تفسير ستّ سور

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

تفسير ستّ سور

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-3-3
الصفحات: ٤٨٥

خلقهم منه ، وأبدانهم من دون ذلك ، فقلوبهم تهوي إليهم لأنّها خلقت ممّا خلقوا منه ؛ ثمّ تلا هذه الآية : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ * كِتابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١) انتهى (٢).

وبالجملة : الكافر أصله من جهنّم ، فمرجعه إليها ؛ كما قال : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٣) وتفصيل ذلك لا يسعه هذا المختصر.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) وتكرار الآية لتأكيد تقوية قلوب المؤمنين على الجهاد مع الكفّار ، أو لأنّ الأولى لتأييد النصر لاتّصالها بذلك المؤمنين ، والثانية لتأييد الانتقام والانتصار لاتّصالها بذكر المنافقين والمشركين ، ولذا أبدل «عليما» بـ «عزيزا» والعزيز هو الغالب القاهر.

ومن المحتمل أن يكون المراد من جنود السماوات هو جنود العقل ، ومن جنود الأرض هو جنود الجهل ، قال الصادق عليه السلام : إنّ الله خلق العقل وهو أوّل خلق من الروحانيّين عن يمين العرش من نوره ، فقال له : أدبر ، فأدبر ، ثمّ قال له : أقبل ، فأقبل ، فقال الله : خلقتك خلقا عظيما وكرّمتك على جميع خلقي ، قال : ثمّ خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانيّا فقال له : أدبر ، فأدبر ، ثمّ قال له : أقبل ، فلم يقبل ، فقال له : استكبرت ، فلعنه ثمّ جعل للعقل خمسة وسبعين جندا ، فلمّا رأى الجهل ما أكرم الله به العقل وما أعطاه

__________________

(١) المطفّفين : ٧ ـ ١٠.

(٢) الكافي ١ : ٣٩٠.

(٣) القارعة : ٩.

١٦١

أضمر له العداوة ، فقال الجهل : يا ربّ هذا خلق مثلي خلقته وكرّمته وقوّيته وأنا ضدّه ولا قوّة لي به ، فأعطني من الجند مثل ما أعطيته ، فقال : نعم ، فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي ، قال : قد رضيت ، فأعطاه خمسة وسبعين جندا ... (١) إلى آخر الحديث ، وهو طويل معروف ، وفيه رموز يعرفها أهلها.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) أمّا كونه صلّى الله عليه وآله شاهدا فلأنّ الرسول واسطة بين الله وعباده ، له يد يأخذ منه تعالى ، ويد يعطيهم ما يتلقّاه منه ، فلا بدّ أن يكون مطّلعا على أعمالهم وإيمانهم وكفرهم ، لتصحّ شهادته لهم وعليهم يوم القيامة ، وإتمام الحجّة عليهم ، وكذلك الإمام القائم بعده ، فانّه الواسطة بين الرسول والأمّة ، قال الصادق عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٢) : نزلت في امّة محمّد صلّى الله عليه وآله خاصّة ؛ في كلّ قرن منهم إمام منّا شاهد عليهم ، ومحمّد صلّى الله عليه وآله شاهد علينا (٣).

وعن بريد العجليّ قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٤) فقال عليه السلام : نحن الامّة الوسطى ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه. قلت :

__________________

(١) الكافي ١ : ٢١.

(٢) النساء : ٤١.

(٣) الكافي ١ : ١٩٠.

(٤) البقرة : ١٤٣.

١٦٢

قول الله عزّ وجلّ : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) (١) قال : إيّانا عنى خاصّة (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) في الكتب الّتي مضت وفي هذا القرآن (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) فرسول الله الشهيد علينا بما بلّغنا عن الله عزّ وجلّ ، ونحن الشهداء على الناس ؛ فمن صدّق صدّقناه يوم القيامة ، ومن كذّب كذّبناه يوم القيامة (٢). انتهى.

وفي رواية سليم بن قيس الهلاليّ عن عليّ عليه السلام قال : إنّ الله طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه ، وحجّته في أرضه ، وجعلنا مع القرآن ، وجعل القرآن معنا ؛ لا نفارقه ولا يفارقنا (٣). انتهى. ونحوها أخبار اخر أوردها الكلينيّ في الكافي في باب أنّ الأئمّة شهداء الله على خلقه.

