ومع ذلك إنّ الأخلاق القرآنية كسائر الأخلاقيات الدّينية ـ لم تقع في هذا التّناقض الفلسفي ، الّذي يعزل عزلا مطلقا العنصر الأخلاقي عن العنصر الحسي ، ثمّ يعود بعد ذلك إلى التّوفيق بينهما ولكن متأخرا جدا.
إنّها أخلاق تتصور الإنسان ، من أوّل لحظة ، في كيانه المتكامل ، الّذي لا يتوقف فيه القلب ، والعقل عن التّعاون مع الإرادة. وهذه الأخلاق ترى فضلا عن ذلك أنّ خلود النّفس ، ووجود الله ليسا من الفروض المسلمة ، بل هما نقطة إنطلاق. إنّهما عقيدتان أساسيتان في ذاتهما أوّلا ، وتؤسسان بدورهما نظام الجزاءات.
إنّ إله القرآن ، وجميع الكتب المنزلة ليس خالقا ، ومشرعا فحسب ، وإنّما هو في الوقت نفسه مكافىء عادل. وإذن فمن الواضح الجلي أنّ مثل هذه المفاهيم يجد فيها التّفكير في أشكال الجزاء نموا أكثر تماسكا ، كما أنّها تقدم إليه إجابات دقيقة لمختلف المقتضيات ، والمطالب.
فإذا كان الإنسان الّذي يستسلم لأفعاله بأكملها يتحمل نتائجها بأكملها ، فأي شيء أكثر عدلا من هذا؟ ..
ومن ناحية أخرى نجد أنّ الفعل الإرادي الّذي أقر الله ـ سبحانه ـ به شريعة الواجب ، يسير في نفس الفكرة الإلهية ـ مع الفعل الّذي وضع الله به المبدأ العام للمجازاة ، جنبا إلى جنب. واقرأ إن شئت قوله تبارك وتعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