تفسير ستّ سور

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

تفسير ستّ سور

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-3-3
الصفحات: ٤٨٥

لا مونس له سواه ، ولا نطق ولا إشارة ولا نفس إلّا بالله ، ومن الله ، ومع الله.

وفيه أيضا : حبّ الله إذا أضاء على سرّ عبد أخلاه عن كلّ شاغل ، وكلّ ذكر سوى الله عنده ظلمة ... (١) إلى آخره.

فإذا وفّق الله عبدا لأن ينسى وجوده الموهوم ويغطّي عليه غطاء الحياء والخوف بحيث لا يرى نفسه في جنب وجود الحقّ الّذي هو حقيقة الوجود وصرفه ، فقد غفر له وستر على وجوده الّذي لا ذنب أعظم من رؤيته في جنب وجود الله ، وحينئذ يصير فانيا في الله ، باقيا ببقاء الله ، فيصير منشأ لأفعال الربوبيّة ، ومحلّا للقدرة الإلهيّة.

وفي الحديث القدسيّ : يا بن آدم ، أطعني فيما أمرتك وانته عمّا نهيتك حتّى أجعلك مثلي وليس كمثلي ، أنا إذا أقول لشيء كن! فيكون ، وأنت إذا تقول لشيء كن! فيكون (٢).

وفيه أيضا : [يا ابن آدم ،] أنا حيّ لا أموت ، أطعني حتّى أجعلك حيّا لا تموت (٣).

كلّ ذلك في ساحة الإمكان وفيما دون مرحلة اللاهوت ، ما للتراب وربّ الأرباب والاتّصاف بالصفات غير الاتّصال بالذات والحديدة المحماة بمجاورة النار من غير سنخ النار مع أنّها تفعل فعل النار. وهذا المثال للتقريب ، وإلّا فلا مجال للتمثيل والمثال ، وقد أجاد من قال :

__________________

(١) مضباح الشريعة : ١٩٢ ، جامع الأخبار : ٨١.

(٢) بحار الأنوار ٧١ : ١٣٥.

(٣) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٧٢. وليس فيه كلمة «حتّى».

١٢١

آهنى چه؟ آتشى چه؟ لب ببند

ريش تشبيه ومشبّه را بخند (١)

إذا عرفت ما عرّفناك ، فلا يغرّنّك كلمات الصوفيّة في هذا المقام ، وأشعارهم المبنيّة على الخيالات الشيطانيّة ، والزندقات الفرعونيّة ، وقد نقلنا جملة منها في كتابنا المسمّى بـ «أسرار العارفين» وفي «شرح العديلة» وغيرهما ، فالحمد لله ربّ العالمين.

(وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) المصدر (٢) للمضاف وإن عمّ ، إلّا أنّه يحتمل أن يكون المراد بالمضاف خصوص نعمة الوجود ، لكونها أصل جميع النعم الظاهريّة والباطنيّة وأمّها ؛ إذ ما من نعمة دنيويّة كانت أو أخرويّة إلّا وهي راجعة إلى أمر وجوديّ ؛ كما أنّه ليس شيء من الشرور والنقم إلّا ومرجعه إلى العدم ، ولذا ادّعوا الضرورة على أنّ الوجود من حيث أنّه وجود خير محض ، والعدم من حيث أنّه عدم شرّ كذلك.

فالمراد بإتمام النعمة إكمال الوجود بوصوله إلى فعليّة ما فيه من القابليّة والاستعداد للمراتب العالية ، وقد عرفت أنّ أعلى مراتب العبد : الوصول إلى مقام الفناء عن وجوده باستغراقه في لجّة العبوديّة بحيث لا يشغله شيء سوى ذكر الله ، ولا يرى شيئا في الوجود سوى الله.

ومن زعم أنّ الفناء عبارة عن استغراق الوجود الإمكانيّ في لجّة بحر الوجود الوجوبيّ واستتار نور العقل الفارق بين الأشياء في غلبة نور الذات

__________________

(١) وفي المثنوي للمولويّ في معنى «في التأخير آفات» :

آتش چه؟ آهن چه؟ لب ببند

ريش تشبيه ومشبّه را بخند

(٢) «أ» : والمصدر.

١٢٢

القديمة وارتفاع التميّز بين القدم والحدوث لزهوق الباطل ؛ أي الوجود الموهوم بمجيء الحقّ ؛ أي صرف الوجود وعروج العبد عن حضيض الناسوت والملكوت والجبروت إلى أوج اللاهوت ، وصيرورته صرف الوجود الخاصّ بذات الباري تعالى وانقلاب إمكانه إلى الوجوب ، فقد أخطأ وكفر وأنكر شريعة سيّد البشر وادّعى إمكان الممتنع بالذات ، وليس له دليل سوى لقلقة اللسان بإنشاد الأبيات.