ومن المحتمل أن يكون المراد بكونه صلّى الله عليه وآله شاهدا أنّه صلّى الله عليه وآله حاك عن أسماء الله وصفاته ، وبيّنة من الله على ثبوت هذه الأسماء والصفات للحقّ بما فيه من الكمالات والأخلاق الإلهيّة ، فإنّه كان صلّى الله عليه وآله آية الله ومرآة أسمائه وصفاته ، ولذا قال : من رآني فقد رأى الحقّ (٤).

وأمّا كونه مبشّرا ونذيرا ؛ أي منذرا فلاتّصافه بصفة جمال الله ولطفه واتّصافه بصفة جلاله وقهره اللّتين يعبّر عنهما بيدي الله ؛ كما قال : خمرت

__________________

(١) الحج : ٧٨.

(٢) الكافي ١ : ١٩٠.

(٣) الكافي ١ : ١٩١.

(٤) جاء هذا الحديث في بيان العلّامة في بحار الأنوار ٦١ : ٢٣٥.

١٦٣

طينة آدم بيدي أربعين صباحا (١).

وقال : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٢) فبالأوّل وعد المطيعين بالجنّة ، وبالثاني أوعد العاصين بالنار.

وتقديم البشارة لسبق رحمته على غضبه ، وكذا الكلام في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (٣).

(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) تعليل لإرساله تعالى له صلّى الله عليه وآله ، فإن قرئ الأفعال الأربعة بالغيبة ـ كما عن ابن كثير وأبي عمرو ـ فلا إشكال ، إلّا أنّه وقع الالتفات في «بالله ورسوله» من الخطاب إلى الغيبة ؛ إذ الأصل في نحو هذا المقام أن يقال ليؤمنوا بي وبك.

وأمّا على القراءة المشهورة من تاء الخطاب ، فعلى تقدير القول في المعلّل فلا إشكال أيضا ؛ إذ المعنى ؛ قل لهم : إنّا أرسلناك لتؤمنوا بالله ورسوله.

وكذا لو لم نقدّره ، ولكن جعلنا الخطاب للامّة خاصّة ، إلّا أنّ فيه من الالتفات ما لا يخفى.

وكذا لو عمّم الخطاب وأزيد التغليب.

__________________

(١) عوالي اللئالي ٤ : ٩٨.

(٢) ص : ٧٥.

(٣) الأحزاب : ٤٥ و ٤٦.

١٦٤

وأمّا لو خصّ بالنبيّ صلّى الله عليه وآله ففيه إنّه إذا كان هو المرسل ، فكيف يقال له لتؤمن بنفسك ويمكن التفصّي عنه بتوجيه الخطاب في «أرسلناك» إلى الهيكل المقدّس البشريّ وإرادة الحقيقة المجرّدة الأوّلية من رسوله؟ ولذا يصحّ شهادته برسالة نفسه في التشهّد والسلام على ذاته في التسليم.

و «التعزير» بالزاء المعجمة والراء المهملة : التفخيم والتعظيم والإعانة ؛ كما في قوله في سورة الأعراف : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) وقرئ بالزاءين المعجمتين من العزّة وهي القوّة ؛ أي تقوّوه بنصركم إيّاه.

و «التوقير» التعظيم.

و «التسبيح» التنزيه عمّا لا يليق ، والضمائر يحتمل أن تكون كلّها لله ، وأن تكون كلّها لرسوله ، وأن يكون الأخير للأوّل،والأوّلان للثاني،ولذا وقف بعضهم على «توقّره».

و «البكرة» الغدوّ.

و «الأصيل» العشيّ ، ويمكن أن يراد بذلك الدوام إلّا أن يراد بالتسبيح : الصلاة ، لا مطلق التنزيه.

وفي الآية دلالة على فساد قول من زعم أنّ الله يريد من الكافر الكفر ، كما يريد من المؤمن الإيمان ، فكلا الفريقين مجبور على ذلك لا يمكنه التخلّف ؛ إذ يلغو جعل الغرض من الإرسال هو إيمان الكفّار لو كانوا مجبورين على الكفر.

