والحقّ : أنه لا نسخ في حكم الآية ، فإن القول بالنسخ يتوقف على إثبات الفصل بين الآيتين نزولا ، وإثبات أن الآية الثانية نزلت بعد مجيء زمان العمل بالآية الاولى ، وذلك لئلا يلزم النسخ قبل حضور وقت الحاجة. ومعنى ذلك : أن يكون التشريع الأول لغوا ، ولا يستطيع القائل بالنسخ إثبات ذلك إلا أن يتمسك بخبر الواحد ، «وقد أوضحنا أن النسخ لا يثبت به إجماعا» (١) ، أضف إلى ذلك أن سياق الآيتين أصدق شاهد على أنهما نزلتا مرة واحدة.
ونتيجة ذلك : أن حكم مقاتلة العشرين للمائتين استحبابي ، ومع ذلك كيف يمكن دعوى النسخ ، على أن لازم كلام القائل بالنسخ : ان المجاهدين في بدء أمر الإسلام كانوا أربط جأشا ، وأشد شكيمة من المجاهدين بعد ظهور الإسلام ، وقوته وكثرة أنصاره ، وكيف يمكن القول بأن الضعف طرأ على المؤمنين بعد قوتهم!!
والظاهر أن مدلول الآيتين هو تحريض المؤمنين على القتال ، وان الله يعدهم بالنصر على أعدائهم ، ولو كانت الأعداء عشرة أضعاف المسلمين ، إلا أنه تعالى لعلمه بضعف قلوب غالب المؤمنين ، وعدم تحملهم هذه المقاومة الشديدة لم يوجب ذلك عليهم ، ورخص لهم بترك المقاومة إذا زاد العدو على ضعفهم ، تخفيفا عنهم ، ورأفة بهم ، مع وعده تعالى إياهم بالنصر إذا ثبتت أقدامهم في إعلاء كلمة الإسلام.
وقد جعل وجوب المقاومة مشروطا بأن لا يبلغ العدو أكثر من ضعف عدد المسلمين ، فإن الكفار لجهلهم بالدين ، وعدم ركونهم إلى الله تعالى في قتالهم لا يتحملون الشدائد ، وإن عقيدة الايمان في الرجل المؤمن تحدوه إلى الثبات أمام الأخطار ، وتدعوه إلى النهضة لإعزاز الإسلام ، لأنه يعتقد بنجاحه على كل حال ، وربحه في تجارته على كل تقدير ، سواء أكان غالبا أم كان مغلوبا ، قال الله تعالى :
__________________
(١) تقدم ذلك في ص ٢٧٩ من هذا الكتاب.