ومن المحتمل أن يراد بالنعمة النبوّة الّتي هي إخبار عن أسماء الله وصفاته ومراداته وأحكامه ، وبإتمامها إدامتها وإبقائها إلى آخر الدهر. وقد عرفت السرّ في أنّ نبوّة هذا الرسول المعظّم لا تجوز أن تنقطع وتنصرم أبدا بخلاف سائر النبوّات.

ويحتمل أن يراد بإتمامها إكمال النبوّة بالولاية الكلّيّة الّتي هي ثمرة شجرة النبوّة ومظهرها وهو عليّ بن أبي طالب عليه السلام كما قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (١) فكما لا فائدة في الشجر ما لم يكن معه ثمر ، فكذلك لا يترتّب على ما بلّغه الرسول ما لم يكن معه ولاية الوصيّ ، وقد أشير إليه في قوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٢) وممّا ذكرنا ينكشف السرّ في قوله : «ولو لا عليّ لما خلقتك» (٣).

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) المائدة : ٦٧.

(٣) عن كتاب فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى من مهدها إلى لحدها ١ : ٩ نقلا عن كشف اللئالى ، لصالح بن عبد الوهّاب بن العرندس «عن الله تبارك وتعالى : يا أحمد ، لولاك لما خلقت الأفلاك ، ولو لا عليّ لما خلقتك ، ولو لا فاطمة لما خلقتكما».

١٢٣

ولا يلزم منه كون عليّ عليه السلام أفضل من محمّد صلّى الله عليه وآله كما توهّمه من لا فطنة له ، فإنّ مثل محمّد صلّى الله عليه وآله مثل الشجرة مع الثمرة ، ومثل عليّ عليه السلام مثل الثمرة خاصّة ، فكيف يكون الجزء أفضل من الكلّ؟ كيف وقد قال عليّ عليه السلام : أنا عبد من عبيد محمّد (١).

وقد يقال : إنّ المراد بإتمام النعمة إعلاء الدين وضمّ الملك إلى النبوّة.

وفي مجمع البيان : معناه ؛ ويتمّ نعمته عليك في الدنيا : بإظهارك على عدوّك ، وإعلاء أمرك ، ونصرة دينك ، وبقاء شرعك ، وفي الآخرة : برفع محلّك ، فإنّ معنى إتمام النعمة فعل ما يقتضيها ويبقيها على صاحبها والزيادة فيها.

وقيل : يتمّ نعمته عليك بفتح خيبر ومكّة والطائف. انتهى (٢). فافهم وتأمّل.

(وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) إن كان المعنيّ به الامّة أو الشيعة ، والمراد بالهداية مطلق إراءة الطريق سواء كانت موصلة إلى المطلوب أو غير موصلة ، فلا إشكال. وعدم إجابة الكثير من الناس لا يبطل الغرض من الهداية بعد اهتداء من أراد الله هدايته ؛ كما قال : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٣) وقال : (هُدىً [وَبُشْرى] لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤) وقد خاطب الله في كتابه في مواضع منه الّذين آمنوا مع أنّ الكفّار أيضا عندنا مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول ، وبالأصول عند الجميع.

__________________

(١) بحار الأنوار ٣ : ٢٨٣.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ١٦٩.

(٣) الذاريات : ٥٥.

(٤) البقرة : ٩٧.

١٢٤

وكذا لو كان المعنيّ بالخطاب هو نفسه الشريفة ، وبالهداية ما ذكر ، ولكن على تقدير نزع الخافض ؛ أي ويهدي بك الناس الصراط المستقيم ، وإطلاق الهداية لاختلاف الناس في الوصول وعدمه وإن قلّ الواصلون.

خليليّ قطّاع الفيافي إلى الحمى

كثير وأنّ الواصلين قليل

والقول بأنّ الهداية إذا عدّيت إلى المفعول الثاني بلا واسطة أو بواسطة «إلى» فهي موصلة ، وإذا عدّيت بواسطة «اللام» كما في قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١) فهي للإراءة لا دليل عليه.