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

١٦٥

وفي الآية أيضا إشارة إلى أنّ الإيمان الّذي هو غاية إرسال الرسل جوهر فوق الجواهر وأعلاها وأبهاها وأغلاها ، فإنّه جوهر لا تذيبه النار ، ولا يغرقه الماء ، ولا يكسره آلة من الآلات ، فلا يضرّ المؤمن فقد الجواهر المعدنيّة وعدم الزخارف الدنيويّة ، وهذه الجواهر ... ما ضرّ واجدها لو كان عادم طنّين وحراء ، والسرّ في ذلك أن عظمة المقدّمة دالّة على أعظميّة ذيّها (١).

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) قد عرفت أنّ حقيقته المقدّسة في الأسماء التكوينيّة بمنزلة اسم الله في الأسماء التدوينيّة ، فقد جعله الله بمنزلة نفسه في جميع الأمور ؛ كما قال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢) ومنها : المبايعة والمعاهدة على أحكام الإسلام ونصرة الرسول في جميع الأيّام والأعوام.

وفي رواية عبد السلام المرويّة في العيون قال : قلت لعليّ بن موسى الرضا عليه السلام : يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله ما تقول في الحديث الّذي يرويه أهل الحديث ، إنّ المؤمنين يزورون ربّهم من منازلهم في الجنّة؟ فقال : يا أبا الصلت ، إنّ الله فضّل نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وآله على جميع خلقه من النبيّين والملائكة ، وجعل طاعته طاعته ، ومبايعته مبايعته ، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته ، فقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٣) وقال النبيّ

__________________

(١) العبارة في النسختين غير واضحة. والاضطراب واضح فيها.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) الفتح : ١٠.

١٦٦

صلّى الله عليه وآله : من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله ، ودرجة النبيّ صلّى الله عليه وآله في الجنّة أرفع الدرجات ، فمن زاره إلى درجته في الجنّة من منزله فقد زار الله ... (١) إلى آخره. انتهى.

(يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٢) الجملة : إمّا تأكيد للمعنى المستفاد من الجملة السابقة ، فإنّ يد الرسول صلّى الله عليه وآله كانت عند المبايعة فوق أيدي المبايعين ، فجعل يده بمنزلة يده ؛ بل الرسول هو يد الله ، لأنّه الموصل لفيض الله إلى عباده. ولذا قال وصيّه عليه السلام : أنا يد الله (٣). وإلّا فلا يوصف الله بالجوارح وبصفات الأجسام.

قال محمّد بن مسلم : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إنّ الله عزّ وجلّ خلقا خلقهم من نوره ، ورحمة من رحمته لرحمته ، فهم عين الله الناظرة ، وأذنه السامعة ، ولسانه الناطق في خلقه بإذنه ... (٤) إلى آخره.

وإمّا بيان لكمال قدرة الله وقوّته ، أو لكمال نعمة الله على خلقه.

وفي معاني الأخبار عن محمّد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليه السلام فقلت : قوله عزّ وجلّ : (يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٥) فقال : اليد في كلام العرب : القوّة والنعمة ، قال الله : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا

__________________

(١) بحار الأنوار ٤ : ٣ ، الأمالي ، للصدوق : ٤٦٠ ، التوحيد : ١١٧ ، عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ١١٥.

(٢) الفتح : ١٠.

(٣) الكافي ١ : ١٤٥.

(٤) بحار الأنوار ٢٦ : ٢٤٠ ، التوحيد : ١٦٧ ، معاني الأخبار : ١٦.

(٥) ص : ٧٥.

١٦٧

الْأَيْدِ) (١) وقال : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) (٢) ؛ أي بقوّة ... (٣) إلى آخره.

وعن المشرقيّ عن الرضا عليه السلام قال : سمعته يقول : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (٤) فقلت له : يدان هكذا ـ وأشرت بيدي إلى يديه ـ؟ فقال : لا ، لو كان هكذا لكان مخلوقا (٥). انتهى.

(فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وهذا يجري مجرى قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٦). و «النكث» بالكسر : نقض العهد ، وهو الغدر الّذي هو من جنود الجهل ؛ كما أنّ الوفاء به من جنود العقل ، والأخبار في ذمّ الأوّل ومدح الثاني متكاثرة.

