البحث الثاني : بعد الفراغ عن مقام الثبوت وإثبات أن جميع السنة الحجية من المنجزية والمعذرية والطريقية وجعل الحكم التكليفي ممكنة نبحث عن أن أي واحد منها يمكن إثباته بحسب ظاهر الدليل الدال على حجية الخبر الواحد.
فنقول : ان المحقق النائيني (قدسسره) ، حيث يرى دوران الأمر بين جعل الحكم التكليفي والطريقية من السنة الحجية على ما تقدم منه ، ذكر في المقام ، وهو مقام الإثبات ، أن أهم الإمارات هو الظواهر والخبر الواحد ، وعمدة الدليل على حجيتهما هو السيرة العقلائية ، أما بالنسبة الى حجية الظواهر فواضح ، وأما بالنسبة الى حجية الخبر الواحد فلأن الأدلة الشرعية الدالة على حجيته انما هي امضاء للسيرة العقلائية ، وليست بأدلة تأسيسية ، فعمدة الدليل هو السيرة العقلائية.
والعقلاء بما هم عقلاء ليسوا مشرعين ، وليست وظيفتهم البعث والزجر ، لان البعث والزجر من وظائف المولى ، فليس لهم جعل الاحكام التكليفية ، وانما الذي يمكنهم هو جعل الاحكام الوضعية من الملكية ونحوها ، ففي المقام ليس لهم جعل الحكم التكليفي في مورد الامارة ، بل لهم جعل الحكم الوضعي ، وهو جعل الامارة طريقا الى الواقع كالعلم وتتميم كشفه عن الواقع. والأدلة الشرعية بما أنها إمضاء للسيرة العقلائية لا دليل برأسها تكون تابعة للسيرة في المضمون ، فيكون مضمونها ايضا جعل الطريقية للامارة وتتميم كشفه لا جعل الحكم التكليفي ، فاذا لم يكن المجعول حكما تكليفيا ينحصر في الطريقية ؛ لدوران الأمر بينهما (١). هذا ما افاده المحقق النائيني (قدسسره) في المقام ، ووافقه على ذلك السيد الاستاذ وكثير ممن نعلم ، وفرّعوا عليه فروعا كثيرة.
ولكن ما أفادوه غير تام ؛ وذلك لأن السيرة العقلائية ببعض معانيها لا يمكن أن يكون لها حكم اصلا ، وببعض متصوراتها معقولة ، وببعض معانيها وان كانت معقولة وكان لها حكم إلا أنه كما يتناسب مع جعل الطريقية يتناسب مع جعل الحكم
__________________
(١) أجود التقريرات بتصرف.