والمراد بالصراط المستقيم على هذين الوجهين هو الطريق المستوي الّذي لو سلكه والتزمه السالك أفضاه إلى الجنّة سواء كان حسّيّا أو عقليّا ، فيدخل فيه جميع ما فسّروه به من الجسر الممدود على جهنّم ، ومعرفة الله ، والتوحيد ، والشريعة ، وتهذيب الأخلاق بالرياضات ، وولاية الإمام المفترض الطاعة ، وحبّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، والتوسّط بين مطلق الإفراط والتفريط ، أو خصوص إفراط النصارى وتفريط اليهود ؛ كما أشار إليه بقوله : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) (٢) وقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٣) والصورة الإنسانيّة والتوسّط بين الخوف والرجاء وغير ذلك من المسالك الاعتداليّة ، وكلّ منها أدقّ من الشعر ، وأحدّ من السيف ؛ كما لا يخفى على من له أدنى بصيرة وفطنة.

__________________

(١) الإسراء : ٩.

(٢) النور : ٣٥.

(٣) الفاتحة : ٧.

١٢٥

ولا يخفى أنّ جميع هذه الحقائق متلازمة في الوجود ، وصورتها الّتي تظهر فيها في القيامة الكبرى هو الجسر الممدود الّذي لا يمكن لأحد من الناس أن لا يمرّ عليه ، ولا يمكن لأحد منهم الوصول إلى الجنّة إلّا بالمرور عليه ، إلّا أنّ منهم من يمرّ عليه مثل البرق ، ومنهم من يمرّ عليه كعدو الفرس ، ومنهم من يمرّ عليه ماشيا ، ومنهم من يمرّ عليه حبوا ، ومنهم من يمرّ عليه متعلّقا فتأخذ منه النار شيئا ، ومنهم من يسقط فيها في قدمه الاولى ، فقد قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (١).

وهذا الاختلاف إنّما نشأ من اختلافهم في المعرفة والسلوك في الدار الدنيا ، وقد ورد أنّ الصراط مظلم يسعى الناس على قدر أنوارهم : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢).

وفي تنكير «الصراط» إشارة إلى أنّ لكلّ طريقا خاصّا إلى الحقّ على حسب ما أعطاه الله من القابليّة والاستعداد ، فإنّ «الطّرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق» (٣) ، كما روي في بعض الكتب ، فلا يطلب من الأدنى ما يؤاخذ عليه الأعلى ؛ إذ لا يكلّف الله نفسا إلّا ما آتاها ، ولا يكلّفها إلّا وسعها وبقدر طاقتها ، قال الله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) إلى قوله (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (٤).

وقد فسّر «الماء» بالعلم ، و «الأودية» بالقلوب ، فكلّ مكلّف في السلوك

__________________

(١) مريم : ٧١.

(٢) الملك : ٢٢.

(٣) بحار الأنوار ٦٧ : ١٣٧.

(٤) الرعد : ١٧.

١٢٦

على حسب فهمه وقدرته ، فيحصل لكلّ مع سلوكه على ما يطيقه وعلى حسب ما يتيسّر له من الإدراك صراط يوصله إلى الجنّة غير صراط الآخر ، وكلّ مستقيم بالنسبة إلى سالكه وبحسبه إذا أدّى حقّ سلوكه ، لا أقول كما يقوله بعض المتصوّفة من أنّ مآل سلوك كلّ أحد إلى الجنّة ؛ وإن ذهب إلى ما ذهب من المذاهب الفاسدة ، حتّى عابد الوثن وعابد صنمي قريش وجبتيها ، كيف وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ستفترق امّتي على بضع وسبعين فرقة كلّهم في النار إلّا من اتّبع عليّ بن أبي طالب (١).

وقال الله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٢).

وقال : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٣). وغير ذلك ممّا لا يحصى من الأخبار والآيات.

وجميع ما ذهب فيه أرباب المذاهب الباطلة وإن كان صراطا إلّا أنّه ليس مستقيما ، والسلوك في غير المستقيم ضلالة لا هداية ، فكما أنّ المستقيم من الصراط موصل إلى النعيم كذلك غيره موصل إلى الجحيم ، والمستقيم لا يكون إلّا واحدا وهو أدقّ من الشعر كالخطّ الهندسيّ الفاصل بين نور الشمس وظلّه ، فإنّه لدقّته لا يعدّ من النور ولا من الظلّ ، وكما لا يكون للدائرة إلّا مركز واحد وهو النقطة الواحدة في وسطها ، كذلك لا يكون الحقّ إلّا واحدا.

__________________

(١) في البحار ٢٨ : ٣٠ ؛ حديث قريب منه.

(٢) آل عمران : ١٩.

(٣) آل عمران : ١٠٢.

١٢٧

وكما لا يكون ما بين حدّي الخطّ المستقيم إلّا خطّ واحد مستقيم وإن تعدّدت الخطوط الغير المستقيمة كذلك صراط الحقّ لا يكون إلّا واحدا مستقيما وهو «صراط الّذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالّين».

