خلاف خلقه ، فلا شبه له من المخلوقين ، وإنما يشبه الشئ ، بعديله ، فأما مالا عديل له فكيف يشبه بغير مثاله ، وهو البدئ الذي لم يكن شئ قبله ، والآخر الذي ليس شئ بعده ، لاتناله الابصار في مجد جبروته ، (١) إذ حجبها بحجب لا تنفذ في ثخن كثافته. ولا تخرق إلى ذي العرش متانة خصائص ستراته ، الذي صدرت الامور عن مشيته ، و تصاغرت عزة المتجبرين دون جلال عظمته ، وخضعت له الرقاب ، وعنت له الوجوه من مخافته ، وظهرت في بدائع الذي أحدثها آثار حكمته ، وصار كل شئ خلق حجة له ومنتسبا إليه ، فإن كان خلقا صامتا فحجته بالتدبير ناطقة فيه ، فقدر ما خلق فأحكم تقديره ، ووضع كل شئ بلطف تدبيره موضعه ، ووجهه بجهة فلم يبلغ منه شئ محدود منزلته ، (٢) ولم يقصر دون الانتهاء إلى مشيته ، ولم يستصعب إذأمر (٣) بالمضي إلى إرادته ، بلا معاناة للغوب مسه ، ولا مكائدة (٤) لمخالف له على أمره ، فتم خلقه وأذعن لطاعته ، ووافى الوقت الذي أخرجه إليه ، إجابة لم يعترض دونها ريث المبطئ ، ولا أناة المتلكئ ، (٥) فأقام من الاشياء أودها ، ونهي معالم حدودها ، ولاءم بقدرته بين متضاداتها ، ووصل أسباب قرائنها ، وخالف بين ألوانها ، وفرقها أجناسا مخلتفات في الاقدار والغرائز (٦) والهيئات ، بدايا خلائق أحكم صنعها ، وفطرها على ما أراد و ابتدعها ، (٧) انتظم علمه صنوف ذرئها ، وأدرك تدبيره حسن تقديرها.
أيها السائل اعلم أن من شبه ربنا الجليل بتباين أعضاء خلقه ، وبتلاحم أحقاق (٨) مفاصلهم المحتجبة بتدبير حكمته (٩) أنه لم يعقد غيب ضميره على معرفته ولم
___________________
(١) وفى نسخة : من مجد جبروته. والجبروت صيغة مبالغة بمعنى القدرة والسلطة والعظمة.
(٢) في التوحيد المطبوع : فلم يبلغ منه شئ حدود منزلته.
(٣) في التوحيد المطبوع : ولم يستصعب أو امره بالمضى إلى إرادته.
(٤) في بعض النسخ : المكابدة ، وفى التوحيد المطبوع : المكابرة.
(٥) تلكا عليه : اعتل عن الامر : أبطأ وتوقف. والمتلكئ : المتعلل والمبطئ والمتوقف.
(٦) الغرائز : الطبائع.
(٧) في نسخة : وفطرها على ما أراد إذ ابتدعها.
(٨) وفى نسخة : حقاق.
(٩) قال ابن ميثم : والذى يقال من وجه الحكمة في احتجاب المفاصل : هو أنها لو خلقت ظاهرة عرية عن الاغشية ليبست رطوباتها وقست فيتعذر تصرف الحيوان بها كما هو الان ، وأنها كانت معرضة للافات المفسدة لها وغير ذلك من خفى تدبيره ولطيف حكمته.