(مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) (٥)
غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين حتى يكونا في تقدير الانفصال فتكون إضافتهما غير حقيقية ، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه ، وأما شديد العقاب فهو في تقدير شديد عقابه فتكون نكرة ، فقيل هو بدل ، وقيل لمّا وجدت هذه النكرة بين هذه المعارف آذنت بأنّ كلّها أبدال غير أوصاف ، وإدخال الواو في قابل التوب لنكتة وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين ، بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات ، وأن يجعلها محّاءة للذنوب كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول.
وروي أنّ عمر رضي الله عنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام ، فقيل له تتابع في هذا الشراب ، فقال عمر لكاتبه : اكتب من عمر إلى فلان سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. بسم الله الرحمن الرحيم حم إلى قوله إليه المصير ، وختم الكتاب وقال لرسوله لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى. ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته ، فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلة فسدّدوه ووقّفوه وادعوا له الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه (١) (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة أيضا لذي الطّول ، ويجوز أن يكون مستأنفا (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) المرجع.
٤ ـ (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ما يخاصم فيها بالتكذيب بها والإنكار لها ، وقد دلّ على ذلك في قوله : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها ، وحلّ مشكلها ، واستنباط معانيها ، وردّ أهل الزيغ بها ، فأعظم جهاد في سبيل الله (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة سالمين غانمين فإنّ عاقبة أمرهم إلى العذاب.
ثم بيّن كيف ذلك ، فأعلم أنّ الأمم الذين كذّبت قبلهم أهلكت فقال :
٥ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) نوحا (وَالْأَحْزابُ) أي الذين تحزبوا
__________________
(١) أبو نعيم في الحلية في ترجمة يزيد بن الأصم بتمامه ٤ / ٩٧.