من الغايات ، وكذا ما ينسب إليه تعالى من الأفعال الطبيعيّة.

واللعن : الطرد من ساحة القرب ، والإبعاد عن مقام الرحمة : (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (١).

والإعداد التهيئة ؛ أي هيّأ لهم أسباب دخول جهنّم بسبب قبولهم للكفر وخذلانه لهم بعد أن زاغوا إليه ؛ كما قال : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٢).

وساءت جهنّم مصيرا لهم ومرجعا يرجعون إليها بعد أن كانت طينتهم منها ، فإنّ كلّ شيء يرجع إلى ما منه بدؤه ؛ كما قال : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٣).

وفي رواية الثماليّ عن الباقر عليه السلام : إنّ الله خلقنا من أعلى علّيّين ، وخلق قلوب شيعتنا ممّا خلقنا منه ، وخلق أبدانهم من دون ذلك ، فقلوبهم تهوي إلينا ـ إلى أن قال ـ وخلق عدوّنا من سجّين ، وخلق قلوب شيعتهم ممّا

__________________

(١) النساء : ٥٢.

(٢) الصف : ٥.

(٣) الأعراف : ٢٩.

١٦٠