فإنّ صراطهم إمّا على جهة الإفراط ، أو على جهة التفريط ؛ بخلاف صراط المنعم عليهم ، فإنّ صراطهم في الوسط المستوي على الخطّ المستقيم الّذي يصل المارّ عليه إلى جنّة النعيم.

وكذا إن كان المعنيّ بالخطاب هو نفسه المقدّسة ولكن بتقدير الخافض كلمة «إلى» ؛ أي ليهدي إليك قومك ؛ كما فسّر به قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (١) ، قال الرضا عليه السلام : وضالّا في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك (٢).

وحينئذ فـ «صراطا مستقيما» حال من «الكاف» ففيه دلالة صريحة على أنّه صلّى الله عليه وآله هو الصراط المستقيم ؛ إذ المتّبع له ، الملتزم لطريقته وسنّته يصل البتّة إلى الجنّة ، والمتخلّف عنه المنحرف عن شريعته يصلى الجحيم قطعا ، وقد قال الله له صلّى الله عليه وآله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٣) وحيث كانت أخلاقه معتدلة وأحواله كلّها اعتداليّة كان هو الصراط المستقيم ، كما أنّ شريعته الجامعة أيضا كذلك ؛ كما قال : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤).

__________________

(١) الضحى : ٧.

(٢) بحار الأنوار ١٦ : ١٣٩.

(٣) هود : ١١٢.

(٤) المؤمنون : ٧٣.

١٢٨

وقال : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١).

ولا ينافي ذلك قوله : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٢) وقوله : (فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣) فإنّ العبادة لا تكون إلّا من حيث أمر الله ، وقد أمر عباده أن يعبدوه بدلالة أنبيائه ورسله ، فلا يقبل عبادة إلّا ما كان موافقا لدلالتهم ، وقد قال : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤).

وأمّا إن كان المعنيّ بالخطاب هو صلّى الله عليه وآله من دون تقدير خافض ومضاف فيرد هنا سؤال ؛ وهو أنّه هو الهادي للكلّ إلى أقوم السبل ؛ كما قال : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥) وقال : (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٦) وقد كان على صراط مستقيم من التوحيد وغيره ، كما قال : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧) وكلّ هداية فهو مسبوق بضلالة ، وهو صلّى الله عليه وآله لم يشبه ضلالة أصلا ؛ بل كان على بيّنة من أوّل خلقه؟

وللجواب عن هذا السؤال وجوه من المقال :

منها : أنّ كلّ عبد وإن بلغ في كماله ما بلغ إلّا أنّه محتاج إلى ربّه في كلّ آن

__________________

(١) الزخرف : ٤٣.

(٢) يس : ٦١.

(٣) آل عمران : ٥١.

(٤) آل عمران : ٨٥.

(٥) المؤمنون : ٧٣.

(٦) الفتح : ٢.

(٧) يس : ٣.

١٢٩

من الآنات ، فإنّه لا يخرج عن حدّ الإمكان في حين من الأحيان ، والممكن كما هو مفتقر في حدوثه إلى ربّه كذلك مفتقر في بقائه إليه تعالى ، وقد قرّر ذلك في الحكمة.

ولا ريب أنّ هداية الرسول صلّى الله عليه وآله لم تحصل إلّا بفعل الله تعالى ووحيه وتوفيقه ، فهو صلّى الله عليه وآله مفتقر إليه في دوام هذه الهداية وبقائها والثبات على الصراط المستقيم ، ولو لا عناية الحقّ وعصمته لزلّت قدمه عن الصراط ؛ كما قال : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (١).

فالمراد بـ «يهديك» يبقيك ويديمك ويثبّتك على هذا الصراط الّذي هداك إليه ، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال في تفسير : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٢) ؛ يعني «أدم لنا توفيقك الّذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا» (٣).

قال بعض الأساطين : لمّا كان العبد محتاجا إلى الهداية في جميع أموره آنا فآنا ولحظة فلحظة ، فإدامة الهداية هي هداية اخرى بعد الهداية الاولى ، فتفسير الهداية بإدامتها ليس خروجا عن ظاهر اللفظ.

ومنها : أنّ لكلّ أحد صراطا مستقيما بحسب رتبته ومقامه ، وهو صلّى الله عليه وآله وإن كان هاديا للكلّ إلى أوضح السبل ، إلّا أنّه محتاج إلى الله في أن يهديه إلى توحيده الخاصّ به الحاصل من التجلّي الكلّيّ الموجب للفناء

__________________

(١) يوسف : ٢٤.

(٢) الفاتحة : ٦.

(٣) بحار الأنوار ٢٤ : ٩.