وفي بعضها : ألا وأنّ الغدر والفجور والخيانة في النار (٧).

وفي بعضها : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد (٨).

وفي بعضها : عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له ، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرّض ... (٩) إلى آخره. وحسبك في ذلك حكم العقل القاطع.

__________________

(١) ص : ١٧.

(٢) الذاريات : ٤٧.

(٣) بحار الأنوار ٤ : ٤ ، معاني الأخبار : ١٦.

(٤) المائدة : ٦٤.

(٥) بحار الأنوار ٣ : ٢٩١ ، معاني الأخبار : ١٨.

(٦) الزمر : ٤١.

(٧) الكافي ٢ : ٣٣٨.

(٨) الكافي ٢ : ٣٦٤.

(٩) الكافي ٢ : ٣٦٣.

١٦٨

و «العهد» في الآية يشمل عهد الله مع عباده في الذرّ ؛ كما قال : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) ... (١) إلى آخره. فمن وفي بهذا العهد فاز بالأجر العظيم وجنّات النعيم ، ومن نقضه يرجع (٢) ضرره إلى نفسه ، فإنّه يحرم عن المثوبات العظيمة ، وعن مرافقة الأبرار ، ويستحقّ عذاب النار.

وقرأ حفص بضمّ الهاء من «عليه» لمكان تفخيم الجلالة ، ولكن الأولى قراءته بالكسر ؛ كما هو الأصل.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ رحمه الله : إنّ الآية نزلت في بيعة الرضوان (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (٣) واشترط عليهم أن لا ينكروا بعد ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وآله شيئا يفعله ، ولا يخالفوه في شيء يأمرهم به ، فقال الله عزّ وجلّ بعد نزول آية الرضوان : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) ... (٤) إلى آخره. إنّما رضي الله عنهم بهذا الشرط (٥). إلى آخر ما ذكره.

وحاصله يرجع إلى أنّ آية (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) نزلت مؤخّرة عن آية الرضوان ، فوقع الاشتباه في تأليف الآيات من عثمان ؛ فلا تغفل.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ

__________________

(١) يس : ٦٠.

(٢) «أ» : رجع.

(٣) الفتح : ١٨.

(٤) الفتح : ١٠.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ : ٣١٥.

١٦٩

أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) إخبار عن الغيب ، فإنّ هذا القول قد قيل بعد نزول هذه الآية ، فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله لمّا أراد المسير إلى مكّة عام الحديبيّة للحجّ والعمرة ـ وكان ذلك في سنة السّت من هجرته منها ـ طلب أن ينفر معه الأعراب الساكنون حول المدينة من القبائل المتفرّقة ، فتخلّف منهم قبائل كأسلم وجهينة ومزينة وغفّار ؛ زعما منهم أنّ النبيّ وأصحابه لا يقدرون على مقاتلة قريش لكثرة عددهم وعدّتهم ، فاعتذروا بأنّ الأوان أوان شغلهم بأموالهم وأهليهم ، وأنّه ليس لهم من يقوم بإصلاح أمورهم وتنظيم أشغالهم ، وظنّوا أنّ تخلّفهم يدفع عنهم الضرّ أو يعجّل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم وأهليهم ، وأنّ النبيّ وأصحابه لا يفلت أحد منهم من أيدي قريش ، وقالوا : استغفر لنا من الله في هذا التخلّف عن الخروج والقعود عن النفر ، وإنّما قالوا ذلك نفاقا ، وتخلّفوا عن المؤمنين خوفا من غلبة قريش عليهم ، وحذرا من القتل والاستئصال.

و «المخلّفون» بتشديد اللام المفتوحة ، المتروكون في المدينة خلف الخارجين منها ، يقال : خلّفه إذا تركه خلفه ، فتخلّف ؛ أي قعد عن الخروج ، وفي العدول عن لفظ التخلّف إلى التخليف مع أنّهم كانوا متخلّفين إشارة إلى أنّهم لمّا تخلّفوا عن المؤمنين خذلهم الله وتركهم في ظلمات النفاق ، فكانوا مخلّفين بعد أن صاروا متخلّفين.

