كَفَّارٌ (٣٤) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦))
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) ، بإذنه. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) ، ذللها لكم تجرونها حيث شئتم.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) ، يجريان فيما يعود إلى مصالح العباد ولا يفتران ، قال ابن عباس دءوبهما في طاعة الله عزوجل ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ، يتعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان والزيادة.
(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) ، يعني : آتاكم من كل شيء سألتموه شيئا ، فحذف الشيء الثاني اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض.
وقيل : هو على التكثير نحو قولك : فلان يعلم كل شيء ، وآتاه كل الناس ، وأنت تريد (١) بعضهم نظيره قوله تعالى : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ٤٤].
وقرأ الحسن (مِنْ كُلِ) بالتنوين (ما) على النفي يعني من كل ما لم تسألوه ، يعني : أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها ، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ) ، أي : نعم الله ، (لا تُحْصُوها) ، أي : لا تطيقوا عدها (٢) ولا القيام بشكرها (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ، أي : ظالم لنفسه بالمعصية كافر بربه في نعمته وقيل الظلوم الذي يشكر غير من أنعم عليه والكافر من يجحد منعمه.
قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) ، يعني : الحرم ، (آمِناً) ذا أمن يؤمن فيه ، (وَاجْنُبْنِي) ، أبعدني ، (وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ، يقال : جنبته (٣) الشيء أجنبته جنبا وجنّبته تجنيبا واجتنبته اجتنابا (٤) بمعنى واحد ، فإن قيل : قد كان إبراهيم معصوما من عبادة (٥) الأصنام فكيف يستقيم السؤال وقد عبد كثير من الأصنام فأين الإجابة؟ قيل : الدعاء في حق إبراهيم لزيادة العصمة والتثبيت وأما دعاؤه لبنيه فأراد بنيه من صلبه ولم يعبد منهم أحد الصنم. وقيل : إن دعاءه لمن كان مؤمنا من بنيه.
(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) ، يعني : ضل بهن كثيرا من الناس عن طريق الهدى حتى عبدوهن ، وهذا من المقلوب نظيره قوله تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) [آل عمران : ١٧٥] ، أي : يخوفكم (٦) بأوليائه ، وقيل : نسب الإضلال إلى الأصنام لأنهن سبب فيه كما يقول القائل فتنتني الدنيا ، نسب الفتنة إلى الدنيا لأنها سبب الفتنة. (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) ، أي : من أهل ديني وملتي ، (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، قال السدي (٧) : معناه ومن عصاني ثم تاب ، وقال مقاتل بن حيان : ومن عصاني فيما دون الشرك. وقيل : قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك.
__________________
(١) في المخطوط «تعني».
(٢) في المخطوط «عددها».
(٣) في المطبوع «جنبت».
(٤) العبارة عند الطبري ٧ / ٤٦٠ «يقال منه : جنبته الشيء ، فأنا أجنبه جنبا ، وجنّبته الشر ، فأنا أجنّبه تجنيبا ، وأجنبته ذلك ، فأنا أجنبه إجنابا».
(٥) زيد في المطبوع «بنيه».
(٦) في المطبوع «يخوفهم».
(٧) في المخطوط «أهل التفسير» والمثبت عن المطبوع و ـ ط و «الوسيط» للواحدي ٣ / ٣٣.