صرامة «كانت» ليست بشيء إلى جانب صرامتهم ، وهم يرون أنّ واجب كلّ فرد ليس تقييد رغباته فحسب ، وإخضاعها للقاعدة ، بل إنّه يجب ألا يكون له رغبة أخرى غير رغبة البذل. ذلك أنّ تخصيص بعض الجهد لإشباع الفطرة ، من حيث هي ، معناه أننا نقيم إلها آخر غير الله. وهذا هو مبدأ (الثّالث المستبعد في الأخلاق) : فليس بين الفضيلة ، والرّذيلة من حدّ وسط ، فحيثما لا يكون فكرنا موصولا بالله فإنّه ينقلب ضده.
وما هكذا يفكر المعتدلون الّذين هم الأغلبية ، ولسوف نرى أنّ اعتدالهم ينتهي في آخر المطاف إلى ما نطلق عليه : الصّرامة الكانتية.
لقد تساءلوا أوّلا عما إذا كان هذا التّجرد المطلق حيال الفطرة ممكن الوقوع عمليا ، أو حتّى إذا ما كان ممكنا إنسانيا؟ فمن منا يستطيع أن يتباهى بأنّه لا يعرف الإهتمام بشخصه ، وبأنّه يطيق أن يستغني عن كلّ نتيجة ، أخلاقية أو مادية ، قد ينتجها نشاطه؟ .. من ذا يستطيع أن يدعي أنّ الصّحة ، والحياة ، والرّفاهية ، والسّلام ، والصّداقة مع الجار ، وحتّى العلم ، والذكاء ، وكيفيات القلب ، والعقل ، ـ هي في نظره أشياء لا قيمة لها ، وليس لها قط جاذبية ، أو سلطان عليه؟ ..
لقد استطاع أبو بكر الباقلاني أن يصف أنصار هذا التّجرد المطلق وصفا قاسيا ، فقضى بتكفير من يدّعي البراءة من الحظوظ ، وقال : هذا من صفات الإلهية ، وحاول أيضا أن يرد عليهم أدلتهم الدّينية. لقد كانوا يريدون في الواقع بهذه الطّهارة المزعومة للنّيّة أن يجنبوا المؤمنين أن يقعوا في هذا النّوع من الشّرك ، الّذي هو عبادة المنفعة ، لقد أرادوا البراءة عمّا يسميه النّاس حظوظا ، ولكن