١٣٠

الكلّيّ الّذي ترتفع به جميع التعيّنات الملكيّة والملكوتيّة والجبروتيّة.

وهذا المحو والارتفاع إمّا دفعيّ ، وإمّا تدريجيّ ، والأوّل يسمّى بالتجلّي الجلاليّ ، والثاني بالجماليّ.

وكيف كان ، فهذا المقام هو صراطه المستقيم المخصوص به ، فالتنكير للتفخيم أو للنوعيّة ، وحاصله على ما قدّمناه هو صرف التوجّه عن غير الله إلى الله والالتفات بالكلّيّة عن علائق النفس إلى الله :

إذا شئت أن تحيا فمت عن علائق

من الحسّ خمس ثمّ عن مدركاتها

فقابل بوجه النفس عالم قدسها

فذاك حياة النفس بعد مماتها

ومنها : أنّ المراد بالهداية في الآية هو كشف الأسرار الإلهيّة وحقائق الأشياء على ما هي ، فإنّ الهداية أقسامها أربعة :

أحدها : ما عرفته وهو خاصّ بالأنبياء والأولياء ؛ كما قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (١) وقال : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٢).

وثانيها : إفاضة القوى الّتي يمكّن بها العبد من الاهتداء في مصالحه كالعاقلة والحواسّ الظاهرة والباطنة ؛ كما قال : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣).

وثالثها : نصب الدلائل الفارقة بين الحقّ والباطل ؛ كما قال :

__________________

(١) الأنعام : ٩٠.

(٢) العنكبوت : ٦٩.

(٣) الأعلى : ٣.

١٣١

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١) ؛ أي الخير والشرّ.

ورابعها : إرسال الرسل وإنزال الكتب بالدعوة والبيان.

وبالجملة : الهداية إنّما تستلزم سبق الضلالة في بعض أقسامها لا في جميعها.

ومنها : أنّ المراد بـ «الهداية» : «البيان» كما في قوله : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (٢) ؛ أي بيّنّا لهم ، وب «الصراط المستقيم» : «القرآن» لأنّه طريق يسلك بتاليه إلى الجنّة.

ووصفه بالاستقامة لكونه قائما ثابتا بالبرهان والحجّة بحيث لا يقدح فيه ريب المرتابين ، ولا كيد الحاسدين.

أو لكونه قيّما لا عوج فيه من جهة الفصاحة والبلاغة : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٣).

وهذا الوصف يحتمل كونه لحال الموصوف كما عرفته ، وكونه لحال متعلّقة ؛ أي مستقيم سالكه ففي الإسناد تجوّز ؛ كما في قوله : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) (٤).

وقد ذكروا أنّ الخصلة الّتي بها يكمل محاسن الطريقة هي الاستقامة.

وقد يقال : إنّ الاستقامة هي الترقّي عن توحيد الأفعال إلى توحيد الصفات ، وعنه إلى توحيد الذات.

__________________

(١) البلد : ١٠.

(٢) فصّلت : ١٧.

(٣) النساء : ٨٢.

(٤) يونس : ٦٧.

١٣٢

وكيف كان ففي وصف الصراط بالاستقامة في مواضع كثيرة من القرآن إشارة إلى أنّ الطرق الّتي يطلب فيها الحقّ وإن كانت كثيرة ؛ بل لا تعدّ ولا تحصى ، إلّا أنّ المقصود المحبوب لله منها هو المستقيم المستوي الّذي يهتمّ الشيطان بصدّ العباد عنه ؛ كما قال : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١) لأنّه الطريق المنتهي إلى النعيم ، وغيره من الطرق صراط الجحيم ؛ كما قال : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٢) فالصراط المستقيم هو صراط الله ؛ كما أضافه إليه في كتابه ، وغيره صراط الشيطان ، وهمّه صرف عباد الله عن صراطه إلى صراطه.

والقول بأنّ كلّ أحد مظهر لاسم من أسماء الله ومربوب له ، وجميع الأسماء منتسب إلى ذات واحدة ، فجميع الطرق تنتهي الى الله ؛ كما قال : (إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٣) لا يقتضي انتهاء طريق الشيطان إلى الله ؛ بل الطرق الّتي هي مصاديق صراط الله المستقيم تنتهي إلى الله ، فكلّ من الصلاة والزكاة والصوم وغيرها من العبادات الظاهريّة طريق إليه.

وكذلك كلّ من الأخلاق الحميدة كالعدل والجود والقناعة طريق إليه.

وكذلك كلّ من مراتب التوحيد والمعرفة طريق إليه ؛ كما أنّ كلّا من أضداد ذلك طريق إلى الشيطان فلا تغفل.