و «الأعراب» اسم جمع للجماعة من عرب البادية خاصّة ، وقد قال في حقّهم : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ) ... (١) إلى آخره.

__________________

(١) التوبة : ٩٧.

١٧٠

والسرّ في نفاقهم ، أنّهم لبعدهم عن حضرة الرسول وأصحابه العارفين بالأحكام ، المطّلعين على المعجزات العظام ، الواقفين على سيرة سيّد الأنام ، لم يحصل لهم مقام اليقين الّذي هو حقيقة الإيمان الّذي هو روح الإسلام ، ولذا كانوا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم كما هو حدّ (١) النفاق ، وكانوا لا يعتقدون بأنّ الأمور كلّها تجري بأمر الله ، وأنّ غيره لا يقدر على نفع ولا ضرر إلّا بإذن الله ، وكانوا لا يتوكّلون في أمورهم على الله.

روى أبو بصير عن الصادق عليه السلام أنّه قال : ليس شيء إلّا وله حدّ. قال : قلت : جعلت فداك ، فما حدّ التوكّل؟ قال : اليقين ، قلت : فما حدّ اليقين؟ قال : أن لا تخاف مع الله شيئا (٢).

وفي رواية زرارة عنه عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام على المنبر : لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (٣).

ونحوها رواية صفوان الجمّال ، ولكن بزيادة : وأنّ الضارّ النافع هو الله (٤).

وفي رواية ابن أسباط : ومن أيقن بالقدر علم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، فلم يحزن على ما فاته ، ولم يخش إلّا الله (٥). انتهى.

ومن دلائل نفاقهم اعتذارهم بما يدلّ على أنّ اهتمامهم بدنياهم كان

__________________

(١) أي تعريف النفاق.

(٢) الكافي ٢ : ٥٧.

(٣) الكافي ٢ : ٥٨.

(٤) الكافي ٢ : ٥٨.

(٥) الكافي ٢ : ٥٩.

١٧١

أشدّ من اهتمامهم بأمر آخرتهم ودينهم ، وقد قال الله : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (١) وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (٢).

ويمكن قراءة «المخلّفون» بتخفيف اللام ؛ أي الّذين أخلفوا ما عاهدوا الله عليه ، إلّا أنّي لم أجد من قرأ بها.

وكيف كان ، فاعتذار المخلّفين أو المخلفين أعظم وأشدّ من ذنبهم ، فإنّه راجع إلى أنّ أموالهم وأهليهم أحبّ إليهم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ، والإخلال بشرط الإيمان وهي محبّة الله ورسوله لكونه إخلالا بأصول الدين أعظم ذنبا من إخلالهم بالجهاد الّذي هو من فروع الدين ، مع أنّ في طلبهم العفو والغفران مع عدم إذعانهم بكون ما صدر عنهم ذنبا لكونهم منافقين ، وأنّ ما يقولون بألسنتهم من الشهادة بالتوحيد والرسالة ليس ممّا يعتقدونه بقلوبهم ، نوع استهزاء برسول الله وتجهيل له ، باعتقادهم أنّه لا يعلم بواطن أمورهم ، ولا يطلعه الله على سرائر قلوبهم بالوحي إليه ، كما قال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) إلى قوله تعالى (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ

__________________

(١) التوبة : ٢٤.

(٢) التوبة : ٣٨.

١٧٢

آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١).

وهذا الاستهزاء لا يطّلع عليه سوى الخبير بالبواطن ، لكونه أمرا قلبيّا ، ولذا قال : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٢).

وفي التعبير بـ «بل» ردّ على ما زعموه من أنّ ما أضمروه من النفاق والاستهزاء لا يطّلع عليه أحد ، وفي سورة التوبة : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) (٣).

وقوله تعالى : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) (٤) بدل أو عطف بيان لقوله (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) (٥) وفيه تفصيل لما أجمل ، وتوضيح لما أبهم ، وقد يقال : إنّ «بل» في الموضعين للانتقال من غرض إلى آخر ، وما ذكرناه أظهر ، ففيه ردّ على ما ذكروه من انحصار عذرهم بشغل الأموال والأهل ؛ مع أنّ عذرهم في الباطن هو ظنّهم بأنّ قريشا يستأصلون محمّدا وأصحابه ويصطلمونهم ؛ فلا يرجعون إلى من خلفهم في المدينة من الأهل والأولاد أبدا.

