الصورة الثالثة : عكس الصورة الثانية ، بأن يفرض ثبوت ذات العلة بحكم العقل إلا أن العلية ثابتة من خارج حريم العقل ، وذلك كما في موارد قياس المساواة والأولوية ؛ فإن العقل يحكم بان ذات العلة الموجودة في (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) (١) التي اقتضت حرمة هذا الكلام ، تلك العلة على جميع محتملاتها وتقديراتها موجودة في سائر انحاء السب والشتم ، هذا مما يحكم به العقل ، أما كون هذا علة للحرمة فانما استفيدت من دليل (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) فعليّة العلة استفيدت من خارج حريم العقل ، لكن وجود ذات العلة في سائر الموارد استفيدت من حكم العقل بقياس المساواة والأولوية هذا كله في العقل النظري.
وأما العقل العملي ففي مقام استكشاف حكم شرعي منه يحتاج دائماً الى متمم من العقل النظري ؛ لأن العقل العملي إما أن يطبق على فعل العبد ، وإما أن يطبق على فعل المولى ، فان طبق على فعل العبد بأن يقال : الظلم قبيح ، فهو حرام ، يحرم صدور الظلم من العبد لأنه قبيح ، فاستكشاف حرمة الظلم بين القبح الفعلي والحرمة الشرعية ، وهذه الملازمة من مدركات العقل النظري ، فلا بد من ضم العقل النظري القاضي بالملازمة بين الأمرين ؛ بين القبح العقلي وبين الحرمة الشرعية ، وإلا لو فرض مجرد حكم العقل بقبح الظلم مع عدم الالتفات الى قانون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع في هذا الباب لما أمكن استكشاف الحكم الشرعي هناك ، فلا يكفي مجرد العقل العملي ، بل لا بد من ضم الدليل العقلي النظري اليه لأجل الاستكشاف ، كما ان العقل العلمي اذا طبق على فعل المولى ابتداء ، فقيل مثلا : ان الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الاجمالي ترخيص في المعصية ، والترخيص في المعصية قبيح ، ومن هنا ينفى هذا الترخيص ، يحتاج أيضا إلى إقامة برهان على استحالة صدور القبيح من الحكيم.
إذا فهنا أيضا نحتاج في مقام استكشاف الحكم الشرعي الى ضم برهان نظري
__________________
(١) سورة الاسراء ، آية ٢٣.