والحاصل : أنّ كلّ واحد من الخيرات نقطة من نقاط الخطّ المستقيم

__________________

(١) الأعراف : ١٦.

(٢) الصافّات : ٢٣.

(٣) الشورى : ٥٣.

١٣٣

الموهوم في الصراط المستقيم ، وتبدّلها بحسب الأوقات والأشخاص لا يوجب اعوجاج هذا الخطّ. فافهم.

تتميم : ربّما يتوهّم أنّ استعمال الصراط في غير الطريق الحسّيّ من المسافة الّتي يتطرّق فيها بالحركة الحسّيّة المطلقة على كون الجسم متوسّطا بين المبدأ والمنتهى المسمّى بالحركة التوسّطيّة ، وعلى الأمر الممتدّ في الخيال باستمرارها وسيلانها المسمّى بالحركة القطعيّة مجازيّ ، لأنّ المتبادر من إطلاق هذا اللفظ هو الطريق الحسّيّ المذكور ، وتبادر الغير آية المجاز ؛ كما فصّل في محلّه.

وأنت خبير بأنّ لكلّ معنى من المعاني روحا وقالبا ، واللفظ موضوع للمعنى بملاحظة روحه وحقيقته من غير ملاحظة خصوصيّة قالب من قوالبه ، فصراط الشيء هو ما يفضي إليه بحسبه ، فإن كان المفضي إليه جسما فصراطه جسم ، وإن كان أمرا عقليّا فصراطه كذلك ، والحركة عقليّة معنويّة.

وقد فصّل الغزاليّ هذا في إحيائه بما لا مزيد عليه ، وتبعه المحدّث الكاشاني في مقدّمات الصافي ، فتأمّل.

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) «النصر» الإعانة ، ونصره منه : نجّاه وخلّصه ، ويقال : نصر الغيث الأرض : إذا عمّها ، والله تعالى أعان رسوله في جميع أموره ، ولا سيّما على دفع أعدائه ، ونجّاه من مكائدهم وأذاهم ، وإنّما أرادوا ليطفئوا نوره بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره المشركون.

وكان الشيطان من أعدى أعدائه ، لكونه لعنه الله مضلّا ، وكونه صلّى الله عليه وآله مظهر الاسم الهادي ، ومنشأ العداوة هو التضادّ ، فعصمه الله منه كما

١٣٤

عصمه من الناس فقال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (١) فهو صلّى الله عليه وآله معصوم من الخطأ والنسيان بإعانة الله ، ومن شرور الأعداء بحفظه ودفعهم عنه ، ومن صغائر المعاصي وكبائرها بدفع الشيطان عنه حتّى قتله بيده ، وعمّه بجوده وإحسانه حيث جعله مرآة لجميع أسمائه الحسنى حاكيا عن تمام صفاته العليا ، ولذا قال له : خلقتك لأجلي ، وخلقت الأشياء لأجلك.

فصار سائر الأنبياء حاكين عنه صلّى الله عليه وآله مظهرين لأمره على حسب مراتبهم في معرفة الأسماء والصفات من علم اليقين أو عين اليقين ، وأمّا هو صلّى الله عليه وآله فقد عرف الأسماء والصفات بحقّ اليقين حيث كان مظهرا للجميع بالتجلّي الأوّل من دون توسّط واسطة غيريّة ؛ بل كان هي نفس التجلّي الأوّل ، وليس لأحد أن ينكر اختلاف مراتب الخلق في مراتب معرفة الحقّ تعالى.

وقد أجاد بعض العارفين حيث قال : وفيه ـ أي في مقام معرفة الصفات والأسماء ـ تتفاوت مراتبهم ، فليس من يعلم أنّه تعالى عالم قادر على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السماوات والأرض ، وخلق الأرواح والأجساد ، واطّلع على بدائع المملكة ، وغرائب الصنعة ، ممعنا في التفصيل ، ومستقصيا دقائق الحكمة ، ومستوفيا لطائف التدبير ، ومتّصفا بجميع الصفات الملكيّة المقرّبة من الله ، نائلا لتلك الصفات نيل اتّصاف بها ؛ بل بينهما من البون البعيد ما لا يكاد يحصى.

وفي تفاصيل ذلك ومقاديره تتفاوت الأنبياء والأولياء ، ولن يصل إلى

__________________

(١) المائدة : ٦٧.

١٣٥

فهمك إلّا بمثال ، ولله المثل الأعلى.

ثمّ مثّل بمثال حاصله : أنّ العالم المتقن يعرفه بوّابه ، ويعرفه تلميذه ، والبوّاب يعرفه أنّه عالم بالشرع ، ومصنّف فيه ، ومرشد خلق الله إليه على الجملة ، والتلميذ يعرفه لا كمعرفة البوّاب.