__________________

(١) البقرة : ٨ ـ ١٥.

(٢) الفتح : ١١.

(٣) التوبة : ٦٤ و ٦٥.

(٤) الفتح : ١٢.

(٥) الفتح : ١١.

١٧٣

وهذا هو ظنّ السوء الّذي ظنّوه برسول الله صلّى الله عليه وآله وأصحابه ؛ حيث ظنّوا هلاكهم لقلّة عددهم وعدّتهم بخلاف أعدائهم ومعانديهم من قريش ومعاونيهم من سائر القبائل ، وقد زيّن الشيطان ذلك في قلوبهم ولم يعلموا أنّ النصر بيد الله : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) (١).

و «الأهلون» جمع الأهل ، ولكنّه على خلاف القياس ، فإنّ من شرط هذا الجمع أن يكون مفرده علما أو وصفا ، وليس «الأهل» بشيء منهما ، فإنّه يطلق على من يجمع الشخص وإيّاهم مسكن واحد ، أو نسب واحد ، أو دين واحد ، أو نحو ذلك.

وقد يجمع على «أهلات» بسكون الهاء وفتحها ، ولكن قد يقال : إنّهما (٢) جمعا «أهلة» بالتاء ، وعلى «آهال» كأفراخ ؛ قال الشاعر :

وبلدة ما الأنس من آهالها

وعلى «الأهالي» بزيادة الياء على خلاف القياس ؛ كالليالي في الليل ، ولكن في «الأنوار» إنّه اسم جمع كليال.

و «البور» بضمّ الباء ؛ في الأصل مصدر ، لا يثنّى ولا يجمع ، ومعناه : الفساد والهلاك ، والمراد به هنا الهلكى ، وصفوا به من باب المبالغة ؛ كما في قولهم : زيد عدل. قال الشاعر :

يا رسول المليك إنّ لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور

أي : فاسد ، هالك ، وفيه شهادة على فساد ما قيل من أنّه جمع «بائر»

__________________

(١) البقرة : ٢٤٩.

(٢) أي كلمة «الأهلون» و «أهلات».

١٧٤

ك «حول» (١) في «حائل».

وفي الصحاح : رجل حائر بائر : إذا لم يتّجه لشيء (٢). وهو اتّباع لحائر. ويظهر منه أنّ البور هو الرجل الفاسد الهالك الّذي لا خير فيه ، فلا يكون مصدرا. فافهم.

وإنّما كانوا هلكى ، لفساد عقيدتهم وضعف إيمانهم من أوّل الأمر ، والمراد بهلاكهم ، هو ضلالتهم عن طريق الحقّ ومتابعة الهدى.

ويقال للضالّ في المفازة : الهالك ؛ لأنّ مآله إلى الهلاك غالبا. ولذا يقال لها : المهلكة أيضا ، وإطلاق المفازة للتفأّل بالخير ، أو انتفاء روح الإيمان وزهوقه عنهم.

وفي الحديث : إنّ الأرواح خمسة : روح القدس ، وروح الإيمان ، وروح القوّة ، وروح الشهوة ، وروح البدن ؛ فمن الناس من يجتمع فيه الخمسة الأرواح ؛ وهم الأنبياء السابقون ، ومنهم من يجتمع فيهم أربعة أرواح ؛ وهم ممّن عداهم من المؤمنين ، ومنهم من يجتمع فيه ثلاثة أرواح ؛ وهم اليهود والنصارى ومن يحذو حذوهم (٣).

وفي رواية : وأمّا ما ذكرت من أصحاب الميمنة فهم المؤمنون حقّا جعل فيهم أربعة أرواح : روح الإيمان ، وروح القوّة ، وروح الشهوة ، وروح البدن ، ولا يزال العبد مستكملا بهذه الأرواح الأربعة حتّى يهمّ بالخطيئة ، فإذا همّ

__________________

(١) «أ» : جمع.

(٢) صحاح اللغة ٢ : ٦٤١ (حير).

(٣) بحار الأنوار ٢٥ : ٥٤. لكن يختلف في بعض عباراته.

