الباقلاني يلاحظ أنّهم بهذه القرينة يقعون في الشّر الّذي أرادوا أن يتجنبوه ، لأنّهم لم يفعلوا سوى أن ألّهوا الإنسان ، حين خصوه بدرجة من الكمال ، هي في الحقّ صفة من صفات الله (١).
وبدون أن نذهب إلى حدّ الزّعم بأنّ الإنسان لا يتحرك إلّا لحظ ، ومنفعة ، هل يمكن أن نقرر عقلا أنّ أحدا من النّاس لا يسمح له في أيّة حالة أن يبحث عن خيره الشّخصي من حيث هو؟. وهل يمكن مثلا أن نحرم على إنسان مهدد بالجوع ، والعطش أن يعمل (أعني : أن يأكلّ ، ويشرب) ، تحت سلطان هذه الضّرورة الفطرية؟. وهل ينبغي إذن أن ينتظر بضع لحظات كيما يستحضر أوّلا أمر الواجب ، فلا يعمل إلّا بهذا الأمر ، حتّى لو كان هذا الإنتظار يجعل أيّة محاولة للإسعاف غير مفيدة؟ ..
إنّ هذا المثال وحده كاف لنعترف بقساوة ، وسخف هذا الرّفض المنهجي لحقّ الإنسان في أن يسمع لصوت فطرته ، ويستجيب لندائها البريء ، وكلّ ما يجب علينا ألا ننساه هو : أنّ المسألة ليست مطلقا أن نجعل من المنفعة المقبولة عقلا مبدأ ثانيا من مبادىء الأخلاقية ، فشتان ما بين المنفعة ، والمبدأ ، والنّاس ، كلّ النّاس ، في كلا المذهبين ، متفقون على أنّ الأخلاقية «واحدة» ، وعلى أنّه لا توجد خارج إرادة الطّاعة (بوجهيها) أيّة قيمة أخلاقية ، «موضوعية» ، في أي مكان.
أمّا المعتدلون فيحاولون ببساطة أن يزيلوا هذه اللّعنة الّتي أراد بعض الصّوفية
__________________
(١) انظر ، إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٣٦٩ ، ذكره ، وأيده.