بل يعرفه معرفة محيطة (١) بتفاصيل صفاته ومعلوماته.

بل العالم الّذي يحسن عشرة أنواع من العلوم لا يعرفه بالحقيقة تلميذه الّذي لم يحصّل إلّا نوعا واحدا فضلا عن خادمه الّذي لم يحصّل شيئا من العلوم.

بل الّذي حصّل علما واحدا فإنّما عرف على التحقيق عشرة إن ساواه في ذلك العلم حتّى لم يقصر عنه ، فإن قصر عنه فليس يعرف بالحقيقة ما قصر عنه إلّا باسم وإبهام الجملة ، وهو أنّه يعلم شيئا سوى ما علمه.

قال : فافهم تفاوت الخلق في معرفة الله ، فبقدر ما انكشف لهم من معلومات الله ، وعجائب مقدوراته ، وبدائع آياته في الدنيا والآخرة ، والملك والملكوت ، تزداد معرفتهم ، وتقرب معرفتهم من معرفة الحقيقة. انتهى.

وبالجملة : رسولنا الخاتم لكونه جامعا لجميع الكمالات بالإفاضة الكلّيّة والجود العامّ من الذات واقع في أعلى مراتب المعرفة بالأسماء والصفات ، والأنبياء كلّهم لعدم حكايتهم عن الجميع واقفون تحت مرتبته ، ولذا قال : لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا اتّباعي (٢).

__________________

(١) «أ» : محيط.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٩٩ ، معاني الأخبار : ٢٨٢.

١٣٦

وقال : آدم ومن دونه تحت لوائي [يوم القيامة] (١).

وقال عليه السلام :

إنّي وإن كنت ابن آدم صورة

فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي

ولا يخفى عليك أنّ «النصر» على المعنى الأوّل متعدّ إلى الثاني بـ «على» وعلى الثاني بـ «من» وعلى الثالث لا يتعدّى إلّا إلى الواحد ، وهما أيضا متضمّنان للأوّل الّذي هو الأصل في هذا اللفظ ، وحذف الثاني في الأوّلين يفيد العموم لهما وللثالث ، ولا يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد لو أريد به القدر المشترك حقيقة أو تجوّزا. فافهم.

وكيف كان ، فيحتمل أن يراد بـ «النصر» ترويج دينه ، ورفع ذكره ، أو إظهاره على الدين كلّه ولو في زمان الرجعة ، وقد سئل الصادق عليه السلام عن قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٢) فقال عليه السلام : ذلك والله في الرجعة ، أما علمت أنّ أنبياء الله كثيرة لم ينصروا في الدنيا وقتلوا ، والأئمّة من بعدهم قتلوا ولم ينصروا وذلك في الرجعة (٣). انتهى.

أو غلبته على الكفّار المعارضين له بالحجج الباهرة الّتي من جملتها ؛ بل أعلاها : القرآن ؛ الّذي عجزوا عن الإتيان بمثل أقصر آية منه ؛ ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، فلو لا ذلك لما اختاروا تجشّم مكائد الحرب معه في مواطن

__________________

(١) بحار الأنوار : ١٦ : ٤٠٢.

(٢) غافر : ٥١.

(٣) بحار الأنوار ٦٧ : ٤٧.

١٣٧

كثيرة بتضييع الأموال ، وإتلاف النفوس.

وفي رواية عن الرضا عليه السلام : فأمّا قوله عزّ وجلّ : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (١) فإنّه يقول : ولن يجعل الله لكافر على مؤمن حجّة ، ولقد أخبر الله عزّ وجلّ عن كفّار قتلوا النبيّين بغير حقّ ، ومع قتلهم إيّاهم لن يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلا من طريق الحجّة (٢). انتهى.

وكيف كان ، فقد نصر الله رسولنا في حياته في مواطن كثيرة مع قلّة عدده وعدّته ، ووقائعه في غزواته معروفة ، وبعد وفاته بأصحابه وخلفائه وترويج دينه وإعلاء كلمته يوما فيوما مع كثرة الملحدين ، وشدّة عناد المنافقين ، وسينصره في زمان الرجعة قبل يوم القيامة بما قرع سمعك من الأخبار المتواترة المشتملة على ما يخصّه الله في أهل بيته وشيعتهم من الدولة العظيمة ، والسلطنة القويمة ، وفي القيامة بقبول شفاعته في أمّته ؛ بل في جميع الأمم ، وبعثه المقام المحمود ، وتخصيصه بلواء الحمد ، وتاج الكرامة ، والحوض ، وغير ذلك ممّا لا يخفى على من تتبّع الآيات والأخبار.

