تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة : ١٤] ، أي : بل الإنسان من نفسه بصيرة ، أي : شاهدة ؛ فشهدت كل جارحة منهم على وحدانية الله وألوهيته.
ألا ترى أنه قال : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤] ؛ هذا ـ والله أعلم ـ لأنهم كانوا يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان والأصنام ، ويقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ؛ فيقول : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) من الآيات والرسل ما لو اتبعتموهم ، لكانوا لكم شفعاء عند الله.
والثاني : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ) : ما لو تفكروا وتدبروا ونظروا فيها ، لعرفوا أنها بصائر من الله ؛ لأن البشر أنشئوا بحيث ينظرون في العجيب من الأشياء ؛ فكانوا على أمرين : منهم من نظر وتفكر وعرف أنها بصائر ، لكنه عاند وكابر ولم يعمل بها ، ومنهم من ترك النظر فيها ؛ فعمي عنها ، ما لو تفكروا ونظروا لتبين لهم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها).
أي : أبصر الحق والهدى وعمل به ، فلنفسه عمل ، ومن أبصر وعمي عنها ـ أي : ترك العمل ـ فعليها ترك ؛ كقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦].
فإن قيل : ذكر في آية أخرى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] ، أخبر أن من هلك هلك عن بينة ، ومن حي حي عن بينة ، وهاهنا يقول : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) : ذكر عمي عليها ؛ فكيف وجه التوفيق [بينهما](١)؟!
قيل : يحتمل قوله : (عَمِيَ) بعد ما تبين له ، فترك العمل به ؛ فعليها ذلك ؛ لأنه أبصرها ، وعرف أنها من الله ، لكنه عاندها وكابرها.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ).
أي : قد جاءكم بصائر من ربكم ، فليس علينا إلا التبليغ ؛ كقوله : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) [المائدة : ٩٩].
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ).
أي : نردّها (٢) في الوجوه التي تتبين لقوم يطلبون البيان.
أو نقول (نُصَرِّفُ الْآياتِ) ، أي : نضع كل آية ونصرفها إلى الوجوه التي تكون بالخلق
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في ب : نرددها.