__________________
ـ وبحث في هذا التعليل بأنه يجوز أن يكون تحيزه على سبيل التبع لأشخاصه ؛ فلا يكون له في ذاته مقدار ووضع معينان ، ووصفه بهما مجاز وصفا للحال بما هو صفة للمحل ، والحق أنه إذا كان متحيزا ولو بالتبع فلا بد له من مقدار ووضع معينين ؛ فلا يطابق الأفراد المختلفة في الأوضاع والمقادير ، وعلى تسليم العقلاء القائلين بوجودهما عدم تحيزهما يكفي لنا ؛ إذ غرضنا ألا يمتنع تعقل أمر لا يثبت له العقل حيزا ضرورة ، وهذا القدر كاف في موضع بداهة تلك المقدمة ، والاحتمال المذكور أعني احتمال أن يكون تحيزه تبعا لتحيز الأشخاص ـ لا يقدح في هذا الغرض.
وأما الثاني فلأن العلم بالماهية الكلية لا يختص بمقدار ووضع مخصوصين ، وإلا لم يكن علما بتلك الماهية.
فإن قيل : الإنسان المشترك لا بد أن يكون له أعضاء مخصوصة من عين ويد وظهر وبطن وغيرها على أوضاع مختلفة ومقادير متناسبة وأبعاد متفاوته ، ولا شك في أنه من حيث هو كذلك يكون متحيزا ؛ فلا تنافي بين الاشتراك والتحيز ، فكل موجود لا بد أن يكون متحيزا وهو مطلوبهم ـ قلنا : هذا إنما يلزم إذا لم توجد تلك الأعضاء من حيث إنها كلية مشتركة ، ولا شبهة في أنها في الإنسان الكلي مأخوذة على وجه الكلية كذلك.
وإنما قيل : ربما يستعان في تصور ... إلخ. ولم يقل : ربما يستدل عليه ؛ لأن الاستدلال به موقوف على وجود الكلي الطبيعي ؛ ووجود العلم به في الخارج مع أنه مختلف فيه ، بخلاف الاستعانة المذكورة فإنها تتم مع ذلك الاختلاف.
الوجه الثاني : كل موجودين فإما أن يتصلا أو ينفصلا أو لا هذا ولا ذاك ، والثالث منتف ؛ لامتناع ارتفاع النقيضين فارتفاعهما لا يعقل ؛ فتعين أحد الأمرين : الاتصال أو الانفصال ، وكل منهما يقتضي التحيز ، أما الاتصال فلأنه هو المماسة وهي نسبة بين الموجودين الواجب والعالم ، وأحد الطرفين متحيز ؛ فكذا الآخر. وأما الانفصال فكذلك ؛ لأن عدم المماسة من شأنه ذلك.
والجواب : منع الحصر في الاتصال والانفصال ، وما ادعيتم من أنه غير معقول ممنوع ، بل هذا من حكم الوهم ، ولا يقبل في غير المحسوسات.
الوجه الثالث : الواجب إما داخل في العالم أو خارج عنه ، وكل ما كان كذلك فهو متحيز وفي جهة ، فالواجب متحيز وفي جهة وهو المطلوب ، أما الصغرى فلأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما داخلا في الآخر أو خارجا عنه ، وعدم الدخول والخروج ممنوع ؛ لما يلزم عليه من ارتفاع النقيضين وهو غير معقول ، وأما الكبرى ؛ فلأنه لو كان داخلا في العالم لكان العالم مكانا له ، وحيث كان العالم في جهة فما هو فيه يكون في تلك الجهة ، وإذا كان خارجا عنه يكون في إحدى الجهات الست منه ، وأجيب بمنع الحصر في الصغرى واختيار أنه لا داخل ولا خارج ، وهذا خروج عن الموهوم إلى المعقول ؛ لأن الدخول والخروج من شأن الأجسام ، وكيف يعقل دخوله في العالم وخروجه عنه قبل وجود العالم؟!
الوجه الرابع : الموجود ينقسم إلى قائم بنفسه وقائم بغيره ، والقائم بنفسه هو المتحيز بالذات ، والقائم بغيره هو المتحيز تبعا ، والواجب قائم بنفسه فيكون متحيزا بذاته.
والجواب : أن معنى القيام بالنفس في حقه تعالى هو الاستغناء عن المحل الذي يقوم به ؛ فلا يلزم من هذا أن يكون متحيزا بالذات ، ومعنى القيام بالغير الاحتياج إلى ذلك المحل ، ولا يلزم منه كونه متحيزا تبعا ، وهذا الجواب لا يتجه إن كان الغرض من هذا الوجه إلزام المتكلمين القائلين : إن معنى القيام بالغير مطلقا هو التحيز تبعا ، لكن لا يفيد الخصم إثبات مطلوبه ، وإنما يحصل به إلزام بعضهم. ـ