١٧٥

بالخطيئة تزيّن له روح الشهوة ، وشجّعه روح القوّة ، وقاده روح البدن حتّى يوقعه في تلك الخطيئة ، فإذا لامس الخطيئة انتقص من الإيمان وانتقص الإيمان منه ، فإن تاب تاب الله عليه.

إلى أن قال : وأمّا ما ذكرت من أصحاب المشأمة فمنهم أهل الكتاب ، قال الله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١) عرفوا رسول الله والوصيّ من بعده وكتموا ما عرفوا من الحقّ بغيا وحسدا ، فسلبهم روح الإيمان ، وجعل لهم ثلاثة أرواح : روح القوّة ، وروح الشهوة وروح البدن ، ثمّ أضافهم إلى الأنعام فقال : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٢) لأنّ الدابّة إنّما تحمل بروح القوّة ، وتعتلف بروح الشهوة ، وتسير بروح البدن (٣). انتهى.

ولعلّ في التعبير بلفظ الماضي إشارة إلى أنّ الله قد علم في الأزل بكفرهم وضلالتهم فوقع على هذا قضاؤه السابق ، فحقّ عليهم كلمة العذاب ؛ كما قال : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٤) وقال : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٥).

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) يحتمل أن يكون

__________________

(١) البقرة : ١٤٦ و ١٤٧.

(٢) الفرقان : ٤٤.

(٣) بحار الأنوار ٦٩ : ١٩١.

(٤) غافر : ٦.

(٥) يس : ٧.

١٧٦

عطفا على قوله : (الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) ... إلى آخره فإنّه تعالى لمّا أشار إلى أنّ الغرض الأصليّ من إرساله صلّى الله عليه وآله الإيمان بالله ورسوله وتعظيم دينه والتنزيه عمّا لا يليق ، مدح المؤمنين أوّلا ثمّ أتبعه بذمّ المنافقين ، ثمّ بذمّ الكافرين جهارا ، وإنّما وسّط المنافقين لكونهم مذبذبين بين ذلك ؛ لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ؛ أي ليسوا بمؤمنين بحسب الواقع ، ولا بكافرين بحسب الظاهر.

ويحتمل أن يكون المراد بالكافرين هم المنافقين المتقدّم ذكرهم ، أو ما يشملهم ، وفي وضع الظاهر موضع الضمير تعريض بأنّ المنافق أيضا من أصناف الكفّار يعامل الله معه معاملتهم من إدخاله السعير الّتي أعدّها لهم ، فالرابط بين الشرط والجزاء هو العموم ، وفيه أيضا إشعار بأنّ العلّة للجزاء المذكور هو الكفر.

و «الاعتداد» هو الإعداد الّذي معناه التهيئة ؛ كما في قوله تعالى : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) (١) ؛ أي أعدّت وهيّأت. والعتاد : العدّة والأهبة.

و «سعير» اسم من أسماء جهنّم ـ على ما قيل ـ ولكن يرده التنوين ، فإنّه لا يلحق غير المنصرف للعلميّة والتّأنيث كغيرهما من أسباب المنع ، فالأولى كونه وصفا للنار ؛ أي : نارا موقدة.

والتنكير ، للتهويل والتعظيم ؛ كما في قوله تعالى : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) (٢) أي : بحرب عظيم ، أو للنوعيّة ؛ أي : نوعا مخصوصا من النار.

__________________

(١) يوسف : ٣١.

(٢) البقرة : ٢٧٩.

١٧٧

وروي عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (١) قال : يريد أو قدت للكافرين (٢).

و «الجحيم» : النار الأعلى من جهنّم ، والجحيم في كلام العرب أعظم من النار.

وفي سورة الفرقان : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) (٣) وقد فسّرت السعير في هذه الآية بالنار الشديدة الإسعار.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

«الملك» بالضمّ : السلطنة والقدرة.

وقيل : هو عبارة عن القدرة الحسّيّة العامّة لما يملك شرعا ولما لا يملك.

وقيل : هو التسلّط على من يتأتّى منه الطاعة سواء كان بالاستحقاق أو بغيره.

وبالكسر : ما يكون بالاستحقاق.