فأيّ نصر أعزّ وأمنع من نصر الله لهذا الرسول الّذي كان في أوّل أمره بحسب الظاهر يتيما وحيدا فقيرا لا عدد ولا عدّة له ، فشرح الله صدره ، ووضع عنه وزره ، ورفع له ذكره ، وأكثر له الذرّيّة الطيّبة ، وأعطاه الكوثر المفسّر بذلك وبغيره من المراتب العالية ، فصلّى الله عليه وآله صلاة دائمة طيّبة.

__________________

(١) النساء : ١٤١.

(٢) بحار الأنوار ٤٤ : ٢٧١.

١٣٨

و «العزيز» القويّ والغالب.

قال الطبرسيّ رحمه الله : النصر العزيز هو ما يمتنع به من كلّ جبّار عنيد وعات مريد ، وقد فعل ذلك بنبيّه ؛ إذ صيّر دينه أعزّ الأديان ، وسلطانه أعظم السلطان (١). انتهى.

فالوصف لحال الموصوف ، ويحتمل كونه لمتعلّقه ؛ أي نصر الغيريّة المنصور ، فوصف بوصفه مبالغة ؛ كما في قوله : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢).

ويحتمل أن يكون المراد بـ «العزّة» القلّة من قولهم : عزّ اللحم : إذا قلّ ؛ أي نصرا [يكاد لا يوجد] (٣) مثله ، فإنّ هذا النصر مخصوص برسولنا من بين الرسل ، فمن المحتمل أن يراد به نصرة القائم من ولده.

اللهمّ أعزّه وأعزز به ، وانصره وانتصر به ، وانصره نصرا عزيزا ، وافتح له فتحا يسيرا ، واجعل له من لدنك سلطانا نصيرا!

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) لعلّ التعبير بكلمة «هو» الموضوعة لضمير الغائب المناسبة إنزال السكينة في القلوب ، فإنّه أمر غيبيّ لا يدرك بمشاهدة العيون ؛ بل هو سرّ مستسرّ بين المحبّ والمحبوب.

بين المحبّين سرّ ليس يفشيه

قول ولا قلم للخلق يحكيه

وقد ذكر بعض العارفين : أنّ ال «هو» هو اعتبار الذات بحسب (٤) الغيبة.

غائب ز حقّ است و «هو»ازآن مى گويد

گم كرده هويّت وبه «هو» مى جويد

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ١٦٩.

(٢) الحاقّة : ٢١.

(٣) «ب» : لا يكاد ولا يوجد.

(٤) ليست في «أ».

١٣٩

وقد يقال : إنّ مقام ألهو المعبّر عنه بالهاهوت أعلى من مقام اللاهوت المأخوذ من اسم الجلالة ، فإنّ الأوّل كناية عن كنه الذات المجرّد عن جميع الاعتبارات ، وهو الّذي لا يعلم ما هو إلّا هو ، فلا سبيل في هذا المقام لإشارة ، وعبارة ، واسم ، ورسم ، ووصف ، وصفة ، وتعريف ، ومعرفة ، سوى أنّه هو ، ولا هو إلّا هو ، فإنّه مقام الهوهويّة الذاتيّة ، والثاني عن الذات باعتبار اسم الذات ، ولا مشاحّة في الاصطلاحات.

وكيف كان ، ففي هذا التعبير إشارة إلى كمال عناية الحقّ بالمؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم.

ومن المحتمل أن يكون إشارة إلى أنّ هذا الإنزال لا يكون إلّا بعد غيبة المؤمن عن نفسه ، وفقده العلائق البشريّة ، وتجريده القلب عن ذكر ما سوى الربّ ، وفنائه في شهود الحقّ بحيث لا يصرفه عنه استعمال جوارحه ، ويسمّى هذا المقام بسجود القلب :

در شهود حقّ ار فنا گردى

غرق درياى ما چه ما گردى

وقد وصف الله هؤلاء المؤمنين برجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، ولعلّ في التعبير بالإنزال دون التنزيل على القول بالفرق بينهما بدلالة الثاني على التدريج دون الأوّل إشارة إلى حصول حالة السكينة دفعة ؛ إذ مادام السالك في السعي والسير لا يكون مطمئنّا بالوصول إلى المقصد الأعلى ، وهو النجاة عن حبائل الشيطان ، ومكائد النفس الأمّارة ، والفوز بالحياة الملكوتيّة ، فإذا وصل إلى هذا المقصد بحسب استعداده يحصل له القرار والسكون ، ويزول عن قلبه خوف الابتلاء بوساوس الشيطان ، وصدّه عن

١٤٠