فالأشاعرة حين أرادوا أن يقارعوا البراهين بالبراهين ، قصروا أوّلا عن أن تكون لهم أرضية فلسفية ثابتة ، وهي على كلّ حال أقل خطرا ، أعني هذا الموقف السّلبي الّذي يقوم على رفض الإحتكام إلى العقل في مثل هذه المشكلات ، بإعتبار أنّه لا يصح قياس العقل المتناهي بالأشياء اللامتناهية.
أمّا في الجانب الإيجابي فإنّهم قد أخطأوا حلا ليس بأقل حكمة ، وهو حلّ بناء وقرآني بحقّ ، يوفق بين الصّفات المتعارضة ، دون أن يغفل واحدة منها ، أو يغلو في الإعتماد عليها ، والأخذ بها.
فالقرآن يعلمنا من جانب حقيقة هي : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (١) ، فهل من الممكن أن نفهم هذه العبارة على أنّها تحكم واستبداد مطلق؟ .. على حين يؤكد القرآن لنا من جانب آخر : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) (٢)؟ ..
وها هو ذا نفس التّقابل بين الصّفات في صورة أخرى. فهو يقول في نصّ من نصوصه : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) (٣) ، ولكنه يقول في نفس النّص : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (٤). ويقول في آية أخرى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) (٥).
وكذلك الحال حين يعلن أنّ الله قادر على أن يهلك النّاس جميعا ، الطّائعين مع
__________________
(١) المائدة : ١.
(٢) غافر : ٢٠.
(٣) الأعراف : ١٥٦.
(٤) الأعراف : ١٥٦.
(٥) النّساء : ١٤٧.