وقيل : إنّه بالضمّ يعمّ التصرّف في ذوي العقول وغيرهم ، وبالكسر : مختصّ بغيرهم.

و «الملك» بالفتح والكسر أدلّ على التعظيم من المالك ، لأنّه أقدر على ما

__________________

(١) التكوير : ١٢.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ : ٤٠٨.

(٣) الفرقان : ١١ ـ ١٣.

١٧٨

يريده في تصرّفاته ، وأقوى تمكّنا واستيلاء من المالك.

وكيف [ما كان] ، فالله تعالى هو المالك لجميع السماوات والأرض ، وما فيهنّ وما بينهنّ بالاستحقاق ، وهو الملك الّذي له ملك السماوات والأرض ، وما فيهنّ وما بينهنّ بالاستحقاق يتصرّف فيهنّ ، ويدبّر أمورهنّ بالعدل والحكمة.

وجمع «السماوات» لكونها كرات متعدّدة معروفة مع أنّ أجناسها مختلفة على ما يستفاد من بعض الأخبار ، وأفرد الأرض لكونها كرة واحدة وإن تعدّدت طبقاتها.

وفي الآية إشارة إلى أنّه تعالى هو الملك الحقيقيّ ، فإنّه إذا كان ملك السماوات والأرض له ، فكلّ ملك من دونه فهو مقهور ، تحت سلطنته ، محتاج إليه في جميع ما يتقوّم به في ذاته وصفاته. كيف ووجود الكلّ منه ، وهو تعالى غنيّ عمّا سواه في ذاته وصفته؟ كيف وهو واجب الوجود ، وما عداه ممكن بذاته ، مفتقر إليه في إفاضة الجود؟!

فلا يمكن أن يكون الملك المطلق غيره ، فإنّ الملك الحقيقيّ هو الّذي استغنى عن غيره ، واحتاج إليه غيره ، وليس سوى الحقّ ، فتعالى الله الملك الحقّ ، المالك بالحقّ ، المتصرّف في الملك والملكوت بالحقّ.

ألا كلّ شيء ما سوى الله باطل

[وكلّ نعيم لا محالة زائل] (١)

آنكه در معرض فنا باشد

لاف شاهى زند خطا باشد

نيست جز حقّ به آشكار ونهان

هيچ كس پادشاه پادشهان

__________________

(١) الإلهيّات ١ : ٥٣ وفيه بدل كلمة «سوى» كلمة «خلا» وهو من قصيدة لبيد.

١٧٩

فإطلاق «الملك» و «ملك الملوك» على ملوك الدنيا مجازيّ ؛ نظير إطلاق الفرس على المنقوش على الجدار ، ولذا يقول : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١).

وقوله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) إشارة إلى بعض تصرّفاته وسلطنته ؛ أي يعفو عن ذنوب من يشاء بفضله ؛ على وفق حكمته.

(وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) إذا عصى ، بعدله ومصلحته.

وتفسير الأشاعرة بما يلزم الجبر وينافي العدل لا يصغى إليه.

وفي قوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) ... إلى آخره إشارة إلى أنّ رحمته سابقة على غضبه ، وأنّ الرحمة والغفران من صفات الذات ، وأنّ العذاب داخل تحت قضائه بالعرض ، فإنّ الغرض الأصليّ من الخلق كان هو الرحمة ؛ كما قال : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (٢) لا التعذيب ، ولذا قال : إنّ رحمتي سبقت غضبي (٣).

ويحتمل أن يكون وصفه بـ «غفورا» ناظرا إلى قوله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) يعني يغفر كثيرا من الذنوب لكثير من المذنبين ، وب «رحيما» ناظرا إلى قوله : (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) يعني يرحمهم ويعفو عمّن يعذّبه في آخر الأمر إذا لم يستحقّ الخلود.

ويمكن أن يكون إشارة إلى أنّ التعذيب أيضا من مقتضى رحمته ، فإنّ فيه إصلاحا لحاله ، وتطهيرا لقلبه من أو ساخ الذنوب ، ليأهل لمرافقة الأبرار في دار القرار.

__________________

(١) غافر : ١٦.

(٢) هود : ١١٩.

(٣) الكافي ٢ : ٢٧٤.

١٨٠