هذين الجبلين خلقا أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش ، لهم أنياب وأضراس كالسباع ، يأكلون الحيات والعقارب ، وكل ذي روح ، خلق في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم ، ولا شك أنهم سيملئون (١) الأرض ويظهرون عليها (٢) ويفسدون فيها ، فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا.
قال ما مكّني فيه ربي خير ، [ثم](٣) قال : اعمدوا (٤) إلي الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم ، فانطلق حتى توسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا ، لهم مخاليب كالأظفار في أيدينا وأنياب وأضراس كالسباع ، ولهم هلب (٥) من الشعر في أجسادهم يواريهم ويتقون به من الحر والبرد ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى ويصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى ، يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا ، فلما عاين ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما فحفر له الأساس حتى بلغ الماء ، وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس ، يذاب فيصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض.
قوله تعالى : (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ). قال الكلبي : فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى [أرض هؤلاء الذين شكوهم إلى ذي القرنين](٦) فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلّا احتملوه ، وأدخلوه أرضهم ، وقد لقوا منهم أذى شديدا وقتلا.
وقيل : فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس. وقيل : معناه أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم. (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) ، قرأ حمزة والكسائي «خراجا» بالألف ، وقرأ الآخرون (خَرْجاً) بغير ألف وهما لغتان بمعنى واحد ، أي جعلا وأجرا من أموالنا. قال أبو عمرو : [و] الخرج ما تبرعت به ، والخراج ما لزمك أداؤه. وقيل : الخراج على الأرض والخرج على الرقاب. يقال : أدّ خرج (٧) رأسك وخراج مدينتك.(عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) ، أي حاجزا فلا يصلون إلينا.
(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨))
(قالَ) ، لهم ذو القرنين ، (ما مَكَّنِّي فِيهِ) ، قرأ ابن كثير مكنني بنونين ظاهرين. وقرأ الآخرون
__________________
(١) في ـ ب ـ «سيملكون».
(٢) في المطبوع «علينا».
(٣) زيادة عن ـ ب ـ.
(٤) في المطبوع و ـ ط «اعدوا».
(٥) أي كثرة من الشعر ، وفي المطبوع «هدب».
(٦) ما بين الحاصرتين في المطبوع «أرضهم» وفي المخطوط «الأرض» والمثبت مع الزيادة عن «الوسيط» ٣ / ١٦٧ وبها يتضح المعنى.
(٧) في المخطوط «ذا خرج».