يشاهد قلبه اليقين بأنه لاند له ، وكأنه لم يسمع بتبرئ التابعين من المتبوعين ، وهم يقولون : «تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذنسو يكم برب العالمين» فمن ساوى ربنا بشئ فقد عدل به ، والعادل به كافر بما نزلت به محكمات آياته ، ونطقت به شواهد حجج بيناته ، لانه الله الذي لم يتناه في العقول فيكون في مهب فكرها مكيفا ، وفي حواصل رويات همم النفوس محدودا مصرفا ، (١) المنشئ أصناف الاشياء بلا روية احتاج إليها ، ولا قريحة غريزة أضمر عليها ، (٢) ولا تجربة أفادها من مر حوادث الدهور ، ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الامور ، الذي لما شبهه العادلون بالخلق المبعض المحدود في صفاته ، ذي الاقطار والنواحي المختلفة في طبقاته ، وكان عزوجل الموجود بنفسه لا بأداته ، انتفى أن يكون قد روه حق قدره «فقال تنزيها لنفسه عن مشاركة الانداد ، وارتفاعا عن قياس المقدرين له بالحدود من كفرة العباد : «وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيمة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون» فما ذلك القرآن عليه من صفته فاتبعه ليوصل بينك وبين معرفته ، وائتم به ، واستضئ بنور هدايته ، فإنها نعمة وحكمة او تيتهما ، فخذما اوتيت وكن من الشاكرين ، وما دلك الشيطان عليه مما ليس في القرآن عليك فرضه ولا في سنة الرسول وأئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله عزوجل ، فإن ذلك منتهى حق الله عليك.
واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام (٣) في السدد المضروبة دون الغيوب ، فلزموا الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فقالوا : «آمنا به كل من عند ربنا» فمدح الله عزوجل اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه منهم رسوخا ،
___________________
(١) الحواصل جمع الحوصلة ، هى من الطائر بمنزلة المعدة من الانسان : والرويات جمع الروية : النظر والتفكر في الامور ، والهمم جمع الهمة : العزم القوى.
(٢) القريحة : الطبع. وملكة يقتدر بها على الاجادة في نظم الشعر وانشاء الخطب ونحوه ، الغريزة : الطبيعة ، وأضمر الامر : أخفاه ، وأضمر في نفسه شيئا : عزم عليه.
(٣) اقتحم المنزل : هجمه ، الامر : رمى نفسه فيه بشدة ومشقة.